الــسلام عليكم
مـقدمـة :
يمثل موضوع العلاقة بين الدين و السياسة أهم الإشكالات التي طرحت نفسها بقوة على الساحة الفكرية و الثـقافية نتيجة الاختلاف الحاد بين مختلف مكونات التيارات الفكرية ، إذ يكفي لكل باحث أن يطلع إلى حجم الكتابات المهتمة بجدلية الدين و السياسة حتى يتبين له معنى مركزية هذا الموضوع في الخطابات السياسية و الدوائر الفكرية ، كما أن الناظر لحدة السجالات و المناظرات التي حفلت بها الكتب الفكرية على اختلاف توجهاتها المرجعية يدرك إلى أي مدى أصبح موضوع العلاقة بين الدين و السياسة يمثل أحد مظاهر التفرق الفكري بين الأطر و النخب ، فإذا كان الغرب قد انتهى به المطاف قي صراعه المرير مع رجال الدين إلى انتصار كاسح تحوَّل بموجبه الدين إلى وظيفته الروحية و اختزاله في البعد الروحي بعيدا عن قواعد التشريع المؤسساتي والنفوذ الاجتماعي فإن الأمر يختلف إلى حد كبير في العالم الإسلامي حيث شهدنا فصولا و حملات و عراك فكري عكست بوضوح حالة الفوضى في الأطر التأسيسية و غياب الوحدة المرجعية . على أنه لم تطرح جدلية تلك العلاقة بهذه الحدة في العالم الإسلامي إلا بعدما صدر كتاب (الإسلام و أصول الحكم ) للشيخ علي عبد الرازق ينتصر فيه لفصل الدين عن السياسة فجلب على كتابه ردود شديدة من مختلف الأقلام خصوصا منها ذات التوجه الإسلامي الرافضة لأية عملية إسقاطية للنموذج الغربي في تعاطـيـه مع الدين المسيحي على الدين الإسلامي بحيث قـعَّـدت أدلتها على مبدأ المفاصلة بين التاريخ الغربي و الإسلامي باعتبار وجود تمايز في نظام القيم بين الإسلام و الدين المسيحي ، كما أسست رفضها الشديد للفصل بين الدين و السياسة بناء على دراسات نقدية للظروف التاريخية و للإطار الحضاري الذي أفرز هذا الوضع الغربي السياسي في علاقته بـالدين . و لذلك وجب علينا في البدء الحديث عن الدين في العقل الغربي و تحليل التصورات و المثل التي تكونت عند النخب عبر التاريخ الغربي في ارتباطاتها بالدين بشكل عام وصولا إلى الحالة الراهنة التي عرفت تنظيم الحقل الديني عن السياسي في نظام الحكم و التدبير الاجتماعي.
الفصل الأول : الديــن
المطلب الأول : الدين في العقل الغربي المسيحي
في اعتقادي الشخصي لا نستطيع أن نفهم جدلية الدين و السياسة في الحضارة الغربية ما لم ننفذ إلى السياق التاريخي الذي تشكلت من خلاله إرهاصات عزل الدين عن نظام الدولة و مؤسساتها و ما لم نحدد موقع الدين ـ أي دين ـ في العقل الغربي بدءا من الأصول الأولى لنشأة الفكر الفلسفي (اليونان) وصولا إلى الوضع المعاصر الغربي حيث أخذ الدين بعده الروحي بعيدا عن التشريع و التدخل في قضايا المجتمع باعتبار أن النتيجة التي انتهت إليها حضارة الغرب مرتبطة بأسبابها و تاريخها الطويل في الصراع بين العقل و الدين ثم العلم و الدين.
