تفسير من أنوار القرآن الكريم

تقليص

عن الكاتب

تقليص

يوسف كمال محمد مسلم اكتشف المزيد حول يوسف كمال محمد
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 2 (0 أعضاء و 2 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • يوسف كمال محمد
    1- عضو جديد
    • 2 فبر, 2014
    • 66
    • عمل حر
    • مسلم

    #61
    تأويل الأحاديث
    كما
    تبينة سورة يوسف
    ( عليه السلام )

    تلمس هذه السورة نوعا آخر من الظلم ، فقد كان الظلم في سورة يونس وهود ظلم الطغاة الكافرين للمستضعفين من المؤمنين ، أما هنا فالظلم يظهر في الأسرة بين الإخوة ، وفي المجتمع من البطانة الحاكمة .
    ويظهر الظلم في الأسرة بين الإخوة غير الأشقاء ، وحسد بعضهم لبعض بدعوى تفضيل الأب لأحدهم . فتتفاعل في داخل النفس مشاعر الغيرة ، ويتولد عنها عناصر السخط ، التي قد تصل إلي الجريمة . وهذا هو الواقع الذى نشأ فيه يوسف عليه السلام في حضن أسرته بالشام . حيث يحدثنا القرآن الكريم عن إخوته غير الأشقاء فى قوله تعالى :
    إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)
    ويفحش الظلم من الأسرة إلي المجتمع ، حين تطلب امرأة العزيز من يوسف أن يرتكب الفحشاء . وفي ذلك ظلم أيما ظلم لأوامر الله تعالي التي تنهي عن الزنا وتمقته . وظلم من العزيز بإغضائه عن عرضه وإبقائه للاختلاط رغم إصرار زوجته ، ثم أخيرا بإلقاء يوسف في السجن رغم براءته وحفاظه علي عرضه . وهنا يظهر دور خطير للمرأة حيث الأزواج الكبار في شغل عن زوجاتهم ، ويشيع كيد النساء . وحيث يسود المجتمع لون من التسيب الأخلاقي والتساهل الجنسي ، والاختلاط المكشوف .
    وتتجاوز السلطة عن العدل لتحمي مكاسبها غير الشرعية ومخازيها غير الشريفة ، فيطغي الملأ من مراكز القوة بالسلطان ، وهنا يفتح باب السجن لتكميم الأفواه وتقييد الحريات وستر العورات . وهذا ما كان عليه حال المجتمع الذى تربي فيه يوسف عليه السلام وبلغ أشده .
    وهنا تتفشي في الأسرة والمجتمع الدسائس والمؤامرات ، ويسرى بين الناس المكايد والمكر . وهذا الكيد رأيناه ليوسف : من إخوته حسدا ، ومن امرأة العزيز فجورا ، ومن الملأ من أكـابر الدولة طغيانا .

    الأساس العقيدى

    من زاد التوكل علي الله يستعين المؤمن بالصبر علي الابتلاء . والصبر هنا له مواصفات خاصة ، فهو في سورة يوسف صبر جميل . يقول تعالي :
    فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)
    فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(83)
    يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
    عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له .[1]
    ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر.[2]
    والصبر قد يكون جميلا وقد يكون غير جميل ، فالصبر الجميل هو التسليم لله تعالي والرضا بما قضي ، واليقين بأن ذلك لحكمة أرادها تعالي ، وأن يستعين بالله علي التحمل ، فلا شكوى ولاضجر ، وإنما دعاء لله تعالي أن يكشف البلاء .
    " والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لاصبر له ، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له . والصبر علي ثلاثة أنواع : صبر بالله ، وصبر لله ، وصبر مع الله .
    فالأول : الاستعانة به ، ورؤيته أنه هو المصبّر ، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه .
    والثاني : الصبر لله ، وهو أن يكون الباعث له علي الصبر محبة الله ، وإرادة وجهه ، والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس ، والاستحمد إلي الخلق .
    والثالث : الصبر مع الله ، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ، ومع أحكامه الدينية ، صابرا نفسه معها ، سارا بسرها ، مقيما بإقامتها ، يتوجه معها أين توجهت ركائبها ، وينزل معها أين استقلت مضاربها ."[3]
    " واعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال ، وذلك أن جميع ما يلقي العبد في الدنيا علي ضربين :
    1- ما يوافق هواه من الصحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العششيرة والأتباع ، وجميع ملاذ الدنيا ، فالعبد محاج إلي الصبر في جميع هذه الأمور . فلا يكن إليها ، ولاينهمك في التلذذ بها ، ويراعي حق الله تعالي في ماله بالإنفاق ، وفي بدنه بالمعونة الحق … فالرجل كل الرجل من يصبر علي العافية ..
    2- ما يخالف هواه ، وهو علي ثلاثة أقسام :
    أ‌- الطاعات ، فيحتاج العبد إلي الصبر عليها ، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية .. ثم من اللعبادات ما يكره بسبب الكسب كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ، ومنها ما يكره بسببهما جميعا كالحج والجهاد .
    ب – الصبر علي المعاصي ..
    ج – ما لايدخل تحت الاختيار كالمصائب .. وقريب منه الصبر علي أذى الناس ."[4]
    قال مجاهد : فصبر جميل ، أى من غير جزع ، وقال الثورى : من الصبر أن لاتحدث بوجهك ولا بمصيبتك ولاتزكي نفسك .
    " والشكوى إلي الله عز وجل لا تنافي الصبر ، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل ، والنبي إذا وعد لايخلف ، ثم قال : .. وإنما ينافي الصبر شكوى الله ، لا الشكوى إلي الله ."[5]
    والصبر علي قضاء الله واجب ، فأما الصبر علي ظلم الظالمين ، ومكر الماكرين ، فغير واجب . بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلي الغير."[6]
    وكان مقام الرجاء في سورة يوسف عليه السلام ظاهرا في نفس يعقوب عليه السلام حين قال لأولاده في القرآن الكريم :
    * يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87)
    بينما كان اليأس غالبا علي طبع إخوة يوسف . يقول تعالي ؟ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِياً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ ومِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ (80)
    ويبين تعالي في ختام السورة قانونه الذى لا يتغير : حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ (110) ل
    وتردد في سورة يوسف :
    والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون*
    ذلك من فضل الله علينا وعلي الناس ولكن أكثر الناس لايشكرون *
    وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لايعلمون *
    اذا اعتمد الإنسان علي الكثرة في المال أو الولد أو النفر فقد اعتمد علي غير الله . ويلاحظ أن أكثر الناس إما واحد من كثرة أو قائد لكثرة . ولو وضع الناس والدنيا كلها في كفة وكان الله مع عبد له واحد في كفة لرجحت كفته .
    ترى ذلك علي مدار القصة ، فالأخوة الذين أجمعوا ومكروا لإبعاد أخيهم ، كان قوتهم من بين يديه أوفي لهم الكليل وتصدق عليهم وكان لهم خير المنزلين . ودخلوا في طاعته ساجدين وقد أتاه الله الملك والسلطان .
    وقد كان من أواخر دعاء يوسف عليه السلام :أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين * سيرا علي ملة إبراهيم الذى وصي : يابني إن الله اصطفي لكم الدين فلاتموتن إلا وأنتم مسلمون * وكان دعاؤه : رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين *
    لقد جاء الفعل يئس وتراكيبه ثلاث عشرة مرة في القرآن ، منهاأربعة في سورة يوسف وحدها ، ومن الأربعة اثنتان لم تردا في غير سورة يوسف وهما الفعل استيأس .
    واليأس هو الظن بأن شيئا نافعا لن يحدث أو لن يصل الإنسان إليه ، وهو يأس من روح الله أو يأس من رحمة الله .
    أما الاستيئاس فهو شكل آخر تماما. فمع عدم اليأس من روح الله أو من رحمة الله ، فإننا قد نواجه بحقيقة لامجال لتغييرها أو ليس في الوسع تغييرها الآن . فعندئذ نسلم الأمر الله .

