الســلام عليكم
كنتُ قد وعدت بأن أضع مبحثا مقتضبــا حول قضيـة الفلسفة اليونانية و نزعـات المركزية التــي اختارت الانتصار لنظرية "أسطورة الاطار" كمـا سمـاهـا كارل بوبر، و قد قمتُ بحذف بعض الفصول المرتبطة بالمقارنــة بين الفلسفة الصينية و الهندية و بين اليونانية حتـى لا يتشعب النقاش الــى مجالات أخـرى . نرجو من الإخـوة الكرام تثبيت هـذا البحث الوجيز إن كـان يستحق ذلك و شكرا
المبحث الأول : تأحيد الفلسفة والموقف الدوغماتي
يرتبط مفهوم الأخلاق في التصور الفلسفي بإشكالات عدة ذات مواضيع مختلفة،حيث يسعى الفكر المنظم المجرد إلى محاولة فك أسرار معادلة الأخلاق و تقديم المحتوى المعرفي و الفعلي لها تنظيرا و ممارسة للخروج بحصيلة فكرية تضع القواعد و النظم للأخلاق و تبعد عنها ما يدخل في إطار النزعات الشخصية،فالفلسفة - بمعناها الواسع- تفكير في طريقة لاختيار موقع في الوجود عبر توظيف العقل بالتحليل و التركيب و المقايسة وفق قواعد المنطق،كما تعبر عن آليات التفكير في المعالجة بحسب الخصوصيات الحضارية.
إن الفلسفة بمفهومها العام تظل لصيقة بالإنسان وحده ولازمة له على خط مستقيم، وتبقى خاضعة للتغيرات الزمانية و المكانية وقابلة للتبدل لتتحول إلى منهج قائم بذاته لها أسسها وقواعدها كأركان لولوج عالم التفلسف ، ونحن نجد في تاريخ الحضارات فلسفات متعددة تنسجم وفق الطابع العام والخصائص الداخلية لكل حضارة،فمنها فلسفات امتزج فيها الدين بشكل تطابقي لا يمكن الفصل بينهما أو عزل بعضها عن بعض ،ومنها فلسفات استقلت عن الدين نسبيا وظل الاعتماد على العقل وحده كضامن لليقين والخير،شأنها شأن الفلسفة اليونانية في مراحل محدودة حتى غدت الفلسفة في طابعها العقلي رمزا للحضارة وتعبيرا عن ريادتها من حيث قدرتها على الانفلات من أكوام الأساطير والأوهام حيث اتجهت سيول المداد صوب تزكية " العقل اليوناني" و تبريكه سواء من قبل كتاب الغرب أو الشرق فكاد أن يستقر الوضع العام على تقرين اليونان بالفلسفة وتبوئها موقعا بلغ من التمجيد لهم مبلغ وصفها ب:"المعجزة اليونانية " وعكفت طوال عقود من الزمن تحتفظ بأصالتها منذ العصور القديمة والمتوسطة والحديثة إلى أن جاء القرن العشرون فبدأت في الانحدار و التنازل رغبة في تجاوز" المركزية الغربية" وهيمنتها على عقول الشرق فنصبت نفسها قاضية إمامية على بقية العلوم والمعارف ذات الأصول الشرقية ، وكذلك لمحاولة التعامل مع فلسفات الشرق بحيادية تعترف بالقيم والتصورات التي صاغتها الحضارات الإنسانية في شكل حكم مندمجة في أحضان الدين كمؤسس أول باعث للتأمل ، ولعقل استقراء الكتابات التي أرخت للفكر الفلسفي بصفة عامة ناطقة وشاهدة على مقولة نفي الشرق من ساحة الإبداع ومحاكمته وهو بريء، وظلت ردحا من الزمن تحصر" أنوار الفكر" في بقعة جغرافية ذات أبعاد زمانية ومكانية شكلت أسرا لكبار المفكرين الذين انجرفوا وراء مقولات الإعلاء من منظومة الفكر اليوناني وراحوا يبشرون بعالم "العقل والعقل وحده" في سبيل إثبات ريادية "العقل اليوناني" وتفوقه الكاسح على مختلف"العقول الشرقية" السابحة في فلك الروحيات الموغلة -حسبهم - في الطقوس الدينية والأوهام التجريدية، وقد ظل غالبية هؤلاء الذين اصطفوا وراء هذا الموقف الاقصائي مخلصين لآرائهم وعضوا عليها بالنواجذ، إذ يكفي مراجعة