الرد على شبهة بذاءة حسان في هجاءه هند بنت عتبة رضي الله عن جميع الصحابة :-
أولا: التأصيل الشرعي للرد على الخصوم بالقول .
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} المائدة.
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} البقرة.
قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} الشعراء.
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} العنكبوت.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا.
وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ.
وروى أحمد في مسنده وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ وَلَا الطَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ.
من هذه الأيات وهذه الأحاديث نعلم حرمة الاعتداء في القول وحرمة التفحش والبذاءة، وحرمة الطعن في الأنساب المحصنة، وحرمة القذف بالزنا.
ومنه نعلم أن لا يجوز التكلم بالكلام البذيء إلا لرد اعتداء معتدي وهذا مقيد بقدر ما اعتدى به الخصم ومقيد بالصدق في الحديث فلا يقول فيهم إلا ما يعلم من عيوبهم يقينا.
ومنه نعلم جواز الشعر بقيود، منها ألا يشغله عن ذكر الله عزوجل والعمل الصالح، ومنها عدم مخالفة الشعر للكتاب والسنة.
ثانيا : الأثر محل الشبهة والكلام عليه:-
روى ابن هشام في سيرته[ بإسناده المعروف في أول كتابه: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لِحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ يَا ابْنَ الْفُرَيْعَةِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ خُنَيْسٍ وَيُقَالُ خُنَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَان بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ لَوْ سَمِعْت مَا تَقُولُ هِنْدٌ ، وَأَرَيْت أَشِرَهَا قَائِمَةً عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا ، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةِ ؟ قَالَ لَهُ حَسّانُ وَاَللّهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي وَأَنَا عَلَى رَأْسٍ فَارِعٍ يَعْنِي أُطُمَهُ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّ هَذِهِ لَسِلَاحَ مَا هِيَ بِسِلَاحِ الْعَرَبِ ، وَكَأَنّهَا إنّمَا تَهْوِي إلَى حَمْزَةَ وَلَا أَدْرِي ، لَكِنْ أَسْمِعْنِي بَعْضَ قَوْلِهَا أَكْفِكُمُوهَا ، قَالَ فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ مَا قَالَتْ فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
أَشِرَتْ لَكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا ... لُؤْمًا إذَا أَشَرَتْ مَعَ الْكُفْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ تَرَكْنَاهَا ، وَأَبْيَاتًا أَيْضًا لَهُ عَلَى الدّالِ . وَأَبْيَاتًا أُخَرُ عَلَى الذّالِ لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهَا .
وأروده ابن القيم في الروض الأنف بنفس سياق ابن هشام.
وكذا رواها الطبري في تاريخ الرسل والملوك حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان أنه حدث أن عمر بن الخطاب فأورد الأثر بتمامه ثم بين ما أخفاه ابن هشام من قصيدة حسان فزاد:
لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود عظيمة البظر ... أخرجت مرقصة إلى أحد ... في القوم مقتبة على بكر ... بكر ثفال لا حراك به ... لا عن معاتبة ولا زجر ... وعصاك إستك تتقين بها ... دقي العجاية هند بالفهر ... قرحت عجيزتها ومشرجها ... من دأبها نضا على القتر ... ظلت تداويها زميلتها ... بالماء تنضحه وبالسدر ... أخرجت ثائرة مبادرة ... بأبيك وابنك يوم ذي بدر ... وبعمك المستوه في ردع ... وأخيك منعفرين في الجفر ... ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند ويحك سبة الدهر.
