الذهنية اللائكية : من التأويل إلى التحويل

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الطلحاوي الإسلام اكتشف المزيد حول الطلحاوي
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الطلحاوي
    2- عضو مشارك

    حارس من حراس العقيدة
    عضو شرف المنتدى
    • 30 مار, 2013
    • 119
    • أستـاذ
    • الإسلام

    الذهنية اللائكية : من التأويل إلى التحويل

    السلام عليكم

    الذهنية اللائكية : من التأويل إلى التحويل

    إن المتأمـل في مسيرة الفكر اللائكي المعاصر و هو يلاحق قضايا الوجود الإنساني في أبعاده السياسية و الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية كيف يمـارس فعـل الإقصـاء من حيث يريد الإفصاح، فقد حـاول هذا الفكر لأن يحتكر حقائق الترشيد العقلاني و يختزل في ذاته ممكنات تحقيق المقاربة الصائبة لمواضيع شغلت الانسانية حيزا كبيرا من تفكيره، كمـا حاول أن يقدِّم آليات تشخيصه للمعضلات الراهنة كمـا لو أنهـا أدوات "علمية" لا تقبل النقد فصار خطابه أحيانـا يتغمغم و يرتحل بين ترسانـة هـائلة من المفردات المحشوة و أحيانـا أخرى يمارس صراحة صارمـة عندمـا يطلق أحكامه على قضايـا من العيار الثقيل، و مع أن ذهنية اللائكي لا يكـاد يبرح ترديد أسطوانـات تدور إجمـالا حول الإشادة بالنسبية التحليلية و الايمـان بالتعددية الفكرية كمنهج إلا أن الواقع الذي لا يرتفع يجعلنـا نـرى بأن معضلة هـذا العقل تكمن أساسا في ازدواجية أحكـامه عندمـا يقول شيئا و يمارس إقصاءً، فهو عقل يتحرك من منظومـة محددة سابقة علـى أحكـامه و يشتغل ضمن مقاصـد حـاكمة عليه و يدّعـي في نفس الوقت قدرته علـى التحرر من سلطة الايديولوجيا، لكنه في الحقيقة يُعـبِّـر عن التصاقـه الشديد بواقع موروثاتـه و يكشف عن عجزه البالـغ في تجاوز إكراهات الذات و الموضوع في صياغـة أفكـاره ، فاللائكي إنـما يفكر بسوابق قيمية ترسـم فيه مـلامح التمرد علـى القيم الأخرى و تُحدد لـه الزوايـا و الكليات العامـة و تبني فيه أسس التفكير و طرائق التوجيه ، و مهمـا ادعـى التحرر من ثقل الواقـع و اسقاطاته فـلا يعدو ذلك أن يكون محـاولة لإضفاء قسمـات من "العلمية" عليه إذ أن اللائكية في عنوانهـا العريضة مرجعيـة سابقة ذات حلقلت ناظمة تشد بعضها البعض، تتمسّـحُ بالعقل دومـا و تجعله واقيا ضد العقول الأخرى المغايرة، فالصراع عبر التاريخ لا يُختَزل بين عقوق و لا عقول و لا يجري طرحـه بين من مع العقل و بين من ضد العقل كمـا تحاول الكتابات اللائكية تكريسه ، و إنمـا هو صراع بين مقولات يحمل هـذا العقل و بين مقولات يرفضهـا ذلك العقل كمـا ذهب إلـى ذلك المفكر الاستراتيجي منير شفيق في "الإسلام في معركة الحضارة" .

