يوهان ألبريخت بينجيل
من (سيمون) في فرنسا إلى (مِلّ و بنتلي) في إنجلترا ،والآن إلى ألمانيا . كانت المشكلات النصية للعهد الجديد تشغل بال علماء الكتاب المقدس البارزين في ذلك العصر في مناطق رئيسية من العالم المسيحي الأوروبي .كان يوهان ألبريخت بينجل (1687- 1752 ) قسيسا لوثريّا ورِعًا وأستاذًا أصبح في بواكير حياته منزعجًا بشدة من وجود مثل هذا الكمِّ الكبير من القراءات النصية المتباينة في التقليد المكتوب للعهد الجديد ،و كان على وجه الخصوص قد تأثر سلبًا كشاب في العشرين من عمره نتيجة لنشر نسخة "مِلّ" بمواضعها الثلاثين ألفًا المتباينة. هذه القراءات المتباينة كان يوهان ينظر إليه باعتبارها تحديًّا رئيسيا أمام إيمانه الشخصي الذي كان إيمانا متجذرا بكلمات الكتاب المقدس نفسها . فإذا كانت هذه الكلمات غيرَ موثوق بها ،فعلاما ينبني الإيمان إذن ؟
أنفق بينجيل كثيرا من عمل وظيفته العلمية في البحث عن حلٍّ لهذه المشكلة ، وكما سنرى ،فقد أحدث تقدمًا ملحوظًا في التوصل إلى حلول لها. في البداية ، نحن بحاجة إلى أن ننظر قليلا في منهج بينجيل في التعامل مع الكتاب المقدس (14) . استحوذ الالتزام الديني الذي كان يتميز به بينجيل على حياته و تفكيره . يمكن للمرء أن يفهم شعور الجدية التي تعامل بها بها مع إيمانه بدءًا من عنوان المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها عندما عين كمدرس مبتدئ في المعهد اللاهوتي الجديد في دينكيندورف :" De certissima ad veram eruditonem perveniendi ratione per studium pietatis" وترجمتها: (السعي الدؤوب عن التقوى هو المنهج الآكد للحصول على تعليمٍ مرموق ).
كان بينجيل عالمًا شديد الحذر في تفسيره لنص الكتاب المقدس و كان خبيرًا بالأعمال الكلاسيكية . وهو على الأرجح ذو شهرة واسعة كمفسر للكتاب المقدس : فلقد كتب حواشي مكثفة على كل كتاب من كتب العهد الجديد ،مستقصيًا القضايا النحْوية ،والتاريخية و التفسيرية بالتفصيل المُمِل ،في تفسيرات اتسمت بالوضوح و الإقناع- وماتزال تستحق القراءة إلى اليوم . كانت الثقة في كلمات الكتاب المقدس هي أساس هذا العمل التفسيري . لقد وصلت هذه الثقة إلى درجة أنها أخذت بينجيل إلى اتجاهات ربما تبدو اليوم غريبة قليلا .
ونظرا لاعتقاده بأن كلمات الكتاب المقدس كلها موحى بها – بما في ذلك كلمات الأنبياء وسفر الرؤيا – ،وبأن تدخل الله في شئون البشر كانت تقترب من نهايتها ، وأن النبؤة الكتابية أشارت إلى أن جيله الحالي يعيش قريبا من نهاية الآيام . آمن ،في واقع الأمر ، بأنه يعرف موعد مجئ النهاية : فالقيامة ستأتي بعد قرن ، أي في عام 1836 .
لم يكن بينجيل ليعود عن رأيه بقراءته أعدادًا مثل متى 24 : 36 ، التي تقول إن " أما هذا اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ،لا الملائكة في السماء ، ولا حتى الابن ،إلا الآب." ولأنه كان مفسِّرًا حذرًا ، يوضح بنجيل هنا أن يسوع يتكلم في الزمن المضارع : أي في عصره كان بإمكان يسوع أن يقول " لا أحد يعلم ،" لكنَّ هذا لا يعني أنه لا أحد فيما بعد لن يتمكن من معرفة الموعد . فبعض المسيحيين ،في حقيقة الأمر ، سيتمكنون من الوصول لمعرفة الموعد من خلال دراستهم للنبؤات الواردة في الكتاب المقدس . فالكرسي الباباوي كان هو المسيح الدجال و الماسونيون (البناؤون الأحرار ) ربما كانوا يمثلون " النبي الكاذب" الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا ، و نهاية الأيام ستحل في غضون ما يقل عن قرن (كان يكتب في ثلاثينات القرن ال17 ). المحنة العظيمة ،التي كانت الكنيسة الأولى تتوقع أن يتسبب فيها " المسيح الدجال" المزمع أن يأتي في المستقبل ،لم تقع ، لكنها قريبة الوقوع ؛ لأن النبؤات التي وردت في سفر الرؤيا ، بدءا من الفصل العاشر ووصولا إلى الرابع عشر ، كان تحققها يتواصل لقرون كثيرة ؛ والقضية المحورية التي تتضح رؤيتها للعيان أكثر و أكثر هي أنه في غضون مائة سنة أخرى ربما يقع التغيير العظيم المنتظر للأمور...أما الآن ، فدعوا باقي الرؤى تتضح هي الأخرى ،خاصة النهاية العظيمة التي أتوقع أن تحل في العام 1836 (15).
من الواضح أن المتنبئين بحلول القيامة في عصرنا الحالي – من أمثال هال ليندسي (مؤلف كتاب " كوكب الأرض ذلك الراحل العظيم") و تيموثي لاهاي (مؤلف كتاب " سلسلة المتروكون خلفا " بالاشتراك مع آخرين)- لم يكونوا بِدعا من المتنبئين فقد كان لهم سلف ،مثلما سيكون لهم خلف،لأن العالم لا ينتهي .
بالنسبة لما يهمنا هنا ، كانت تفسيرات بنجيل الشاذة للنبؤة أمرًا مهمًا لأنها كانت أساسًا لمعرفة كلمات الكتاب المقدس على وجه الدقة . فلو لم يكن العدد الذي يرمز إلى ضد المسيح هو 666 وإنما 616 ، فإن هذا سيكون له تأثير عظيم . حيث إنه إن كان للكلمات أي أهمية، فإن معرفة هذه الكلمات لابد و أنه أيضًا ذو أهمية.
وهكذا أنفق بنجيل جزءًا كبيرًا من وقت أبحاثه في سبر أغوار الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة التي تزخر بها مخطوطاتنا .وفي أثناء محاولته الخروج من ربقة التحريفات التي أحدثها النسَّاخ المتأخرون والعودة إلى نصوص المؤلفين الأصليين، حقق العديد من صور التقدم في المنهج .
أول تقدم حققه هو المقياس الذي ابتكره الذي قد أوجز ،إن قليلا أو كثيرا، منهجه في بناء النص الأصلي وذلك متى تطرق الشك إلى الصياغة . العلماء،مثل سيمون و بنتلي ، قبل ظهور طريقته كانوا قد حاولوا أن ينشئوا مقاييسًا لتقييم القراءات المتباينة . البعض الآخر ،الذين لم نذكرهم هاهنا ، ابتكروا قوائم طويلة من المقاييس التي ربما أثبتت نفعها . بعد الدراسة المكثفة للموضوع ( بنجيل كان يدرس كل شئ بشكل مكثف )، وجد بينجيل أنه استطاع أن يوجز الغالبية العظمى من المقاييس المقترحة في جملة بسيطة تتألف من أربع كلمات: (Proclivi scriptioni praestat ardua) - أي القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة إذا قورنت بالقراءة الأسهل. وكانت حجته كالتالي : عندما غيَّر النُسَّاخ النصوص التي بين أيديهم ، كان الأكثر احتمالا أنهم حاولوا أن يدخلوا عليها تحسينات. وإذا رأوا ما اعتبروه خطئًا ، كانوا يصححونه ؛ ولو رأوا روايتين مختلفتين للقصة ذاتها ، فإنهم كانوا يوفقون بينهما ؛ ولو صادفوا نصا يبدو متعارضا مع آرائهم اللاهوتية الخاصة ، كانوا يحرفونه . في كل موقفٍ ، لكي نعرف ما قاله النص الأقدم ( أو حتى " الأصلي") ، فالأفضلية لا تمنح للقراءة التي صححت خطئًا ، أو أدخلت توافقا على حكاية ،أو حسَّنت رأيا لاهوتيًّا ، ولكن للأخرى التي تناقضها تماما ، أي للقراءة التي من " الصعب" شرحها. إذن ، القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة (16) .
