تأويل الأحاديث
كما
تبينة سورة يوسف
( عليه السلام )
تلمس هذه السورة نوعا آخر من الظلم ، فقد كان الظلم في سورة يونس وهود ظلم الطغاة الكافرين للمستضعفين من المؤمنين ، أما هنا فالظلم يظهر في الأسرة بين الإخوة ، وفي المجتمع من البطانة الحاكمة . كما
تبينة سورة يوسف
( عليه السلام )
ويظهر الظلم في الأسرة بين الإخوة غير الأشقاء ، وحسد بعضهم لبعض بدعوى تفضيل الأب لأحدهم . فتتفاعل في داخل النفس مشاعر الغيرة ، ويتولد عنها عناصر السخط ، التي قد تصل إلي الجريمة . وهذا هو الواقع الذى نشأ فيه يوسف عليه السلام في حضن أسرته بالشام . حيث يحدثنا القرآن الكريم عن إخوته غير الأشقاء فى قوله تعالى :
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)
ويفحش الظلم من الأسرة إلي المجتمع ، حين تطلب امرأة العزيز من يوسف أن يرتكب الفحشاء . وفي ذلك ظلم أيما ظلم لأوامر الله تعالي التي تنهي عن الزنا وتمقته . وظلم من العزيز بإغضائه عن عرضه وإبقائه للاختلاط رغم إصرار زوجته ، ثم أخيرا بإلقاء يوسف في السجن رغم براءته وحفاظه علي عرضه . وهنا يظهر دور خطير للمرأة حيث الأزواج الكبار في شغل عن زوجاتهم ، ويشيع كيد النساء . وحيث يسود المجتمع لون من التسيب الأخلاقي والتساهل الجنسي ، والاختلاط المكشوف .
وتتجاوز السلطة عن العدل لتحمي مكاسبها غير الشرعية ومخازيها غير الشريفة ، فيطغي الملأ من مراكز القوة بالسلطان ، وهنا يفتح باب السجن لتكميم الأفواه وتقييد الحريات وستر العورات . وهذا ما كان عليه حال المجتمع الذى تربي فيه يوسف عليه السلام وبلغ أشده .
وهنا تتفشي في الأسرة والمجتمع الدسائس والمؤامرات ، ويسرى بين الناس المكايد والمكر . وهذا الكيد رأيناه ليوسف : من إخوته حسدا ، ومن امرأة العزيز فجورا ، ومن الملأ من أكـابر الدولة طغيانا .
الأساس العقيدى
من زاد التوكل علي الله يستعين المؤمن بالصبر علي الابتلاء . والصبر هنا له مواصفات خاصة ، فهو في سورة يوسف صبر جميل . يقول تعالي :
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(83)
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له .[1]
ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر.[2]
والصبر قد يكون جميلا وقد يكون غير جميل ، فالصبر الجميل هو التسليم لله تعالي والرضا بما قضي ، واليقين بأن ذلك لحكمة أرادها تعالي ، وأن يستعين بالله علي التحمل ، فلا شكوى ولاضجر ، وإنما دعاء لله تعالي أن يكشف البلاء .
" والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لاصبر له ، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له . والصبر علي ثلاثة أنواع : صبر بالله ، وصبر لله ، وصبر مع الله .
فالأول : الاستعانة به ، ورؤيته أنه هو المصبّر ، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه .
والثاني : الصبر لله ، وهو أن يكون الباعث له علي الصبر محبة الله ، وإرادة وجهه ، والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس ، والاستحمد إلي الخلق .
والثالث : الصبر مع الله ، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ، ومع أحكامه الدينية ، صابرا نفسه معها ، سارا بسرها ، مقيما بإقامتها ، يتوجه معها أين توجهت ركائبها ، وينزل معها أين استقلت مضاربها ."[3]
" واعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال ، وذلك أن جميع ما يلقي العبد في الدنيا علي ضربين :
1- ما يوافق هواه من الصحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العششيرة والأتباع ، وجميع ملاذ الدنيا ، فالعبد محاج إلي الصبر في جميع هذه الأمور . فلا يكن إليها ، ولاينهمك في التلذذ بها ، ويراعي حق الله تعالي في ماله بالإنفاق ، وفي بدنه بالمعونة الحق … فالرجل كل الرجل من يصبر علي العافية ..
2- ما يخالف هواه ، وهو علي ثلاثة أقسام :
أ- الطاعات ، فيحتاج العبد إلي الصبر عليها ، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية .. ثم من اللعبادات ما يكره بسبب الكسب كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ، ومنها ما يكره بسببهما جميعا كالحج والجهاد .
ب – الصبر علي المعاصي ..
