الحملة الفرنسية على مصر
(1798-1801") ، لماذا ؟؟
(1798-1801") ، لماذا ؟؟
مقدمة :
لا شك أن دراسة تأثير الحملة الفرنسية على أرض الكنانة من بلاد الاسلام من الأهمية بمكان ، فمصر لم تزل قلب الاسلام النابض ، و إعلامه السيار ، و قبلة العلماء و المثقفين المسلمين ، و لذلك فإننا حين ندرس تاريخ الحملة الفرنسية على مصر فنحن ندرس أيضا بداية اللقاء بين الحضارتين الاسلامية الأصيلة و الفرنسية الغربية الدخيلة .
تمهيد :
في التاريخ الأوربي ـ و لا سيما الفرنسي منه ـ كانت هناك وصمة عار لا زالت تخيم على جبين فرنسا قلب المسيحية الأوروبية، وترجع تاريخيا إلى الحملة الصليبية ،
هذه الهزيمة ظلت تعيد إلى أذهان الفرنسيين هزيمة أخرى سابقة حينما استرد المسلمون ساحل الشام من بقايا الصليبيين، الذين انطلق معظمهم من فرنسا فيما كانت تعنيه آنذاك من كونها قلب العالم المسيحي.
لقد تعرضت مصر على مر تاريخها لحملتين صليبيتين في عهد الدولة الأيوبية ، وكانت الحملتان تقودهما فرنسا .
إلاَّ أن الملك لويس التاسع أرسل تهديداته بعد ذلك مرة أخرى إلى مصر فسمع بها أحد الشعراء و هو جمال الدين يحيى بن مطروح ورد عليه بأبيات طريفة مشهورة ، و هي :
يقول أبياتاً منها:
قل للفرنسيس إذا جئته ** مقال صدق عـن قـؤول نصيـح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ** تحسب أن الزمر يا طبـل ريـح
وكل أصحابك أوردتهم ** بحسـن تدبيـرك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا يرى منهـم ** غير قتيل أو أسير جريـح
وقل لهم إن أضمروا عودة ** لأخـذ ثـار أو لقصـد صحيـح
دار ابن لقمان على حالها ** والقيد باقي والطواشي صبيح
1) أما الأولى فقد عرفت بالحملة الصليبية الخامسة، وكانت بقيادة جان دي برس ، إلاَّ أنها منيت بالهزيمة عام (618هـ= 1221م.
2) وأما الأخرى فقد عرفت بالحملة الصليبية السابعة، والتي قادها الإمبراطور الفرنسي لويس التاسع، عام (648هـ=1250م)، والتي انتهت بهزيمة نكراء لم تشهد فرنسا لها مثيلاً عبر تاريخها الاستعماري، ففي معركة المنصورة دارت معركة رهيبة قضى فيها الجيش المصري تماماً على الجيش الصليبي ، وضاع الفرنج بين القتل والأسر ، فقتل ثلاثون ألفاً منهم ، و أسِر الباقي ، بل تم أسر الملك لويس نفسه ، وتم نقله إلى دار ابن لقمان حيث بقى سجيناً فترة من الزمان. ثم أسفرت المفاوضات النهائية عن الإفراج عنه لقاء فدية مالية كبيرة، وتم الاتفاق على الجلاء الفرنجي من دمياط.
عندما أيقن لويس التاسع ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثامنة الفاشلة أنه لا سبيل للنصر على المسلمين بالقوة الحربية حيث أن المسلمين في المعارك يريدون إحدى الحسنيين إما الشهادة في سبيل الله وإما النصر ، كي تكون كلمة الله هي العليا كتب إثر ذلك بل لابد من تحويل ميدان القتال إلى مجال آخر يقوم عليه صنائعهم وعملائهم من المفتونين بهم من أبناء المسلمين.
يقول لويس :( أنه لا سبيل إلى السيطرة على المسلمين عن طريق الحرب ، أو القوة ذلك لأن في دينهم عاملاً حاسماً هو عامل المواجهة والمقاومة والجهاد وبذل النفس والدم الرخيص في سبيل حماية العرض والأرض.
وأنه مع وجود هذا المعنى عند المسلمين فمن المستحيل السيطرة عليهم لأنهم قادرون دوماًـ انطلاقاً من عقيدتهم ـ على المقاومة ودحر الغزو الذي يقتحم بلادهم ، وأنه لا بد من إيجاد سبيل آخر من شأنه أن يزيف هذا المفهوم عند المسلمين ، حتى يصبح مفهوماً أدبياً ووجدانياً وإيجاد ما يبرره على نحو من الاتجاهين ، ما يسقط خطورته واندفاعه وأن ذلك لا يتم إلا بتركيز واسع على الفكر الإسلامي وتحويله عن منطلقاته وأهدافه حتى يستسلم المسلمون أمام بقاء القوة الغربية وتروض أنفسهم على تقبلها على نحو من اتجاه الأهواء والصداقة والتعاون) .