لنسجل في البداية أنه لا توجد أي حضارة في التاريخ بلا دين و قيم و تقاليد تؤطر طقوسها و أشكال تنظيمها كما يذهب لذلك العديد من المؤرخين و دارسي النظم الحضارية مثل المؤرخ اليوناني القديم فلوتارخس و ألبرت أشفيسر في (فلسفة الحضارة ) و (قصة الحضارة ) لوول ديورانت و توينبي و غيرهم ، فلقد عرفت كل الحضارات ديانات تتحرك على هديها الشعوب ، و يقر القرآن الكريم هذه الحقيقة قائلا { وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } حيث اعتبر القرآن أن العبادة كانت المهمة المركزية لخلق آدم عبيه السلام انطلقت من عقيدة التوحيد المطلق في البدء ثم ما لبثت أن تداخلت عليها أشكال من الشرك فعبدوا الأصنام و الشمس و الكواكب و غيرها ، و يذهب ابن جرير الطبري المؤرخ أن أسماء يغوث و يعوق و نسرا في قوله تعالى } و قالوا لا تذرنا آلهتكم و لا تذرنا ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا} كانت أسماء لرجال صالحين ثم حدث مع تقادم الأزمنة أن عبدها الناس . إن الحديث عن الدين في العقل الغربي يفرض علينا بالأساس العودة إلى الفترة التي مـثَّـلت منعطفا مركزيا في التحول من التوسل بالأساطير إلى التوسل بالعقل في القرن الرابع قبل الميلاد في بلاد اليونان ، و لعنا نجزم أن ما حدث في الفكر الغربي المعاصر في نظرته إلى الدين بشكل عام أشبه إلى حد كبير بنظرة القدماء إلى الدين اليوناني المتمثل في الدين "الأورفي" الخليط حيث وجدنا عودة قوية لمثقفين إلى العقل اليوناني للإشادة به و التجديد عليه ، و بالتالي ظلت العلاقة مع الدين من جنس العلاقة مع التقاليد و ما تواضع عليه البشر، فإذا كان الدين في التقاليد اليونانية قد تعرض لحملات شرسة من طرف السفاسطة بالخصوص مستهدفين بذلك نزع الهالة القدسية ـ و هم على صواب في ذلك باعتبار الدين اليوناني مجموعة طلاسم ـ فإننا و نحن نقرأ التاريخ الحديث الغربي نجد أننا أمام مسار واحد و أمام حضارة واحدة في التعاطي مع الدين ـ كل دين ـ بحيث سيطر الفكر الـلائكي في التحليل و التفسير و اختزل الظاهرة الدينية في كونها اختلافات بشر . لا يعني هذا البتة أن الدين في العقل اليوناني لا قيمة له في المجتمع ، فالناظر لروايات و أساطير و أشعار اليونان و كذلك ـ وهو الأهم ـ في الحوارات الأفلاطونية على نزعاتها العقلية المجردة مثلا في (محاورة يوثيغورو) و (محاورة فيدون) و (دفاعا عن سقراط) و حتى في ( الجمهورية ) ، تجد حضورا واضحا للبعد الديني في اللغة الحوارية و كذلك في أوساط الناس العاديين ، غير أننا نتحدث عن العلاقة بهذا الدين أو ذاك على المستوى التنظيمي و التأطيري حيث اعتبر الدين تقاليد و طقوس و أخلاق فردية أكثر مما اعـتُـبِـر نظام حياة و برنامج سياسة في التدبير الاجتماعي . لقد كان للدين ، بغض النظر عن مكونـاته و طبيعته ، دور كبير في إشباع الحس الروحي لدى الإنسان بحيث ظل عقله مشدودا إلى عالم الرمزيات مهما بلغ به درجة التعقل و مستوى فلسفته ، فهذه اليونان رمـز التفلسف عندهم تستمـد حِـراكها من أساطير الأورفية الفيثاغورسية ، و لم يجادل في قيمتها الاجتماعية أحد إلا القلة القليلة من السفوسطائين الذين أنكروا كل شيء لا يصدقه العقل مثل غورغياس و بروتاغوراس . لذلك سيبقى الدين لغزا يصاحب الإنسان لأنه يمثل الجانب الروحي فيه ، يشهد لهذا ما نلاحظه من كثرة الدراسات و الأبحاث التي تخصصت في تحليل الأديان خاصة مع ظهور العلوم الإنسانية و الدراسات الأنتروبلوجية و الإثنوغرافية التي تبحث في الإنسان القديم و في نظام المجتمع الذي يتحرك فيه ، فوجدنا مذاهب متعددة و اديولوجيات تحاول تفسير الدين تفسيرا ينسجم مع المناهج المعتمدة في التحليل فاضطربت نتائجهم و تناقضت أبحاثهم . فخلص البعض إلى إرجاع أصل الدين إلى السحر (لفريزر) و الآخر يرجعه إلى الأسطورة (هيبر) و الآخر يعيده إلى نوع من الوحي الذاتي و الحدس بوجود اللانهائي (ماكس مولر) و الآخر إلى نظرية المادة الحية (تايلور) و الآخر إلى عبارة أرواح الموتى (هربوت اسبنسر) ... (ينظر منهاج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية.محمد محمد أمزيان ص 48 )