ج – ما لايدخل تحت الاختيار كالمصائب .. وقريب منه الصبر علي أذى الناس ."[4]
قال مجاهد : فصبر جميل ، أى من غير جزع ، وقال الثورى : من الصبر أن لاتحدث بوجهك ولا بمصيبتك ولاتزكي نفسك .
" والشكوى إلي الله عز وجل لا تنافي الصبر ، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل ، والنبي إذا وعد لايخلف ، ثم قال : .. وإنما ينافي الصبر شكوى الله ، لا الشكوى إلي الله ."[5]
والصبر علي قضاء الله واجب ، فأما الصبر علي ظلم الظالمين ، ومكر الماكرين ، فغير واجب . بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلي الغير."[6]
وكان مقام الرجاء في سورة يوسف عليه السلام ظاهرا في نفس يعقوب عليه السلام حين قال لأولاده في القرآن الكريم :
* يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87)
بينما كان اليأس غالبا علي طبع إخوة يوسف . يقول تعالي ؟ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِياً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ ومِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ (80)
ويبين تعالي في ختام السورة قانونه الذى لا يتغير : حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ (110) ل
وتردد في سورة يوسف :
والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون*
ذلك من فضل الله علينا وعلي الناس ولكن أكثر الناس لايشكرون *
وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لايعلمون *
اذا اعتمد الإنسان علي الكثرة في المال أو الولد أو النفر فقد اعتمد علي غير الله . ويلاحظ أن أكثر الناس إما واحد من كثرة أو قائد لكثرة . ولو وضع الناس والدنيا كلها في كفة وكان الله مع عبد له واحد في كفة لرجحت كفته .
ترى ذلك علي مدار القصة ، فالأخوة الذين أجمعوا ومكروا لإبعاد أخيهم ، كان قوتهم من بين يديه أوفي لهم الكليل وتصدق عليهم وكان لهم خير المنزلين . ودخلوا في طاعته ساجدين وقد أتاه الله الملك والسلطان .
وقد كان من أواخر دعاء يوسف عليه السلام :أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين * سيرا علي ملة إبراهيم الذى وصي : يابني إن الله اصطفي لكم الدين فلاتموتن إلا وأنتم مسلمون * وكان دعاؤه : رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين *
لقد جاء الفعل يئس وتراكيبه ثلاث عشرة مرة في القرآن ، منهاأربعة في سورة يوسف وحدها ، ومن الأربعة اثنتان لم تردا في غير سورة يوسف وهما الفعل استيأس .
واليأس هو الظن بأن شيئا نافعا لن يحدث أو لن يصل الإنسان إليه ، وهو يأس من روح الله أو يأس من رحمة الله .
أما الاستيئاس فهو شكل آخر تماما. فمع عدم اليأس من روح الله أو من رحمة الله ، فإننا قد نواجه بحقيقة لامجال لتغييرها أو ليس في الوسع تغييرها الآن . فعندئذ نسلم الأمر الله .
عبرة التاريخ
وتقدم هنا سورة يوسف العبرة في قصة حقيقية واقعية ، تتحدث عن مسيرة الإسلام عبر التاريخ حديث صدق ، تبين تصديق الرسل والكتب لبعضها في موضوعها ووسائلها وغاياتها . وفي تمييز الخير من الشر والحلال من الحرام والهدى من الضلال ، في منارات يهتدى بها العباد فتعمهم رحمة الله . وهنا ليس المقصود من سرد القصة إثبات وقائع تاريخية تكتب تفصيلاتها ، ولاحقائق جغرافية عن بلد يعقوب ومنزل يوسف عليهما السلام ، وليس مجرد البحث عن الحبكة الفنية والدراسة الأدبية لها كفصة ، فهذه أمور ظنية ومتشعبة وتختلف فيه الآراء ولاتقصد السورة أساسا إليها ، إنما المقصود بالتفسير هنا أخذ الحكمة من أحداثها بالتعرف علي قدر الله،وأخذ العبرة من نتائجها ، والاهتداء بحقائقها في طاعة الله . وهذا هو الذى يميز قصص القرآن عن غيره من القصص في كل الكتب.
" وأفردت هذه السورة على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أنهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم الصلاة والسلام وكيفية تلقى قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم ، أما هذه القصة لحاصلها فرج بعد شدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فأنه تعالى امتحن يعقوب عليه الصلاة والسلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه ، وامتحن يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب والبيع وامرأة العزيز ، وفقد الأب والأخوة والسجن ، ثم امتحن جميعهم بشمول الضر وقلة ذات اليد .. ثم تداركهم
بالفهم وجمع الشمل ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزغ به الشيطان وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد من كاده ، واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك والنبوة ، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر وجلالة اليقين فى حسن تلقى الأقدار بالتفويض والتسليم على توالى الامتحان وطول المدة ، ثم انجر فى هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر ، فقد انفردت هذه القصة بنفسها ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام وما جرى فى أممهم ، فلهذا فصلت عنهم ، وقد أشار فى سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم ليتنبه المؤمنون على ما فى طي ذلك .
