الحكمة من تشبيه سيدنا المسيح عيسى عليه السلام بآخر

تقليص

عن الكاتب

تقليص

صاحب القرآن مسلم اكتشف المزيد حول صاحب القرآن
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • صاحب القرآن
    1- عضو جديد
    حارس من حراس العقيدة
    عضو شرف المنتدى

    • 31 ماي, 2014
    • 51
    • مسلم

    الحكمة من تشبيه سيدنا المسيح عيسى عليه السلام بآخر

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    الحكمة من تشبيه سيدنا المسيح عيسى عليه السلام بآخر
    للشيخ رفاعي سرور رحمه الله

    ودليل حدوث التشبيه هو قول الله عز وجل:
    {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 157].

    أما الحكمة من التشبيه فهي
    متعلقة بأفعال الله التي يكون بها الإهلاك .. ومنها سُنَّة الاستدراج، ودليلها قوله سبحانه: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 182].
    وسُنَّة الاستدراج: هي الفعل الذي يقع من العبد؛ ليقع به العذاب المستحق، وهي داخلة ضمن السنن الأصلية للإهلاك: سُنَّة الإنذار .. سُنَّة الإمهال .. سُنَّة الاستدراج .. سُنَّة الاستحقاق .. سُنَّة الكشف .. سُنَّة الميعاد .. سُنَّة الإهلاك الفعلي.
    ويفصِّل ابن القيم طريقة استحقاق الهلاك فيقول:
    (وتَحِقُّ كلمة الهلاك بإنزال الأمر والنهي، ثم إظهار قدر اتباعهم هوى أنفسهم، ثم قيام الحجة عليهم بالعدل، ثم يكون العقاب بمثلهم)[1].
    (
    فَعادةُ الرب تعالى -المعلومة في خلقه- أنه حينما يتحتم هلاك قومٍ بمعاصيهم فإنه يُحدثُ سببًا آخر يتحتم معه الهلاك، ألا ترى: أنَّ ثمود لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أراهم الآيات المتتابعات، واستحكم بغيهم وعنادهم، فحينئذ أُهلكوا، وكذلك قوم لوط لما أراد إهلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف، فقصدوهم بالفاحشة.
    وكذلك سائر الأمم، إن أراد الله هلاكها أحدث لهم بغيًا وعدوانًا، بحيث يأخذهم على أثره، وهذه عادته مع عباده عمومًا وخصوصًا، فيعصيه العبد وهو يحلُم، ولا يعاجله، حتى إذا أراد أخذه .. قيض له عملًا يأخذه بعقوبته، مضافًا إلى أعماله الأولى، فيظن الظان أن أخذه كان بذلك العمل وحده، وليس كذلك، بل حق عليه القول بذلك، وكان قبل ذلك لم يَحِق القول بأعماله الأولى، حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين، ولم يمضِ الحكم، فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب أمضى حكمه وأنفذه، قال تعالى:
    {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم، إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم، فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم .. فحلت العقوبة، فهذا الموضوع من أسرار القرآن، ومن أسرار التقدير الإلهي).
    ومن هنا كان حدث التشبيه هو السبب الذي قدره الله لوقوع الغضب على اليهود، فكان ادعاؤهم قتل المسيح له نفس دلالة المحاولة الفعلية التي وقعت على المشبه به، والتي استحق اليهود بها الغضب، ولذلك جاء هذا الادعاء ضمن أكبر الذنوب المحسوبة عليهم أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا القول -بعد المحاولة الفعلية التي وقعت على المشبه- دليل على القصد التام من المحاولة، والإصرار على هذا القصد، ودليل ذلك من كلام ابن القيم قوله:
    (فإذا أراد إهلاكهم ولا بد .. أحدث سببًا آخر يتحتم معه الهلاك)، وكان دليلها العام في القرآن هو قول الله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16].
    قال الإمام البغوي في تفسير قوله تعالى:
    {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين*إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 54-55]: (المكر من المخلوقين:الخبث والخديعة والحيلة،والمكر من الله: استدراج العبد، وأخذه بغتة من حيث لا يعلم، كما قال سبحانه: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 182]، وقال الزجاج: مكر الله عز وجل:مجازاتهم على مكرهم، فسُمِّي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته، كقوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]، وقوله: {وهو خادعهم} [النساء: 142]، ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية، وهو إلقاؤه الشَبه على صاحبهم (هامش نحيل فيه إلى الهامش الخاص بتحقيق روايات الشبيه).
    يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:
    (ليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صُلب كما قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 157]، وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح، ومن جَوَّز قتله فهو كمن قتله، فَهُم في هذا القول كاذبون وهم آثمون.
    وإذا قالوه فخرًا .. لم يحصل لهم الفخر؛ لأنهم لم يقتلوه ..!، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما .. فالقاتل والمقتول في النار)) قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول ..؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه))[2]فجعل الحرص على القتل كالقتل نفسه.
    وظنُّ من ظنَّ منهم أنه صُلِب .. لا يقدح في إيمانه إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح[3]، بل هو مقر بأنه عبد اللّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاعتقاده بعد هذا أنه صُلِب لا يقدح في إيمانه؛ فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلًا له، وقَتْلُ النبي لا يقدح في نبوته،
    وقد قتل بنو إسرائيل كثيرًا من الأنبياء، قال تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} [آل عمران: 146]، وقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]).
    هذه هي قضية التشبيه .. سببٌ أحدثه الله لليهود؛ ليستحقوا به الغضب والعقوبة ..
    وكما ترك الله ثمود يذبحون الناقة .. ترك اليهود يرتكبون محاولة قتل عيسى ..
    لكنَّه سبحانه وتعالى قدَّر ألا يترك المسيح لليهود ..
    فكان لا بد من التشبيه ..
    كان لا بد من أن يأتي إنسان آخر في صورة المسيح، ويقتله اليهود فعلًا؛
    فيستحقون الغضب والعقوبة.
    فأصبح محكومًا عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} [النساء: 157].
    والحكمة من التشبيهجاءت جامعة للحكمة من عقوبة اليهود ونجاة عيسى، وهما أمران متقابلان؛ لأن عقوبة اليهود لا تكون إلا بقتل عيسى، ونجاة عيسى لا تكون إلا بقتل الشبيه، فجمع الله بحكمته وقدرته بين الأمرين بالتشبيه.
    وفي مسألة التشبيه .. يبقى قول الله عز وجل هو الحجة البالغة ..
    أما مناقشتها سلفيًّا فتتم من خلال عدة جوانب:
    الجانب الأول: إسقاط شهادة اليهود
    والمقرر بين المسلمين أن المشبه بالمسيح هو الذي صُلب، وأن عيسى عليه السلام رُفع، وأن جميع اليهود رأوا المشبه به وهو يُصلب، وأن تلاميذ المسيح هم وحدهم الذين رأوه يُرفع.
    فكيف نغلِّب رؤية التلاميذ لعملية الرفع على رؤية جميع الخلائق على عملية الصلب ..؟!
    مع مراعاة أن المشبه به كان لا يختلف عنه، وأن كل من رأى المشبه به على الصليب معذورٌ في اعتقاده أن المسيح قد صُلب.
    والحقيقة: أن علم الحديث -وهو من أَجَلِّ العلوم السلفية- هو الذي يحسِم المشكلة، وذلك بتعريفه للتواتر على أنه ليس بكثرة الطرق .. ولكن بالثقة في أطراف النقل، بحيث يتساوى أطراف التواتر في الثقة بهم، وبصدقهم في الأخبار.
    وباعتبار كفر جميع اليهود والرومان ينتفي معنى التواتر وفقًا لقواعد الرواية وعلم الحديث، في الوقت الذي يثبت فيه معنى التواتر في رواية التلاميذ في الرفع؛ وذلك لأن شرط التواتر متوافرٌ في إيمان التلاميذ، وهو الأمر المفقود عند اليهود والرومان .. رغم كثرة عددهم وقلة عدد التلاميذ ..!
    ولهذا جاء إثبات التشبيه بعد إثبات فسق اليهود تأكيدًا لرد شهادتهم، حيث يقول ربنا عز وجل:
    {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء: 155].
    {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} [النساء: 156].
    وكان كفرهم هو: {وقولهم على مريم بهتانا عظيما} والبهتان هنا له اعتبار ضخم ..
    ذلك لأن الكفر يُسقط عَدالتهم .. وكذلك البهتان .. مما يسقط شهادتهم في قضية عيسى؛ فلا يؤخذ بشهادتهمإذا قالوا: إن المصلوب هو عيسى.
    فالآيات تصف الواقع الذي كان عليه اليهود .. والذي انتهى بهم إلى التعامل مع المسيح بهذا الأسلوب ..
    قال ابن كثير:
    (هذا من الذنوب التي ارتكبوها؛ مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى).
    فقد كانوا يعيشون أحكامًا بالتحريم؛ عقوبة لهم على ظلمهم ..
    {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ..
    وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا ..
    وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ..
    وأكلهم أموال الناس بالباطل ..
    وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} [النساء: 161].