لقد استعرض لنا الدكتور علي سامي النشار مجمل الطروحات التي دارت حول تحليل نشأة الدين من مختلف المذاهب الفلسفية الحديثة و المعاصرة في كتابه الموسوم ب (نشأة الدين) مركز الإنماء الحضاري ط 1 1995 فما خرج إلا بخلاصة جديرة بالتأمل مفادها أنه رغم ما نجده من اختلافات حول نشأة الدين عند هؤلاء فإن المدهش حقا أن الدين مازال لم يتزعزع من وجدان البشر رغم التفاسير التطورية . إن علاقة الدين بالمجتمع ـ أي مجتمع ـ علاقة عضوية أساسية يمثل فيها الدين أحد مرتكزات الحضارة كما ذهب إلى ذلك الكاتب الأمريكي وول ديورانت في( قصة الحضارة ) و الشيخ نديم الجسر في كتابه النفيس (قصة الإيمان بين الفلسفة و العلم و القرآن) و غيرهم . فالدين سيظل في قلب الإنسان هو المجيب عن أسئلته الوجودية الكبرى رغم ما يعرفه العالم من تطور في الجانب التقني و الصناعي و الإداري و الاقتصادي و رغم التحول الكبير الذي عرفه العالم الغربي من النظم الدينية التي حكمت بنظرية الحق الإلهي إلى النظام " العلماني " القاضي بفصل الدين عن الدولة في التدبير العام ، لذلك وجدنا العديد من العلماء الغربيين الكبار المختصين في شتى ميادين البحث العلمي يصدرون كتبا مستقلــة يُــعبرون فيها عن عظمة الدين و قوته الباطنية كما ذهب إلــى ذلك العلامة القرضاوي في كتابه ( الدين في عصر العلم ) . عــلى أن وظيفة الدين تتجــاوز كونه شعورا باطنيا لــدى الفرد تجعــله يأخــذ بالكثير من القيم السلوكية التي تكون في صالح الدولــة ، لأن الدين في عمومه لا بـد و أن ينطوي على جمــلة من القواعد التنظيمية ليس فقط على مستوى علاقة الفرد بربه و إنــما أيضا على مستوى علاقات الأفـراد يبعضهم البعض ، و يكفي لكل باحث في التاريخ ما يعلـمه من أثــر الدين في المجتمعات القديمة بحيث لا يخفى دور الأديان في ضـبط حركة المجتمع و ترقيته أخلاقيا و تنظيميا ، و لـو أخذنا على سبيل المثال الكونفوشيوسية - كمذهب ديني فلسفي – و مــا أحدثـته من تأثير قوي في الأفراد يعترف بها حـتى الغربيون الذين مجدوا حضارة الغرب و جزموا باستقلاليتها عن التأثير الشرقي لوقفنا على دورها البارز في تربية المجتمع و تنظيمه حتى سياسيا لأن الفلسفة الكونفوشيوسية ذات الطابع الديني الوضعي متمــيزة جدا عن الفلسفة اليونانية ذات الطابع التجريدي الصرف ، و كذلك نجد في تاريخ الدين الهندي في القرن الرابع و الثالث قبل الميلاد نقف على الجانب الاجتماعي فيها . إذن فالتاريخ نفسه يؤكد ارتباط الأديان بالمجتمعات كما تؤكدها أيضا مضامين و قيم الأديان ذاتها و لهذا وُجِـدت . يقول المؤرخ الإغريقي فلوتارخس : ( قد وجدت في التاريخ مدنا بلا حصون و مدنا بلا قصور و مدنا بلا مدارس ، و لكن لم توجد أبدا مدنا بلا معابد ) . لــقد أكدت الدراسات الأنتروبولوجية أن المجتمعات القديمة تفاعلت فيها المكوِّن السياسي بالديني فاجتمعت الصفة الدينية بالصفة السياسية لـدى الزعماء و القيادات حيث كانت الصفة الدينية تُـخـوِّل لهم أدوار سياسية و اجتماعية .
يُــتـــبـــــــع بحول الله...