    عبرة التاريخ


    وتقدم هنا سورة يوسف العبرة في قصة حقيقية واقعية ، تتحدث عن مسيرة الإسلام عبر التاريخ حديث صدق ، تبين تصديق الرسل والكتب لبعضها في موضوعها ووسائلها وغاياتها . وفي تمييز الخير من الشر والحلال من الحرام والهدى من الضلال ، في منارات يهتدى بها العباد فتعمهم رحمة الله . وهنا ليس المقصود من سرد القصة إثبات وقائع تاريخية تكتب تفصيلاتها ، ولاحقائق جغرافية عن بلد يعقوب ومنزل يوسف عليهما السلام ، وليس مجرد البحث عن الحبكة الفنية والدراسة الأدبية لها كفصة ، فهذه أمور ظنية ومتشعبة وتختلف فيه الآراء ولاتقصد السورة أساسا إليها ، إنما المقصود بالتفسير هنا أخذ الحكمة من أحداثها بالتعرف علي قدر الله،وأخذ العبرة من نتائجها ، والاهتداء بحقائقها في طاعة الله . وهذا هو الذى يميز قصص القرآن عن غيره من القصص في كل الكتب.
    " وأفردت هذه السورة على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أنهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم الصلاة والسلام وكيفية تلقى قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم ، أما هذه القصة لحاصلها فرج بعد شدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فأنه تعالى امتحن يعقوب عليه الصلاة والسلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه ، وامتحن يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب والبيع وامرأة العزيز ، وفقد الأب والأخوة والسجن ، ثم امتحن جميعهم بشمول الضر وقلة ذات اليد .. ثم تداركهم
    بالفهم وجمع الشمل ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزغ به الشيطان وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد من كاده ، واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك والنبوة ، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر وجلالة اليقين فى حسن تلقى الأقدار بالتفويض والتسليم على توالى الامتحان وطول المدة ، ثم انجر فى هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر ، فقد انفردت هذه القصة بنفسها ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام وما جرى فى أممهم ، فلهذا فصلت عنهم ، وقد أشار فى سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم ليتنبه المؤمنون على ما فى طي ذلك .
    وكما بدأت السورة بالرؤيا ، فقد ختمت بتأويلها . وقد جاء في البداية بعد ذكر القرآن آية : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.
    وفي نهاية السورة يقول تعالي : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)
    إنه نفس حديث الصحيح من الكتب السالفة التي أنزلت علي المرسلين ، فيه تفصيل لكل مايحتاجه البشر من الهداية للسير علي الصراط المستقيم، من بيان عن المبدأ والمعاد ، وذكر للحلال والحرام ، والمستحب والمكروه ، ومعرفة الرب سبحانه وتعالي بآلائه وأسمائه ، ووصف الآخرة في نعيمها وعذابها . وبذلك يخرج من آمن به من الضلال إلي الهدى ، وينجيهم من العذاب ويحيطهم برحمته وعنايته.
    ومن المعلوم أن المقصود من القصص ليس التسلية ، فهو أحسن القصص حيث المقصود منه العبرة والهداية ، ومن هنا تفتتح السورة بقوله تعالي:نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وتختم بقوله تعالي : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)
    "والاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلي ماليس بمشاهد . والمراد منه التأمل والتفكير . ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذى قدر علي إأخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه ، وأخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية ، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة ، واليأس من الاجتماع قادر علي إعزاز محمد صلي الله عليه وسلم وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه . وإن الإخبار بهذه القصة إخبار عن الغيوب وحاصلها الفرج بعد الشدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فإنه تعالي امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره ، وشتات بنيه ، وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والأخوة والسجن ، وامتحن الكل بالشدة والضر ، ثم تداركهم الله بالفهم ، وجمع شملهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ، ورفع مانزغ به الشيطان ، وخلاص يوسف عليه السلام ، ثم استخلاص العزيز إياه .
    ويدل ذلك علي أمور:
    أ- أن القصص القرآنى أحسن القصص ...وكيف لايكون أحسن القصص وقصة زليخا مع يوسف عليه السلام توجه كل نفس إلي كل طهر وقدس . بما ضرب الله سبحانه من المثل في جهاد الصديق مع نفسه . وفي مقاومته لبنات جنسها ..
    وهذه السورة نفسها تصوره سجينا في الحق بعد أن ألقي في غيابة السجن . وانتهي به صبره وطهارته إلي رسالة سامية وملك عريض . عفا فيه عن كل من أرده ب . وأحسن فيه إلي كل مسئ حاسد حقود . وكان شعاره مع الجميع ..:لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم .
    ب-هذا القصص كغيره من القصص القرآني عبرة لأولي الألباب . واستصلاح لذوى النفوس الكريمة دون النفوس الغادرة اللئيمة . وجدير به أن يكون عبرة لأولي الألباب وقد قلب أوضاع العرب ، وأحدث فيهم ثورة علي كل الرعونات ، وعدولا عن الحماقات والانحرافات .
    ح- ليس حديثا مفترى ... لأنه حق لايتطرق إليه الريب . فليس تخيلات ولاخرافات .
    د- هذا الحديث تصديق الذى بين يديه من كتب الله السماويةالتي لم تصل إليها يد البشر بالتحريف والتعديل . والتي لاتختلف بعضها عن بعض فيما تورده من هداية إلا بما تختلف به في بعض الأحكام لاختلاف الظروف والملابسات مسايرة لمصالح الناس ...."[7]
    هـ- وأيضا تفصيل كل مايحتاج إليه العباد من بيان أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
    و- وهدى ورحمة : رشاد من جهل سبيل الحق ورحمة لمن آمن به وعمل به ،. لقوم يصدقون بالقرآن وبما فيه من وعد ووعيد وأمر ونهي .