التقدم الآخر الذي حققه بينجيل لا يتعلق بغالبية القراءات التي نملكها تحت تصرفنا بقدر ما يتعلق بالوثائق التي تحتوي هذه القراءات . فقد لاحظ أن الوثائق التي تُنْسّخ من وثيقة أخرى بطبيعة الحال تحمل تشابهًا وثيقًا بالنسخ التي نقلت عنها وبالنسخ الأخرى المكتوبة من هذه النسخ ذاتها . بعض المخطوطات تشبه كثيرًا بعض المخطوطات بأكثر مما يشبهها البعض الآخر. كل الوثائق المحفوظة، إذن ، يمكن ترتيبها من خلال نوع من العلاقة النَسَبيَّة (genealogical relationship) ،في هذه العلاقة توجد مجموعات من الوثائق يتمتع بعضها مع بعض بدرجة قرابة أكثر مما تتمتع به من قرابة مع بعض الوثائق الأخرى . من المفيد معرفة ذلك ، لأنه من الناحية النظرية يمكن للمرء أن يكوِّن شيئا يشبه شجرة نسب ليتعقب أثر سلالة الوثائق ليعود إلى مصدرها. هذا يشبه إلى حدٍ ما أن تجد جَدًّا مشتركًا بينك وبين شخص ٍ ما في دولة أخرى عبر تعقبك للاسم الأخير .
فيما بعد ، سنرى بشكل أكثر تفصيلا كيف أن تصنيف الشواهد إلى عائلات ينتج عنه قاعدة منهجيّة أكثر معياريّة تساعد الناقد النصِّيّ في بناء النص الأصلي .
في الوقت الراهن ، يكفي أن تعلموا أن "بنجيل" هو أول من خطرت له هذه الفكرة. في 1734 قام بينجيل بنشر نسخته الرائعة من العهد الجديد اليوناني ، التي طبع فيها في الغالب النص المستلم (Textus Receptus) مع الإشارة إلى المواضع التي اعتقد أن لديه قراءة أفضل من تلك التي في النص المستلم.
أنفق بينجيل كثيرا من عمل وظيفته العلمية في البحث عن حلٍّ لهذه المشكلة ، وكما سنرى ،فقد أحدث تقدمًا ملحوظًا في التوصل إلى حلول لها. في البداية ، نحن بحاجة إلى أن ننظر قليلا في منهج بينجيل في التعامل مع الكتاب المقدس (14) . استحوذ الالتزام الديني الذي كان يتميز به بينجيل على حياته و تفكيره . يمكن للمرء أن يفهم شعور الجدية التي تعامل بها بها مع إيمانه بدءًا من عنوان المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها عندما عين كمدرس مبتدئ في المعهد اللاهوتي الجديد في دينكيندورف :" De certissima ad veram eruditonem perveniendi ratione per studium pietatis" وترجمتها: (السعي الدؤوب عن التقوى هو المنهج الآكد للحصول على تعليمٍ مرموق ).
كان بينجيل عالمًا شديد الحذر في تفسيره لنص الكتاب المقدس و كان خبيرًا بالأعمال الكلاسيكية . وهو على الأرجح ذو شهرة واسعة كمفسر للكتاب المقدس : فلقد كتب حواشي مكثفة على كل كتاب من كتب العهد الجديد ،مستقصيًا القضايا النحْوية ،والتاريخية و التفسيرية بالتفصيل المُمِل ،في تفسيرات اتسمت بالوضوح و الإقناع- وماتزال تستحق القراءة إلى اليوم . كانت الثقة في كلمات الكتاب المقدس هي أساس هذا العمل التفسيري . لقد وصلت هذه الثقة إلى درجة أنها أخذت بينجيل إلى اتجاهات ربما تبدو اليوم غريبة قليلا .
ونظرا لاعتقاده بأن كلمات الكتاب المقدس كلها موحى بها – بما في ذلك كلمات الأنبياء وسفر الرؤيا – ،وبأن تدخل الله في شئون البشر كانت تقترب من نهايتها ، وأن النبؤة الكتابية أشارت إلى أن جيله الحالي يعيش قريبا من نهاية الآيام . آمن ،في واقع الأمر ، بأنه يعرف موعد مجئ النهاية : فالقيامة ستأتي بعد قرن ، أي في عام 1836 .
لم يكن بينجيل ليعود عن رأيه بقراءته أعدادًا مثل متى 24 : 36 ، التي تقول إن " أما هذا اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ،لا الملائكة في السماء ، ولا حتى الابن ،إلا الآب." ولأنه كان مفسِّرًا حذرًا ، يوضح بنجيل هنا أن يسوع يتكلم في الزمن المضارع : أي في عصره كان بإمكان يسوع أن يقول " لا أحد يعلم ،" لكنَّ هذا لا يعني أنه لا أحد فيما بعد لن يتمكن من معرفة الموعد . فبعض المسيحيين ،في حقيقة الأمر ، سيتمكنون من الوصول لمعرفة الموعد من خلال دراستهم للنبؤات الواردة في الكتاب المقدس . فالكرسي الباباوي كان هو المسيح الدجال و الماسونيون (البناؤون الأحرار ) ربما كانوا يمثلون " النبي الكاذب" الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا ، و نهاية الأيام ستحل في غضون ما يقل عن قرن (كان يكتب في ثلاثينات القرن ال17 ). المحنة العظيمة ،التي كانت الكنيسة الأولى تتوقع أن يتسبب فيها " المسيح الدجال" المزمع أن يأتي في المستقبل ،لم تقع ، لكنها قريبة الوقوع ؛ لأن النبؤات التي وردت في سفر الرؤيا ، بدءا من الفصل العاشر ووصولا إلى الرابع عشر ، كان تحققها يتواصل لقرون كثيرة ؛ والقضية المحورية التي تتضح رؤيتها للعيان أكثر و أكثر هي أنه في غضون مائة سنة أخرى ربما يقع التغيير العظيم المنتظر للأمور...أما الآن ، فدعوا باقي الرؤى تتضح هي الأخرى ،خاصة النهاية العظيمة التي أتوقع أن تحل في العام 1836 (15).
من الواضح أن المتنبئين بحلول القيامة في عصرنا الحالي – من أمثال هال ليندسي (مؤلف كتاب " كوكب الأرض ذلك الراحل العظيم") و تيموثي لاهاي (مؤلف كتاب " سلسلة المتروكون خلفا " بالاشتراك مع آخرين)- لم يكونوا بِدعا من المتنبئين فقد كان لهم سلف ،مثلما سيكون لهم خلف،لأن العالم لا ينتهي .
بالنسبة لما يهمنا هنا ، كانت تفسيرات بنجيل الشاذة للنبؤة أمرًا مهمًا لأنها كانت أساسًا لمعرفة كلمات الكتاب المقدس على وجه الدقة . فلو لم يكن العدد الذي يرمز إلى ضد المسيح هو 666 وإنما 616 ، فإن هذا سيكون له تأثير عظيم . حيث إنه إن كان للكلمات أي أهمية، فإن معرفة هذه الكلمات لابد و أنه أيضًا ذو أهمية.
وهكذا أنفق بنجيل جزءًا كبيرًا من وقت أبحاثه في سبر أغوار الآلاف المؤلفة من القراءات المتباينة التي تزخر بها مخطوطاتنا .وفي أثناء محاولته الخروج من ربقة التحريفات التي أحدثها النسَّاخ المتأخرون والعودة إلى نصوص المؤلفين الأصليين، حقق العديد من صور التقدم في المنهج .