مـقدمـة :
يمثل موضوع العلاقة بين الدين و السياسة أهم الإشكالات التي طرحت نفسها بقوة على الساحة الفكرية و الثـقافية نتيجة الاختلاف الحاد بين مختلف مكونات التيارات الفكرية ، إذ يكفي لكل باحث أن يطلع إلى حجم الكتابات المهتمة بجدلية الدين و السياسة حتى يتبين له معنى مركزية هذا الموضوع في الخطابات السياسية و الدوائر الفكرية ، كما أن الناظر لحدة السجالات و المناظرات التي حفلت بها الكتب الفكرية على اختلاف توجهاتها المرجعية يدرك إلى أي مدى أصبح موضوع العلاقة بين الدين و السياسة يمثل أحد مظاهر التفرق الفكري بين الأطر و النخب ، فإذا كان الغرب قد انتهى به المطاف قي صراعه المرير مع رجال الدين إلى انتصار كاسح تحوَّل بموجبه الدين إلى وظيفته الروحية و اختزاله في البعد الروحي بعيدا عن قواعد التشريع المؤسساتي والنفوذ الاجتماعي فإن الأمر يختلف إلى حد كبير في العالم الإسلامي حيث شهدنا فصولا و حملات و عراك فكري عكست بوضوح حالة الفوضى في الأطر التأسيسية و غياب الوحدة المرجعية . على أنه لم تطرح جدلية تلك العلاقة بهذه الحدة في العالم الإسلامي إلا بعدما صدر كتاب (الإسلام و أصول الحكم ) للشيخ علي عبد الرازق ينتصر فيه لفصل الدين عن السياسة فجلب على كتابه ردود شديدة من مختلف الأقلام خصوصا منها ذات التوجه الإسلامي الرافضة لأية عملية إسقاطية للنموذج الغربي في تعاطـيـه مع الدين المسيحي على الدين الإسلامي بحيث قـعَّـدت أدلتها على مبدأ المفاصلة بين التاريخ الغربي و الإسلامي باعتبار وجود تمايز في نظام القيم بين الإسلام و الدين المسيحي ، كما أسست رفضها الشديد للفصل بين الدين و السياسة بناء على دراسات نقدية للظروف التاريخية و للإطار الحضاري الذي أفرز هذا الوضع الغربي السياسي في علاقته بـالدين . و لذلك وجب علينا في البدء الحديث عن الدين في العقل الغربي و تحليل التصورات و المثل التي تكونت عند النخب عبر التاريخ الغربي في ارتباطاتها بالدين بشكل عام وصولا إلى الحالة الراهنة التي عرفت تنظيم الحقل الديني عن السياسي في نظام الحكم و التدبير الاجتماعي.
الفصل الأول : الديــن
المطلب الأول : الدين في العقل الغربي المسيحي
في اعتقادي الشخصي لا نستطيع أن نفهم جدلية الدين و السياسة في الحضارة الغربية ما لم ننفذ إلى السياق التاريخي الذي تشكلت من خلاله إرهاصات عزل الدين عن نظام الدولة و مؤسساتها و ما لم نحدد موقع الدين ـ أي دين ـ في العقل الغربي بدءا من الأصول الأولى لنشأة الفكر الفلسفي (اليونان) وصولا إلى الوضع المعاصر الغربي حيث أخذ الدين بعده الروحي بعيدا عن التشريع و التدخل في قضايا المجتمع باعتبار أن النتيجة التي انتهت إليها حضارة الغرب مرتبطة بأسبابها و تاريخها الطويل في الصراع بين العقل و الدين ثم العلم و الدين.