    والمثير حقًّا أن يأتي تقرير الضوابط الأساسية لقبول أو رد الشهادة في سورة المائدة مباشرة قبل مناقشة قضية المسيح عليه السلام ..!
    قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين*فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين*ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 106-108].
    وهذه هي ضوابط الشهادة .. ثم يأتي بعقبها: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب*إذ قال الله يا عيسى ابن مريم ..} [المائدة: 109-110].
    وهكذا يكون الإحكام القرآني .. أساسًا في التعامل مع قضية الشهادة والتشبيه.
    الجانب الثاني: حكم شهادة الحواريين
    وفي قوله تعالى: {
    وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} يقول الإمام ابن تيمية: (أضاف هذا القولَ إلى اليهود وذمهم عليه ولم يذكر النصارى؛ لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدًا هذا معهم، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود، وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صُلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود، وهم شُرَطٌ من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقًا كثيرًا يمتنع تواطؤهم على الكذب).
    الجانب الثالث: حكم شهادة النصارى
    والكتب الموجودة بين يدي النصارى هي الوثيقة التي تتضمن شهادتهم على الأحداث، ولكن هذه الشهادة لم تخرج عن الإطار المحكَم الذي قرره القرآن ..!
    فقد وصف الله حالهم:{وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه}.
    وبالفعل لم تتطابق شهادتهم على الأحداث ..
    وحتى روايتهم لوقائع المحاكمة تُسجِل ملاحظة خطيرة: وهي أن الشخص الذي كان يحَاكم لم يستفضْ في الكلام ..! على الرغم من أنها كانت الفرصة الوحيدة الباقية لإبلاغ دعوته وشرح قضيته لو كان هو المسيح ابن مريم ..!
    فبحسب ما ذَكرَت كتاباتهم كانت المحاكمة كلمات مقتضبة ..
    (إن كنت أنت المسيح فقل لنا ..!؟!
    فقال لهم: إن قلتُ لكم لن تصدقوني، وإن سألتُ لا تجيبوني، ولا تطلقوني ..)
    (لوقا: 22) ..
    (فسأله بيلاطس: أنت ملك اليهود؟!
    فأجاب وقال له: أنت تقول ..!!
    وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيرًا .. فسأله بيلاطس أيضًا قائلًا:
    أما تجيبُ بشيء ..؟ انظرْ كم يشهدون عليك ..؟!!
    .. فلم يجب يسوع أيضًا بشيء .. حتى تعجب بيلاطس ..!!!)
    (مرقس: 16/3-7).
    وهذه الملاحظة المسجلة في غاية الخطورة؛لأن حياة المسيح منذ البعثة حتى الرفع كانت دعوة، وإقامة حجة، واستفاضة بلاغ .. وقد تميَّز المسيح بخوفه الشديد من الإبطاء في دعوته ..!
    قال رسول صلى الله عليه وسلم:
    ((إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ أن يعمل بهن ويأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكاد أن يبطئ، فقال له عيسى: إنك قد أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال: لا تفعل يا أخي، فإني أخشى إن سبقتني إليهم أن أُعذب أو يُخسف بي))[4].
    وروايات الكتب التي بين يدي النصارى تتفق مع تصوير الأحاديث للمسيح كداعية ..
    فلا تخرج حياه المسيح عن المواعظ والمعجزات .. إلى درجة أنه ظل يعِظُهم طوال النهار حتى جاع الناس واشتكوا إليه .. فكانت معجزة السمك والخبز ..!
    كيف للمسيح الذي لم يتوقف عن الدعوة سنوات طويلة .. ليلًا ونهارًا وفي كل مكان .. ومع جميع من يستطيع الوصول إليه ..
    دعوة زواج .. رحلة صيد ..
    حتى أنه كان يدخل على الناس في بيوتهم لدعوتهم ..
    كيف تكون حياته كذلك، ثم تأتي فرصته الأخيرة في الدعوة- فلا يتكلم .. إلا بألفاظ غير مفهومة ..؟!
    .. أنت تقول .. أنا أقول .. وفقط ..!!