    إن القارئ للفلسفة اللائكية عبر امتداداتهـا الزمكانية سيدرك ببساطـة –إذا مـا لو نفذ لمقارباتهـا المادية- انسحاقهـا البليغ في تأليه الذات و الانطلاق من مسلمات تعتبر الرهـان على العقل خَـلاصا كليا من مآزق الوجود، فهي بنت أطروحـاتهـا علـى طوفان من التجريدات الذهنية التي تحتكـر التأويل لقضايـا الدين و العقل و الحرية و الأخـلاق..و تجعـل من القراءات المخالفـة آراء تنتمـي لعـالم "مـا قبل العلمية" الموسومـة بالنزعـات الأسطورية و الارتباطات الميتافيزيقية، لذلك تُطرح الرؤية اللائكية –خصوص عند منتحليهـا العرب- بصفتهـا البديل المعرفي و الأسلوب المنهجي و الخلاص النهـائي لمتواليات الفوضى الاجتمـاعية و السياسية و الدينية، و انطـلاقا من هـذا المعطـي سيفهم أيُّ منـا بسهولـة كيف سيتعاطى اللائكي مع قضايـا العصر و سيدرك حجم التأويلات التي سينسجهـا إزاء المفاهيم و القيم و سَـيَــعــي مستويات تمييع القضايـا إذا مـا لو نفذ لتلك المـاكينـة التـي تصنـع صدامـا دائمـا مـع الرؤيـة الإسلامية للوجود عـامـة. إن للعقل اللائكـي مستويان أساسيـان في عـلاقته بقضايا العصر : مستـوى التأويل المتعسف للظواهـر بحيث يتعـامل دومـا تحت إكراهـات الواقع ، و مستـوى التحويل للظواهـر و تفريغ مضامينهـا من حقائقهـا فيسهـل على اللائكي تقعيد استدلالاته النظريـة، ففلسفـة التأويل اللائكي تشتغـل بناء علـى تأثيرات النزعات المـادية و تتغذى من توجهـات لا دينية و تجدُ سندهـا في بعض التطبيقات المنحرفة لبعض التيارات، كمـا أنهـا تؤسس لمواقفهـا عبر سلسـات طويلة من المعارف الموروثة فتستدعيها لتأويل القضايا تأويلا ينسجم مع الذهنية اللائكية الصلبـة و السائلـة ، فاللائكي بطبيعتـه التي تشكلت لا يمكن أن يتصور الدين أو العقل أو الأخـلاق خارج دائرة الغرب و لا يقبل غير مُسلمـاته التي حفظ مفاهيمهـا بشكل آلـي و اتخذهـا مداخـل للتغيير الشامـل ،فتصوراته لا تزال لصيقـة بالأرض التي وُلدت فيهـا و لا تزال تخضع تحت قيم آسِرة لمنطق اشتغال اللائكي في تصوراته .

    إن ذهنـية التأويل اللائكي الغربي تبقـى مفهـومـة ضمن أبعـادهـا و سياقاتهـا و تظـلُّ تمثل تطورا تاريخيا لمتواليات حضارة جددت في المادة وحدهـا ، و وصلت إلـى مـا وصلت إليه من بنـاء أنساقٍ معرفية شملت الجزء و الكل حتـى بدت للبعض كمنظومـات معيارية صالحـة للتطبيق المطلق و لقياس مسارات الحضارات، في حين ليست إلا وِجهـات نـظر تعكس رؤيـة تأويلية للوجود و تُفصـح عن تمظهرات لعقول حائرة و تائهـة اجتهدت ضمن حدودهـا المغلقـة، فالجديد فيهـا أنهـا تطويرٌ للقديم و إحياءٌ لـه بلغـة معاصرة و إنقاذٌ له من التصورات النقيضة الأخرى .و إذا الأمـر كذلك بخصوص النزعـة التأويلية الغربية فإن المُغَربّــة منهــا في بـلاد المسلمين بلغت بهـا مبلغـا جعلتهــا يتيمة بين غرب و شرق، تلفيقية في معالجاتهـا، مُشـرَّدة في قياساتهـا، تــجرُّ معهـا تاريخـا لم تٌنتــجــهُ و تُحـاكم ذاتهـا بذات غيرها، تجتهد في التقليد فتصنع لنفسهـا عقلا مُفـصَّـلا بمعايير وافدة ، معضلـة تأويلاتهـا تكمن في اغترابهـا السحيقة و مآزق تفكيرهـا تكمن في انسحاقهـا البليغة، تدخــل أيَّ جحر دخلوه و تهضم كل شيء هضموه، تُحـاكي أيَّ مُشعوذٍ "عقلاني" نبغ فلا تكترث إلا بمــا ولغ.