وتتضح هذه الحقيقة أيضًا من رسالة البطريرك 'جريجوريوس' كبير قساوسة اليونان أيام حكم الدولة العثمانية التي أرسلها إلى قيصر روسيا وذلك سنة 1820 ميلادية ـ مع العلم أن البطريرك 'جريجوريوس' هذا كان معينًا من قبل الدولة العثمانية ويقيم باستانبول تحت رعاية وحماية الدولة العثمانية وله صلاحيات وامتيازات واسعة ـ
يبين له فيها كيفية هدم الدولة العثمانية من الداخل، وذلك باستخدام العملاء والرشوة للدفع بمن لا ولاء لهم إلا للمال والجاه فقط ولو على حساب دينهم وأمتهم .
'من المستحيل سحق وتدمير الأتراك العثمانيين بالمواجهة العسكرية؛ لأن الأتراك العثمانيين ثوريون جدًا ومقاومون وواثقون من أنفسهم, وهم أصحاب عزة نفس واضحة, وهذه الخصال التي يتمتعون بها إنما تنبع من ارتباطهم ببعضهم ورضائهم بالقدر وتشبعهم بهذه العقيدة, وأيضًا من قوة تاريخهم وطاعتهم لسلطانهم.
الأتراك العثمانيون أذكياء وهم مجدون مجتهدون متجاوبون مع رؤسائهم مما يجعلهم قوة هائلة تخشى منها, وإن كل مزايا الأتراك العثمانيين هذه بل وبطولاتهم وشجاعتهم إنما تأتي من قوة تمسكهم بدينهم وارتباطهم بأعرافهم وتقاليدهم وصلابة أخلاقهم, ولذا فإن السبيل لهدم هذه القوة يكون كما يلي:
أولاً: لابد من كسر شعور الطاعة عندهم تجاه سلطانهم وقادتهم وتحطيم روحهم المعنوية, وروابطهم الدينية, وأقصر طريق لتنفيذ هذا تعويدهم للتعايش مع أفكار وسلوكيات غريبة لا تتوائم مع تراثهم الديني.
ثانيًا: لابد من إغراء العثمانيين لقبول المساعدات الخارجية التي يرفضونها من إحساسهم بعزتهم وتعويدهم عليها حتى لو أدى ذلك إلى إعطائهم قوة ظاهرة لمدة محدودة.
ثالثًا: لابد من إعلاء أهمية وقيمة الأمور المادية في تصوراتهم وأذهانهم وإفسادهم بالإغراءات المادية؛ فإنه ليس بالحرب فقط تهدم الدولة, بل العكس هو الصحيح؛ لأننا إذا اتبعنا طريق الحرب وحده لتصفية الدولة العثمانية سيكون هذا سببًا في سرعة إيقاظهم ووصولهم لمعرفة حقيقة ما يخطط ويبيت لهم في الخفاء.
وإن ما يجب علينا عمله هو إكمال هذه التخريبات في بنيتهم الذاتية والاجتماعية ومكانتهم الدولية دون أن يشعروا بذلك'.
لقدكان لهذا السقوط المدوِّي أثراً كبيراً في نفسية القادة الفرنسيين فيما بعد، حيث ظلت الآمال والطموحات قائمة باسترداد هيبة فرنسا ذات يوم، بل أوروبا بأكملها.