النقد الإسنادي:
قلت: هذا أثر فيه ضعف، قد رواها الطبري بإسناد ضعيف إلى محمد بن إسحاق فـ "سلمة بن الفضل" لا بأس به، ومحمد بن حميد ضعيف، لكن تابعهم على هذا الإسناد [كما عند ابن هشام في سيرته] زياد البكائي وهو ثبت في المغازي، ومحمد بن إسحاق بن يسار صدوق مدلس وقد صرح بالتحديث وليس بكذاب كما زعم مالك و"طعن الأقران لا يعتد به إلا بمعتبر"، لكن آفة هذا الإسناد الحقيقية هى انقطاع ما بين صالح بن كيسان وهو ثقة وما بين عمر بن الخطاب وحسان بن ثابت وقد لقى صالح، عبدالله بن عمر(ابن أحد أطراف الخبر)، لكنه لم يُحفظ عنه سماع [كما قال ابن حبان].
أما بالنسبة لمتن هذا الأثر فيه أمور: - لو فرض صحة هذا الأثر –
1ـ لم يطلعنا الأثر على قول هند بنت عتبة رضي الله عنها في المسلمين حال شركها حتى نعلم مدى تجاوز أو عدم تجاوز حسان بن ثابت في الرد.
2ـ هل كانت من عادة العرب: المنادة باسم الأم لمن عُلم والده؟! وهل يعد هذا مما فيه مذمة لمن يُنادى به؟! فلو صح مثل هذا فقول عمر رضي الله عنه لحسان "يا ابن الفريعة" ففيه بذاءة، ننزه الصحابة عنه، لكن ربما لقرب عهدهم بجاهلية.
3ـ كان رد حسان بن ثابت على هند، من قبيل رد الاعتداء وهذا جائز ولكنه، أخطأ وتجاوز حقه في رد الاعتداء في أمور:-
= الطعن في الشرف بغير دليل كقوله: ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند ويحك سبة الدهر.
ويكفي قول: هند بن عتبة رضي الله عنها بعد إسلامها عند مبايعتها للنبي صلى الله عليه وسلم للرد على هذه التهمة الشنيعة:وهل تزني الحرة؟! [ وإن كان إسناده فيه مقال كما قال مصطفى العدوي].
= ذكر ما لا يمكن العلم به من عيوب الجسم وفيه بذاءة كقوله: هند الهنود عظيمة البظر.
= أورد الأصفهاني الشيعي في الأغاني بقية لهذه الأبيات لم تثبت لدينا بإسنادٍ:
( زعمَ الولائدُ أنَّها وَلَدَتْ ... وَلداً صغيراً كان من عَهْرِ )
ولو صحت لكانت مما ينعى على حسان رضي الله عنه : طعنه في الأنساب بغير علم.
محل الشبهة الحقيقي: كيف يقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ـ لو صح ـ وكيف يكون جبريل معه في هذه البذاءات؟!!
والإجابة عن هذا كالتالي:-
أولًا:-لقد أنشأ حسان بن ثابت هذه الأبيات بعيد غزوة أحد، [وقعت 3هـ ] وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بهجاء المشركين، يوم قريظة على الراجح[ كما رجحه ابن حجر في الفتح].وإجلاء قريظة كان بعيد غزوة الخندق [غزوة الاحزاب] كما هو ثابت ولا مرية في كونها بعد غزوة أحد بلا شك.
روى البخاري في صحيحه معلقا عن "إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ اهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ" .
وفي رواية كما عند مسلم عن عائشة جاء فيها: « إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ».
ومن هذا نعلم:-
= أن شعر حسان بن ثابت محل الشبهة ليس عن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم.
= أنه عندما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم لهجاهم كان بعد هذه الحادثة وليس قبلها .
= أنه عندما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم لهجاهم كان مقيدا بأمور وليس مطلقا:
مقيدا بقوله: ما نافحت عن الله ورسوله، ومقيدا بأصل المنافحة وهو مقيد بعدم الاعتداء في المنافحة والهجاء.