أول تقدم حققه هو المقياس الذي ابتكره الذي قد أوجز ،إن قليلا أو كثيرا، منهجه في بناء النص الأصلي وذلك متى تطرق الشك إلى الصياغة . العلماء،مثل سيمون و بنتلي ، قبل ظهور طريقته كانوا قد حاولوا أن ينشئوا مقاييسًا لتقييم القراءات المتباينة . البعض الآخر ،الذين لم نذكرهم هاهنا ، ابتكروا قوائم طويلة من المقاييس التي ربما أثبتت نفعها . بعد الدراسة المكثفة للموضوع ( بنجيل كان يدرس كل شئ بشكل مكثف )، وجد بينجيل أنه استطاع أن يوجز الغالبية العظمى من المقاييس المقترحة في جملة بسيطة تتألف من أربع كلمات: (Proclivi scriptioni praestat ardua) - أي القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة إذا قورنت بالقراءة الأسهل. وكانت حجته كالتالي : عندما غيَّر النُسَّاخ النصوص التي بين أيديهم ، كان الأكثر احتمالا أنهم حاولوا أن يدخلوا عليها تحسينات. وإذا رأوا ما اعتبروه خطئًا ، كانوا يصححونه ؛ ولو رأوا روايتين مختلفتين للقصة ذاتها ، فإنهم كانوا يوفقون بينهما ؛ ولو صادفوا نصا يبدو متعارضا مع آرائهم اللاهوتية الخاصة ، كانوا يحرفونه . في كل موقفٍ ، لكي نعرف ما قاله النص الأقدم ( أو حتى " الأصلي") ، فالأفضلية لا تمنح للقراءة التي صححت خطئًا ، أو أدخلت توافقا على حكاية ،أو حسَّنت رأيا لاهوتيًّا ، ولكن للأخرى التي تناقضها تماما ، أي للقراءة التي من " الصعب" شرحها. إذن ، القراءة الأكثر صعوبة هي المفضلة (16) .
التقدم الآخر الذي حققه بينجيل لا يتعلق بغالبية القراءات التي نملكها تحت تصرفنا بقدر ما يتعلق بالوثائق التي تحتوي هذه القراءات . فقد لاحظ أن الوثائق التي تُنْسّخ من وثيقة أخرى بطبيعة الحال تحمل تشابهًا وثيقًا بالنسخ التي نقلت عنها وبالنسخ الأخرى المكتوبة من هذه النسخ ذاتها . بعض المخطوطات تشبه كثيرًا بعض المخطوطات بأكثر مما يشبهها البعض الآخر. كل الوثائق المحفوظة، إذن ، يمكن ترتيبها من خلال نوع من العلاقة النَسَبيَّة (genealogical relationship) ،في هذه العلاقة توجد مجموعات من الوثائق يتمتع بعضها مع بعض بدرجة قرابة أكثر مما تتمتع به من قرابة مع بعض الوثائق الأخرى . من المفيد معرفة ذلك ، لأنه من الناحية النظرية يمكن للمرء أن يكوِّن شيئا يشبه شجرة نسب ليتعقب أثر سلالة الوثائق ليعود إلى مصدرها. هذا يشبه إلى حدٍ ما أن تجد جَدًّا مشتركًا بينك وبين شخص ٍ ما في دولة أخرى عبر تعقبك للاسم الأخير .
فيما بعد ، سنرى بشكل أكثر تفصيلا كيف أن تصنيف الشواهد إلى عائلات ينتج عنه قاعدة منهجيّة أكثر معياريّة تساعد الناقد النصِّيّ في بناء النص الأصلي .
في الوقت الراهن ، يكفي أن تعلموا أن "بنجيل" هو أول من خطرت له هذه الفكرة. في 1734 قام بينجيل بنشر نسخته الرائعة من العهد الجديد اليوناني ، التي طبع فيها في الغالب النص المستلم (Textus Receptus) مع الإشارة إلى المواضع التي اعتقد أن لديه قراءة أفضل من تلك التي في النص المستلم.
يوهان ج.فيتشتاين
كان يوهان ج.ج. فيتشتاين(1693-1754 ) واحدًا من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في أوساط علماء الكتاب المقدس في القرن الثامن عشر . في سنٍ صغيرة أصبح "فيتشتاين" أسيرًا لقضية نص العهد الجديد و قراءاته المتباينة وعمل على هذا الموضوع خلال دراسته المبكرة .بعد بلوغه العشرين بيوم واحد ، في ال17 من مارس 1713 تقدم إلى "جامعة بازل" بفرضية عنوانها " تنوع القراءات في نص العهد الجديد." ومن بين أشياء أخرى ، بنى "فيتشتاين" البروتستانتيُّ المذهب دفوعه على أن القراءات المتباينة "يمكن أن يكون لها تأثيرات موهِنَة لمسألة صحة وسلامة الكتاب المقدس." والسبب هو أن الله " أنزل هذا الكتاب مرة واحدة و للأبد إلى العالم كوسيلة لتحقيق كمال الشخصية الإنسانية. فهو يشتمل على كل ما هو ضروريٍّ للخلاص سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى السلوك." لذلك ، ربما يكون للقراءات المتباينة تأثير على نقاط ثانوية في الكتاب المقدس ، لكن الرسالة الأساسية تبقى سليمة بغض النظر عن القراءت المتباينة التي قد يلاحظها المرء (17).
في عام 1715 ذهب "فيتشتاين" إلى إنجلترا (كجزء من جولة علميَّة ) ومُنِح إذنًا يخوِّلُه القدرة على الاطلاع على المخطوطة السكندرية التي تكلمنا عنها من قبل عند الحديث عن "بنتلي". جزءٌ واحدٌ فحسب من المخطوطة هو ما لفت انتباه "فيتشتاين" :إنها واحدة من هذه الأشياء بالغة الصغر التي يكون لها توابع بالغة الضخامة . هذا الشئ كان يتعلق بفقرة ذات أهمية كبيرة في الرسالة الأولى إلى تيموثي. الفقرة موضع البحث ، 1 تيمو 3 : 16 ،كثيرًا ما استخدمها المدافعون عن اللاهوت الأرثوذكسي لتدعيم وجهة النظر التي تنص على أن العهد الجديد ذاته يطلق على يسوع اسم الإله. وذلك لأن النص ، في معظم المخطوطات،يشير إلى المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد، وتبرَّر في الروح." وكما شرحت في الفصل الثالث ،معظم المخطوطات تختصر الأسماء المقدسة (التي تعرف في اللاتينية بالـ nomina sacra) ، وهذا هو الحال ها هنا أيضًا ، فالكلمة اليونانية الله (God) يتم اختصارها إلى حرفين اثنين ، هما "الثيتا" و"السيجما" ، مع وضع خط فوق رأسيهما . ما لاحظه "فيتشتاين" عند فحصه للمخطوطة السكندرية هو أن الخط الموضوع فوق الرأس كان قد رسم بحبر مختلف عن الحبر المستخدم في كتابة الكلمات المحيطة ولذا فقد بدى الأمر وكأنه حدث نتيجة لتدخل أحدثته يد ناسخ في وقت متأخِّرٍ a later hand . أضف إلى ذلك أنَّ الخط الأفقي في وسط الحرف الأول لم يكن في الحقيقة جزءًا من الحرف ولكنه خطٌ كان قد تسرَّبَ من الجانب الآخر لهذا الرَّق القديم. بطريقة أخرى ، هذه الكلمة ، بدلا من كونها اختصار لكلمة "الله" (ثيتا- سيجما )، هي في الواقع الحرفان "أوميكرون" و "سيجما" ، أي أنها كلمة أخرى مختلفة تمامًا ، وهي ببساطة تعني "الذي" . وهكذا لا تتحدث القراءة الأصلية التي وردت في المخطوطة عن المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد" وإنما عن المسيح " الذي ظهر في الجسد." وفقًا لهذه الشهادة القديمة الصادرة من المخطوطة السكندرية،لم يعد المسيح بوضوح يدعى الله في هذه الفقرة .
وحينما واصل "فيتشتاين" أبحاثه ، وجد فقرات أخرى استخدمت على النمط ذاته لتأكيد عقيدة ألوهية المسيح التي هي في الواقع فقرات تمثل مشكلات نصيَّة ؛ وعندما تمَّ حلُّ هذه المشكلات على أرضية علم النقد النصي ، تمَّ حذف الإشارات إلى ألوهية يسوع في معظم المواضع. هذا حدث ،على سبيل المثال ، عندما حذفت الفاصلة اليوحنَّاوية (رسالة يوحنا الأولى 5 : 7 -8 )من نص العهد الجديد. وحدث في فقرة موجودة في سفر أعمال الرسل 20 : 28 ، التي تتحدث في كثيرٍ من المخطوطات عن " كنيسة الله ، التي اقتناها بدمه ." ها هنا مرة أخرى ،يبدو يسوع في صورة من يتحدث عنه النص باعتباره إلهًا . لكنَّ النص في المخطوطة السكندريّة وبعض المخطوطات الأخرى يتحدث بدلا من ذلك عن " كنيسة السيد (Lord) ، التي اقتناها بدمه ." الآن يسمى يسوع سيدًا ، لكنه لم يطلق عليه اسم الله .