    والعبر المستخلصة من قصة يوسف عليه السلا م يمكن إيجازها فيما يلي :
    1-عاقبة الحسد الخذلان :
    ملأ الحسد قلوب إخوة يوسف ،ف قالوا لابد من تبعيد يوسف عن أبيه ، وذلك لايحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التغريب إلي أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ، ولاوجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك .
    ثم ذكروا العلة : أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة ... ثم إنهم علموا أن ذلك الذى عزموا عليه من الكبائر فقالوا : إذا فعلنا ذلك تبنا إلي الله ونصير من القوم الصالحين ....
    وفي النهاية لما مكن الله ليوسف بتقواه وصبره ، وأحوج إليه إخوته ،حكي القرآن خذلانهم في قوله تعالي: قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وإن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91
    قال بعض الحكماء : إياكم والحسد ، فإن الحسد أول ذنب عصي الله تعالي به في السماء، وأول ذنب عصي الله تعالي به في الأرض . فأول ذنب عصي الله تعالي به في السماء كان من إبليس حسد آدم فأبي أن يسجد فلعنه الله تعالي. وأما الذى عصي الله تعالي به في الأرض ، فهو قابيل بن آدم حين قتل أخاه هابيل حسد لما تقبل قربان آخيه ولم يتقبل منه ...
    وعن رسول الله صلي الله عليه وسلم:
    (لاحسد إلا في اثنتين : رجل علمه الله القرآن ، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ماأوتي فلان ، فعملت مثل مايعمل ، ورجل أتاه الله مالا ، فهو يهلكه في الحق ، فقال رجل : ليتني أوتيت مثل ماأوتي فلان ، فعملت مثل مايعمل."[8]
    2-العفة :
    السورة حين قصت علينا المحنة التي مر بها الشاب الورع يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز ، تعطي الدرس لكل شاب ليستعف عن محارم الله حين يرى موقف يوسف عليه السلام رغم ضعفه ، واستعاذته رغم عدم إحصانه بالله تعالي مما تدعوه المرأة إليه من فاحشة ، وهو عبد مملوك لايملك أن يواجه هذه القوة دون أذى ، ومراقبته لله تعالي في تلك الخلوة التي فرضت عليه فرضا . ولم يكن يوسف عليه السلام هدفا لإغراء امرأة العزيز وحدها بل صار هدفا لإغراء نسوة المدينة حين ذاعت القصة ، حتي جأر يوسف بالدعاء إلي الله خوفا من أن يصب إليهن ، حتي ولو كان دخول السجن سببا لصرف هذا الخطر عنه .
    يقول تعالي: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(19)وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(20)وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِوَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(21)
    3-الصالح العام :
    من العبر المستخلصة من السورة أن يوسف عليه السلام قدم المصلحة العامة علي مصلحته الخهاص ، وتفع عن جرو ح الظلم والغبن التي حلت به رعاية لمصلحة الأمة . فأجاب الرسول مباشرة وأعطاه دون تردد حل الأزم ة التي أوشكت أن تحيق بالأمة .
    أما عندما دعاه الملك إلي معيته تكريما له ، هنا طلب تبرئته من التهمة البشعة التي ألصقت به أولا وقبل أى تكريم ، وهي عزة نفس المؤمن ، وحرصه علي نقاء ذكراه قبل الجاه والمال ، يقول تعالي: وقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ (52)
    4- الأمانة والتمكين :
    لايسنطيع العامل أن يقوم بعمله مالم يعط صلاحيات للقيام به . وأولي هذه الصلاحيات إعطائه القدرة علي اتخاذ القرار ، ثم استئمانه علي مايقوم به من مهام . وأى اهتزاز لصفة من ذلك تعوق استخدام العامل لإمكانياته ، وتحكم علي النتائج بالقصور والفشل . وهذه الصلاحيات يجمعها قول الله تعالي علي لسان الملك ليوسف عليه السلام : إنك اليوم لدينا مكين أمين . هذا بالنسبة لرب العمل ، أما بالنسبة للعامل فلابد أن يتحلي بصفات تؤهله لعمله لخصها الحق تبارك وتعالي في قول يوسف عليه السلام : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55). بمعني أن يكون العامل قادرا علي تخزين الأشياء والمعلومات واستدعائها ، وترتيبها ، ثم يكون له من القدرة علي التعرف عليها وتحليلها والتنبؤ بها .
    " ولابد في كونه مكينا من القدرة والعلم . أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة . وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير لايحصل إلا به ، إذ لو لم يكن عالما بما ينبغي وبما لاينبغي لايمكنة تخصيص ماينبغي بالفعل ، وتحصيص مالاينبغي بالترك ، فثبت أن كونه مكينا لايحصل إلا بالقدرة والعلم .
    أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لايفعل لداعي الشهوة ، بل إنا يفعله لداعي الحكمة ،
    فثبت أن كونه مكينا أمينا يقال علي كونه قادرا ، وعلي كونه عالما بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد ، وعلي كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لالداعية الشهوة وكل من كان كذلك فإنه لايصدر منه فعل الشر والسفه ...
    ويكون العامل حفيظا بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال ، وعليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها . وحفيظ بجميع مصالح الناس ، عليم بجهات حاجاته . "[9]
    ومن هنا كان واجب ولي الأمر أن يستوثق من علم وخبرة من يقلده أمرا من الأمور أو يحمله مسؤولية من المسئوليات وأن يراعي الله في اختيار موظفيه ، وأن يضع الأمانة والعلم والخبرة والصدق وحسن السيرة والسلوك وبراءة الذمة من كل مايشين الإنسان . عليه أن يضع كل ذلك نصب عينيه حين اختيار المرشحين للعمل قبل تعيينهم ، فيستعين بأهل العلم والخبرة والعدل لابأهل اللوع والنفاق وخراب الذمة .
    يقول تعالي: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(54)قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(56)وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(57)
    5- العفو والمغفرة :
    من عبر السورة أن يتخلق المؤمن بالعفو وأن يرتفع عن الحقد وتصفية الحسابات حين يحدثنا القرآن عنه بعد مواجهة إخوته بما فعلوه فيقول . قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)