تنبيه:-
هناك رواية تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك له يوم الأحزاب نفسه رواه الطبري في تهذيب الأثار وغيره كلهم عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر ، قال : لما كان يوم الأحزاب ، وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يحمي أعراض المؤمنين ؟ » قال كعب : أنا يا رسول الله ، وقال ابن رواحة : أنا يا رسول الله ، فقال : « إنك تحسن الشعر » ، فقال حسان بن ثابت : أنا يا رسول الله . قال : « نعم ، اهجهم أنت ، فسيعينك عليهم روح القدس ».[ ولكن في إسناده مجالد بن سعيد ضعيف].ولو صح لسقطت كذلك الشبهة.
ثانيا: فإن قيل: ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي يوم أحد وغيره من الأيام، فلماذا لا ينكر على حسان بن ثابت،
والرد: يكفي حسان بن ثابت وغيره من الصحابة ما ثبت نزوله من الوحي من حرمة الاعتداء إلا لرد الاعتداء بمثله،وحرمة قذف المحصنات وحرمة البذاءة وحرمة التفحش لكي نعلم أن الوحي لم يترك لنا ولهم الأمر مطلقا هكذا.
ثالثا: لا ننسى أن نقول: أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربيهم على تعاليم الإسلام فوقوع بعضهم في بعض الأخطاء لا ينفي عنهم فضلهم، فأخطائهم القليلة تنمحي وتُغفر في بحار أعمالهم الصالحة وسبقهم للخيرات.
ولا ننسى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهم حين تركهم إلا على المحجة البيضاء.
هذا فإن كان مني من صواب فبتوفيق الله عزوجل وإن كان مني من خطأ أو نسيان فمني والشيطان والله عزوجل ورسوله برآء منه.
والحمد لله على تمام المنة.
الخلاصة: لم يثبت هذا الأثر عن حسان بن ثابت، ولو صح ثبوته فرضا فحسان بن ثابت أخطأ في اعتداءه في الهجاء والرد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له بمعاونة روح القدس جبريل له إلا في أعقاب غزوة الأحزاب [ الخندق] ويكفينا ما ثبت من الوحي من لنعلم الخطأ الذي وقع فيه حسان رضوان الله عليه،وعفا الله عن جميع الصحابة هذا إن ثبت عنه ذلك ولم يثبت.
أولا: التأصيل الشرعي للرد على الخصوم بالقول .
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} المائدة.
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} البقرة.
قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} الشعراء.
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} العنكبوت.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا.
وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ.
وروى أحمد في مسنده وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ وَلَا الطَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ.
من هذه الأيات وهذه الأحاديث نعلم حرمة الاعتداء في القول وحرمة التفحش والبذاءة، وحرمة الطعن في الأنساب المحصنة، وحرمة القذف بالزنا.
ومنه نعلم أن لا يجوز التكلم بالكلام البذيء إلا لرد اعتداء معتدي وهذا مقيد بقدر ما اعتدى به الخصم ومقيد بالصدق في الحديث فلا يقول فيهم إلا ما يعلم من عيوبهم يقينا.
ومنه نعلم جواز الشعر بقيود، منها ألا يشغله عن ذكر الله عزوجل والعمل الصالح، ومنها عدم مخالفة الشعر للكتاب والسنة.
ثانيا : الأثر محل الشبهة والكلام عليه:-
روى ابن هشام في سيرته[ بإسناده المعروف في أول كتابه: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لِحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ يَا ابْنَ الْفُرَيْعَةِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ خُنَيْسٍ وَيُقَالُ خُنَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَان بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ لَوْ سَمِعْت مَا تَقُولُ هِنْدٌ ، وَأَرَيْت أَشِرَهَا قَائِمَةً عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا ، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةِ ؟ قَالَ لَهُ حَسّانُ وَاَللّهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي وَأَنَا عَلَى رَأْسٍ فَارِعٍ يَعْنِي أُطُمَهُ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّ هَذِهِ لَسِلَاحَ مَا هِيَ بِسِلَاحِ الْعَرَبِ ، وَكَأَنّهَا إنّمَا تَهْوِي إلَى حَمْزَةَ وَلَا أَدْرِي ، لَكِنْ أَسْمِعْنِي بَعْضَ قَوْلِهَا أَكْفِكُمُوهَا ، قَالَ فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ مَا قَالَتْ فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
أَشِرَتْ لَكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا ... لُؤْمًا إذَا أَشَرَتْ مَعَ الْكُفْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ تَرَكْنَاهَا ، وَأَبْيَاتًا أَيْضًا لَهُ عَلَى الدّالِ . وَأَبْيَاتًا أُخَرُ عَلَى الذّالِ لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهَا .
وأروده ابن القيم في الروض الأنف بنفس سياق ابن هشام.
وكذا رواها الطبري في تاريخ الرسل والملوك حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان أنه حدث أن عمر بن الخطاب فأورد الأثر بتمامه ثم بين ما أخفاه ابن هشام من قصيدة حسان فزاد:
لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود عظيمة البظر ... أخرجت مرقصة إلى أحد ... في القوم مقتبة على بكر ... بكر ثفال لا حراك به ... لا عن معاتبة ولا زجر ... وعصاك إستك تتقين بها ... دقي العجاية هند بالفهر ... قرحت عجيزتها ومشرجها ... من دأبها نضا على القتر ... ظلت تداويها زميلتها ... بالماء تنضحه وبالسدر ... أخرجت ثائرة مبادرة ... بأبيك وابنك يوم ذي بدر ... وبعمك المستوه في ردع ... وأخيك منعفرين في الجفر ... ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند ويحك سبة الدهر.
النقد الإسنادي:
قلت: هذا أثر فيه ضعف، قد رواها الطبري بإسناد ضعيف إلى محمد بن إسحاق فـ "سلمة بن الفضل" لا بأس به، ومحمد بن حميد ضعيف، لكن تابعهم على هذا الإسناد [كما عند ابن هشام في سيرته] زياد البكائي وهو ثبت في المغازي، ومحمد بن إسحاق بن يسار صدوق مدلس وقد صرح بالتحديث وليس بكذاب كما زعم مالك و"طعن الأقران لا يعتد به إلا بمعتبر"، لكن آفة هذا الإسناد الحقيقية هى انقطاع ما بين صالح بن كيسان وهو ثقة وما بين عمر بن الخطاب وحسان بن ثابت وقد لقى صالح، عبدالله بن عمر(ابن أحد أطراف الخبر)، لكنه لم يُحفظ عنه سماع [كما قال ابن حبان].
أما بالنسبة لمتن هذا الأثر فيه أمور: - لو فرض صحة هذا الأثر –
1ـ لم يطلعنا الأثر على قول هند بنت عتبة رضي الله عنها في المسلمين حال شركها حتى نعلم مدى تجاوز أو عدم تجاوز حسان بن ثابت في الرد.
2ـ هل كانت من عادة العرب: المنادة باسم الأم لمن عُلم والده؟! وهل يعد هذا مما فيه مذمة لمن يُنادى به؟! فلو صح مثل هذا فقول عمر رضي الله عنه لحسان "يا ابن الفريعة" ففيه بذاءة، ننزه الصحابة عنه، لكن ربما لقرب عهدهم بجاهلية.
3ـ كان رد حسان بن ثابت على هند، من قبيل رد الاعتداء وهذا جائز ولكنه، أخطأ وتجاوز حقه في رد الاعتداء في أمور:-
= الطعن في الشرف بغير دليل كقوله: ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند ويحك سبة الدهر.
ويكفي قول: هند بن عتبة رضي الله عنها بعد إسلامها عند مبايعتها للنبي صلى الله عليه وسلم للرد على هذه التهمة الشنيعة:وهل تزني الحرة؟! [ وإن كان إسناده فيه مقال كما قال مصطفى العدوي].
= ذكر ما لا يمكن العلم به من عيوب الجسم وفيه بذاءة كقوله: هند الهنود عظيمة البظر.