    تتشكــل ذهنية التأويل عندمـا يلمـس اللائكي في ذاته القدرة علــى تجاوز الموروث بإطـلاق فتتطور معـه أدوات النقد جرحـا و تعديلا، و لا يزال يدَّعـي تقويم كل شيء حتـى يصير ذو عقل مـائع ينظر بمنظار السلطوية التحكمية فلا يبدو لـه وجهـات نظر المغايرين لـه إلا خُزعبــلات فكريـة لا قيمـة لهـا في عـالم المعرفة الحقة، فمنطق التأويل يشتغل ضمن نسق محدد سلفا و يتحرك وِفق نزعـات متأصلة في الباطن الذهني و يوجِدُ بذلك انزياحـات مقصودة هي في عين المُغرَّبين نظريات عقلانية، و مـا هي في الواقع إلا صور تطبيقية للمخيال اللائكي المُحـرِّك، و مهمـا ادّعـى اللائكي قدرته علـى التحرر من أحكـام القيمـة و الانفلات من كل تقييد مُسبق قد يوجه مسارات التفكير فيه فإن القضيـة لا يمكن أن تتجاوز حدود الدعـاية و البحث عن وسائل لشرعنـة آراءه، فالانفصال الكلي بين نزعـة التأويل و بين موادهـا التي تستقي منهـا أساسات التحليل لا يمكن البتة أن تتحقق في فضاء المعرفة و لا يمكن إلا أن تكون بدعـة مُنمـقة روج لهـا إيديولوجيون في حقول العلوم الإنسانية و الأنتروبولوجية، لذلك يُلاحظ أيُّ متتبع لمنظومـات الأفكـار - سواء في الغرب أو عند هوامشه عندنـا- كيف يتسق ذهـن اللائكي بتأويلاته للقضايـا مع تحويلاته النظرية ، و كيف تتكـامـلُ نتائجـه التحويلية مع قيم الواقع و التاريخ التي يبني عليهـا تأويلاته ممــا يؤكد بأن القضية الجوهرية مرتبطة بتشكيلات البنية اللائكية ككل و ليست ببحوث مستقلة تدّعـي التحرر في الظاهـر . إن عـلاقـة التأويل اللائكي للقضايا الكبرى بنزعـة التحويل هـي عـلاقة وسيلة بمقصدهـا، هي عـلاقة جزء بكل، صورة بمعنـى،سبب بنتيجة،فرع بأصل، فالأولـى تتصل بالمنهـج المُتبع إزاء مـا هو خارج الذات و الثانية ترتبط بخـلاصات التأويل إذ يُمـارَسُ التأويلُ اللائكي للدين مـثلا لتكريس خـلاصـة بشريـة الدين أحيانـا و إثبات انفصالـه عن الوجود تارة أخرى، و بالتـالي تحويلـه إلـى معطى مـادي أو إلى مسألـة جزئية غير ذات قيمـة ، و قد أدت كثرة التحويلات الفلسفية الغربية إلـى حـالات من التشويش و التهميش فمـارست تنميطـا لعقول سايرت ركبَ التحويل و أثمرت عقليات هجينـة تحسبُ لنفسهـا الفاعلية و القدرة علـى التجاوز ، في حين ليست إلا صورا مُستنسخـة و ظلالا لأصداء التحويلات التي زحفت بترسانتهـا الخطابية . إن مـا يمكن قولـه إزاء عمليات التحويل و التفريغ للدين يمكن تطبيقـه أيضا علـى مختلف جوانب الحضارة، فالعقل مثلا كمـا تطرحـه القراءات التأويلية لـه معنـى خـاصا بُنِــيَ انطـلاقا من فلسفات سابقة مُتحكّـمة فصار مـع مرور الزمـن سلطـة جبرية اكتسـى حُلــة من الأنوار الواهية ، و صار مـعه أيّ نـقد لهـذا التأويل المنفرد بمثابـة نقـد للحقيقـة المطلقة التي تضع صاحبهـا مباشرة خارج "العقلانية" ، و لعـل الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمـان هـو من استطاع أن يكشف بطلان هـذا التأويل اللائكي للعقل بعدمـا أخضعـه لنقد صارم بنـاء علـى قيم تداولية عبر كتبه النفيسة و المجددة لروح الإبداع الفلسفي الحقيقي خصوصا في "العمل الديني و تجديد العقل" .