الخزانة المعرفية في الفكر الفلسفي ليتبدى لنا حجم حضور "العقل اليوناني" وحده وهيمنته على ساحة التأمل والتفكر المجرد من بداية تشكلا ته إلى حين اقعنساسه أو كما يحلوا لبعضهم أن يسميها ب،خريف الفكر اليوناني في مقابل ربيع الفكر اليوناني في إشارة إلى العصر الذهبي و أنوار العقل ، ومع قلة الكتابات المشرقية و كشوفاتهم وسيل الطوفان الجارف المفعم بنظريات اليونان تتدنى خطوط التفاهم والتحاور بين الحضارات لتفسح المجال ل،الأنا وتشويه "الهو" المقابل الآخر في سبيل محاولة قيادة صدارة التاريخ ،فتصير مؤسسة الشرق مدرسة يرقى بها في أحضان هوامش التاريخ معدومة التفاعيل ،ومؤسسة الغرب مدرسة نموذجية يحتكم إليها في درجة التحضر و التعقل على مختلف الأصعدة وبالتالي استحقاقهم لبناء العالم من حيث هي ممثلة للقيم المطلقة و جامعة للحكم.
1- النزعة الو ثوقية :
إذا كنا بصدد تفكيك دواليب النزعة الوثوقية الساعية إلى بلوغ المطلق وتحديد توجهاتها كان علينا لزاما النفاذ إلى مفهوم الفلسفة كمصطلح يوناني وإبراز تبيانات مواضيعها منذ أن قام الإنسان بتوظيف عقله إلى حدود الوقت المعاصر حتى يتسنى لنا الأشياء التي بها بانت تلك النزعة على الوجود وعللت بها أحكامها وقراراتها لأن تصور الشيء سابق على الحكم عليه –كما يقول المناطقة ،فلابد من معرفة الخطوط العامة للفلسفة اليونانية و إدراك حيثياتها ولو بصورة موجزة حتى نعي الأسباب التي حركت وولدت نزعة دوغماتية ترفض الآخر جملة و تفصيلا.
عرفت الفلسفة -بصفة عامة -تباينات في تحديد مواضيعها و تقعيد قضاياها ،ولعلنا نجد في التعاريف المختلفة للفلاسفة أنفسهم ما يكشف الستار على تشعب هذه المواضيع بدأ من فلاسفة الطبيعة وجماعة السفسطة مرورا بأفلاطون وأرسطو إلى روجر بيكون وفرنسيس ييكون وروينه ديكارت إلى مورتس اشلك...وقد نصل هذه التحديدات درجة التوافق في بعض الجزئيات أو التناقض ،ومرد ذلك قد يعود إلى اختلاف نظرة كل فيلسوف إلى الوجود و طريقة معالجته لكبريات المشاكل الإنسانية أو الميتافيزيقية فضلا عن الخصائص العامة لحضارة من الحضارات إذ غالبا ما يكون منطق الانتماء إلى مجتمع ما بكل مستوياته ونوعية أزماته يحدد سقف تنظيراته و تأطر جهازه المفاهيمي باعتبار أن الإنسان "ابن مألوفه وعوائده وليس ابن طبيعته" وأن لا مناص من التأثر بالواقع المعيش ، فبقدر ما يؤثر الواقع في الفكر يؤثر الفكر في الواقع و يحركه نحو تجاوز المعطيات الماثلة والتنكر للموروثات القديمة ، وعلى الرغم من تشعب المواضيع وتداخلها ضمن نسقية تمثل حقلا خصبا لممارسة فعل التفكير، فإن جل الأبحاث الفلسفية بشقيها المادية و المثالية اعتادت- كما اعتادت مؤرخو الفلسفة - تصنيف مباحث الفلسفة إلى ثلاثة أقسام :مبحث الوجود والمعرفة والقيم ،فالأول يتناول مسائل الماورائيات الميتافيزيقية (الانطولوجيا)،والثاني يهتم بمفهوم المعرفة كنتاج لفعالية العقل ومدى تقدمها كحصيلة لأخطاء متراكمة أو كنتيجة لسلسلة النجاحات التي تمضي إلى الأمثل و الأرقى (الإبستمولوجيا)
أما مبحث القيم فينصرف نحو دراسة الحق والباطل والأحكام الواقعية والقيمية (الأكسيولوجيا)، وتنتظم داخل تلك المباحث فروعا عدة مثل دراسة الحضارة ،اللغة ، المجتمع،النفس ،التاريخ، الدين وعليه فكل شيء موضوع للفلسفة تضعها تحت المجهر لأجل استكشاف حقائقها.