    موضوع السورة

    وكما علم سبحانه وتعالي آدم الأسماء كلها ، وعلم داود صنعة لبوس ، وعلم سليمان منطق الطير ، وآتي واحدا من ملئه علم الكتاب ، علم يوسف من تأويل الأحاديث . وقد وردت عبارة تأويل الأحاديث .
    يقول القرطبي : تأويل الأحاديث : أى أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد ، فهو إشارة إلي النبوة . [10]
    ويقول الرازى:" تأويل الأحاديث : علي وجوه :-
    1- المراد منه تعبير الرؤيا ، سماه تأويلا لأنه يئول أمره إلي مارآه في المنام ، يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم . . قالوا : إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية .
    2- تأويل الأحاديث في كتب الله تعالي والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين ، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله ، وتأويل الأحاديث المروية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم .
    3- الأحاديث جمع حديث ، والحديث هو الحادث ، وتأويلها مآلها ، ومآل الحوادث إلي قدرة الله تعالي وتكوينه وحكمته [11].

    1- علم الكتاب

    ورث يوسف عليه السلام من آبائه يعقوب وإسحق وإبراهيم علم تأويل الكتاب ، وقد وصله دون شك صحف إبراهيم . يقول تعالي علي لسان يعقوب عليه السلام : وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
    فمن معاني تأويل الأحاديث : معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء ، وماغمض واشتبه علي الناس من أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم علي مواضع أحكامها . والدليل علي ذلك أن الله يتم نعمته بها ، والنعمة هي نعمة النبوة ، ومن موجباتها العلم بتأويل الكتب والسنن الإلهية .
    يتضح هذا من انتهاز يوسف عليه السلام الفرصة في السجن للدعوة إلي الله . يقول تعالي علي لسان يوسف عليه السلام : قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكـْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وعَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يَا
    2- تأويل الأحاديث

    إن من نعم الله تعالي علي الإنسان هو ما أوهبه من قدرة علي التفكير ، يستطيع بها أن يكتشف كثيررا من أسرار الكون والحياة . فعن طريق ربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات يعرف القوانين ويستنتج الأحداث . وهذه القدرة تمكنه إلي حد كبير من حل كثير من المشاكل والتحكم في كثير من الظواهر وعلاج كثير من السلبيات ووضع الخطط للمستقبليات .
    وهذه القدرات العقلية تعتمد علي العناصر التارية :
    1- هبة فطرية تهيئه للقدرة علي تأويل الأحاديث .
    2- قدرة كسبية تصقل هذه الفطرة وتستثمرها .
    3- توفيق من الله يفتح للعقل أسرار الكون والحياة .
    وعلم تأويل الأحاديث أوسع بكثير من تفسير الأحلام . فإذا كانت الأحلام رؤى ، فإن الأحاديث في اليقظة واقع . والواقع ينبؤك بأكثر من الرؤى بكثير . والإنباء لغة هو ما لا يعرفة الإنسان من أمر يخفي عنه . وتحصل المعرفة عن طريق علم الغيب ، وهو من خاصة علوم الله ، ولامجال لأحد فيه، أو من علم التأويل وهو ماتدور عنه آيات سورة يوسف . والفكرة فيه أن أمور الكون تدار وفق نظام دقيق ومسارات مرسومة ، فإن أحطت نفسك بما يدور في مسألة معينة بشكل كاف ، فربما تتمكن من أن تتقدم في هذه المسألة خطوة إلي الأمام فتقول عما سوف يدور . وهو علم نستخدمه كثيرا في حياتنا ، إلا أننا لم نتفق بعد علي تعريفه وعلي مضمونه وعلي سبل اكتسابه . فنحن نتكلم عن التنبؤات الجوية ، والتنبؤات الاقتصادية ، والسياسية والاجتماعية ، وذلك عن طريق الإحاطة الشاملة للمتغيرات عبر سلسلة زمنية . ثم نقول عند كل فعل إننا نتنبأ بأن يكون رد الفعل هو كذا وكذا . ويكمن النجاح في ترتيب الأحداث السابقة بحيث نحصي مابين الفعل ورد الفعل من ارتباط ، وفي الحساب الدقيق لجميع المتغيرات ، وفي الرؤية النافذة ، وذلك كله لأخذ الفعل خطوة إلي الأمام .
    ولمجرد المقارنة ، فإننا نستطيع أن نقول بإحكام بالغ متي يبزغ القمر ، ومن أى اتجاه ، وكيف يكون منزله ، وكيف يكون مساره ، ومتي يكون أفوله . ونحن نستطيع أن نقول ذلك لأن للقمر مسارا ثابتا ، وأننا تتبعناه آلاف وآلاف المرات حتي تيقنا من ذلك المسار تماما ، بحيث إننا نستطيع أن نحكي عن حاضره وعن مستقبله ، بدون أن يكون لذلك دخل بعلم الغيب ."[12]
    كان ذلك واضحا في حل الأزمة الاقتصادية في مصر ،علي يد يوسف عليه السلام ، حيث سيعتمد يوسف عليه السلام علي علمين: تعبير الرؤية و تأويل الأحاديث .
    يقول تعالي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
    " والتخطيط الجيد هو ذلك التخطيط الذى يهدف لصالح الدولة في الوقت الذى تنعكس آثاره الطيبة علي المجتمع كله دون استثناء ، والتخطيط المعتمد كل الاعتماد علي المعلومات والبيانات الصادقة عن الإمكانات المتاحة للتنبؤ المسستقبلي ، مرحلي أو غير مرحلي ، طويل الأمد أو قصير . كما أن نجاح الخطة متوقف علي وضوح الهدف ومعرفة الصعوبات والمشاكل . فوضوح الهدف يسهل الوصول إليه ومعرفة المشكلة تشكل نصف حلها...
    وعليه فإن هذه السورة تنبئ عن المشكلة ألا وهي سنوات القحط ، وتقدم الإمكانات المتاحة في سنوات النماء والخير ، وتنوه إلي الوسيلة وهي الجد والادخار ، وترشد إلي الهدف وهو تخطي الأزمة الاقتصادية . أما مصادر هذه المعلومات والبيانات فأصدق المصادر ، كيف لا ، وقد صدرت عن العليم الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. حين ألهم ملك مصر مناما في رؤياه ، رمزا وتلميحا ، لاتصريحا ، ليكون منهج الله الذى ألهم به يوسف عليه السلام ، وليتم نعمته كما أتمها علي أبويه من قبل ."[13]
    وتجلت عبقريته عليه السلام في معالجة المشكلة الاقتصادية التي أصابت مصر . فمن جهة قاده علمه وتدبيره أن يخطط للاستثمار الدائب في سني الرخاء ، وأن ينظم الادخار الضرورى من سني الرخاء لسني الشدة والأزمة ، وأن يراقب الاستهلاك الرشيد في السبع السنين العجاف . وهذه السياسات الاقتصادية ، هي الأهداف الرئيسية لأى خطة لمواجهة الأزمات والكساد في أى دولة متقدمة .