وكما بدأت السورة بالرؤيا ، فقد ختمت بتأويلها . وقد جاء في البداية بعد ذكر القرآن آية : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.
وفي نهاية السورة يقول تعالي : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)
إنه نفس حديث الصحيح من الكتب السالفة التي أنزلت علي المرسلين ، فيه تفصيل لكل مايحتاجه البشر من الهداية للسير علي الصراط المستقيم، من بيان عن المبدأ والمعاد ، وذكر للحلال والحرام ، والمستحب والمكروه ، ومعرفة الرب سبحانه وتعالي بآلائه وأسمائه ، ووصف الآخرة في نعيمها وعذابها . وبذلك يخرج من آمن به من الضلال إلي الهدى ، وينجيهم من العذاب ويحيطهم برحمته وعنايته.
ومن المعلوم أن المقصود من القصص ليس التسلية ، فهو أحسن القصص حيث المقصود منه العبرة والهداية ، ومن هنا تفتتح السورة بقوله تعالي:نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وتختم بقوله تعالي : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)
"والاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلي ماليس بمشاهد . والمراد منه التأمل والتفكير . ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذى قدر علي إأخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه ، وأخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية ، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة ، واليأس من الاجتماع قادر علي إعزاز محمد صلي الله عليه وسلم وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه . وإن الإخبار بهذه القصة إخبار عن الغيوب وحاصلها الفرج بعد الشدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فإنه تعالي امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره ، وشتات بنيه ، وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والأخوة والسجن ، وامتحن الكل بالشدة والضر ، ثم تداركهم الله بالفهم ، وجمع شملهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ، ورفع مانزغ به الشيطان ، وخلاص يوسف عليه السلام ، ثم استخلاص العزيز إياه .
ويدل ذلك علي أمور:
أ- أن القصص القرآنى أحسن القصص ...وكيف لايكون أحسن القصص وقصة زليخا مع يوسف عليه السلام توجه كل نفس إلي كل طهر وقدس . بما ضرب الله سبحانه من المثل في جهاد الصديق مع نفسه . وفي مقاومته لبنات جنسها ..
وهذه السورة نفسها تصوره سجينا في الحق بعد أن ألقي في غيابة السجن . وانتهي به صبره وطهارته إلي رسالة سامية وملك عريض . عفا فيه عن كل من أرده ب . وأحسن فيه إلي كل مسئ حاسد حقود . وكان شعاره مع الجميع ..:لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم .
ب-هذا القصص كغيره من القصص القرآني عبرة لأولي الألباب . واستصلاح لذوى النفوس الكريمة دون النفوس الغادرة اللئيمة . وجدير به أن يكون عبرة لأولي الألباب وقد قلب أوضاع العرب ، وأحدث فيهم ثورة علي كل الرعونات ، وعدولا عن الحماقات والانحرافات .
ح- ليس حديثا مفترى ... لأنه حق لايتطرق إليه الريب . فليس تخيلات ولاخرافات .
د- هذا الحديث تصديق الذى بين يديه من كتب الله السماويةالتي لم تصل إليها يد البشر بالتحريف والتعديل . والتي لاتختلف بعضها عن بعض فيما تورده من هداية إلا بما تختلف به في بعض الأحكام لاختلاف الظروف والملابسات مسايرة لمصالح الناس ...."[7]
هـ- وأيضا تفصيل كل مايحتاج إليه العباد من بيان أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
و- وهدى ورحمة : رشاد من جهل سبيل الحق ورحمة لمن آمن به وعمل به ،. لقوم يصدقون بالقرآن وبما فيه من وعد ووعيد وأمر ونهي .
والعبر المستخلصة من قصة يوسف عليه السلا م يمكن إيجازها فيما يلي :
1-عاقبة الحسد الخذلان :
ملأ الحسد قلوب إخوة يوسف ،ف قالوا لابد من تبعيد يوسف عن أبيه ، وذلك لايحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التغريب إلي أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ، ولاوجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك .
ثم ذكروا العلة : أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة ... ثم إنهم علموا أن ذلك الذى عزموا عليه من الكبائر فقالوا : إذا فعلنا ذلك تبنا إلي الله ونصير من القوم الصالحين ....
