أين الخلل...؟
المصدر : سر تأخر العرب والمسلمين – محمد الغزالي –
فزعت لما سمعت قائلا يقول : إن ألف مليون صيني قدرت الشيوعية على توحيدهم في دولة كبرى على تنائي الديار واتساع الأقطار ، أما الألف مليون مسلم فيبدو أن الإسلام عاجز عن جمع كلمتهم وحشدهم تحت راية واحدة ..!! قلت : ويحك ، أبصر ما تقول ..! قال : هل ذكرت إلا الواقع ؟ فأجبته على عجل : لو كانت الشيوعية تجمع لسدت الفجوة بين الصين وروسيا ، أو بين الروس وأوروبا الشرقية التي تعنو (1) لهم راغمة ..! قال : هناك أسباب عارضة لهذه الجفوة ! قلت : أولى بك أن تلتمس هذه الأعذار للأمة الإسلامية ، بدل أن تتهم الإسلام نفسه بالعجز عن لم الشمل وتكوين الوحدة الكبرى ..!
وعدت إلى نفسي أفكر وأراجع وأتدبر !
إن الأمة الإسلامية تعاني صدوعا هائلة ، وهي الآن موزعة على أكثر من سبعين قومية ، أو سبعين جنسية سياسية بلغة هيئة الأمم ولغة (( جوازات السفر )) على سواء !!
والإسلام سواء كان عقيدة أو شريعة عملة ليس لها رصيد ، وأتباعه يُنال منهم ولا ينالون ، ويُجار عليهم ولا يجيرون ! وذئاب الشرق والغرب تغير عليهم فتفترس ما شاءت من القطعان السائبة دون أن يتمعر وجه !! .
إن إحراج يهودي واحد في روسيا يثير عاصفة من الكلام حول حقوق الإنسان ، وحول عداوة السامية ، أما مقتل المئات والألوف من المسلمين في إفريقية وآسيا وأوروبا فالخطب يسير ! وقد يثار بعض اللغط ثم تُنسى
المأساة ، وأول من ينساها المسلمون أنفسهم ... !! ما سر هذا الضياع والشتات ؟ ما وراء التفكك والتبلد ؟
الحق أن الأسباب كثيرة بين سياسية واجتماعية وثقافية ، وأنها بدأت من
قديم ، ولكن الكيان الحي قد يغالب الجراثيم الوافدة ويهزمها ، وقد يصاب بها ويتماسك تحت وطأتها ، وربما استطاع العيش زمانا وهو يحس بها ويعالجها بمسكنات موقوتة . بيد أنه سيقع فريستها آخر الأمر ، مادام لم يتناول لها دواء يجلب العافية ، ويحسم البلاء ..!
كان المسلمون من مئتي سنة فقط أشد هيبة وأعز نفرا – مع ما تلاحق عليهم من هزائم – كانت الأساطيل الأجنبية لا تمر بالبحر الوسيط إلا بعد أن تستأمن من دوله الإسلامية إذ كان المسلمون يفرضون ضرائب على السفن المارة بشواطئهم ! وسمعت في مجلس مؤرخين وساسة – وأنا بالجزائر – أن جورج واشنطن لما انتصر في حرب الإستقلال واستقرت الأمور للولايات المتحدة ، كتب إلى حاكم الجزائر يومئذ ليطمئن على سلامة السفن
الأمريكية ! مبديا مودته .. – وتوجد نسخة بالإنجليزية لهذه الرسائل – كما رفض الجزائريون مهادنة بعض الدول الأوروبية ، برغم توصية الخلافة العثمانية ، وأوقعوا بها – هزائم مذلة ...! كان (2) ذلك من قرنين اثنين !!
أما اليوم ... فالحديث ذو شجون .. والخلافة الإسلامية لم تلق حتفها في حادثة تصادم ، ولم تفقد حياتها عقب اغتيال مفاجئ .. كلا كلا ، كان نظام الخلافة يترنح ترنح السكران الفاقد الوعي ، وكانت الأدواء الفاتكة تسرح في جسد الأمة كلها وتهد قواها هدا .
ومن ثم فإن السلطان عبد المجيد بعد ما وقع في قبضة الإنجليز لم يفعلوا به شيئا ، كان أتفه من أن يؤاخذ ! لقد تركوه لقومه أو لعملائهم الذين زهدوا في الخلافة وآثروا الإرتداد ...!! وهكذا تلاشت الدولة الإسلامية الكبرى ، لقد غرقت في دوامة من أخطائها قبل أن تنالها سيوف الأعداء ..!
والبحث عن أسباب الوفاة مطلوب . إن الإسلام ختام الرسالات السماوية ، وتاريخ الأولين في كتابه يحتل أكبر جزء منه ، وذلك لتعرف الأمة الأخيرة لماذا هلكت أمم ونجت أخرى ؟ ويبدو أن المسلمين يقرأون قصص القرآن للتسلية ويسمعون أنباء الحضارات المدبرة والأمم الهالكة وكأن الكلام لغيرهم !!
والغريب أنهم سكنوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهم يؤملون الخير ! ووقع منهم ولايزال يقع اعوجاج خلقي وسياسي يترفع الآخرون عنه ، ومع ذلك يحسبون أنفسهم عباد الله المخلصين ...!!
الهوامش :
(1) تعنو لهم : أي تخضع وتذل .
(2) لعل تفصيل الوقائع يكون مفيدا . ففي يوم السبت 21/2/1210ﻫ الموافق 5/9/1795م عقدت معاهدة بين (( الداي حسن )) حاكم الجزائر وبين جورج واشنطن رئيس الولايات المتحدة كي يؤمن الجزائريون الطرق البحرية للسفن الأمريكية ، وكان الأسطول الجزائري سيد هذه المناطق يومئذ ..! والداي حسن هو باني مسجد (( كينشاوه )) ( تعليق: كذا والأصح كتشاوة ) شكرا لله الذي نصره على الإسبان في معركة كبيرة ، وقد فرض عليهم أن يذهب وفد منهم إلى الآستانة كي يلقى الخليفة حاملا معه جرتين من الماء (!) وذلك لأن القائد الإسباني كان قد هزم المسلمين قبل ذلك ، وحمل معه جرتين من ماء مدينة وهران إلى ملك إسبانيا علامة على أن الصليبيين سوف يرثون القطر كله ، فلما انهزموا ، ألزمهم الداي حسن بحمل جرتين أخريين ، وتقديمهما إلى خليفة المسلمين رمزا لانهزامهم أمام المسلمين ! إنها تراث قديمة جديدة ! ولسنا المسئولين عنها ، فمن الوضاعة أن يقدم الرومان من أوربا فيقاتلوا نبينا في مؤتة وتبوك . وفي سوريا ومصر والأناضول والمغرب ، ثم يجيء بعدهم أحفادهم المستعمرون الجدد ليكرروا العدوان نفسه ثم يقولون في صفاقة : إن الإسلام دين عدوان !! ما أخرجكم أنتم من بلادكم ؟؟.