    3- تأويل الرؤيا

    لقد شغلت الرؤيا موقعا هاما في السورة في أولها ووسطها وآخرها ، وكانت هي مفتاح التغيرات الكبيرة في حياة يوسف عليه السلام .
    أيد الله يوسف عليه السلام بمعجزة تأويل الرؤيا ، بدأت بها السورة وانتهت بها ا . فان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤى ، وكان ذلك هو معجزة يوسف عليه السلام التي يتحدى بها المعاندين في مواجهة عصره الذى يهتم بهذا النوع من التفكير .
    كان ذلك في رؤياه أولا لأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين .
    يقول تعالي: إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
    وفي وسط السورة تأويل رؤيا صاحبي السجن الذى سقي أحدهما ربه خمرا والآخر الذى أكلت الطير من خبز يحمله علي رأسه .
    يقول تعالي: ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وقَالَ الآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ (36) قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكـْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
    وفي آخر السورة في تأويل رؤيا فرعون الذى رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف .
    يقول تعالي : وقَالَ المَلِكُ إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ومَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) وقَالَ الَذِي نَجَا مِنْهُمَا وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
    والرؤيا نجدها في القرآن في مواضع أخرى غير سورة يوسف ، منها مارآه سيدنا إبراهيم عليه السلام من أنه يذبح ولده وفداه الله بكبش سمين . ومنها رؤيا رسول الله صلي الله عليه وسلم في بدر ومعها بشارة النصر . ومنها رؤياه صلي الله عليه وسلم في سورة الفتح بدخول المسجد الحرام آمنين ومقصرين لا يخافون .
    هذا وإن واقعنا الذى نعيش به يشهد بحقيقة الرؤيا ، حيث نرى ويرى غيرنا ، مايقع مضمونه كما هو أو كما يماثله . بحيث لايبقي أى مجال لإنكار ذلك . وقد أنكر فرويد ومدرسته في التحليل النفسي الحقيقة الغيبية للرؤى ، وفسروها تفسيرا نفسيا أو جنسيا علي أساس أنها من الرغبات المكبوته أو الأمور المتخيلة التي ينفس بها الشخص عن رغباته المكنونة . وهذا إن صح عن أحلام عن الماضي أو الحاضر فإن العلماء يرفضونه عن الرؤيا التي تنبئ عن الغيب في قلب المستقبل .
    ومايرى الإنسان في نومه ولايعتد به هو :-
    1- أمور تشغل الإنسان في اليقظة ماض وحاضر ، فتملأ أقطار نفسه ، وتراوده في منامه .
    2- مايصيب الإنسان من كوابيس لتخمة الأكل أو شدة مرض
    عن أبي هريرة : الرؤيا ثلاث : فبشرى من الله ، وحديث النفس ، وتخويف من الشيطان . فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقص ، إن شاء . وإن رأى شيئا يكرهه ، فلا يقصه علي أحد . وليقم يصلي .)[14]
    وفائدة الرؤيا أنها من المبشرات التي تشجع علي الإقدام علي عمل مباح أو تركه ، وتبشره بخير ونعمة في المستقبل ، تحصل له إن كانت من عند الله . فالرؤيا المبشرة باقية كجزء من خصائص النبوة ، والرؤيا المنذرة تنذر المرء بشر فيستعد له بالصبر الجميل .
    والرؤيا التي تنبئ عن حدوث أمر عن المستقبل تعتبر معجزة حتي في هذا العصر . ولايستطيع العلم التجريبي أن يفسرها ، ويقف أمامها مندهشا شأنها شأن مايلاقيه من ظواهر أخرى غيبيبة .
    والروح قوة داركة للأمور ، بوسائل أعلي من وسائل الحس والعقل ، ولكن يحجبها عنه الانشغال بالواقع الحسي فلا تدرك إلا في حدود ضيقة ومحدودة . فإذا نام الإنسان يقل تعلق الروح بالبدن وترجع إلي طبيعتها الأصلية جزئيا ، فتدرك مالاتدركه في اليقظة . وماتراه قد يتحقق طبق الأصل كما رؤى في المنام ، وقد يكون رمزيا يرجع في تأويله للصالحين .
    يقول كارليل :" إن البصر المغناطيسي وتراسل الأفكار معلومات أولية للملاحظة العلمية ، وفي استطاعة من وهبت لهم هذه القوة أن يستشفوا أفكار الأشخاص الآخرين السرية من غير أن يستخدموا أعضاءهم الحسية ، كما أنهم يحسون بالأحداث السحيقة سواء من الناحية الفراغية أو من الناحية الزمنية . وهذه الصفة الاستثنائية لاتنمو إلا في عدد قليل من بني الإنسان . إلا أن هناك كثيرين يملكون هذه الصفة بحالة بدائية ، وهم يستخدومنها من غير بذل أى جهد وبطريقة تلقائية ... ويبدو البصر المغناطيسي مسألة عادية لمن يملكونه ، وهو يجلب لهم معلومات أكثر توكيدا من المعلومات التي يحصل الإنسان عليها بواسطة أعضاء الحس.. فصاحب البعد المغناطيسي يقرأ أفكار الآخرين بسهولة لاتضارعها إلا سهولة قراءته لأسارير وجوههم . ولكن كلمتي رؤية وشعور لاتعبران عن الظاهرة التي تحدث في شعوره . إنه يلاحظ ، ولايفكر ... وهكذا فإن معرفة العالم الخارجي قد تصل إلي الإنسان عن طريق مصادر أخرى غير أعضاء الحس ... وهذه الحقائق التي تنتمي إلي علم ماوراء النفس الجديد ، يجب أن تقبل علي علاتها.إنها تكون جزءا من الحقيقة وتعبر عن جانب نادر يكاد يكون غير معروف من أنفسنا."[15]
    يقول ستانلي كريبز أستاذ باحث في مركز مايمونيدز الطبي ببروكلين في الولايات التحدة :
    "لم يكن في الإمكان دراسة ظاهرة ، مثل الإدراك المسبق ورؤية الأشياء غير المنظورة واتصال الأفراد عن بعد علميا ومعمليا ، قبل تطوير العلم المسمي بالسيكوترونيك ، وهو علم دراسة التفاعلات العابرة للواقع المعتاد مثل الزمن والمسافة واللغة ، وهو شمل أيضا ماكان يسمي بالباراسيكولوجي .
    ومن خلال الدراسة ظهر أن الظواهر السيكوترونيكية - التفاعلات عن غير الطرق العادية - يمكن إحداثها في الأغلب من خلال التجارب التي تسعي إلي تكامل الصفات المختلفة في الإنسان مثل القدرة علي الشعور العاطفي والتلقائية ، والقدرة علي توقع الأشياء ....
    في مسرحية يوليوس قيصر لوليام شكسبير ترى كالبورينا ، زوجة القيصر ، أحلاما بها إدراك مسبق بمقتل زوجها ... ونحن نعلم من رواية شكسبير ، كما نعلم مما نقل إلينا من التاريخ أن قيصر لم يحفل بتحذير كالبورينا ، وأنه اغتيل في مجلس الحكم بعد بضع ساعات من تحذيرها .
    ولنذكر كمثال مشابه من الزمن القريب ، أن إبراهام لنكولن لم يأخذ الاحتياطات الكافية عندما ذهب إلي مسرح فورد ، حيث اغتيل ضربا بالرصاص ،رغم أنه قد رأى في منامه رؤى محملة بالنذر ، أنه مضروب بالرصاص وموضوع في تابوت .
    ولما تطور التحليل النفسي تحول إلي النظر إلي مثل هذه الأحلام من مجرد الرواية إلي الدراسة علي المستوى الإكلينيكي ...
    وفي سنة 1962 تأسس معمل دراسة الأحلام في مركز مايمونيدس الطبي ببروكلين بنيويورك للقيام بأبحاث عن التأثيرات المختلفة للأنماط الطبيعية أثناء الإدراك المتغير ، ومنها النوم ، وبدأت تجارب كلاسيكية منها القياس برسام المخ الكهربائي ومراقبة التغيرات السيكوفسيولوجية من عام 1964."[16]
    ورؤيا الأنبياء وحي يجب عليهم العمل حسب مقتضاها ، ولذلك عزم سيدنا إبراهيم عليه السلام علي ذبح سيدنا إسماعيل عليه السلام ، لولا أن فداه الله بذبح عظيم .
    أما رؤيا غير الأنبياء فلا تكون حجة شرعية ويجوز العمل بها حتي لو رأى أحد رسول الله صلي اله عليه وسلم ، ولايطيع إلا الوحي كتابا وسنة . ولو حكم بالمنامات لفتح باب لخروج كثير من الفسقة عن الشرع ، إذ يمكن لكل واحد أن يترك واجبا أو يرتكب محرما، راجعا الأمر إلي رؤيا . فالرؤيا الصالحة لاتعدو إلا أن تكون بشرى من الله .
    والرؤيا وتأويلها ثابت بالكتاب والسنة ، فمن أنكرها ، بعد ما اطلع علي ذلك ، فقد كفر . يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
    ( الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ست وأربعين جزء من النبوة .)
    (إذا قرب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب . وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ....)
    (أيها الناس ، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة ، يراها المسلم ، أو ترى له).
    ( إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها ، فليتحول وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليسأل الله من
    خيرها ، وليتعوذ من شرها .)( إذا حلم أحدكم فلا يخبر الناس بتلاعب الشيطان به في المنام ) [17]
    عن سالم عن أبيه : أن النبي صلي اله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم إلي الصلاة ، فذكروا البوق ، فكرهه من أجل اليهود ، ثم ذكروا الناقوس ، فكرهه من أجل النصارى ، فأرى النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له : عبد الله بن زيد ، وعمر بن الخطاب . فطرق الأنصارى رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلا ، فأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بلالا به ، فأذن . [18]