وفي النهاية لما مكن الله ليوسف بتقواه وصبره ، وأحوج إليه إخوته ،حكي القرآن خذلانهم في قوله تعالي: قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وإن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91
قال بعض الحكماء : إياكم والحسد ، فإن الحسد أول ذنب عصي الله تعالي به في السماء، وأول ذنب عصي الله تعالي به في الأرض . فأول ذنب عصي الله تعالي به في السماء كان من إبليس حسد آدم فأبي أن يسجد فلعنه الله تعالي. وأما الذى عصي الله تعالي به في الأرض ، فهو قابيل بن آدم حين قتل أخاه هابيل حسد لما تقبل قربان آخيه ولم يتقبل منه ...
وعن رسول الله صلي الله عليه وسلم:
(لاحسد إلا في اثنتين : رجل علمه الله القرآن ، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ماأوتي فلان ، فعملت مثل مايعمل ، ورجل أتاه الله مالا ، فهو يهلكه في الحق ، فقال رجل : ليتني أوتيت مثل ماأوتي فلان ، فعملت مثل مايعمل."[8]
2-العفة :
السورة حين قصت علينا المحنة التي مر بها الشاب الورع يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز ، تعطي الدرس لكل شاب ليستعف عن محارم الله حين يرى موقف يوسف عليه السلام رغم ضعفه ، واستعاذته رغم عدم إحصانه بالله تعالي مما تدعوه المرأة إليه من فاحشة ، وهو عبد مملوك لايملك أن يواجه هذه القوة دون أذى ، ومراقبته لله تعالي في تلك الخلوة التي فرضت عليه فرضا . ولم يكن يوسف عليه السلام هدفا لإغراء امرأة العزيز وحدها بل صار هدفا لإغراء نسوة المدينة حين ذاعت القصة ، حتي جأر يوسف بالدعاء إلي الله خوفا من أن يصب إليهن ، حتي ولو كان دخول السجن سببا لصرف هذا الخطر عنه .
يقول تعالي: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(19)وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(20)وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِوَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(21)
3-الصالح العام :
من العبر المستخلصة من السورة أن يوسف عليه السلام قدم المصلحة العامة علي مصلحته الخهاص ، وتفع عن جرو ح الظلم والغبن التي حلت به رعاية لمصلحة الأمة . فأجاب الرسول مباشرة وأعطاه دون تردد حل الأزم ة التي أوشكت أن تحيق بالأمة .
أما عندما دعاه الملك إلي معيته تكريما له ، هنا طلب تبرئته من التهمة البشعة التي ألصقت به أولا وقبل أى تكريم ، وهي عزة نفس المؤمن ، وحرصه علي نقاء ذكراه قبل الجاه والمال ، يقول تعالي: وقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ (52)
4- الأمانة والتمكين :
لايسنطيع العامل أن يقوم بعمله مالم يعط صلاحيات للقيام به . وأولي هذه الصلاحيات إعطائه القدرة علي اتخاذ القرار ، ثم استئمانه علي مايقوم به من مهام . وأى اهتزاز لصفة من ذلك تعوق استخدام العامل لإمكانياته ، وتحكم علي النتائج بالقصور والفشل . وهذه الصلاحيات يجمعها قول الله تعالي علي لسان الملك ليوسف عليه السلام : إنك اليوم لدينا مكين أمين . هذا بالنسبة لرب العمل ، أما بالنسبة للعامل فلابد أن يتحلي بصفات تؤهله لعمله لخصها الحق تبارك وتعالي في قول يوسف عليه السلام : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55). بمعني أن يكون العامل قادرا علي تخزين الأشياء والمعلومات واستدعائها ، وترتيبها ، ثم يكون له من القدرة علي التعرف عليها وتحليلها والتنبؤ بها .
" ولابد في كونه مكينا من القدرة والعلم . أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة . وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير لايحصل إلا به ، إذ لو لم يكن عالما بما ينبغي وبما لاينبغي لايمكنة تخصيص ماينبغي بالفعل ، وتحصيص مالاينبغي بالترك ، فثبت أن كونه مكينا لايحصل إلا بالقدرة والعلم .
أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لايفعل لداعي الشهوة ، بل إنا يفعله لداعي الحكمة ،
فثبت أن كونه مكينا أمينا يقال علي كونه قادرا ، وعلي كونه عالما بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد ، وعلي كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لالداعية الشهوة وكل من كان كذلك فإنه لايصدر منه فعل الشر والسفه ...
ويكون العامل حفيظا بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال ، وعليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها . وحفيظ بجميع مصالح الناس ، عليم بجهات حاجاته . "[9]
ومن هنا كان واجب ولي الأمر أن يستوثق من علم وخبرة من يقلده أمرا من الأمور أو يحمله مسؤولية من المسئوليات وأن يراعي الله في اختيار موظفيه ، وأن يضع الأمانة والعلم والخبرة والصدق وحسن السيرة والسلوك وبراءة الذمة من كل مايشين الإنسان . عليه أن يضع كل ذلك نصب عينيه حين اختيار المرشحين للعمل قبل تعيينهم ، فيستعين بأهل العلم والخبرة والعدل لابأهل اللوع والنفاق وخراب الذمة .