    يُتــبَــع بحول الله...

  • فارس الميـدان
    مشرف عام أقسام
    المذاهب الفكرية الهدامة
    ومشرف عام قناة اليوتيوب

    • 17 فبر, 2007
    • 10117
    • مسلم

    #2
    المشاركة الأصلية بواسطة الطلحاوي
    و مع أن ذهنية اللائكي لا يكـاد يبرح ترديد أسطوانـات تدور إجمـالا حول الإشادة بالنسبية التحليلية و الايمـان بالتعددية الفكرية كمنهج إلا أن الواقع الذي لا يرتفع يجعلنـا نـرى بأن معضلة هـذا العقل تكمن أساسا في ازدواجية أحكـامه عندمـا يقول شيئا و يمارس إقصاءً، فهو عقل يتحرك من منظومـة محددة سابقة علـى أحكـامه و يشتغل ضمن مقاصـد حـاكمة عليه و يدّعـي في نفس الوقت قدرته علـى التحرر من سلطة الايديولوجيا، لكنه في الحقيقة يُعـبِّـر عن التصاقـه الشديد بواقع موروثاتـه و يكشف عن عجزه البالـغ في تجاوز إكراهات الذات و الموضوع في صياغـة أفكـاره ، فاللائكي إنـما يفكر بسوابق قيمية ترسـم فيه مـلامح التمرد علـى القيم الأخرى و تُحدد لـه الزوايـا و الكليات العامـة و تبني فيه أسس التفكير و طرائق التوجيه ، و مهمـا ادعـى التحرر من ثقل الواقـع و اسقاطاته فـلا يعدو ذلك أن يكون محـاولة لإضفاء قسمـات من "العلمية" عليه إذ أن اللائكية في عنوانهـا العريضة مرجعيـة سابقة ذات حلقلت ناظمة تشد بعضها البعض، تتمسّـحُ بالعقل دومـا و تجعله واقيا ضد العقول الأخرى المغايرة، فالصراع عبر التاريخ لا يُختَزل بين عقوق و لا عقول و لا يجري طرحـه بين من مع العقل و بين من ضد العقل كمـا تحاول الكتابات اللائكية تكريسه ، و إنمـا هو صراع بين مقولات يحمل هـذا العقل و بين مقولات يرفضهـا ذلك العقل كمـا ذهب إلـى ذلك المفكر الاستراتيجي منير شفيق في "الإسلام في معركة الحضارة".