= أورد الأصفهاني الشيعي في الأغاني بقية لهذه الأبيات لم تثبت لدينا بإسنادٍ:
( زعمَ الولائدُ أنَّها وَلَدَتْ ... وَلداً صغيراً كان من عَهْرِ )
ولو صحت لكانت مما ينعى على حسان رضي الله عنه : طعنه في الأنساب بغير علم.
محل الشبهة الحقيقي: كيف يقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ـ لو صح ـ وكيف يكون جبريل معه في هذه البذاءات؟!!
والإجابة عن هذا كالتالي:-
أولًا:-لقد أنشأ حسان بن ثابت هذه الأبيات بعيد غزوة أحد، [وقعت 3هـ ] وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بهجاء المشركين، يوم قريظة على الراجح[ كما رجحه ابن حجر في الفتح].وإجلاء قريظة كان بعيد غزوة الخندق [غزوة الاحزاب] كما هو ثابت ولا مرية في كونها بعد غزوة أحد بلا شك.
روى البخاري في صحيحه معلقا عن "إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ اهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ" .
وفي رواية كما عند مسلم عن عائشة جاء فيها: « إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ».
ومن هذا نعلم:-
= أن شعر حسان بن ثابت محل الشبهة ليس عن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم.
= أنه عندما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم لهجاهم كان بعد هذه الحادثة وليس قبلها .
= أنه عندما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم لهجاهم كان مقيدا بأمور وليس مطلقا:
مقيدا بقوله: ما نافحت عن الله ورسوله، ومقيدا بأصل المنافحة وهو مقيد بعدم الاعتداء في المنافحة والهجاء.
تنبيه:-
هناك رواية تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك له يوم الأحزاب نفسه رواه الطبري في تهذيب الأثار وغيره كلهم عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر ، قال : لما كان يوم الأحزاب ، وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يحمي أعراض المؤمنين ؟ » قال كعب : أنا يا رسول الله ، وقال ابن رواحة : أنا يا رسول الله ، فقال : « إنك تحسن الشعر » ، فقال حسان بن ثابت : أنا يا رسول الله . قال : « نعم ، اهجهم أنت ، فسيعينك عليهم روح القدس ».[ ولكن في إسناده مجالد بن سعيد ضعيف].ولو صح لسقطت كذلك الشبهة.
ثانيا: فإن قيل: ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي يوم أحد وغيره من الأيام، فلماذا لا ينكر على حسان بن ثابت،
والرد: يكفي حسان بن ثابت وغيره من الصحابة ما ثبت نزوله من الوحي من حرمة الاعتداء إلا لرد الاعتداء بمثله،وحرمة قذف المحصنات وحرمة البذاءة وحرمة التفحش لكي نعلم أن الوحي لم يترك لنا ولهم الأمر مطلقا هكذا.
ثالثا: لا ننسى أن نقول: أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربيهم على تعاليم الإسلام فوقوع بعضهم في بعض الأخطاء لا ينفي عنهم فضلهم، فأخطائهم القليلة تنمحي وتُغفر في بحار أعمالهم الصالحة وسبقهم للخيرات.
ولا ننسى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهم حين تركهم إلا على المحجة البيضاء.
هذا فإن كان مني من صواب فبتوفيق الله عزوجل وإن كان مني من خطأ أو نسيان فمني والشيطان والله عزوجل ورسوله برآء منه.
والحمد لله على تمام المنة.
الخلاصة: لم يثبت هذا الأثر عن حسان بن ثابت، ولو صح ثبوته فرضا فحسان بن ثابت أخطأ في اعتداءه في الهجاء والرد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له بمعاونة روح القدس جبريل له إلا في أعقاب غزوة الأحزاب [ الخندق] ويكفينا ما ثبت من الوحي من لنعلم الخطأ الذي وقع فيه حسان رضوان الله عليه،وعفا الله عن جميع الصحابة هذا إن ثبت عنه ذلك ولم يثبت.
تعليق