ولكونه واعيًا بمثل هذه المشكلات ، بدأ "فيتشتاين" في التفكير بجدية في قناعاته الشخصية اللاهوتية، وأصبح متأقلمًا مع مشكلة العهد الجديد الذي نادرًا،إن حدث أصلا ، ما يدعو المسيح إلهًا . وبدأ يشعر بالانزعاج من زملائه من القساوسة و المعلمين في مدينته الأم "بازل" الذين يخلطون أحيانًا بين الله و بين المسيح وذلك على سبيل المثال عندما يتحدثون عن ابن الله كما لو كان هو نفسه الآب،أو عند التوجه إلى الله الآب في الصلاة بالحديث عن " جروحك المقدسة ". اعتقد "فيتشتاين" أنَّ الكثير من الدقة هو أمر مطلوب عند الحديث عن الأب و عن الابن لأنهما ليسا الشخص ذاته. تأكيد "فيتشتاين" لهذه القضايا بدأ يثير الشكوك بين زملائه ،وهي الشكوك التي تأكدت لهم عندما قام "فيتشتاين" في 1730 بنشر كتاب يناقش مشكلات العهد الجديد اليوناني كمقدمة لطبعة جديدة كان منشغلا بالإعداد لها . بعض النصوص المتنازع عليها ،والتي كان اللاهوتيون يستعملونها في تأسيس القاعدة الكتابية لعقيدة تأليه المسيح، كانت من بين الفقرات التي سيقت كنماذج في هذا الكتاب . هذه النصوص ،حسب ما كان "فيتشتاين" يعتقد، كانت في حقيقة الأمر قد أُخضعت للتحريف من أجل أن تدعم هذه العقيدة التي ما كان يمكن أن تستخدم النصوص الأصلية في دعمها ؛.
هذه الأفكار سببت هياجًا شديدًا بين زملاء "فيتشتاين" وأصبح كثيرون منهم خصومًا له. وقد أَلَحُوا على مجلس مدينة "بازل" أن يمنع "فيتشتاين" من نشر نسخته من العهد الجديد باليونانية والتي وسموها بالـ" العمل عديم الفائدة وغير الملائم ،بل و حتى الخطير"؛ وقد استمروا باتهامه بأن " الشماس "فيتشتاين" ينشر عقائدًا غير أرثوذكسية ، ويصرح في أثناء محاضراته بتعاليم مضادة لتعاليم الكنيسة الإصلاحية ،كما أنه لديه طبعة من العهد الجديد اليوناني سينشرها تشتمل على بعض البدع الخطيرة يشتبه في كونها ذات علاقة بالسوسيانية (عقيدة أنكرت لاهوت المسيح )." (18) وعندما أُخْضِع لمجلس تأديبيٍّ بسبب وجهات نظره أمام المجلس الأعلى للجامعة ،تمت أدانته لاعتناقه رؤىً "عقلانية " تنكر الوحي المطلق للكتاب المقدس وتنكر وجود إبليس والشياطين و تركز الانتباه على القضايا الغامضة في الكتاب المقدس. تم طرده من عضوية مجلس الشمامسة المسيحي و أُجبِر على مغادرة "بازل"؛ ولذلك قام بالحصول على مسكن في "أمستردام" ، حيث استمر في العمل على إنجاز كتابه . ثم زعم فيما بعد أنَّ النزاع أجبره على تأخير موعد إصدار طبعته من العهد الجديد اليوناني (1751 -1752 ) لعشرين عامًا. على الرغم من ذلك هذه النسخة كانت رائعة وما تزال ذات قيمة للعلماء في عصرنا هذا أكثر مما كانت عليه طوال ال250 عامًا السابقة . طبع "فيتشتاين" فيها النص المستلم كما جمع أيضًا تشكيلة مدهشة من النصوص اليونانية والرومانية واليهوديَّة التي تتشابه مع الأقوال الموجودة في العهد الجديد و التي يمكن أن تساعد على توضيح معناها. كما ساق أيضًا عددًا ضخما من القراءات النصيَّة المتباينة ،حيث ساق حوالي 25 مخطوطة من ذوات الحروف الكبيرة و نحو 250 مخطوطة من ذوات الحروف الصغيرة (تقريبًا ثلاث أضعاف العدد الذي كان متاحًا لـ "مِلّ ") كدليل ، وقد رتبهم بطريقة واضحة من خلال الإشارة إلى كل حرف كبير (majuscule) بحرف كبير آخر مغاير و عبر استخدامه الأرقام العربية لكي يرمز إلى المخطوطات المكتوبة بحروف كبيرة – وهي طريقة الإشارة التي أصبحت هي المعيار طوال قرون وما تزال ،بصورة جوهرية ، تستخدم على نطاق واسع إلى اليوم .
وعلى الرغم من القيمة الكبيرة للنسخة التي ألَّفها "فيتشتاين" ، إلا أن النظرية النصيَّة التي كانت أساسًا لها عادة ما ينظر إليها على أنها نظرية ساقطة تمامًا . لم يلق "فيتشتاين" بالا للانجازات المتعلقة بالمنهج التي أحدثها "بنتلي" (الذي عَمِلَ في خدمته ذات يوم في وظيفة جامع مخطوطات ) وتلك التي أحدثها "بنجلي" (والذي اعتبره عدوًّا)،وأصرَّ على أن مخطوطات العهد الجديد اليونانية لا يمكن الوثوق بها لأنها جميعا، من وجهة نظره ،تعرضت للتحريف لتتوافق مع الشواهد اللاتينيَّة . ليس ثمة دليلٌ على حدوث ذلك والمحصلة النهائية لاستخدام هذه الرؤية كمعيار أساسي للحكم على قيمة الشئ هي أنه عندما يحاكم شخص ما قراءة نصية متباينة فإن الأجراء الأمثل الذي ينبغي أن يتخذه ليس أن يبحث عما تقوله أقدم الشواهد (هذه التي،وفقا لهذه النظرية ،هي بعيدة كل البعد عن الأصول!)، وإنما أن يبحث عما تقوله الشواهد الأحدث(ألا وهي مخطوطات العصور الوسطى المكتوبة باليونانية).هذه النظرية الشاذة لم يدعمها أيٌ من علماء النصوص البارزين.
في عام 1715 ذهب "فيتشتاين" إلى إنجلترا (كجزء من جولة علميَّة ) ومُنِح إذنًا يخوِّلُه القدرة على الاطلاع على المخطوطة السكندرية التي تكلمنا عنها من قبل عند الحديث عن "بنتلي". جزءٌ واحدٌ فحسب من المخطوطة هو ما لفت انتباه "فيتشتاين" :إنها واحدة من هذه الأشياء بالغة الصغر التي يكون لها توابع بالغة الضخامة . هذا الشئ كان يتعلق بفقرة ذات أهمية كبيرة في الرسالة الأولى إلى تيموثي. الفقرة موضع البحث ، 1 تيمو 3 : 16 ،كثيرًا ما استخدمها المدافعون عن اللاهوت الأرثوذكسي لتدعيم وجهة النظر التي تنص على أن العهد الجديد ذاته يطلق على يسوع اسم الإله. وذلك لأن النص ، في معظم المخطوطات،يشير إلى المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد، وتبرَّر في الروح." وكما شرحت في الفصل الثالث ،معظم المخطوطات تختصر الأسماء المقدسة (التي تعرف في اللاتينية بالـ nomina sacra) ، وهذا هو الحال ها هنا أيضًا ، فالكلمة اليونانية الله (God) يتم اختصارها إلى حرفين اثنين ، هما "الثيتا" و"السيجما" ، مع وضع خط فوق رأسيهما . ما لاحظه "فيتشتاين" عند فحصه للمخطوطة السكندرية هو أن الخط الموضوع فوق الرأس كان قد رسم بحبر مختلف عن الحبر المستخدم في كتابة الكلمات المحيطة ولذا فقد بدى الأمر وكأنه حدث نتيجة لتدخل أحدثته يد ناسخ في وقت متأخِّرٍ a later hand . أضف إلى ذلك أنَّ الخط الأفقي في وسط الحرف الأول لم يكن في الحقيقة جزءًا من الحرف ولكنه خطٌ كان قد تسرَّبَ من الجانب الآخر لهذا الرَّق القديم. بطريقة أخرى ، هذه الكلمة ، بدلا من كونها اختصار لكلمة "الله" (ثيتا- سيجما )، هي في الواقع الحرفان "أوميكرون" و "سيجما" ، أي أنها كلمة أخرى مختلفة تمامًا ، وهي ببساطة تعني "الذي" . وهكذا لا تتحدث القراءة الأصلية التي وردت في المخطوطة عن المسيح باعتباره " الله الذي ظهر في الجسد" وإنما عن المسيح " الذي ظهر في الجسد." وفقًا لهذه الشهادة القديمة الصادرة من المخطوطة السكندرية،لم يعد المسيح بوضوح يدعى الله في هذه الفقرة .