    [1] مسلم ج4 ص 64

    [2] البخارى ج2 حديث 3792

    [3] ابن القيم ، مدارج السالكين ج2 ص 151-152


    [4] ابن قدامة ، مختصر منهاج القاصدين ص 296-297

    [5] ابن القيم ، مدارج السالكين ج2 ص 155

    [6] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 9 ص 9

    [7] اليد عبد الحافظ عبد ربه ، بحوث في قصص القرآن ص 161-163 دار الكتاب اللبناني

    [8] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 1246

    [9] الرازى ، مفاتيح الغيب ج08 ص 87،84

    [10] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج4 ص3358

    [11] الرازي ، مفاتيح الغيب ج 8 ص 653

    [12] أحمد حسن رضوان ، مسائل في تأويل الأحاديث ص 110

    [13] د. نواف الحليس ، المنهج الاقتصادى في التخطيط لنبي الله يوسف عليه السلام ص 18-19 طبعة ثانية 1990الرياض

    [14] الألباني ، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص 339

    [15] د. ألكسيس كارليل ، الإنسان ، ذلك المجهول ص 102-104

    [16] استانلي كريبز ، مجلة العلم والمجتمع ، طبعة عربية من مجلة Impact تصدر عن مجلة اليونسكو يونية - أغسطس سنة 1975 مقال: إحداث تأثيرات تفاعلية في الإنسان المتغير ص 85،82

    [17] الألباني ، صحيح سنن ابن ماجة ، ج2 ص 338-342
    والأحاديث السابقة عن الرؤيا من نفس المصدر ونفس الصفحات

    [18] نفس المصدر ج1 ص 118

    تعليق

    • يوسف كمال محمد
      1- عضو جديد
      • 2 فبر, 2014
      • 66
      • عمل حر
      • مسلم

      #62
      حتي يغيروا ما بأنفسهم

      من
      سورة الرعد

      مقدمة

      في سورة يوسف كان الحديث مستفيضا عن الصبر بالله ، صبرؤ يعقوب ويوسف ، حيث كانت المحن والمصائب تتوالي ، وكان الصبر علي هذه المصائب والحجن صبرا جميلا .
      وفي سورة الرعد حديث عن الصبر ا لله ، وتستكمل سورة الرعد بقية أيواب الصبر التي ذكرت في سورة يوسف وهي الصبر علي الطاعات والصبر علي المعاصي ، وذلك في حضن خلق الصبر ابتغاء وجه الله .
      وقد شغلت عبرة التاريخ مساحة كبيرة في سورة يوسف ، حيث القصة تكاد تشمل السورة كلها . وهنا في سورة الأعراف ، تحل عبرة الكون محل عبرة التاريخ ، كما هو أسلوب القرآن في ا الترويج والعرض .