و لكن حمى الصراعات القومية الناشئة في أوروبا في أواخر القرن لسابع عشر الميلادي جعل من إعادة تشكيل هيبتها أمراً مهما على الصعيدين الداخلي والخارجي ، ففي حمى النهضة الجديدة، وفي حمى إعادة رسم ملامح الثورة الفرنسية التي انبثقت لتعبر عن تناقضات المجتمع الفرنسي، كان لا بد أن تطل فرنسا برأسها الاستعماري، لتكون شاهدة على تناقض العقل الأوروبي المثير للجدل، فالأفكار التي أفرزتها الثورة الفرنسية والتي يروج لها كثيراً اليوم كما بالأمس، إنما تعني في حقيقة الأمر بالنسبة للغرب، أن تكون الحريات والديموقراطية شأناً داخلياً، بمعنى عدم انطباق هذه المفاهيم خارج الحدود الأوروبية، وبالتأكيد في ذلك الوقت ضمن حدود فرنسا، قبل إفلاس الأوروبيين واستنزاف قوتهم فيما بينهم، والتي تجلت في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لذلك فإن مفاهيم الحريات ، وما جاءت به الثورة الفرنسية لا يلغي مفاهيم الاستعمار والسيطرة على الشعوب واستعبادها، إنما تتغير أدواته وآلياته، بما يناسب المرحلة الجديدة، ففرنسا لم تعد تريد إنقاذ قبر المسيح بل تريد إنقاذ المجتمعات العربية من التخلف، بينما في واقع الحال، كانت الصورة في عهد الصليبيين أقل وطأة على المجتمع المسلم، وذلك من حيث التبعات الثقافية التي نتجت بعد تلك الحملة الشهيرة على مصر. وهنا تتجلى تناقضات الثورة الفرنسية، حيث مفاهيم التحرر لا تلغي استعباد الآخرين خارج البلدان الأوروبية، فهي مفاهيم تدعو للنهضة بالعلم والحرية ولكنها لا تمنع قيام أشكال جديدة للاستعمار تحت هذه اليافطات، لا تزال هذه المفاهيم قائمة إلى عصرنا الراهن، حيث يبرز الاستعمار بأثواب شتى، فيما يعكس طبيعة العقل الغربي والذي يتناقض مع ما ينتجه من مفاهيم وآراء، بحيث يكون نتاج هذه الأفكار خاصاً في إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والاقتصادية الداخلية للغرب، حتى لو كان ذلك على مصالح شعوب وأمم أخرى.
بالتأكيد، كان للفرنسيين ما يبرر حروبهم الداخلية آنذاك في القارة الأوروبية، على اعتبار أن الثورة الفرنسية نشأت في مجتمع مشابه لبقية المجتمعات المجاورة، وبالتالي فإن حمى العدوى ستجعل من التناقضات قائمة وممكنة بين فرنسا ودول أوروبا الأخرى، ففي كل الثورات في العالم والتغيرات السياسية، ثمة حمى ورعب من دول الجوار لأي متغيرات سياسية في بلد ما، ومن الطبيعي أن تنشأ أشكال معينة للرفض أو للقبول لما يجري في تلك الدول، ولكن أن تقوم دولة بعد تبدل أنظمتها ولوائحها السياسية بالغزو في مكان بعيد وفي قارة أخرى، فتلك مسألة ليس لها ما يبررها بالمنطق والعقل، فليست فرنسا وصية على العالم، وليس منطقيا أن تخوض حربا خارج حدودها لتدافع عن منجزاتها وفي حقيقة الأمر كان ذلك جزءاً من طموحها ورغبتها في مواكبة شراهة الآلة الناهضة في أوروبا.
بالتالي كان هناك ثمة مؤثرات تتبلور، وثمة مؤشرات تعبر عن ثقافة تلوح في الأفق، لتكون حملة نابليون تلك، من خلال برامجها الثقافية وشعاراتها، عبارة عن نموذج تسير عليه فيما بعد الدول الاستعمارية الأوروبية، فإذا دخلت حمى التغيير في أوروبا ودخلت مفاهيم الحريات الشعبية فان ذلك لن يمنعها من أن تكون استعمارية خارج أوروبا، حيث الحريات الأوروبية تعيش وتقتات على حريات الشعوب الأخرى خارج القارة، وفق نموذج مثير للجدل، تتحول فيه الشعوب إلى مواد استهلاكية لصالح حركة الدول الكبرى وشعوبها.
وهكذا، فقد اكتشفت فرنسا عنواناً كبيراً في المعادلة السياسية اسمه تحرير الشعوب، وبمقتضى ذلك أصبحت تتم سرقة الشعوب، وهذه السرقات أنتجت فيما بعد دولة الرفاهية، والتي لا تكتمل في أحد جوابها إلا على تحويل نتاج وجهدهم للسير ضمن حركة الرأسمال الأوروبي المتوحش وغير المكترث لهموم ومعاناة الشعوب. وبالتالي، فان حملة نابليون أحدثت انقلاباً هائلا في التاريخ الإنساني، حيث عملت على صياغة منظومة أخلاقية وفكرية أرست من خلالها قواعد الاستعمار الحديث، وبهذا خرجت فرنسا في هذه«المنجزات» لتصوغ نظاماً استعماريا جديدا يقوم على أسس، أحدثت فصلاً هائلاً بين الشعوب ورسمت أخلاقا لا تنتمي إلى أسس إنسانية أو حضارية بمعنى الكلمة، وبالتالي إن أول نتاج أخلاقي للثورة الفرنسية خارج أوروبا، أنها حولت الإنسان في الدول الفقيرة إلى مادة خام يجوز استنفاذها بالكامل لصالح المستعمر الذي ارتقى للتو بالمفاهيم الحضارية الأوروبية، ولتكون مفاتيح حريته، هي ذاتها أغلال الآخرين، بالتالي يعكس ذلك مجمل القيم التي أنتجتها القوانين الوضعية الأوروبية، حيث التطبيق العملي للفلسفة الأوروبية هو أمر خاص، خاضع لمعايير خاصة لا تنطبق على البشرية بعمومها.