    لقد كان الأمر الطبيعي والمنطقي أن يعتبر المسيح محاكمته فرصة لن تتكرر .. حيث اجتمع له رؤساء اليهود وجموعهم ليسمعوا الحقيقة كاملة.
    الجانب الرابع: المشبه به
    والمنهج السلفي في فهم قضية المسيح يقتضي الوقوف عند حدِّ النصوص الشرعية ..
    فلا ننشغل بمسألة لم يرد فيها نصٌّ شرعي، مثل مسألة شخص المشبه به، وبذلك تثبت الحدود العقدية للقضية؛ فلا نُدخل فيها ما ليس منها.
    وتقرير هذه القاعدة
    لا يمنع مناقشة أي اجتهاد إسلامي يمكن الاستئناس به، لكنه يمنع من التفرق والاختلاف حول مسألة ليست داخلة ضمن التصور السلفي لقضية المسيح.
    ومن المهم أيضًا التأكيد على أن زاوية الاهتمام بالمشبه به ليست شخصَه، ولكن تفسير موقفه في ضوء حكمة الفعل الإلهي.
    والرواية السلفية الثابتة في هذا الموضوع وردت عن حبر الأمة عبد الله بن عباس .. قال: (لما أراد الله أن يرفع عيسى عليه السلام إلى السماء خرج على أصحابه وهم في بيت؛ اثنا عشر رجلا، ورأسه يقطر ماءً، فقال: أيُّكم يُلقى شبهي عليه فيُقتل مكاني فيكون معي في درجتي ..؟ فقام شابٌّ من أحدثهم سنًّا، فقال: أنا ..! فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا ..! فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم الثالثة، فقال الشاب: أنا ..! فقال عيسى عليه السلام: نعم أنت ..! فَأُلقِيَ عليه شبه عيسى عليه السلام، ثم رُفِعَ عيسى من روزَنة كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشاب للشبه فقتلوه، ثم صلبوه)[5] (تحليل علمي للروايات الواردة في المسألة بالهامش).
    قال ابن كثير: (وهذا إسنادٌ صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه، وكذا ذكره غير واحد من السلف).
    وبذلك ينطبق مصطلح «حواري» أول ما ينطبق على هذا الشاب،
    وتذكِّرنا هذه الرواية بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله الخندق: ((من يأتيني بخبر القوم ..)) فقام الزبير وقال: «أنا» ثلاث مرات فقال رسول الله: ((لكل نبيٍّ حواريٌّ .. وحواريِّي الزبير ..))[6].
    ولعل ظروف غزوة الخندق التي قال الله فيها: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] تشبه ظروف محاولة القبض على المسيح عليه السلام قبل وقوع التشبيه،
    فانتداب الرسول للزبير كان كانتداب المسيح للشَّاب.
    واسم «حواريين» وإن كان لكل نبيٍّ إلا أن اختصاص الحواريين بعيسى ثابتٌ ومعروف ومشهور من النصوص.
    الآثار المترتبة على التشبيه
    تبين مما سبق أن التشبيه كان
    لوقوع الاستحقاق على اليهود بالغضب، ولم يكن لتحقيق النجاة للمسيح.. لأن النجاة قد تمت بالرفع قبل محاولة القبض على المسيح أصلًا ..
    وهذا الاستحقاق كان أول آثار التشبيه على اليهود ..
    لأن اليهود كانوا على يقين بأنه المسيح، وهذا اليقين كان أساسَ استحقاقهم لذنب المحاولة وكأنها قتل فعلي.
    أما أثر التشبيه على النصارى، ففيه قول الله سبحانه وتعالى
    : {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه *ما لهم به من علم إلا اتباع الظن.*وما قتلوه يقينا} [النساء: 157] ..
    فمن أين أتى الشك إلى النصارى ..؟!
    لا بد أن تكون هناك شواهد صنعها الله ليحتج بها من يريد القول بأنه ليس المسيح؛
    لأنه لولا هذه الشواهد ما وسع النصارى إلا القول بأن المصلوب هو المسيح دون اختلاف أو شك.
    وعرض الحالة الفكرية للنصارى على المدى التاريخي بخصوص قضية الصلب هو الذي يفسر معنى الآية:
    {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} [التوبة: 115]، يعني: أن الله لا يضل قومًا إلا بعد أن يُبين لهم الأسباب والأشياء التي يحفظون بها أنفسهم من الضلال.
    ليكون صلب المشبه به حدثًا واحدًا، له آثار متعددة ..
    التشبيه كان استدراجًا لأمة الغضب ..
    وكان فتنةً لأمة الضلال ..
    وهداية للحواريين الذين حفظهم الله من الغضب والضلال.