يقول تعالي: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(54)قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(56)وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(57)
5- العفو والمغفرة :
من عبر السورة أن يتخلق المؤمن بالعفو وأن يرتفع عن الحقد وتصفية الحسابات حين يحدثنا القرآن عنه بعد مواجهة إخوته بما فعلوه فيقول . قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)
موضوع السورة
وكما علم سبحانه وتعالي آدم الأسماء كلها ، وعلم داود صنعة لبوس ، وعلم سليمان منطق الطير ، وآتي واحدا من ملئه علم الكتاب ، علم يوسف من تأويل الأحاديث . وقد وردت عبارة تأويل الأحاديث .
يقول القرطبي : تأويل الأحاديث : أى أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد ، فهو إشارة إلي النبوة . [10]
ويقول الرازى:" تأويل الأحاديث : علي وجوه :-
1- المراد منه تعبير الرؤيا ، سماه تأويلا لأنه يئول أمره إلي مارآه في المنام ، يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم . . قالوا : إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية .
2- تأويل الأحاديث في كتب الله تعالي والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين ، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله ، وتأويل الأحاديث المروية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم .
3- الأحاديث جمع حديث ، والحديث هو الحادث ، وتأويلها مآلها ، ومآل الحوادث إلي قدرة الله تعالي وتكوينه وحكمته [11].
1- علم الكتاب
ورث يوسف عليه السلام من آبائه يعقوب وإسحق وإبراهيم علم تأويل الكتاب ، وقد وصله دون شك صحف إبراهيم . يقول تعالي علي لسان يعقوب عليه السلام : وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فمن معاني تأويل الأحاديث : معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء ، وماغمض واشتبه علي الناس من أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم علي مواضع أحكامها . والدليل علي ذلك أن الله يتم نعمته بها ، والنعمة هي نعمة النبوة ، ومن موجباتها العلم بتأويل الكتب والسنن الإلهية .
يتضح هذا من انتهاز يوسف عليه السلام الفرصة في السجن للدعوة إلي الله . يقول تعالي علي لسان يوسف عليه السلام : قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكـْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وعَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يَا
2- تأويل الأحاديث
إن من نعم الله تعالي علي الإنسان هو ما أوهبه من قدرة علي التفكير ، يستطيع بها أن يكتشف كثيررا من أسرار الكون والحياة . فعن طريق ربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات يعرف القوانين ويستنتج الأحداث . وهذه القدرة تمكنه إلي حد كبير من حل كثير من المشاكل والتحكم في كثير من الظواهر وعلاج كثير من السلبيات ووضع الخطط للمستقبليات .
وهذه القدرات العقلية تعتمد علي العناصر التارية :
1- هبة فطرية تهيئه للقدرة علي تأويل الأحاديث .
2- قدرة كسبية تصقل هذه الفطرة وتستثمرها .
3- توفيق من الله يفتح للعقل أسرار الكون والحياة .
وعلم تأويل الأحاديث أوسع بكثير من تفسير الأحلام . فإذا كانت الأحلام رؤى ، فإن الأحاديث في اليقظة واقع . والواقع ينبؤك بأكثر من الرؤى بكثير . والإنباء لغة هو ما لا يعرفة الإنسان من أمر يخفي عنه . وتحصل المعرفة عن طريق علم الغيب ، وهو من خاصة علوم الله ، ولامجال لأحد فيه، أو من علم التأويل وهو ماتدور عنه آيات سورة يوسف . والفكرة فيه أن أمور الكون تدار وفق نظام دقيق ومسارات مرسومة ، فإن أحطت نفسك بما يدور في مسألة معينة بشكل كاف ، فربما تتمكن من أن تتقدم في هذه المسألة خطوة إلي الأمام فتقول عما سوف يدور . وهو علم نستخدمه كثيرا في حياتنا ، إلا أننا لم نتفق بعد علي تعريفه وعلي مضمونه وعلي سبل اكتسابه . فنحن نتكلم عن التنبؤات الجوية ، والتنبؤات الاقتصادية ، والسياسية والاجتماعية ، وذلك عن طريق الإحاطة الشاملة للمتغيرات عبر سلسلة زمنية . ثم نقول عند كل فعل إننا نتنبأ بأن يكون رد الفعل هو كذا وكذا . ويكمن النجاح في ترتيب الأحداث السابقة بحيث نحصي مابين الفعل ورد الفعل من ارتباط ، وفي الحساب الدقيق لجميع المتغيرات ، وفي الرؤية النافذة ، وذلك كله لأخذ الفعل خطوة إلي الأمام .