      عبرة الكون
      وجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم:وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ، فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل ، وأيضا أنه تعالي قد أتي هنا مما يدل علي توحيده عز وجل مايصلح
      قوله تعالي: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)
      وتبدأ السورة باستعراض آيات القدرة ، وعجائب الكون الدالة علي قدرة الخالق وحكمته وتدبيره ،ومن دلائل هذه الحكمة وهذا التدبير قوله تعالي: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)
      والسماوات أيا كان مدلولها وأيا كان مايدركه الناس من لفظها في شتى العصور ، معروضة علي الأنظار ، هائلة ولاشك حين يخلو الناس إلي تأملها لحظة ، وهي هكذا لاتستند إلي شئ ، مرفوعة بغير عمد مكشوفة ترونها....
      ويسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسي .. ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء ، فيجريها لأجل لاتتعداه ... الأمر كله علي هذا النحو من التدبير لاشك عظيم جليل التقدير .
      وقوله تعالي: وهو الذى مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ، يغشي الليل النهار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون *
      إن ومد الأرض وبسطها أمام النظر ، وانفساحها علي مداه ... وبها الرواسي الثوابت من الجبال ، وتجرى فيها الأنهار ...وجعل فيها من كل الثمرات ذكر وأنثي ، حتي التي ليس لها من جنسها ذكورا ، تحمل في ذاتها الزوج الآخر .. وهذا مالم تعرفه البشرية إلا حديثا .
      والليل والنهار يتعاقبان في انتظام ، يقدم الليل ويدبر النهار ، ويشرق الفجر وينقشع الليل .. لاتتخلف الدورة ولاتضطرب ، دلالة علي القدرة المبدعة لمن خرج عن الإلف ، وتأمل آلاء الله .
      " إن طبقة السيالأ أو طبقة القشرة الأرضية التي نعيش عليها ، هي التي تشكل القارات ، وتحتضن المحيطات ، وترتفع جبالا في مكان ، وتنخفض وديانا في مكان آخر ، وتشكل السهول الخضراء والصحارى المقفرة . وتلي هذه الطبقة مباشرة ضمن ترتيب طبقات الأرض ، طبقة السيما ، وهي أصلب من طبقة السيال ، ولكنها تحت ثقل طبقة السيال الهائل يصبح لها قوام عجيني ، ما دام الثقل فوقها ، وهذا القوام العجيني يسهل انزلاق القارات عليها ، كما يسهل اندفاع البراكين منها . ..
      فقارة أمريكا تنزلق حاليا نحو الشرق بسرعة ملحوظة للقياسات العلمية ، كما شأن جميع القارات ، إذ كانت متصلة ثم انفصلت وتباعدت . وأثناء هذا الانسياح المجهول الأسباب للقارات ، تعاني مقدمة القارة ضغطا من السيما يجعد وجهها فتحدث الجبال بقممها البارزة في الهواء وجذورها الغائرة في السيما . ومن المعتقد أن القسم البارز من الجبل يقابله جذر أطول منه بأربع مرات ونصف ذاهب في السيما .
      وهذه الجذور الغائرة تشكل وتدا يمنع القارة من التمادى في الانزلاق . فالقارة الأمريكية تنزلق بسرعة تزيد عن المتر في السنة ، ولكن القوة التي تدفعها للانزلاق كان من الممكن أن تدفعها بسرعة تبلغ كيلو مترات كثيرة لولا وجودالأوتاد الجبلية في السيما .
      ولو حدث هذا لأدى إلي عدماستقرار الأرض ، بل لأدى إلي اندثار الحضارة من فوقها ، لعدم إمكانية الاستقرار عليها باختلال توازنها ،إذن فهذه الجبال تعتبر من أهم عناصر توازن الأرض وثباتها ."[1]

      كل هذا التدبير والحكمة في الكون يؤدى إلي نتيجة مؤكدة أن وراء ذلك غاية ، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس ، وأن من مقضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجوعهم إلي الخالق الذى بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم ، وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم ...
      فالعجب من تكذييب هؤلاء المشركين بالمعاد ، مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه . وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، وإن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل . ولهذا كان الكفر بالآخرة كفر بالله ، ونتيجته أن يحيط الباطل والفساد بأعناق الناس كالأغلال بما نسوا يوم الحساب .
      وهم لايكفيهم هذه الآيات الكونية ، والآيات القرآنية ، فيطلبون خوارق علي سبيل الهروب من هذا الحق ، ولو نزلت عليهم هذه الخوارق ما آمنوا ، والله يعلم سرهم وعلانيتهم كما يعلم كل مافي الكون ظاهرا وباطنا ، ولن يؤمنوا إلا أذا أرادوا ذلك وسعوا إليه من داخلهم .
      موضوع السورة