ونحن إذا أردنا أن نقوم بسرد موجز لتاريخ الفلسفة اليونانية التي كانت موضع التفاخر والاعتزاز طوال عقود من الزمن قلنا أنها عرفت انطلاقتها منذ القرن السابع قبل الميلاد مع فلاسفة الطبيعة الأيونيين و الأيليين والذريين مرورا بجماعة السفسطائيين وسقراط وأفلاطون باتجاه أرسطو طاليس نحو المدارس السقراطية ممن أولو اهتماما كليا بالمسائل الأخلاقية، وعلى مر هذه المنعطفات الزمنية شهدت الفلسفة تنوعا في المواضيع التي شغلت الفلاسفة ، فالطبيعيون الأوائل إنما انحصرت أبحاثهم في الجوانب الكونية في محاولة لإدراك الوجود بأصوله وفروعه ودراسة نشأة الكون دراسة نظرية بإرجاعها إلى العلل الأولى (الاسطقسات)، فالتوجيه كان كوسمولوجيا بامتياز يُعنى بالوجود كمبحث شكل مدار الاهتمام واتجهوا إلى دراسة أسرار الكون في رمته وخلصوا إلى جملة من النتائج المتضاربة حول تكوين العالم،وهم بذلك بعيدون كل البعد من الانشغال بخبايا الإنسان وهمومه وظلوا يحلقون في سماء التجريد باستدلالات نظرية بحتة إلى أن قام السفسطائيون في القرن الخامس قبل الميلاد بإثارة مشكل الإنسان باعتباره مركز الكون ، ويتقدمهم بروتاغوراس وغورغياس وكاليكلس ممن تفننوا في فن الجدل والبيان يجعلون منها وسيلة للتكسب وطريقة لإفحام الخصوم بالمحاججة عبر التلاعب بالألفاظ وتأييد القول الواحد ونقيضه إلى أن نبغ في زمنهم نابغ يدحض أقوالهم ويكشف عن زيفهم (سقراط) وكأنه " كان على موعد مع الحدث"1، ومنه إلى تلميذه أفلاطون ونظرية "المثل " وتمييزه للعالم المعقول عن العالم المحسوس،فجعل يطلب الحقائق في عالم المطلق باعتباره أزليا خالدا غير قابل للزوال عكس العالم المحسوس الذي يوصف بأنه ظلال وأشباح لعالم المثل والجواهر،وغير ذلك مما أسسه وقعده في محاوراته ورسائله المتنوعة ليترك المجال للفيلسوف أرسطو حيث لم يترك ما يحتاج إلى النظر العقلي إلا وقد بسط فيه القول وأعطاه حق قدره بشكل أكثر تنظيما من شيخه ،فكان واضع علم المنطق سمي من خلاله بالمعلم الأول ،إذ ظل زمنا طويلا قاموسا ومرجعا للفكر الإنساني إلى حدود القرن السادس عشر،و بعد موته أخذت الفلسفة تنكمش في بعدها الأخلاقي حيث غدا السلوك البشري النقطة المحورية في غالبية البحوث يستوي في ذلك ما ذهبت إليه المدرسة الرواقية مع زينون الرواقي والمدرسة الأبيقورية نسبة إلى أبيقور فكانت المحطة الرئيسية تدور حول الفضيلة والبحث عن السعادة أن الفكر اليوناني في عمومه لم يستطع أن يفلت من ربقة الفكر الأسطوري الآسر،وظل يرزح تحت التصورات الأسطورية في بناء نظرياته "فالفلسفة اليونانية القديمة تميزت