ولمجرد المقارنة ، فإننا نستطيع أن نقول بإحكام بالغ متي يبزغ القمر ، ومن أى اتجاه ، وكيف يكون منزله ، وكيف يكون مساره ، ومتي يكون أفوله . ونحن نستطيع أن نقول ذلك لأن للقمر مسارا ثابتا ، وأننا تتبعناه آلاف وآلاف المرات حتي تيقنا من ذلك المسار تماما ، بحيث إننا نستطيع أن نحكي عن حاضره وعن مستقبله ، بدون أن يكون لذلك دخل بعلم الغيب ."[12]
كان ذلك واضحا في حل الأزمة الاقتصادية في مصر ،علي يد يوسف عليه السلام ، حيث سيعتمد يوسف عليه السلام علي علمين: تعبير الرؤية و تأويل الأحاديث .
يقول تعالي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
" والتخطيط الجيد هو ذلك التخطيط الذى يهدف لصالح الدولة في الوقت الذى تنعكس آثاره الطيبة علي المجتمع كله دون استثناء ، والتخطيط المعتمد كل الاعتماد علي المعلومات والبيانات الصادقة عن الإمكانات المتاحة للتنبؤ المسستقبلي ، مرحلي أو غير مرحلي ، طويل الأمد أو قصير . كما أن نجاح الخطة متوقف علي وضوح الهدف ومعرفة الصعوبات والمشاكل . فوضوح الهدف يسهل الوصول إليه ومعرفة المشكلة تشكل نصف حلها...
وعليه فإن هذه السورة تنبئ عن المشكلة ألا وهي سنوات القحط ، وتقدم الإمكانات المتاحة في سنوات النماء والخير ، وتنوه إلي الوسيلة وهي الجد والادخار ، وترشد إلي الهدف وهو تخطي الأزمة الاقتصادية . أما مصادر هذه المعلومات والبيانات فأصدق المصادر ، كيف لا ، وقد صدرت عن العليم الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. حين ألهم ملك مصر مناما في رؤياه ، رمزا وتلميحا ، لاتصريحا ، ليكون منهج الله الذى ألهم به يوسف عليه السلام ، وليتم نعمته كما أتمها علي أبويه من قبل ."[13]
وتجلت عبقريته عليه السلام في معالجة المشكلة الاقتصادية التي أصابت مصر . فمن جهة قاده علمه وتدبيره أن يخطط للاستثمار الدائب في سني الرخاء ، وأن ينظم الادخار الضرورى من سني الرخاء لسني الشدة والأزمة ، وأن يراقب الاستهلاك الرشيد في السبع السنين العجاف . وهذه السياسات الاقتصادية ، هي الأهداف الرئيسية لأى خطة لمواجهة الأزمات والكساد في أى دولة متقدمة .
3- تأويل الرؤيا
لقد شغلت الرؤيا موقعا هاما في السورة في أولها ووسطها وآخرها ، وكانت هي مفتاح التغيرات الكبيرة في حياة يوسف عليه السلام .
أيد الله يوسف عليه السلام بمعجزة تأويل الرؤيا ، بدأت بها السورة وانتهت بها ا . فان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤى ، وكان ذلك هو معجزة يوسف عليه السلام التي يتحدى بها المعاندين في مواجهة عصره الذى يهتم بهذا النوع من التفكير .
كان ذلك في رؤياه أولا لأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين .
يقول تعالي: إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
وفي وسط السورة تأويل رؤيا صاحبي السجن الذى سقي أحدهما ربه خمرا والآخر الذى أكلت الطير من خبز يحمله علي رأسه .
يقول تعالي: ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وقَالَ الآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ (36) قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكـْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وفي آخر السورة في تأويل رؤيا فرعون الذى رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف .
يقول تعالي : وقَالَ المَلِكُ إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ومَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) وقَالَ الَذِي نَجَا مِنْهُمَا وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
والرؤيا نجدها في القرآن في مواضع أخرى غير سورة يوسف ، منها مارآه سيدنا إبراهيم عليه السلام من أنه يذبح ولده وفداه الله بكبش سمين . ومنها رؤيا رسول الله صلي الله عليه وسلم في بدر ومعها بشارة النصر . ومنها رؤياه صلي الله عليه وسلم في سورة الفتح بدخول المسجد الحرام آمنين ومقصرين لا يخافون .
هذا وإن واقعنا الذى نعيش به يشهد بحقيقة الرؤيا ، حيث نرى ويرى غيرنا ، مايقع مضمونه كما هو أو كما يماثله . بحيث لايبقي أى مجال لإنكار ذلك . وقد أنكر فرويد ومدرسته في التحليل النفسي الحقيقة الغيبية للرؤى ، وفسروها تفسيرا نفسيا أو جنسيا علي أساس أنها من الرغبات المكبوته أو الأمور المتخيلة التي ينفس بها الشخص عن رغباته المكنونة . وهذا إن صح عن أحلام عن الماضي أو الحاضر فإن العلماء يرفضونه عن الرؤيا التي تنبئ عن الغيب في قلب المستقبل .