وحينما واصل "فيتشتاين" أبحاثه ، وجد فقرات أخرى استخدمت على النمط ذاته لتأكيد عقيدة ألوهية المسيح التي هي في الواقع فقرات تمثل مشكلات نصيَّة ؛ وعندما تمَّ حلُّ هذه المشكلات على أرضية علم النقد النصي ، تمَّ حذف الإشارات إلى ألوهية يسوع في معظم المواضع. هذا حدث ،على سبيل المثال ، عندما حذفت الفاصلة اليوحنَّاوية (رسالة يوحنا الأولى 5 : 7 -8 )من نص العهد الجديد. وحدث في فقرة موجودة في سفر أعمال الرسل 20 : 28 ، التي تتحدث في كثيرٍ من المخطوطات عن " كنيسة الله ، التي اقتناها بدمه ." ها هنا مرة أخرى ،يبدو يسوع في صورة من يتحدث عنه النص باعتباره إلهًا . لكنَّ النص في المخطوطة السكندريّة وبعض المخطوطات الأخرى يتحدث بدلا من ذلك عن " كنيسة السيد (Lord) ، التي اقتناها بدمه ." الآن يسمى يسوع سيدًا ، لكنه لم يطلق عليه اسم الله .
ولكونه واعيًا بمثل هذه المشكلات ، بدأ "فيتشتاين" في التفكير بجدية في قناعاته الشخصية اللاهوتية، وأصبح متأقلمًا مع مشكلة العهد الجديد الذي نادرًا،إن حدث أصلا ، ما يدعو المسيح إلهًا . وبدأ يشعر بالانزعاج من زملائه من القساوسة و المعلمين في مدينته الأم "بازل" الذين يخلطون أحيانًا بين الله و بين المسيح وذلك على سبيل المثال عندما يتحدثون عن ابن الله كما لو كان هو نفسه الآب،أو عند التوجه إلى الله الآب في الصلاة بالحديث عن " جروحك المقدسة ". اعتقد "فيتشتاين" أنَّ الكثير من الدقة هو أمر مطلوب عند الحديث عن الأب و عن الابن لأنهما ليسا الشخص ذاته. تأكيد "فيتشتاين" لهذه القضايا بدأ يثير الشكوك بين زملائه ،وهي الشكوك التي تأكدت لهم عندما قام "فيتشتاين" في 1730 بنشر كتاب يناقش مشكلات العهد الجديد اليوناني كمقدمة لطبعة جديدة كان منشغلا بالإعداد لها . بعض النصوص المتنازع عليها ،والتي كان اللاهوتيون يستعملونها في تأسيس القاعدة الكتابية لعقيدة تأليه المسيح، كانت من بين الفقرات التي سيقت كنماذج في هذا الكتاب . هذه النصوص ،حسب ما كان "فيتشتاين" يعتقد، كانت في حقيقة الأمر قد أُخضعت للتحريف من أجل أن تدعم هذه العقيدة التي ما كان يمكن أن تستخدم النصوص الأصلية في دعمها ؛.
هذه الأفكار سببت هياجًا شديدًا بين زملاء "فيتشتاين" وأصبح كثيرون منهم خصومًا له. وقد أَلَحُوا على مجلس مدينة "بازل" أن يمنع "فيتشتاين" من نشر نسخته من العهد الجديد باليونانية والتي وسموها بالـ" العمل عديم الفائدة وغير الملائم ،بل و حتى الخطير"؛ وقد استمروا باتهامه بأن " الشماس "فيتشتاين" ينشر عقائدًا غير أرثوذكسية ، ويصرح في أثناء محاضراته بتعاليم مضادة لتعاليم الكنيسة الإصلاحية ،كما أنه لديه طبعة من العهد الجديد اليوناني سينشرها تشتمل على بعض البدع الخطيرة يشتبه في كونها ذات علاقة بالسوسيانية (عقيدة أنكرت لاهوت المسيح )." (18) وعندما أُخْضِع لمجلس تأديبيٍّ بسبب وجهات نظره أمام المجلس الأعلى للجامعة ،تمت أدانته لاعتناقه رؤىً "عقلانية " تنكر الوحي المطلق للكتاب المقدس وتنكر وجود إبليس والشياطين و تركز الانتباه على القضايا الغامضة في الكتاب المقدس. تم طرده من عضوية مجلس الشمامسة المسيحي و أُجبِر على مغادرة "بازل"؛ ولذلك قام بالحصول على مسكن في "أمستردام" ، حيث استمر في العمل على إنجاز كتابه . ثم زعم فيما بعد أنَّ النزاع أجبره على تأخير موعد إصدار طبعته من العهد الجديد اليوناني (1751 -1752 ) لعشرين عامًا. على الرغم من ذلك هذه النسخة كانت رائعة وما تزال ذات قيمة للعلماء في عصرنا هذا أكثر مما كانت عليه طوال ال250 عامًا السابقة . طبع "فيتشتاين" فيها النص المستلم كما جمع أيضًا تشكيلة مدهشة من النصوص اليونانية والرومانية واليهوديَّة التي تتشابه مع الأقوال الموجودة في العهد الجديد و التي يمكن أن تساعد على توضيح معناها. كما ساق أيضًا عددًا ضخما من القراءات النصيَّة المتباينة ،حيث ساق حوالي 25 مخطوطة من ذوات الحروف الكبيرة و نحو 250 مخطوطة من ذوات الحروف الصغيرة (تقريبًا ثلاث أضعاف العدد الذي كان متاحًا لـ "مِلّ ") كدليل ، وقد رتبهم بطريقة واضحة من خلال الإشارة إلى كل حرف كبير (majuscule) بحرف كبير آخر مغاير و عبر استخدامه الأرقام العربية لكي يرمز إلى المخطوطات المكتوبة بحروف كبيرة – وهي طريقة الإشارة التي أصبحت هي المعيار طوال قرون وما تزال ،بصورة جوهرية ، تستخدم على نطاق واسع إلى اليوم .
وعلى الرغم من القيمة الكبيرة للنسخة التي ألَّفها "فيتشتاين" ، إلا أن النظرية النصيَّة التي كانت أساسًا لها عادة ما ينظر إليها على أنها نظرية ساقطة تمامًا . لم يلق "فيتشتاين" بالا للانجازات المتعلقة بالمنهج التي أحدثها "بنتلي" (الذي عَمِلَ في خدمته ذات يوم في وظيفة جامع مخطوطات ) وتلك التي أحدثها "بنجلي" (والذي اعتبره عدوًّا)،وأصرَّ على أن مخطوطات العهد الجديد اليونانية لا يمكن الوثوق بها لأنها جميعا، من وجهة نظره ،تعرضت للتحريف لتتوافق مع الشواهد اللاتينيَّة . ليس ثمة دليلٌ على حدوث ذلك والمحصلة النهائية لاستخدام هذه الرؤية كمعيار أساسي للحكم على قيمة الشئ هي أنه عندما يحاكم شخص ما قراءة نصية متباينة فإن الأجراء الأمثل الذي ينبغي أن يتخذه ليس أن يبحث عما تقوله أقدم الشواهد (هذه التي،وفقا لهذه النظرية ،هي بعيدة كل البعد عن الأصول!)، وإنما أن يبحث عما تقوله الشواهد الأحدث(ألا وهي مخطوطات العصور الوسطى المكتوبة باليونانية).هذه النظرية الشاذة لم يدعمها أيٌ من علماء النصوص البارزين.
كارل لاخمانّ
- بعد "فيتشتاين"، ظهر عددٌ من علماء النقد النصي ، مثل "ج.سيملر" و "ج.ج. جريسباخ" ، الذين قام كل منهم بإسهامات أكبر أو أقل من إسهاماته في مجال تأسيس منهجية لتحديد الشكل الأقدم لنص الكتاب المقدس في مواجهة عددٍ متزايدٍ من المخطوطات ( مثل التي تظهر عن طريق الاكتشافات ) التي تؤكِّد قضية التنوع. بطريقة أو بأخرى ، مع ذلك ، لم تتحقق أي خطوات ناجحة رئيسية في هذا الميدان لمدة ثمانين عامًا أخرى ، من خلال نشرٍ ذي حظ عاثر لكنه يمثل ثورة في هذا المجال لنسخة تبدو صغيرة الحجم نسبيًا من العهد الجديد اليوناني قام بتأليفها أحد علماء فقه اللغة وهو الألماني "كارل لاخمانّ" (1793 – 1851 ) (19).