    إن القارئ للفلسفة اللائكية عبر امتداداتهـا الزمكانية سيدرك ببساطـة –إذا مـا لو نفذ لمقارباتهـا المادية- انسحاقهـا البليغ في تأليه الذات و الانطلاق من مسلمات تعتبر الرهـان على العقل خَـلاصا كليا من مآزق الوجود، فهي بنت أطروحـاتهـا علـى طوفان من التجريدات الذهنية التي تحتكـر التأويل لقضايـا الدين و العقل و الحرية و الأخـلاق..و تجعـل من القراءات المخالفـة آراء تنتمـي لعـالم "مـا قبل العلمية" الموسومـة بالنزعـات الأسطورية و الارتباطات الميتافيزيقية، لذلك تُطرح الرؤية اللائكية –خصوص عند منتحليهـا العرب- بصفتهـا البديل المعرفي و الأسلوب المنهجي و الخلاص النهـائي لمتواليات الفوضى الاجتمـاعية و السياسية و الدينية،

    إن ذهنـية التأويل اللائكي الغربي تبقـى مفهـومـة ضمن أبعـادهـا و سياقاتهـا و تظـلُّ تمثل تطورا تاريخيا لمتواليات حضارة جددت في المادة وحدهـا ، و وصلت إلـى مـا وصلت إليه من بنـاء أنساقٍ معرفية شملت الجزء و الكل حتـى بدت للبعض كمنظومـات معيارية صالحـة للتطبيق المطلق و لقياس مسارات الحضارات، في حين ليست إلا وِجهـات نـظر تعكس رؤيـة تأويلية للوجود و تُفصـح عن تمظهرات لعقول حائرة و تائهـة اجتهدت ضمن حدودهـا المغلقـة، فالجديد فيهـا أنهـا تطويرٌ للقديم و إحياءٌ لـه بلغـة معاصرة و إنقاذٌ له من التصورات النقيضة الأخرى.

    بارك الله فيكم وأحسن إليكم ..

    موضوع أكثر من رائع ..
    الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى .. الإمام أحمد ..

    تعليق

    • الطلحاوي
      2- عضو مشارك

      حارس من حراس العقيدة
      عضو شرف المنتدى
      • 30 مار, 2013
      • 119
      • أستـاذ
      • الإسلام

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة هشام

      بارك الله فيكم وأحسن إليكم ..

      موضوع أكثر من رائع ..

      شكرا لــك أخـي الكريم علـى مرورك الطيب و بارك الله فيكَ أيضــا

      تعليق

      • الطلحاوي
        2- عضو مشارك

        حارس من حراس العقيدة
        عضو شرف المنتدى
        • 30 مار, 2013
        • 119
        • أستـاذ
        • الإسلام

        #4
        الذهنية اللائكية : من التأويل إلى التحويل ج 2/2

        (تتمــة)

        أمـا نصيب الأخـلاق في فلسفات التأويلات و التحويلات فقد كـان هـائلا، فقد دمرت كـل القيم و حولت الضوابـط الاجتمـاعية إلـى ضواغط انفجارية وجبَ- عندهم- الخلاص من إكراهـاتهـا و صرامـاتهـا الإلزامية، و غدت معها الأخـلاق كفزاعـة بشعـة تثير الاشمئزاز لدى القراء اللائكيين، و انتقلت فيهـا مواضيع القيم الأخـلاقية إلـى مزايدات فلسفية تسبـح في بحار التجريد إذ صارت -منذ ذلك -منـاسبةً لاستعراض الذوق الفلسفي البارع في حياكـة الألفاظ ، و تحولت من بعدهـا الديني الفطري إلـى البعد النظري المائع فصار اللائكيُّ لا يجد غضاضـة في رد الأخـلاق و وصلهـا بالعادات الاجتماعية التي تتطور ممارساتهـا عبر الزمن .