ومايرى الإنسان في نومه ولايعتد به هو :-
1- أمور تشغل الإنسان في اليقظة ماض وحاضر ، فتملأ أقطار نفسه ، وتراوده في منامه .
2- مايصيب الإنسان من كوابيس لتخمة الأكل أو شدة مرض
عن أبي هريرة : الرؤيا ثلاث : فبشرى من الله ، وحديث النفس ، وتخويف من الشيطان . فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقص ، إن شاء . وإن رأى شيئا يكرهه ، فلا يقصه علي أحد . وليقم يصلي .)[14]
وفائدة الرؤيا أنها من المبشرات التي تشجع علي الإقدام علي عمل مباح أو تركه ، وتبشره بخير ونعمة في المستقبل ، تحصل له إن كانت من عند الله . فالرؤيا المبشرة باقية كجزء من خصائص النبوة ، والرؤيا المنذرة تنذر المرء بشر فيستعد له بالصبر الجميل .
والرؤيا التي تنبئ عن حدوث أمر عن المستقبل تعتبر معجزة حتي في هذا العصر . ولايستطيع العلم التجريبي أن يفسرها ، ويقف أمامها مندهشا شأنها شأن مايلاقيه من ظواهر أخرى غيبيبة .
والروح قوة داركة للأمور ، بوسائل أعلي من وسائل الحس والعقل ، ولكن يحجبها عنه الانشغال بالواقع الحسي فلا تدرك إلا في حدود ضيقة ومحدودة . فإذا نام الإنسان يقل تعلق الروح بالبدن وترجع إلي طبيعتها الأصلية جزئيا ، فتدرك مالاتدركه في اليقظة . وماتراه قد يتحقق طبق الأصل كما رؤى في المنام ، وقد يكون رمزيا يرجع في تأويله للصالحين .
يقول كارليل :" إن البصر المغناطيسي وتراسل الأفكار معلومات أولية للملاحظة العلمية ، وفي استطاعة من وهبت لهم هذه القوة أن يستشفوا أفكار الأشخاص الآخرين السرية من غير أن يستخدموا أعضاءهم الحسية ، كما أنهم يحسون بالأحداث السحيقة سواء من الناحية الفراغية أو من الناحية الزمنية . وهذه الصفة الاستثنائية لاتنمو إلا في عدد قليل من بني الإنسان . إلا أن هناك كثيرين يملكون هذه الصفة بحالة بدائية ، وهم يستخدومنها من غير بذل أى جهد وبطريقة تلقائية ... ويبدو البصر المغناطيسي مسألة عادية لمن يملكونه ، وهو يجلب لهم معلومات أكثر توكيدا من المعلومات التي يحصل الإنسان عليها بواسطة أعضاء الحس.. فصاحب البعد المغناطيسي يقرأ أفكار الآخرين بسهولة لاتضارعها إلا سهولة قراءته لأسارير وجوههم . ولكن كلمتي رؤية وشعور لاتعبران عن الظاهرة التي تحدث في شعوره . إنه يلاحظ ، ولايفكر ... وهكذا فإن معرفة العالم الخارجي قد تصل إلي الإنسان عن طريق مصادر أخرى غير أعضاء الحس ... وهذه الحقائق التي تنتمي إلي علم ماوراء النفس الجديد ، يجب أن تقبل علي علاتها.إنها تكون جزءا من الحقيقة وتعبر عن جانب نادر يكاد يكون غير معروف من أنفسنا."[15]
يقول ستانلي كريبز أستاذ باحث في مركز مايمونيدز الطبي ببروكلين في الولايات التحدة :
"لم يكن في الإمكان دراسة ظاهرة ، مثل الإدراك المسبق ورؤية الأشياء غير المنظورة واتصال الأفراد عن بعد علميا ومعمليا ، قبل تطوير العلم المسمي بالسيكوترونيك ، وهو علم دراسة التفاعلات العابرة للواقع المعتاد مثل الزمن والمسافة واللغة ، وهو شمل أيضا ماكان يسمي بالباراسيكولوجي .
ومن خلال الدراسة ظهر أن الظواهر السيكوترونيكية - التفاعلات عن غير الطرق العادية - يمكن إحداثها في الأغلب من خلال التجارب التي تسعي إلي تكامل الصفات المختلفة في الإنسان مثل القدرة علي الشعور العاطفي والتلقائية ، والقدرة علي توقع الأشياء ....