قرر "لاخمانّ " ، في الصفحات الأولى من كتابه ، أنَّ الدليل المستمد من النص ليس كافيًا لتحديد ما كتبه المؤلفون الأصليون . المخطوطات الأصلية التي كان له قدرة على الاطلاع عليها كانت هي تلك التي تنتمي للقرنين الرابع والخامس - أي بعد مئات السنين من الوقت التي أنتجت فيه المخطوطات الأصلية. من كان باستطاعته أن يتنبأ بالتغيرات المفاجئة التي حدثت أثناء عملية النقل التي حدثت في الفترة التي تفصل ما بين وقت كتابة المخطوطات الأصلية وبين إنتاج الشواهد المبكرة الباقية بعد ذلك بعدة قرون ؟
لذلك حدد "لاخمانّ " لنفسه مهمة أكثر بساطة . كان لاخمان يعلم أنَّ النص المستلم مبنيٌّ على تقليد مخطوط (manuscript tradition) يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر . فرأى أنه بإمكانه أن يُنْتِجَ ما هو أفضل منه – باعتباره أقدم منه بثمانية قرون – عبر إنتاج نسخة من العهد الجديد تشبه تلك التي كان من المفترض أن يبدو عليها العهد الجديد عند نهاية القرن الرابع تقريبًا.
فالمخطوطات المكتوبة باليونانية والتي نجت من الضياع جنبًا إلى جنب مع المخطوطات التي استخدمها "جيروم" في الفولجاتا و النصوص التي اقتبس منها هؤلاء الكتاب من أمثال "إيريناوس" ، و"أوريجانوس" و "كيبريانوس"، ستسمح بذلك على أسوأ الفروض . وهذا ما فعله . فعن طريق اعتماده على كل ما تصل إليه يداه من المخطوطات القديمة المكتوبة بالحرف الكبير مضافًا إليها أقدم المخطوطات اللاتينية و الاقتباسات الآبائية من النص ، لم يختر تنقيح النص المستلم عند اللزوم فحسب(و هو السبيل الذي سار فيه سابقوه ممن لم يكونوا راضين عن النص المستلم )لكنه ترك النص المستلم بالكليَّة و بنى النص من جديد ، وفقًا لمبادئه الخاصة .
وهكذا ، في عام 1831 انتهى من تأليف نسخة جديدة من النص لم يعتمد فيه على النص المستلم . هذه كانت المرة الأولى التي يتجرأ فيها أي إنسان على فعل هذا الأمر. لقد استغرق الأمر ما يزيد عن ثلاثة قرون ،لكنَّ نسخة من العهد الجديد اليوناني اعتمدت كليَّةً على الشواهد القديمة ظهرت أخيرًا إلى الوجود .
غاية "لاخمانّ " من إنتاج نصٍ على الحال التي كان عليها في أواخر القرن الرابع لم يكن مفهومًا دائمًا ، وحتى عندما صار الغرض مفهومًا لم يحصل صاحب الكتاب دائمًا على التقدير المناسب. اعتقد كثيرٌ من القُرَّاء أن "لاخمانّ" كان يدعي أنه جاء بالنص "الأصلي" وعارضوا قيامه ، من ناحية المبدأ ، بإبطال كل الشواهد تقريبًا (أي التقليد النصي المتأخر الذي يتضمن عددًا وافرًا من المخطوطات ). البعضُ الآخرُ لاحظوا التشابه في المنهج بينه وبين "بنتلي" الذي كانت لديه أيضًا فكرة مقارنة المخطوطات اليونانية الأقدم مع المخطوطات اللاتينية للوصول إلى النص الذي كان مستخدمًا في القرن الرابع (الذي كان بنتلي يعتقد أنه النص الذي كان معروفًا لدى "أوريجانوس" في بداية القرن الثالث)؛نتيجة لذلك ،سُمِّيَ "لاخمان" أحيانًا "مُقَلِّد بنتلي". إلا أن "لاخمان" كان في الحقيقة قد اخترق العرف غير النافع الذي استقر بين أصحاب المطابع وبين العلماء على حد سواء من إسباغ منزلة خاصة على النص المستلم ، وهي المنزلة التي لا يستحقها النص المستلم بالتأكيد وذلك لأنه قد طبع و أعيد طبعه لا لأن أحدًا يشعر أنه اعتمد على قاعدة نصوصية سليمة وإنما فقط لأن نصه كان معتادًا ومألوفًا .
لوبيجوت فريدريك قسطنطين فون تشيندورف
بينما كان العلماء من أمثال "بنتلي" و"بينجيل" و "لاخمان" يقومون بتصفية المناهج التي كانت لتستخدم في فحص القراءات المتباينة داخل مخطوطات العهد الجديد، كان ثمة اكتشافات جديدة في طور الحدوث على نحوٍ منتظم داخل المكتبات القديمة و الأديرة الشرقية منها و الغربية. أكثر علماء القرن التاسع عشر اجتهادًا في مجال اكتشاف مخطوطات الكتاب المقدس ونشر نصوصها كان يحمل اسمًا طريفًا وهو "لوبيجوت فريدريك قسطنطين فون تشيندورف" (1815 – 1874 ).كان يسمى لوبيجوت (التي تعني بالألمانية " سبحوا الله ") لأنَّ أمَّه ، قبل ولادته ،كانت قد رأت رجلا ضريرًا ،وخضوعًا منها للمعتقدات الخرافية اعتقدت أن ابنها سيولد ضريرًا . وعندما وُلِد سليمًا تماما نذرته أمُّه لله من خلال إطلاق هذا الاسم غير المعتاد عليه .
كان "تشيندورف" عالمًا متحمِّسا بشكل غير عادي رأى في اشتغاله بنص العهد الجديد مَهَمَّة مقدسة أُلقيت على عاتقه بتكليف سماويّ. فقد كتب ذات مرة لخطيبته ،حينما كان في أوائل العشرينات من عمره :" لقد حملتُ على كاهلي مَهَمَّة مقدسة ألا وهي النضال من أجل استعادة الشكل الأصلي للعهد الجديد.(20)"
هذه المهمة المقدسة سعى لإنجازها عبر البحث عن كل مخطوطة مختفية في كل مكتبة وديرٍ يمكنه الوصول إليه . فقام بعدد من الرحلات حول أوربا و إلى "الشرق" ( يقصد ما نسميه الآن الشرق الأوسط )،ليعثر على،ولينقل،وليقوم بنشر المخطوطات أينما حلَّ أو ارتحل . واحدة من أقدم نجاحاته و أكثرها شهرة هي المتعلقة بمخطوطة كانت معروفة بالفعل إلا أنَّ أحدًا لم يكن بمقدوره الاطِّلاع عليها . إنها المخطوطة الإفرايمية(Codex Ephraemi Rescriptus) المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس. هذه المخطوطة هي في الأصل مخطوطة يونانية من مخطوطات العهد الجديد تنتمي للقرن الخامس الميلادي ،لكنَّ نصها كان قد مُحِيَ في القرن الثاني عشر حتى يتسنى لمن فعلوا ذلك بها أن يعيدوا استخدام صفحاتها الجلدية لتدوين بعض المواعظ التي ألقاها إفرايم بابا الكنيسة السوريانية. وحيث إن الصفحات لم تكن قد مُحِيَتْ بشكل جذري،فقد ظلَّ بالإمكان مشاهدة بعض الكلام المكتوب تحت هذه المواعظ وإن لم يكن بالوضوح الكافي لفك شفرات معظم كلماته – على الرغم من أن عددًا من أرفع العلماء قد بذلوا وسعهم في هذا الاتجاه . قريبًا من العصر الذي عاش فيه "تشيندورف" كانت بعض المواد الكيميائية التي قد تساعد على إظهار الكلام السفلي قد اكتُشِفَت . ومن خلال استعمال هذه المواد بحذر وعبر التأنِّي في سبر أغوار النص ،كان "تشيندورف" قد أصبح قادرًا على تمييز هذه الكلمات، وهكذا قام بأول عملية نسخ ناجحة لهذا النص القديم ما أكسبه سمعة طيبة بين المهتمين بهذه الأمور. بعض هؤلاء قاموا بتقديم دعمٍ ماليٍّ لرحلات "تشيندورف" إلى المناطق الأخرى في أوروبا و الشرق الأوسط للبحث عن المخطوطات . بكل المقاييس ، كانت أشهر اكتشافاته هي تلك التي تتعلق بواحدة من أعظم مخطوطات الكتاب المقدس بحق والتي ما تزال باقية ، ألا وهي المخطوطة السينائية . قصة اكتشافها هي درب من الخيال على الرغم من أن مصدرها هو الرواية المباشرة لتشيندورف نفسه مكتوبةً بخط يده . كان تشيندورف قد قام برحلة إلى مصر في عام 1844 ،في وقت لم يكن قد بلغ عامه الثلاثين ليصل في النهاية على ظهر جمل إلى دير سانت كاثرين الواقع في الصحراء . ما حدث هناك في ال24 من مايو عام 1844 ليس ثمة إلى الآن من يصفه أفضل من كلماته الشخصية حيث يقول :
لقد حدث هذا عند سفح جبل سيناء ،عند دير سانت كاثرين ،حيث اكتشفت واسطة عقد أبحاثي جميعها . فعند زيارتي للدير في شهر مايو من العام 1844 ،لاحظت في منتصف الرواق الكبير سلة كبيرة وواسعة ملئى بالرقوق ؛ وعامل المكتبة الذي كان رجلا واسع الاطلاع أخبرني أن كومتين من مثل هذه الأوراق المهترئة ،بسبب عامل الزمن، كانتا قد أضرمت فيهما النيران بالفعل .