بعلاقتها بالأسطورة. إن التطور الروحي ما بين القرنين السابع قبل الميلاد والرابع قبل الميلاد قد انطلقت من الأسطورة وقد لعب دورا كبيرا في هذه العملية استيعاب الإغريق للمفاهيم والأفكار العلمية والفلسفية لدى شعوب الشرق، "2 ، فما كانت الأساطير تحيد عن الفكر اليوناني "فبالرغم من أن الفلاسفة قبل سقراط نبذوا الكثير من اللغة الأسطورية إلا أنهم ظلوا في بعض النقاط بما ورثوه من مزاعم هصر ما قبل الفلسفة " 3
أمام هذه المنعطفات التاريخية التي جسدت قيمة الفلسفة في اليونان تبدأ الكتابات بشرارتها حول مبتكرات فعل التفلسف وعطاءاته الإبداعية في المجتمع اليوناني، و ظلت بلاد اليونان تحتل مركزا حساسا في معظم الكتابات الفلسفية بوصفها رمز العقلانية وقطنا جذابا لكل من تملكته فضول المعرفة،بل غدا ولوج عالم التفلسف مرهونا بدراسة النصوص اليونانية والانكباب عليها بالبحث بالتمحيص والتعامل معها تعامل الشيخ للتلميذ رغبة في الدخول إلى عالم الانفتاح وآفاق الفلسفة،وهي –بلا شك-نظرة محكومة بنزعة دوغماتية وثوقية مفرطة تعطي للجنس الآري الريادة على مستوى الاكتشافات وأساليب الإبداع وتدعو إلى « قطيعة ابستمولوجية » تتجاوز الفكر الشرقي وتتجاوب مع الفكر الغربي ورفض أي إنتاجات عقلية لا تنتمي إلى « العقل اليوناني » مع الإصرار بضرورة الاحتكام إلى مقولات اليونان وأجهزته المفاهيمية واعتباره بمثابة السلطة المرجعية في تقرير الصالح من الطالح ومن ثم "إمبراطورية " مترامية الأطراف تحكم عقول الشرق وتهيمن على أنماط تفكيرهم، ووفق هذه الرؤية الاختزالية تنطبق الفلسفة على اليونان وتغدو الكشوفات الذهنية من نصيبها وحدها صانعة الحضارة ورائدة الفكر فتنحل الثقافات إلى ثقافة وحدانية تمثل الأصل لمجمل كسوب البشر،وهو ما يعادل ضمنيا عودة فكرة تراتبية الحضارات وانتظامها في سلم الأمثل والأدنى.يمكن أن نجرف بالقول أن مثل هذه « الوثوقية » شبيهة إلى حد ما بتلك الدعوات المسعورة التي أطلقها بعضهم في ادعاء احتكار العلم للغرب باعتباره حاملا لبذور التقدم وناشرا للمثل والقيم تراوحت في حدود إثنية صرفة، يتجلى ذلك بوضوح عند استقراء أعمال كل من ماكس فيبر ولابوج ومارسيل موس وجوبينو وارنست رينان... حيث الإعلاء من النظم الغربية كنسيج ثقافي مثل المبدأ الذي سعى أنصار ’التمركز الإثني" لتبريرها .
1 - من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية. عبد الرحمان مرحبا .الطبعة2 منشورات عويدات باريس،ص: 93.
2 - موسوعة الفلاسفة: د.فيصل عباس. الطبعة الأولى 1996 دار الفكر العربي بيروت ص 10
3 - نفسه ص 11.