        كـانت بواكير التأويل –في رأينـا- قد بدأت في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية حيث انطلقت من اللحظات الأولى التي شرع فيهـا الإنسان بصنـاعـة دين وضعي مُنـزاحٍ عن الدين السمـاوي الحق ، فقد أراد أن يقدم تأويلا آخـر لمشكـل الوجود يقوم علـى اختراع آلهــة مـادية يعكف عليهـا ، و تطورت فيمـا بعد لتصبح فلسفـة عامـة شملت مـلاحدة صنعوا لأنفسهم آلهـة خاصة تؤمن بأقنوم المادة المستكفية بذاتهـا عن غيرهـا و تكفر بيوم العرض علــى الله جل شأنـه، كمـا شملت أيضا لائكيين فصلوا الدين عن الوجود فابتكروا دينـا وضعيا "طبيعيا" تدور قواميسه حول الوضعية العلمية و النزعـة العلموية و علاقات الربط العُرفي..و مــا يُــلاحَظُ من تطورات حديثة و معاصرة في المذاهـب الفلسفية فليست في الواقع إلا امتداداتِ اللحظـة الزمنية القديمـة و ليست إلا وجهــا من وجوه الانفصال الحاد بين الدين الحق و الوجود ، إذ لمّــا تحققت تلك القطيعـة الوجودية صـارَ من السهـل جدا تفكيك شتـى المفاهيم القيمية و إعـادة تشكـيل واجهـات أخـرى مُستمدَّة من سياق مخالف و صار اختزالُ الدين في الظاهـرة الاجتمـاعية ديْــدَنَ الدراسات الإنسانية المـادية التي حولتهُ إلـى فولكرور شعبي و أخــلاطِ طلاسم

        نتائج ثنـائية التأويل و التحويل عندنـا تحولت فعـلا إلـى وبال فكري عُضـال تُسبِّـبُ نزيفـا في وحدة الأمـة و انشطارا في المرجعيات التأسيسية، فاللائكيون يرددون دومـا مـا أفرزته سياقات الغرب و يبحثون عن خريطـة اجتماعية و سياسية يكون فيهـا الدين شأنـا فردانيا خالصا، فهـؤلاء لـم يدركـوا بعدُ بأن دعواتهم لفصـل الدين عن السياسـة مـا هي في الجوهـر إلا جزء من فصلـه مِـن/عـن الوجود تمهيدا لتحويلـه إلـى "كيان" ثقافي جامد أو إلـى مكسب لتراثٍ يُستحضرُ كمُكمِّل لذاك الكيان، لـم يفهموا بعد القضيـة الكبرى للدين و وظيفتـه في الوجود، بل يكتفون بسرد مقالات عـائمـة تتحدث عن احترام الأديان و حق الإعتقاد الحر و ضرورة تحييد الدين عن نزاعـات السياسـة... من هنــا وجبَ نـقد هـذا الأسلوب التبسيطـي و هـذا التحايل السياسي، فأمـثال هـؤلاء مُشبَعون بنتائج ثنـائية التأويل و التحويل و مُتخمون بمتواليات انفصال الدين عن الوجود،يتصرفون مع الدين الحق كفرع ضمن بقية الفروع الحضارية و يؤسسون عليـه نظريات وهمية تجعلُ القارئَ يسقط في فــخ التأويل سريعـا، في حين يمثـلُ الدين أم الوجود و مـداره و سائر أقطـاره. و لمّــا كـان هـؤلاء في الغالب غير قادرين علــى ممـارسـة فعل التأويل للدين ضمن مجتمع تداوليّ له مكانته المرموقة لما له من قداسـة في وجدان العموم فإنهـم يسلكون مسلـك التحويل بالضرورة فيركزون علــى السياسة كفضـاء للمتنازعين لكي يوهمـوا النـاسَ احترامهم للدين كفضاء آمن، و يشرعـون في تفريـغ محتوى هـذا الدين رُوَيدا رُويدا من كل مضامينه حتـى يجهـزوا علـى امتداداته و وظيفته الوجودية ، و حتـى مـا إذا فضحتهم ممـارساتهم الشخصية و لغاتهم العَدائية للدين أسرعوا للاختباء وراء عنـاوين مُبتذلـة من شدة تكرارهـا الممل من قبيل التمييز بين الدين و الفكر الديني و الفصل بين أساساته و منتوجاته...إنّ ذهنيـة اللائكي تعـاني دائمـا من أزمـة التشخيص فقد اختلطت عليه ارتباطات العناوين و خـالطت عقلَهُ لوثاتُ انفصال الدين عن الوجود فمـا عـاد يملك القدرة علــى تحديد عـلاقـة الفرع بالأصـل و لا عـادَ يفهم عن أيِّ دين يتحدث . إن نقد الفكر اللائكي التحويلي لا يمكن أن يكون مستقلا عن نقـد اللائكية كمرجعية دهرية تأسيسية و لا يمكن أن يُفهَـمَ منه الوقوف عند حدود التطبيقات اللائكية الخاطئة و إنمــا يتسلسلُ من نقد الأصـل الكلي وصولا لإفرازاتــه و نتائجــه المرتبط بالنظرية أو التطبيق ، ففصــل الجزء عن الكل و الرهـان علــى مـلاحقة الفروع المعرفية و التأويلات المختلفة ليس إلا حيلـة مـاكرة لخداع العقل العام ابتدعتهـا أقـلام عُجِنت عقولهـا بثنـائيات التأويل و التحويل و أخذت شكلهـا و مضمونهــا .