ما كان مفاجأة بالنسبة لي هو أنني وجدت وسط كومة الأوراق هذه عدد لا بأس به من الصحف التي تحوي نسخة من العهد القديم مكتوبة باليونانية والتي بدت بالنسبة إلي واحدة من أقدم النسخ التي رأيتها من قبل على الإطلاق . سمحت لي سلطات الدير أن أحتفظ بثلثيّ هذه الرقوق ، أي ما مقداره ثلاثة و أربعون صحيفة تقريبًا ،كان من المقرر أن يتم التخلص منها بالحرق. لكنني لم أستطع أن أقنعهم بالحصول على الباقي. ما ظهر على ملامحي من السعادة الغامرة أصابهم بالارتياب فيما يتعلق بقيمة المخطوطة .قمت بنسخ صفحة من نص إشعياء و إرمياء وأخذت على الرهبان عهدًا أن يعتنوا بكل ما تقع عليه أيديهم من مثل هذه البقايا بما يمليه عليهم ضميرُهم الديني (21).
حاول تشيندورف أن ينقذ ما تبقى من هذه المخطوطات لكنه لم يستطع أن يقنع الرهبان أن يتنازلوا له عنها . بعد ذلك بحوالي 9 سنوات عاد في رحلة أخرى ولكنه لم يجد لهذه البقايا أيَّ أثر .ثم عاود الكرَّة مرة أخرى في عام 1859، ولكن هذه المرة تحت رعاية القيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي كان له شغف بكل ما يتعلق بالديانة المسيحية وخاصة الآثار المسيحية القديمة . هذه المرة لم يعثر تشيندورف على أيِّ أثرٍ للمخطوطة حتى جاء اليوم الأخير من زيارته . فحينما دُعِيَ إلى حجرة القائم على أمر الدير، دخل معه في نقاش فيما يتعلق بالترجمة السبعينيَّة (أي العهد القديم مكتوبًا باللغة اليونانيَّة)، فقال له القائم على الدير :"أنا أيضًا قرأت السبعينية." واتجه إلى ركن في غرفته وسحب منه مجلدًا مغلَّفًا بقماشٍ أحمر اللون . يقول تشيندورف: فقمت بإزالة الغطاء عنه ، فاكتشفت ،وياللمفاجأة ،ليس فقط هذه الكِسَر نفسها التي كنت قد تناولتها قبل ذلك بخمسة عشر عامًا من السلة ، وإنما أيضًا أجزاءً أخرى من العهد القديم ، و العهد الجديد كاملا ،وبالإضافة إلى ذلك ، رسالة برنابا و جزءًا من رسالة الراعي لهرماس . ولشد ما غمرني من سعادة ،أحسست بالتزام داخلي يأمرني بأن أخفي المخطوطة هذه المرة من القائم على الدير ومن الدير كله ،فطلبت ، كما لو كنت غير مهتمٍ كثيرا بها ، إذنًا بأن آخذ المخطوطة إلى غرفة نومي لكي أفحصها بصورة أفضل في أوقات فراغي (22).
في وقت قصير تعرَّف تشيندورف على المخطوطة نظرًا لقيمتها – باعتبارها أقدم شاهدٍ حيٍّّ على نص العهد الجديد :" أغلى ثروة تتعلق بالكتاب المقدس في الوجود – إنها الوثيقة التي يتجاوز عمرها و أهميتها ما تتمتع به كل المخطوطات التي قمت بفحصها من قبل من عمر وأهمية." بعد مفاوضات شاقة ومطوَّلة ، ذكَّر فيها تشيندورف الرهبان براعيه ، القيصر الروسي ، الذي ستذهله هدية مثل هذه المخطوطة النادرة وسيردُّ بلا شك تحيتكم بأفضل منها عبر منح الدير تبرعات مالية . في النهاية سُمِحَ لتشيندورف أن يعود بالمخطوطة إلى مدينة "ليبزج" حيث قام بإعداد نسخة فخمة منها تتكون من أربع مجلدات على نفقة القيصر. وقد ظهرت هذه النسخة في عام 1862 في الاحتفال بمرور الألفية الأولى على تأسيس الإمبراطورية الروسيَّة (23) .[*]بعد قيام الثورة الروسيّة ، أدى احتياج الحكومة الجديدة إلى المال و عدم اهتمامها بمخطوطات الكتاب المقدس إلى قيامها ببيع المخطوطة السينائية إلى المُتْحف البريطاني نظير مائة ألف جنيه استرليني؛وهي الآن جزء من المجموعة القيمة التي تمتلكها المكتبة البريطانية وهي معروضة في مكان بارز في غرفة المخطوطات بالمكتبة البريطانية .هذه كانت ،بطبيعة الحال ،واحدة فقط من مآثر تشيندورف الكثيرة في ميدان الدراسات النصيَّة (24) . في الجملة ، قام تشيندورف بنشر اثنين وعشرين نسخة من النصوص المسيحية المبكرة بالتوازي مع ثمان طبعات منفصلة من العهد الجديد اليوناني ، الطبعة الثامنة منهم ما تزال إلى الآن تمثل كنزًا دفينًا من المعلومات فيما يتعلق بتوثيق الشواهد اليونانية والمترجمة لهذه القراءة المتباينة أو تلك .إن إنتاجه كعالم يمكن تقييمه من خلال أحد المقالات الببليوغرافية (علم التعريف بالكتب والمخطوطات)التي كتبها تأييدًا له أحد العلماء يدعى "كاسبر رين جريجوري": "إن قائمة منشورات تشيندروف تملأ أسماؤها أحد عشر صفحة، كل صفحة منها مقسمة إلى ثلاث أعمدة" (25) .