كنتُ قد وعدت بأن أضع مبحثا مقتضبــا حول قضيـة الفلسفة اليونانية و نزعـات المركزية التــي اختارت الانتصار لنظرية "أسطورة الاطار" كمـا سمـاهـا كارل بوبر، و قد قمتُ بحذف بعض الفصول المرتبطة بالمقارنــة بين الفلسفة الصينية و الهندية و بين اليونانية حتـى لا يتشعب النقاش الــى مجالات أخـرى . نرجو من الإخـوة الكرام تثبيت هـذا البحث الوجيز إن كـان يستحق ذلك و شكرا
المبحث الأول : تأحيد الفلسفة والموقف الدوغماتي
يرتبط مفهوم الأخلاق في التصور الفلسفي بإشكالات عدة ذات مواضيع مختلفة،حيث يسعى الفكر المنظم المجرد إلى محاولة فك أسرار معادلة الأخلاق و تقديم المحتوى المعرفي و الفعلي لها تنظيرا و ممارسة للخروج بحصيلة فكرية تضع القواعد و النظم للأخلاق و تبعد عنها ما يدخل في إطار النزعات الشخصية،فالفلسفة - بمعناها الواسع- تفكير في طريقة لاختيار موقع في الوجود عبر توظيف العقل بالتحليل و التركيب و المقايسة وفق قواعد المنطق،كما تعبر عن آليات التفكير في المعالجة بحسب الخصوصيات الحضارية.
إن الفلسفة بمفهومها العام تظل لصيقة بالإنسان وحده ولازمة له على خط مستقيم، وتبقى خاضعة للتغيرات الزمانية و المكانية وقابلة للتبدل لتتحول إلى منهج قائم بذاته لها أسسها وقواعدها كأركان لولوج عالم التفلسف ، ونحن نجد في تاريخ الحضارات فلسفات متعددة تنسجم وفق الطابع العام والخصائص الداخلية لكل حضارة،فمنها فلسفات امتزج فيها الدين بشكل تطابقي لا يمكن الفصل بينهما أو عزل بعضها عن بعض ،ومنها فلسفات استقلت عن الدين نسبيا وظل الاعتماد على العقل وحده كضامن لليقين والخير،شأنها شأن الفلسفة اليونانية في مراحل محدودة حتى غدت الفلسفة في طابعها العقلي رمزا للحضارة وتعبيرا عن ريادتها من حيث قدرتها على الانفلات من أكوام الأساطير والأوهام حيث اتجهت سيول المداد صوب تزكية " العقل اليوناني" و تبريكه سواء من قبل كتاب الغرب أو الشرق فكاد أن يستقر الوضع العام على تقرين اليونان بالفلسفة وتبوئها موقعا بلغ من التمجيد لهم مبلغ وصفها ب:"المعجزة اليونانية " وعكفت طوال عقود من الزمن تحتفظ بأصالتها منذ العصور القديمة والمتوسطة والحديثة إلى أن جاء القرن العشرون فبدأت في الانحدار و التنازل رغبة في تجاوز" المركزية الغربية" وهيمنتها على عقول الشرق فنصبت نفسها قاضية إمامية على بقية العلوم والمعارف ذات الأصول الشرقية ، وكذلك لمحاولة التعامل مع فلسفات الشرق بحيادية تعترف بالقيم والتصورات التي صاغتها الحضارات الإنسانية في شكل حكم مندمجة في أحضان الدين كمؤسس أول باعث للتأمل ، ولعقل استقراء الكتابات التي أرخت للفكر الفلسفي بصفة عامة ناطقة وشاهدة على مقولة نفي الشرق من ساحة الإبداع ومحاكمته وهو بريء، وظلت ردحا من الزمن تحصر" أنوار الفكر" في بقعة جغرافية ذات أبعاد زمانية ومكانية شكلت أسرا لكبار المفكرين الذين انجرفوا وراء مقولات الإعلاء من منظومة الفكر اليوناني وراحوا يبشرون بعالم "العقل والعقل وحده" في سبيل إثبات ريادية "العقل اليوناني" وتفوقه الكاسح على مختلف"العقول الشرقية" السابحة في فلك الروحيات الموغلة -حسبهم - في الطقوس الدينية والأوهام التجريدية، وقد ظل غالبية هؤلاء الذين اصطفوا وراء هذا الموقف الاقصائي مخلصين لآرائهم وعضوا عليها بالنواجذ، إذ يكفي مراجعة الخزانة