في مطلع حملة نابليون وقبل وصوله إلى شواطئ الإسكندرية، قام بعملية سطو مثيرة للجدل، حيث دخل إلى مقر البابوية، وسطاَ على المطبعة الشهيرة التي احضرها معه إلى مصر، وكان سطوه على البابوية جزءاً من عملية إعادة تشكيل الوعي في أوروبا بعمومها، إذ كان يعتقد أن ذلك يعني انتهاء السلطة البابوية لصالح سلطات سياسية جديدة، تنتمي في ظاهرها إلى المجتمع المدني الناهض من أعباء البابوية الثقيلة، لكن هذه السلطات تسير على ذات الخطى التي سارت عليها البابوية، في تكريس مفاهيم الظلم والاستعباد، وتنتمي في جوهرها إلى مدرسة البابوية القديمة القاضية بإقرار هدنة مقدسة لصالح فعل عسكري عنيف خارج الحدود الأوروبية.
وبهذا الاعتداء على البابوية، يعاد تركيب الصورة بشكل جديد، فجيش نابليون سقط عنه الصليب الأحمر الذي كانت تلزم الكنيسة الجنود برسمه على ملابسهم، لكن هذا مجرد عمل خارجي، حيث أمام جيش نابليون حربا صليبية جديدة ومهمات تبشيرية جديدة، تهدف إلى تبشير الشرق بالعصر الغربي الجديد، وليكون التبشير للعصر الأوروبي أول قواعد يعمل على إرسائها، فتظهر عمائم، تساهم في هذا التبشير وتنتمي إليه من حيث النتيجة، ولتحدث فجوة هائلة في صدر الأمة لم تكن مرت بها من قبل، والحقيقة إن سيف الغرب كان يعمل على توحيد الأمة، وأما النتاج الثقافي لحملة نابليون فقد أوصل الأمة إلى حد الهاوية.
بعيدا عن الخطوات العسكرية التي قام بها نابليون ومجريات المعركة على الأرض، وبعيداً عن طبيعة حكم المماليك وظلمهم، فان الأمن القومي لأول مرة يتعرض لخطر لم يتعرض له من قبل، فالعبث بمفهوم الأمن القومي كان من أبرز تلك السمات التي واجهت بها الأمة حملة نابليون، فمن أجل خلاص الأمة من ظلم المماليك، بقيت الطليعة الواعية في حالة صمت مطبق حتى دمر الفرنسيون جيش المماليك، بينما هو في تلك اللحظة لا يعتبر جيش المماليك، إنما الجيش الذي يدافع عن الأمة في وجه غزو خارجي.
وهكذا، فان أولى نتائج حملة نابليون انبثقت سريعاً، حيث حدث انقسام كبير في وعي النخبة، فبرر كثيرون لأنفسهم دخول قوة خارجية غازية للتخلص من قوة داخلية ظالمة، وبهذا المشهد، إنما كان البلد بأكمله عرضة لكارثة اشد، على يد المستعمر الذي لا يبرر أبداً التعاون معه أي مشكلات داخلية. وبالتالي، إننا اليوم نشهد هذه الحالة، حيث بات الكثيرون لا يرون مانعاً من دخول العدو الخارجي للخلاص من واقع مظلم في الداخل، دون وعي لطبيعة النتائج التي لا تكون في صالح أهل البلاد بالمطلق، إذ أن تغذية الانقسام تكون أولويات المستعمر، وتتحول البلاد إلى أنقاض ليس في بنيتها السياسية فحسب، إنما الاجتماعية والثقافية.
لقد ضربت حملة نابليون جملة من القيم الإسلامية، وأنتجت جيلاً كان له تبعاته الكارثية على الأمة، وأدخلت مصيرها ومستقبلها في كهف مظلم، وكان من أبرز نتاجها، تهيئة الأنفس لقضم الخلافة الإسلامية والانقلاب عليها، وبالتالي ما نتج عن ذلك من ضياع لفلسطين، ووصول الأمة إلى حالة يرثى لها، أسهمت في تعزيز تكالب الغزاة الذين ما فتئوا يطؤون أرض الإسلام بالتوالي حتى عصرنا الحالي.
يتبع
تعليق