لنسجل في البداية أنه لا توجد أي حضارة في التاريخ بلا دين و قيم و تقاليد تؤطر طقوسها و أشكال تنظيمها كما يذهب لذلك العديد من المؤرخين و دارسي النظم الحضارية مثل المؤرخ اليوناني القديم فلوتارخس و ألبرت أشفيسر في (فلسفة الحضارة ) و (قصة الحضارة ) لوول ديورانت و توينبي و غيرهم ، فلقد عرفت كل الحضارات ديانات تتحرك على هديها الشعوب ، و يقر القرآن الكريم هذه الحقيقة قائلا { وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } حيث اعتبر القرآن أن العبادة كانت المهمة المركزية لخلق آدم عبيه السلام انطلقت من عقيدة التوحيد المطلق في البدء ثم ما لبثت أن تداخلت عليها أشكال من الشرك فعبدوا الأصنام و الشمس و الكواكب و غيرها ، و يذهب ابن جرير الطبري المؤرخ أن أسماء يغوث و يعوق و نسرا في قوله تعالى } و قالوا لا تذرنا آلهتكم و لا تذرنا ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا} كانت أسماء لرجال صالحين ثم حدث مع تقادم الأزمنة أن عبدها الناس . إن الحديث عن الدين في العقل الغربي يفرض علينا بالأساس العودة إلى الفترة التي مـثَّـلت منعطفا مركزيا في التحول من التوسل بالأساطير إلى التوسل بالعقل في القرن الرابع قبل الميلاد في بلاد اليونان ، و لعنا نجزم أن ما حدث في الفكر الغربي المعاصر في نظرته إلى الدين بشكل عام أشبه إلى حد كبير بنظرة القدماء إلى الدين اليوناني المتمثل في الدين "الأورفي" الخليط حيث وجدنا عودة قوية لمثقفين إلى العقل اليوناني للإشادة به و التجديد عليه ، و بالتالي ظلت العلاقة مع الدين من جنس العلاقة مع التقاليد و ما تواضع عليه البشر، فإذا كان الدين في التقاليد اليونانية قد تعرض لحملات شرسة من طرف السفاسطة بالخصوص مستهدفين بذلك نزع الهالة القدسية ـ و هم على صواب في ذلك باعتبار الدين اليوناني مجموعة طلاسم ـ فإننا و نحن نقرأ التاريخ الحديث الغربي نجد أننا أمام مسار واحد و أمام حضارة واحدة في التعاطي مع الدين ـ كل دين ـ بحيث سيطر الفكر الـلائكي في التحليل و التفسير و اختزل الظاهرة الدينية في كونها اختلافات بشر . لا يعني هذا البتة أن الدين في العقل اليوناني لا قيمة له في المجتمع ، فالناظر لروايات و أساطير و أشعار اليونان و كذلك ـ وهو الأهم ـ في الحوارات الأفلاطونية على نزعاتها العقلية المجردة مثلا في (محاورة يوثيغورو) و (محاورة فيدون) و (دفاعا عن سقراط) و حتى في ( الجمهورية ) ، تجد حضورا واضحا للبعد الديني في اللغة الحوارية و كذلك في أوساط الناس العاديين ، غير أننا نتحدث عن العلاقة بهذا الدين أو ذاك على المستوى التنظيمي و التأطيري حيث اعتبر الدين تقاليد و طقوس و أخلاق فردية أكثر مما اعـتُـبِـر نظام حياة و برنامج سياسة في التدبير الاجتماعي . لقد كان للدين ، بغض النظر عن مكونـاته و طبيعته ، دور كبير في إشباع الحس الروحي لدى الإنسان بحيث ظل عقله مشدودا إلى عالم الرمزيات مهما بلغ به درجة التعقل و مستوى فلسفته ، فهذه اليونان رمـز التفلسف عندهم تستمـد حِـراكها من أساطير الأورفية الفيثاغورسية ، و لم يجادل في قيمتها الاجتماعية أحد إلا القلة القليلة من السفوسطائين الذين أنكروا كل شيء لا يصدقه العقل مثل غورغياس و بروتاغوراس . لذلك سيبقى الدين لغزا يصاحب الإنسان لأنه يمثل الجانب الروحي فيه ، يشهد لهذا ما نلاحظه من كثرة الدراسات و الأبحاث التي تخصصت في تحليل الأديان خاصة مع ظهور العلوم الإنسانية و الدراسات الأنتروبلوجية و الإثنوغرافية التي تبحث في الإنسان القديم و في نظام المجتمع الذي يتحرك فيه ، فوجدنا مذاهب متعددة و اديولوجيات تحاول تفسير الدين تفسيرا ينسجم مع المناهج المعتمدة في التحليل فاضطربت نتائجهم و تناقضت أبحاثهم . فخلص البعض إلى إرجاع أصل الدين إلى السحر (لفريزر) و الآخر يرجعه إلى الأسطورة (هيبر) و الآخر يعيده إلى نوع من الوحي الذاتي و الحدس بوجود اللانهائي (ماكس مولر) و الآخر إلى نظرية المادة الحية (تايلور) و الآخر إلى عبارة أرواح الموتى (هربوت اسبنسر) ... (ينظر منهاج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية.محمد محمد أمزيان ص 48 )