المعرفية في الفكر الفلسفي ليتبدى لنا حجم حضور "العقل اليوناني" وحده وهيمنته على ساحة التأمل والتفكر المجرد من بداية تشكلا ته إلى حين اقعنساسه أو كما يحلوا لبعضهم أن يسميها ب،خريف الفكر اليوناني في مقابل ربيع الفكر اليوناني في إشارة إلى العصر الذهبي و أنوار العقل ، ومع قلة الكتابات المشرقية و كشوفاتهم وسيل الطوفان الجارف المفعم بنظريات اليونان تتدنى خطوط التفاهم والتحاور بين الحضارات لتفسح المجال ل،الأنا وتشويه "الهو" المقابل الآخر في سبيل محاولة قيادة صدارة التاريخ ،فتصير مؤسسة الشرق مدرسة يرقى بها في أحضان هوامش التاريخ معدومة التفاعيل ،ومؤسسة الغرب مدرسة نموذجية يحتكم إليها في درجة التحضر و التعقل على مختلف الأصعدة وبالتالي استحقاقهم لبناء العالم من حيث هي ممثلة للقيم المطلقة و جامعة للحكم.
1- النزعة الو ثوقية :
إذا كنا بصدد تفكيك دواليب النزعة الوثوقية الساعية إلى بلوغ المطلق وتحديد توجهاتها كان علينا لزاما النفاذ إلى مفهوم الفلسفة كمصطلح يوناني وإبراز تبيانات مواضيعها منذ أن قام الإنسان بتوظيف عقله إلى حدود الوقت المعاصر حتى يتسنى لنا الأشياء التي بها بانت تلك النزعة على الوجود وعللت بها أحكامها وقراراتها لأن تصور الشيء سابق على الحكم عليه –كما يقول المناطقة ،فلابد من معرفة الخطوط العامة للفلسفة اليونانية و إدراك حيثياتها ولو بصورة موجزة حتى نعي الأسباب التي حركت وولدت نزعة دوغماتية ترفض الآخر جملة و تفصيلا.
عرفت الفلسفة -بصفة عامة -تباينات في تحديد مواضيعها و تقعيد قضاياها ،ولعلنا نجد في التعاريف المختلفة للفلاسفة أنفسهم ما يكشف الستار على تشعب هذه المواضيع بدأ من فلاسفة الطبيعة وجماعة السفسطة مرورا بأفلاطون وأرسطو إلى روجر بيكون وفرنسيس ييكون وروينه ديكارت إلى مورتس اشلك...وقد نصل هذه التحديدات درجة التوافق في بعض الجزئيات أو التناقض ،ومرد ذلك قد يعود إلى اختلاف نظرة كل فيلسوف إلى الوجود و طريقة معالجته لكبريات المشاكل الإنسانية أو الميتافيزيقية فضلا عن الخصائص العامة لحضارة من الحضارات إذ غالبا ما يكون منطق الانتماء إلى مجتمع ما بكل مستوياته ونوعية أزماته يحدد سقف تنظيراته و تأطر جهازه المفاهيمي باعتبار أن الإنسان "ابن مألوفه وعوائده وليس ابن طبيعته" وأن لا مناص من التأثر بالواقع المعيش ، فبقدر ما يؤثر الواقع في الفكر يؤثر الفكر في الواقع و يحركه نحو تجاوز المعطيات الماثلة والتنكر للموروثات القديمة ، وعلى الرغم من تشعب المواضيع وتداخلها ضمن نسقية تمثل حقلا خصبا لممارسة فعل التفكير، فإن جل الأبحاث الفلسفية بشقيها المادية و المثالية اعتادت- كما اعتادت مؤرخو الفلسفة - تصنيف مباحث الفلسفة إلى ثلاثة أقسام :مبحث الوجود والمعرفة والقيم ،فالأول يتناول مسائل الماورائيات الميتافيزيقية (الانطولوجيا)،والثاني يهتم بمفهوم المعرفة كنتاج لفعالية العقل ومدى تقدمها كحصيلة لأخطاء متراكمة أو كنتيجة لسلسلة النجاحات التي تمضي إلى الأمثل و الأرقى (الإبستمولوجيا)
أما مبحث القيم فينصرف نحو دراسة الحق والباطل والأحكام الواقعية والقيمية (الأكسيولوجيا)، وتنتظم داخل تلك المباحث فروعا عدة مثل دراسة الحضارة ،اللغة ، المجتمع،النفس ،التاريخ، الدين وعليه فكل شيء موضوع للفلسفة تضعها تحت المجهر لأجل استكشاف حقائقها.