        فصلُ الدين عن الوجود في ذهنية اللائكي سمحَ للعديد من فتيان الفلسفة و طلاب الارتقاء المعرفي السريع بالتطفل علـى الدين من خـلال الرقص علــى المفردات المُنتَحـلة و الذوبان في المحفوظات الفلسفية الموروثة من قيم التداول الغربي ، فقد صارَ التعرض للدين الإسلامــي الحق بالوقاحـات و الافتراءات أسلوبـا مشاعـا بين هـؤلاء الفتيان إذ زرعت فيهم بعض الأفكـار التأويلية اللقيطة (التي لا أصل لهـا من حيث الإثبات) حُبَّ التمرد علــى منظومـة هـو منهــا جنـاحٌ مُهمَــلٌ، و دفعت البعضَ إلـى الاغترار بمقتطفات من معارف قالهـا مُؤوّل هنـا أو هنـاك فصار نـاطقا رسميـا باسمهـا، كمـا جعلت العقلَ النقديَّ عندنـا أوغلُ في التقليد و المحاكـاة بفعـل حـالـة الاستهلاك الادمـانـي للمنتوجات الذهنية الوافدة و التي أقعدت أُطُـرَنـا في كراسي انتظارِ مـا سيجود عليهم غيرنـا . لقـد أفضت درجـة الرهـان علـى المُعلبات الفكرية الخارجية إلـى شلل في إنتـاج المعرفة الدينية و الإنسانية و أفرزت معهـا تكلسات بليغـة و انسدادات عميقة في أدوات البحث و التحليل، و هـذا كـله لم يكن ليحدث لـولا التعـاطـي المفرط لعقاقير الثقافـة المفصولـة عن واقع قيم التداول، و لم يكن ليدفع بعض المتعجلين إلـى إصدار أحكـام من العيار الثقيل حول الدين لولا هجرة أدمغتهم لتاريخهم و التحليق في فضاءات تاريخ غيرهم .