    وهذه الشواهد لا بد أنها كانت كافية عند المهتدين، الذين قالوا: إن المصلوب ليس المسيح، أما الذين قالوا: إنه المسيح
    {ما لهم به من علم} ما لهم بهذا القول من علم {إلا اتباع الظن} لأن الشواهد الدالة على القول بأنه ليس هو المصلوب كانت هي الشواهد الصحيحة؛ مما جعل الذين يخالفونهم متبعين للظن، الذي لا يفيد العلم.
    والقول الفصل في القضية على مستوى اليهود والنصارى والمسلمين هو قول الله:
    {وما قتلوه يقينا} [النساء: 157].
    وكان يكفي أن يقول:
    {وما قتلوه} .. ولكن لأجل الفصل كان قول الله تعالى: {وما قتلوه يقينا}.
    (مراجعة تفسير الظن)

    [1]مدارج السالكين (1/167).
    [2]أخرجه البخاري (31، 6481، 6672)، ومسلم (2888) كلاهما من حديث الأحنف بن قيس.
    [3]كلام الإمام هاهنا على من عاصر قضية الصلب واشتبهت عليه، أما بعد نزول القرآن ونفيه لعملية الصلب فلا يجوز هذا الاعتقاد.
    [4]أخرجه أحمد (4/130، 202)، والترمذي (2863)، والحاكم (863) جميعهم من حديث الحارث الأشعري.
    [5]أخرجه النسائي (6/489)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/339).
    [6]أخرجه مسلم (2415)، والبخاري (6833) كلاهما من حديث جابر بن عبد الله.

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة وداد رجائي, 15 يون, 2024, 04:22 م
ردود 0
24 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة وداد رجائي
بواسطة وداد رجائي
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 9 يون, 2024, 03:56 ص
ردود 0
27 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 26 ينا, 2023, 02:58 م
ردود 0
49 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عاشق طيبة
بواسطة عاشق طيبة
ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 23 ينا, 2023, 12:27 ص
ردود 0
80 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عطيه الدماطى
ابتدأ بواسطة د. نيو, 24 أبر, 2022, 07:35 ص
رد 1
83 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د. نيو
بواسطة د. نيو
يعمل...