ونحن إذا أردنا أن نقوم بسرد موجز لتاريخ الفلسفة اليونانية التي كانت موضع التفاخر والاعتزاز طوال عقود من الزمن قلنا أنها عرفت انطلاقتها منذ القرن السابع قبل الميلاد مع فلاسفة الطبيعة الأيونيين و الأيليين والذريين مرورا بجماعة السفسطائيين وسقراط وأفلاطون باتجاه أرسطو طاليس نحو المدارس السقراطية ممن أولو اهتماما كليا بالمسائل الأخلاقية، وعلى مر هذه المنعطفات الزمنية شهدت الفلسفة تنوعا في المواضيع التي شغلت الفلاسفة ، فالطبيعيون الأوائل إنما انحصرت أبحاثهم في الجوانب الكونية في محاولة لإدراك الوجود بأصوله وفروعه ودراسة نشأة الكون دراسة نظرية بإرجاعها إلى العلل الأولى (الاسطقسات)، فالتوجيه كان كوسمولوجيا بامتياز يُعنى بالوجود كمبحث شكل مدار الاهتمام واتجهوا إلى دراسة أسرار الكون في رمته وخلصوا إلى جملة من النتائج المتضاربة حول تكوين العالم،وهم بذلك بعيدون كل البعد من الانشغال بخبايا الإنسان وهمومه وظلوا يحلقون في سماء التجريد باستدلالات نظرية بحتة إلى أن قام السفسطائيون في القرن الخامس قبل الميلاد بإثارة مشكل الإنسان باعتباره مركز الكون ، ويتقدمهم بروتاغوراس وغورغياس وكاليكلس ممن تفننوا في فن الجدل والبيان يجعلون منها وسيلة للتكسب وطريقة لإفحام الخصوم بالمحاججة عبر التلاعب بالألفاظ وتأييد القول الواحد ونقيضه إلى أن نبغ في زمنهم نابغ يدحض أقوالهم ويكشف عن زيفهم (سقراط) وكأنه " كان على موعد مع الحدث"1، ومنه إلى تلميذه أفلاطون ونظرية "المثل " وتمييزه للعالم المعقول عن العالم المحسوس،فجعل يطلب الحقائق في عالم المطلق باعتباره أزليا خالدا غير قابل للزوال عكس العالم المحسوس الذي يوصف بأنه ظلال وأشباح لعالم المثل والجواهر،وغير ذلك مما أسسه وقعده في محاوراته ورسائله المتنوعة ليترك المجال للفيلسوف أرسطو حيث لم يترك ما يحتاج إلى النظر العقلي إلا وقد بسط فيه القول وأعطاه حق قدره بشكل أكثر تنظيما من شيخه ،فكان واضع علم المنطق سمي من خلاله بالمعلم الأول ،إذ ظل زمنا طويلا قاموسا ومرجعا للفكر الإنساني إلى حدود القرن السادس عشر،و بعد موته أخذت الفلسفة تنكمش في بعدها الأخلاقي حيث غدا السلوك البشري النقطة المحورية في غالبية البحوث يستوي في ذلك ما ذهبت إليه المدرسة الرواقية مع زينون الرواقي والمدرسة الأبيقورية نسبة إلى أبيقور فكانت المحطة الرئيسية تدور حول الفضيلة والبحث عن السعادة أن الفكر اليوناني في عمومه لم يستطع أن يفلت من ربقة الفكر الأسطوري الآسر،وظل يرزح تحت التصورات الأسطورية في بناء نظرياته "فالفلسفة اليونانية القديمة تميزت