في مسرحية يوليوس قيصر لوليام شكسبير ترى كالبورينا ، زوجة القيصر ، أحلاما بها إدراك مسبق بمقتل زوجها ... ونحن نعلم من رواية شكسبير ، كما نعلم مما نقل إلينا من التاريخ أن قيصر لم يحفل بتحذير كالبورينا ، وأنه اغتيل في مجلس الحكم بعد بضع ساعات من تحذيرها .
ولنذكر كمثال مشابه من الزمن القريب ، أن إبراهام لنكولن لم يأخذ الاحتياطات الكافية عندما ذهب إلي مسرح فورد ، حيث اغتيل ضربا بالرصاص ،رغم أنه قد رأى في منامه رؤى محملة بالنذر ، أنه مضروب بالرصاص وموضوع في تابوت .
ولما تطور التحليل النفسي تحول إلي النظر إلي مثل هذه الأحلام من مجرد الرواية إلي الدراسة علي المستوى الإكلينيكي ...
وفي سنة 1962 تأسس معمل دراسة الأحلام في مركز مايمونيدس الطبي ببروكلين بنيويورك للقيام بأبحاث عن التأثيرات المختلفة للأنماط الطبيعية أثناء الإدراك المتغير ، ومنها النوم ، وبدأت تجارب كلاسيكية منها القياس برسام المخ الكهربائي ومراقبة التغيرات السيكوفسيولوجية من عام 1964."[16]
ورؤيا الأنبياء وحي يجب عليهم العمل حسب مقتضاها ، ولذلك عزم سيدنا إبراهيم عليه السلام علي ذبح سيدنا إسماعيل عليه السلام ، لولا أن فداه الله بذبح عظيم .
أما رؤيا غير الأنبياء فلا تكون حجة شرعية ويجوز العمل بها حتي لو رأى أحد رسول الله صلي اله عليه وسلم ، ولايطيع إلا الوحي كتابا وسنة . ولو حكم بالمنامات لفتح باب لخروج كثير من الفسقة عن الشرع ، إذ يمكن لكل واحد أن يترك واجبا أو يرتكب محرما، راجعا الأمر إلي رؤيا . فالرؤيا الصالحة لاتعدو إلا أن تكون بشرى من الله .
والرؤيا وتأويلها ثابت بالكتاب والسنة ، فمن أنكرها ، بعد ما اطلع علي ذلك ، فقد كفر . يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
( الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ست وأربعين جزء من النبوة .)
(إذا قرب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب . وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ....)
(أيها الناس ، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة ، يراها المسلم ، أو ترى له).
( إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها ، فليتحول وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليسأل الله من
خيرها ، وليتعوذ من شرها .)( إذا حلم أحدكم فلا يخبر الناس بتلاعب الشيطان به في المنام ) [17]
عن سالم عن أبيه : أن النبي صلي اله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم إلي الصلاة ، فذكروا البوق ، فكرهه من أجل اليهود ، ثم ذكروا الناقوس ، فكرهه من أجل النصارى ، فأرى النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له : عبد الله بن زيد ، وعمر بن الخطاب . فطرق الأنصارى رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلا ، فأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بلالا به ، فأذن . [18]
[1] مسلم ج4 ص 64
[2] البخارى ج2 حديث 3792
[3] ابن القيم ، مدارج السالكين ج2 ص 151-152
[4] ابن قدامة ، مختصر منهاج القاصدين ص 296-297
[5] ابن القيم ، مدارج السالكين ج2 ص 155
[6] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 9 ص 9
[7] اليد عبد الحافظ عبد ربه ، بحوث في قصص القرآن ص 161-163 دار الكتاب اللبناني
[8] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 1246
[9] الرازى ، مفاتيح الغيب ج08 ص 87،84
[10] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج4 ص3358
[11] الرازي ، مفاتيح الغيب ج 8 ص 653
[12] أحمد حسن رضوان ، مسائل في تأويل الأحاديث ص 110
[13] د. نواف الحليس ، المنهج الاقتصادى في التخطيط لنبي الله يوسف عليه السلام ص 18-19 طبعة ثانية 1990الرياض
[14] الألباني ، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص 339
[15] د. ألكسيس كارليل ، الإنسان ، ذلك المجهول ص 102-104
[16] استانلي كريبز ، مجلة العلم والمجتمع ، طبعة عربية من مجلة Impact تصدر عن مجلة اليونسكو يونية - أغسطس سنة 1975 مقال: إحداث تأثيرات تفاعلية في الإنسان المتغير ص 85،82
[17] الألباني ، صحيح سنن ابن ماجة ، ج2 ص 338-342
والأحاديث السابقة عن الرؤيا من نفس المصدر ونفس الصفحات
[18] نفس المصدر ج1 ص 118
تعليق