كان "تشيندورف" عالمًا متحمِّسا بشكل غير عادي رأى في اشتغاله بنص العهد الجديد مَهَمَّة مقدسة أُلقيت على عاتقه بتكليف سماويّ. فقد كتب ذات مرة لخطيبته ،حينما كان في أوائل العشرينات من عمره :" لقد حملتُ على كاهلي مَهَمَّة مقدسة ألا وهي النضال من أجل استعادة الشكل الأصلي للعهد الجديد.(20)"
هذه المهمة المقدسة سعى لإنجازها عبر البحث عن كل مخطوطة مختفية في كل مكتبة وديرٍ يمكنه الوصول إليه . فقام بعدد من الرحلات حول أوربا و إلى "الشرق" ( يقصد ما نسميه الآن الشرق الأوسط )،ليعثر على،ولينقل،وليقوم بنشر المخطوطات أينما حلَّ أو ارتحل . واحدة من أقدم نجاحاته و أكثرها شهرة هي المتعلقة بمخطوطة كانت معروفة بالفعل إلا أنَّ أحدًا لم يكن بمقدوره الاطِّلاع عليها . إنها المخطوطة الإفرايمية(Codex Ephraemi Rescriptus) المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس. هذه المخطوطة هي في الأصل مخطوطة يونانية من مخطوطات العهد الجديد تنتمي للقرن الخامس الميلادي ،لكنَّ نصها كان قد مُحِيَ في القرن الثاني عشر حتى يتسنى لمن فعلوا ذلك بها أن يعيدوا استخدام صفحاتها الجلدية لتدوين بعض المواعظ التي ألقاها إفرايم بابا الكنيسة السوريانية. وحيث إن الصفحات لم تكن قد مُحِيَتْ بشكل جذري،فقد ظلَّ بالإمكان مشاهدة بعض الكلام المكتوب تحت هذه المواعظ وإن لم يكن بالوضوح الكافي لفك شفرات معظم كلماته – على الرغم من أن عددًا من أرفع العلماء قد بذلوا وسعهم في هذا الاتجاه . قريبًا من العصر الذي عاش فيه "تشيندورف" كانت بعض المواد الكيميائية التي قد تساعد على إظهار الكلام السفلي قد اكتُشِفَت . ومن خلال استعمال هذه المواد بحذر وعبر التأنِّي في سبر أغوار النص ،كان "تشيندورف" قد أصبح قادرًا على تمييز هذه الكلمات، وهكذا قام بأول عملية نسخ ناجحة لهذا النص القديم ما أكسبه سمعة طيبة بين المهتمين بهذه الأمور. بعض هؤلاء قاموا بتقديم دعمٍ ماليٍّ لرحلات "تشيندورف" إلى المناطق الأخرى في أوروبا و الشرق الأوسط للبحث عن المخطوطات . بكل المقاييس ، كانت أشهر اكتشافاته هي تلك التي تتعلق بواحدة من أعظم مخطوطات الكتاب المقدس بحق والتي ما تزال باقية ، ألا وهي المخطوطة السينائية . قصة اكتشافها هي درب من الخيال على الرغم من أن مصدرها هو الرواية المباشرة لتشيندورف نفسه مكتوبةً بخط يده . كان تشيندورف قد قام برحلة إلى مصر في عام 1844 ،في وقت لم يكن قد بلغ عامه الثلاثين ليصل في النهاية على ظهر جمل إلى دير سانت كاثرين الواقع في الصحراء . ما حدث هناك في ال24 من مايو عام 1844 ليس ثمة إلى الآن من يصفه أفضل من كلماته الشخصية حيث يقول :
لقد حدث هذا عند سفح جبل سيناء ،عند دير سانت كاثرين ،حيث اكتشفت واسطة عقد أبحاثي جميعها . فعند زيارتي للدير في شهر مايو من العام 1844 ،لاحظت في منتصف الرواق الكبير سلة كبيرة وواسعة ملئى بالرقوق ؛ وعامل المكتبة الذي كان رجلا واسع الاطلاع أخبرني أن كومتين من مثل هذه الأوراق المهترئة ،بسبب عامل الزمن، كانتا قد أضرمت فيهما النيران بالفعل .
ما كان مفاجأة بالنسبة لي هو أنني وجدت وسط كومة الأوراق هذه عدد لا بأس به من الصحف التي تحوي نسخة من العهد القديم مكتوبة باليونانية والتي بدت بالنسبة إلي واحدة من أقدم النسخ التي رأيتها من قبل على الإطلاق . سمحت لي سلطات الدير أن أحتفظ بثلثيّ هذه الرقوق ، أي ما مقداره ثلاثة و أربعون صحيفة تقريبًا ،كان من المقرر أن يتم التخلص منها بالحرق. لكنني لم أستطع أن أقنعهم بالحصول على الباقي. ما ظهر على ملامحي من السعادة الغامرة أصابهم بالارتياب فيما يتعلق بقيمة المخطوطة .قمت بنسخ صفحة من نص إشعياء و إرمياء وأخذت على الرهبان عهدًا أن يعتنوا بكل ما تقع عليه أيديهم من مثل هذه البقايا بما يمليه عليهم ضميرُهم الديني (21).
حاول تشيندورف أن ينقذ ما تبقى من هذه المخطوطات لكنه لم يستطع أن يقنع الرهبان أن يتنازلوا له عنها . بعد ذلك بحوالي 9 سنوات عاد في رحلة أخرى ولكنه لم يجد لهذه البقايا أيَّ أثر .ثم عاود الكرَّة مرة أخرى في عام 1859، ولكن هذه المرة تحت رعاية القيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي كان له شغف بكل ما يتعلق بالديانة المسيحية وخاصة الآثار المسيحية القديمة . هذه المرة لم يعثر تشيندورف على أيِّ أثرٍ للمخطوطة حتى جاء اليوم الأخير من زيارته . فحينما دُعِيَ إلى حجرة القائم على أمر الدير، دخل معه في نقاش فيما يتعلق بالترجمة السبعينيَّة (أي العهد القديم مكتوبًا باللغة اليونانيَّة)، فقال له القائم على الدير :"أنا أيضًا قرأت السبعينية." واتجه إلى ركن في غرفته وسحب منه مجلدًا مغلَّفًا بقماشٍ أحمر اللون . يقول تشيندورف: فقمت بإزالة الغطاء عنه ، فاكتشفت ،وياللمفاجأة ،ليس فقط هذه الكِسَر نفسها التي كنت قد تناولتها قبل ذلك بخمسة عشر عامًا من السلة ، وإنما أيضًا أجزاءً أخرى من العهد القديم ، و العهد الجديد كاملا ،وبالإضافة إلى ذلك ، رسالة برنابا و جزءًا من رسالة الراعي لهرماس . ولشد ما غمرني من سعادة ،أحسست بالتزام داخلي يأمرني بأن أخفي المخطوطة هذه المرة من القائم على الدير ومن الدير كله ،فطلبت ، كما لو كنت غير مهتمٍ كثيرا بها ، إذنًا بأن آخذ المخطوطة إلى غرفة نومي لكي أفحصها بصورة أفضل في أوقات فراغي (22).
في وقت قصير تعرَّف تشيندورف على المخطوطة نظرًا لقيمتها – باعتبارها أقدم شاهدٍ حيٍّّ على نص العهد الجديد :" أغلى ثروة تتعلق بالكتاب المقدس في الوجود – إنها الوثيقة التي يتجاوز عمرها و أهميتها ما تتمتع به كل المخطوطات التي قمت بفحصها من قبل من عمر وأهمية." بعد مفاوضات شاقة ومطوَّلة ، ذكَّر فيها تشيندورف الرهبان براعيه ، القيصر الروسي ، الذي ستذهله هدية مثل هذه المخطوطة النادرة وسيردُّ بلا شك تحيتكم بأفضل منها عبر منح الدير تبرعات مالية . في النهاية سُمِحَ لتشيندورف أن يعود بالمخطوطة إلى مدينة "ليبزج" حيث قام بإعداد نسخة فخمة منها تتكون من أربع مجلدات على نفقة القيصر. وقد ظهرت هذه النسخة في عام 1862 في الاحتفال بمرور الألفية الأولى على تأسيس الإمبراطورية الروسيَّة (23) .[*]بعد قيام الثورة الروسيّة ، أدى احتياج الحكومة الجديدة إلى المال و عدم اهتمامها بمخطوطات الكتاب المقدس إلى قيامها ببيع المخطوطة السينائية إلى المُتْحف البريطاني نظير مائة ألف جنيه استرليني؛وهي الآن جزء من المجموعة القيمة التي تمتلكها المكتبة البريطانية وهي معروضة في مكان بارز في غرفة المخطوطات بالمكتبة البريطانية .هذه كانت ،بطبيعة الحال ،واحدة فقط من مآثر تشيندورف الكثيرة في ميدان الدراسات النصيَّة (24) . في الجملة ، قام تشيندورف بنشر اثنين وعشرين نسخة من النصوص المسيحية المبكرة بالتوازي مع ثمان طبعات منفصلة من العهد الجديد اليوناني ، الطبعة الثامنة منهم ما تزال إلى الآن تمثل كنزًا دفينًا من المعلومات فيما يتعلق بتوثيق الشواهد اليونانية والمترجمة لهذه القراءة المتباينة أو تلك .إن إنتاجه كعالم يمكن تقييمه من خلال أحد المقالات الببليوغرافية (علم التعريف بالكتب والمخطوطات)التي كتبها تأييدًا له أحد العلماء يدعى "كاسبر رين جريجوري": "إن قائمة منشورات تشيندروف تملأ أسماؤها أحد عشر صفحة، كل صفحة منها مقسمة إلى ثلاث أعمدة" (25) .
تعليق