بعلاقتها بالأسطورة. إن التطور الروحي ما بين القرنين السابع قبل الميلاد والرابع قبل الميلاد قد انطلقت من الأسطورة وقد لعب دورا كبيرا في هذه العملية استيعاب الإغريق للمفاهيم والأفكار العلمية والفلسفية لدى شعوب الشرق، "2 ، فما كانت الأساطير تحيد عن الفكر اليوناني "فبالرغم من أن الفلاسفة قبل سقراط نبذوا الكثير من اللغة الأسطورية إلا أنهم ظلوا في بعض النقاط بما ورثوه من مزاعم هصر ما قبل الفلسفة " 3
أمام هذه المنعطفات التاريخية التي جسدت قيمة الفلسفة في اليونان تبدأ الكتابات بشرارتها حول مبتكرات فعل التفلسف وعطاءاته الإبداعية في المجتمع اليوناني، و ظلت بلاد اليونان تحتل مركزا حساسا في معظم الكتابات الفلسفية بوصفها رمز العقلانية وقطنا جذابا لكل من تملكته فضول المعرفة،بل غدا ولوج عالم التفلسف مرهونا بدراسة النصوص اليونانية والانكباب عليها بالبحث بالتمحيص والتعامل معها تعامل الشيخ للتلميذ رغبة في الدخول إلى عالم الانفتاح وآفاق الفلسفة،وهي –بلا شك-نظرة محكومة بنزعة دوغماتية وثوقية مفرطة تعطي للجنس الآري الريادة على مستوى الاكتشافات وأساليب الإبداع وتدعو إلى « قطيعة ابستمولوجية » تتجاوز الفكر الشرقي وتتجاوب مع الفكر الغربي ورفض أي إنتاجات عقلية لا تنتمي إلى « العقل اليوناني » مع الإصرار بضرورة الاحتكام إلى مقولات اليونان وأجهزته المفاهيمية واعتباره بمثابة السلطة المرجعية في تقرير الصالح من الطالح ومن ثم "إمبراطورية " مترامية الأطراف تحكم عقول الشرق وتهيمن على أنماط تفكيرهم، ووفق هذه الرؤية الاختزالية تنطبق الفلسفة على اليونان وتغدو الكشوفات الذهنية من نصيبها وحدها صانعة الحضارة ورائدة الفكر فتنحل الثقافات إلى ثقافة وحدانية تمثل الأصل لمجمل كسوب البشر،وهو ما يعادل ضمنيا عودة فكرة تراتبية الحضارات وانتظامها في سلم الأمثل والأدنى.يمكن أن نجرف بالقول أن مثل هذه « الوثوقية » شبيهة إلى حد ما بتلك الدعوات المسعورة التي أطلقها بعضهم في ادعاء احتكار العلم للغرب باعتباره حاملا لبذور التقدم وناشرا للمثل والقيم تراوحت في حدود إثنية صرفة، يتجلى ذلك بوضوح عند استقراء أعمال كل من ماكس فيبر ولابوج ومارسيل موس وجوبينو وارنست رينان... حيث الإعلاء من النظم الغربية كنسيج ثقافي مثل المبدأ الذي سعى أنصار ’التمركز الإثني" لتبريرها .
1 - من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية. عبد الرحمان مرحبا .الطبعة2 منشورات عويدات باريس،ص: 93.
2 - موسوعة الفلاسفة: د.فيصل عباس. الطبعة الأولى 1996 دار الفكر العربي بيروت ص 10
3 - نفسه ص 11.
تعليق