لقد استعرض لنا الدكتور علي سامي النشار مجمل الطروحات التي دارت حول تحليل نشأة الدين من مختلف المذاهب الفلسفية الحديثة و المعاصرة في كتابه الموسوم ب (نشأة الدين) مركز الإنماء الحضاري ط 1 1995 فما خرج إلا بخلاصة جديرة بالتأمل مفادها أنه رغم ما نجده من اختلافات حول نشأة الدين عند هؤلاء فإن المدهش حقا أن الدين مازال لم يتزعزع من وجدان البشر رغم التفاسير التطورية . إن علاقة الدين بالمجتمع ـ أي مجتمع ـ علاقة عضوية أساسية يمثل فيها الدين أحد مرتكزات الحضارة كما ذهب إلى ذلك الكاتب الأمريكي وول ديورانت في( قصة الحضارة ) و الشيخ نديم الجسر في كتابه النفيس (قصة الإيمان بين الفلسفة و العلم و القرآن) و غيرهم . فالدين سيظل في قلب الإنسان هو المجيب عن أسئلته الوجودية الكبرى رغم ما يعرفه العالم من تطور في الجانب التقني و الصناعي و الإداري و الاقتصادي و رغم التحول الكبير الذي عرفه العالم الغربي من النظم الدينية التي حكمت بنظرية الحق الإلهي إلى النظام " العلماني " القاضي بفصل الدين عن الدولة في التدبير العام ، لذلك وجدنا العديد من العلماء الغربيين الكبار المختصين في شتى ميادين البحث العلمي يصدرون كتبا مستقلــة يُــعبرون فيها عن عظمة الدين و قوته الباطنية كما ذهب إلــى ذلك العلامة القرضاوي في كتابه ( الدين في عصر العلم ) . عــلى أن وظيفة الدين تتجــاوز كونه شعورا باطنيا لــدى الفرد تجعــله يأخــذ بالكثير من القيم السلوكية التي تكون في صالح الدولــة ، لأن الدين في عمومه لا بـد و أن ينطوي على جمــلة من القواعد التنظيمية ليس فقط على مستوى علاقة الفرد بربه و إنــما أيضا على مستوى علاقات الأفـراد يبعضهم البعض ، و يكفي لكل باحث في التاريخ ما يعلـمه من أثــر الدين في المجتمعات القديمة بحيث لا يخفى دور الأديان في ضـبط حركة المجتمع و ترقيته أخلاقيا و تنظيميا ، و لـو أخذنا على سبيل المثال الكونفوشيوسية - كمذهب ديني فلسفي – و مــا أحدثـته من تأثير قوي في الأفراد يعترف بها حـتى الغربيون الذين مجدوا حضارة الغرب و جزموا باستقلاليتها عن التأثير الشرقي لوقفنا على دورها البارز في تربية المجتمع و تنظيمه حتى سياسيا لأن الفلسفة الكونفوشيوسية ذات الطابع الديني الوضعي متمــيزة جدا عن الفلسفة اليونانية ذات الطابع التجريدي الصرف ، و كذلك نجد في تاريخ الدين الهندي في القرن الرابع و الثالث قبل الميلاد نقف على الجانب الاجتماعي فيها . إذن فالتاريخ نفسه يؤكد ارتباط الأديان بالمجتمعات كما تؤكدها أيضا مضامين و قيم الأديان ذاتها و لهذا وُجِـدت . يقول المؤرخ الإغريقي فلوتارخس : ( قد وجدت في التاريخ مدنا بلا حصون و مدنا بلا قصور و مدنا بلا مدارس ، و لكن لم توجد أبدا مدنا بلا معابد ) . لــقد أكدت الدراسات الأنتروبولوجية أن المجتمعات القديمة تفاعلت فيها المكوِّن السياسي بالديني فاجتمعت الصفة الدينية بالصفة السياسية لـدى الزعماء و القيادات حيث كانت الصفة الدينية تُـخـوِّل لهم أدوار سياسية و اجتماعية .
يُــتـــبـــــــع بحول الله...
تعليق