        إن المرور من التأويل إلـى التحويل لا يتم إلا عبر إيديولوجية مـا و لا يتحقق التحويل خـارج منظومـة معرفية تتحدد بهـا إجراءات العمل، ففلسفة تأويل الدين مـثلا عند المذاهب الفلسفية لم تكن تعتمـد علـى قراءات موضوعية و لم تكن تتأسس علـى تفسيرات منطقية عبر التاريخ، و إنمـا كـانت تبني رؤيتهـا بنـاء مـاديا و أحيانـا أسطوريا كمـا هي تصورات أوغست كونت و مـاركس و فيورباخ و نيتشة... فالايدولوجيا هي من كـانت تصنـع التأويل و ترسم له حدود الممكن و هي من كـانت تقرر طبيعـة التحولات للقضايـا الكبرى( العقل،الأخـلاق،اللغة..)، لذلـك لا يمكن البتة التعويل علـى بعض الدراسات الميتافيزيقية لتبرير نزعـات التأويل و لا يمكن اعتبار نواتجهـا حقائق ثابتـة، بــل الأصحّ أن يقـال عنهـا مجرد تمظهرات لإيديولوجية أخذت موقفا منذ البدايـة فكـان لا بد أن تصل لتلك النهـاية . و إذا كـانت نزعـة التأويل قد تحددت وفق قسمـات تشكلت من خـلال متواليات الأوضاع الواقعية في فضاء الغرب فأنتجت نظريات تقمصت دور "العلم" و توشحت برداءه فإن مآزق اللائكيين في فضاء مغاير يبدو بارزا و يؤشـر علـى عملية واسعـة من المسخ و الاستلاب، فهــؤلاء أرادوا أن ينتصروا لنزعـات استمدت تبريراتهـا من طبيعـة الصراعـات و التنـاقضات الفجـة (تناقض العلم مع الأسلوب الديني الكهنوتي، تناقض صعود البورجوازية مع قيود السلطة الدينية...) و قرروا بذلك تبرير الأليكــة من خـارج الذات، الشــيء الذي أوقعهم في حرج شديد و هم يشرحون للنـاس كيف تتوافق اللائكية مـع الإسلام ،فإذا كـانت عـلاقـة النزعـة التأويلية بالواقع الغربي تُعـبِّـر عن سياق تاريخي فإن عـلاقـتها عند لائكيينـا تُعــبر عن خيال مريض يراودُ بعض المثقفين الذين يفتعلون صراعـات وهمية في تراثنـا لعلهـا تُشرعنُ" للعلمنـة" من داخـل التراث لكن بدون جدوى .

        تحويلات اللائكيين عندنـا لا تنطلق إلا من فهـم سقيم لماهيات الدين و التراث و العقل و القيم، و هـو فهم ظل لصيقا بنزعـة التأويل التي قدمت تعاريف مريضـة تَــفــكّــكَّت بهـا مضامين الوجود الإنساني و انتقلت فيهـا منـاهج النقد من مـادية صلبـة إلـى مـادية سائلــة بتعبير المفكر الإسلامي
        عبد الوهاب المسيري رحمه الله، الشيء الذي جعلَ عقولَ لائكيينــا فضاءً قابلا للاختراق الإيديولوجي بالشكل الذي يسمح له بالتوجيه عن بُعــد، فعندمـا يصبح العقلُ مُستودعـا و خزانـا لتجارب الآخرين دون تمحيص فـلا منـاص آنذاك من ظهور أعـراض مرضية تعصف بملكة الإبداع ،فالأمـراض المعرفية المُعدية علـى اختـلاف أنواعهــا ظلت عبر التاريخ تُمـثل إحدى وسائل الإصابـة بجلطـات العقل و جموده و ظلت إحدى الرهانات علــى إدامـة التبعية الفكرية التي تُـوجِّــهُ مسارات المجتمعات نحو الإمعـة الحضارية و الإذلال الشامـل .

        التعديل الأخير تم بواسطة الطلحاوي; 3 ماي, 2014, 03:52 م.

        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة Islam soldier, 6 يون, 2022, 01:23 م
        ردود 0
        213 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة Islam soldier
        بواسطة Islam soldier
        ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:22 ص
        ردود 0
        44 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة Islam soldier
        بواسطة Islam soldier
        ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:20 ص
        ردود 0
        61 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة Islam soldier
        بواسطة Islam soldier
        ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 07:41 م
        ردود 0
        98 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة عادل خراط
        بواسطة عادل خراط
        ابتدأ بواسطة Ibrahim Balkhair, 4 سبت, 2020, 05:14 م
        ردود 3
        115 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة Ibrahim Balkhair
        بواسطة Ibrahim Balkhair
        يعمل...