      ينحضر موضوع السورة بين آيتين ، يقول تعالي: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)
      وقوله تعالي :وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(27)
      ومن ثم تأخذ السورة في بيان الحكمة من عدم إنزال هذه الآيات ، ممثلة في رسالة الإنسان في الكون والحياة .
      إن الكون والحياة يتميزان كما أراد الله بالتنوع والاختلاف ، وهما في حالة حركة دائمة لاتهدأ ، والحال أيضا في الإنسان يتميز عن غيره من الناس ، وهو أيضا في حالة حركة إماإلي شباب وإما إلي هرم ، وكذلك المجتمعات متباينة ، وهي في حركة إما لتقدم أو إلي تخلف . وهذه الحركة التي في الكون والحياة ، والإنسان ومجتمعاته لاتعمل كيفما اتفق ، وإلا لتحول الوجود إلي فوضي تؤدى إلي دماره وفنائه . وإنما يحكم الجميع سنة الله التي لاتتبدل ولاتتغير ، فكل شئ يدور حول محور ، ويتحرك إلي غاية ى. والإنسان محكوم بهذه السنة في حياته ، محكوم بسنة التنفس ليحيا وسنة الطعام ليبقي وسنة الزواج ليمتد ، ولايستطيع أن يعارض هذه السنن . هذه السنن هي قوانين الله التي يخضع لها كل شئ وحي طوعا أو كرها ،
      فالسجود لله حقيقة واقعة ، في الكون والحياة ، طوعا أو كرها ، وإذا كان للإنسان شق يستطيع به ألا يسجد ، فهناك شق كبير منه لايستطيع إلا أن يسجد طوعا أوكرها.
      والسجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع . وكل من في السماوات والأرض ساجد لله بهذا المعني . ..
      والمراد من سجود الظلال ميلانها من جانب إلي جانب ، فهي محكومة بحركة الشمس لاتحيد عنها ، وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع السمس ، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلي جانب ، وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر ، لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين .[2]
      قوله تعالي: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(15)
      ولكن ترك للإنسان شق يختار فيه بين الإيمان والكفر وبين الهدى والضلال وبين الفجور والتقوى ، حكمة من الله تعالي ، من أجلها خلقت السماوات والأرض . فمن أخضع هذا الشق لسنن الله عاش مع كون مأنوس منسجم ، ومن خالف هذه السنن كان نشازا يلعنه كل شئ وحي ممن يسجد لله تعالي ، ويصير عبدا مهينا لكل شهوة ولكل جبار .
      يقول تعالي: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(18)أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(19)
      وعقيدة لاإله إلا الله التي تفسر للمؤمن الوجود ، وتحدد له رسالته التاريخية ، ماتكاد تستقر في الضمير حتي تحرك صاحبها لتحقيق واقع محدد المعالم ، مطلوب إنشاؤه ، بحافز لايهدأ حتي يقام . وهذا هو مضمون شهادة الحق ، فهو يغير نفسه فيطابق بين واقع حياته وبين مايعتقد ، ويطابق بينها وبين مجتمعه المسلم حتي يكون مطابقا لما أراده الله ، ويجاهد بها الناس جميعا حتي يتحرروا من كل قيود تمنع اختيارهم الحر لما يعتقدون .
      وحتي يحقق هذا لابد من بذل جهد في دفع الباطل ، في معركة تحقق السيادة للمؤمنين وتزيح عن صدور العباد جبروت المستكبرين . فقد اقتضت حكمة الله أن الإنسان لايمكن أن يحقق غاية وجوده إلا ببذل الجهد ، ذلك لأن هذا الجهد هو المحضن الذى ينمو فيه الإيمان ، وتختبر فيه النفوس ، كذلك يقذف الله بالحق علي الباطل ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض.
      يقول تعالي: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)
      "المعقبات : المراد به الملائكة الحفظة ، وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس . وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب ، وكل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب ... والمستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها ، ولايشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شئ أصلا ...يجفظونه بأمر الله وإعانته ......."[3]
      ومن علامات تحقق التغيير أن يصل العبد ما أمر الله به أن يوصل ، وذلك من مقتضي الوفاء بالعهد وإبرام الميثاق . وذلك يتحقق بالإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات ..التي تتضمن الرعاية لحقوق الله والشفقة علي عباده . فليس ذلك فيما بينه وبين الله تعالي فقط ، وإنما أيضا مابينه وبين العباد ...حيث يلزم رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد... وعلي رأسها صلة الرحم وصلة أخوة الإيمان ، فالأولي قرابة الدم والأخرى قرابة الروح . يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : الراحمون يرحمهم الرحمان تبارك وتعالي ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.[4]
      وقد انبثق خلق التواصل من منابع الإيمان بالله واليوم والآخر ، وأحيط بما يصونه من صلاة وإنفاق في سبيل الله ، وخشية وخوف من الله ، وحلم وصبر ووفاء .
      "فالله تعالي لايغير ماهم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد . ... والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقته في إظهار عبودية الله تعالي ، فإن الله يكثر عليهم الغم وينزل عليهم أنواعا من العذاب ... وليس لهم من دون الله من يتولاهم ويمنع قضاء الله يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:
      (إن الناس إذا رأوا الظالم ، فلم يأخذوا علي يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)[5]
      " اعلم أنه تعالي لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمي والبصير والظلمات والنور ، ضرب للإيمان والكفر مثلا آخر ... فالماء يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها ، وإذا زاد علي قدر الأودية ينبسط علي الأرض ، ويطفو الزبد الذى يحتمله الماء عليه ، ثم يتبدد في الأطراف ويبطل ..
      فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن ، والأودية قلوب العباد . وشبه القلوب بالأودية ، لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن ، كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء. وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أوضيقه ، فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن مايليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه . وكما أن الماء يعلوه زبد ... كذلك ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات ، ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقي العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة..
      ولما ضرب تعالي المثل بالزبد الحاصل من الماء ، أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار ... الذى يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديدية والنحاس والرصاص .. يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها ... كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل ..
      إن الزبد قد يعلو علي وجه الماء ويربو وينتفخ ، إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقي الجوهر الصافي من الماء ... فكذلك الشبهات والخيالات ، قد تقوى وتعظم ، إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ، ويبقي الحق ظاهرا لايشوبه شئ من الشبهات ...
      والذين أجابوا الرسول إلي ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة علي لسان رسوله فلهم الحسني . .. وهي المنفعة الخالية من شوائب المضرة ...
      وأما أحوال الأشقياء ... لو أن لهم مافي الأرض جميعا لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب . ولهم سوء الحساب ، ذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم ، ومأواهم جهنم بما كانوا غافلين عن الله عاكفين علي لذات الدنيا ... وكانت جهنم لهم مأوى ، وبئس المهاد."[6]
      يقول تعالي : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(16)أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُكَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ(17)

      الأساس العقيدى
      مراتب الصبر أربعة :
      1-مرتبة الكمال ، وهي مرتبة أولي العزم ، وهي الصبر لله وبالله ، فيكون في صبره مبتغيا وجه الله ، صابرا له متبرئا من حوله وقوته ، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها .
      2- أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا ، فهو أخس المراتب ، ,اردأ الخلق ، وهو جدير بكل خذلان ، وبكل حرمان.
      3- مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل علي حوله وقوته ، متبرئ من حوله هو وقوته ، ولكن صبره ليس لله ، إذ ليس ضبره فيما هو مراد الله الديني منه ، فهذا ينال مطلوبه ، ويظفر به ، ولكن لا عاقبة له ، وربما كانت عاقبته شر العواقب .
      4- من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به ، والتوكل عليه ، والثقة به ، والاعتماد عليه . فهذا له عاقبة حميدة . ولكنه ضعيف عاجز ، مخذول في كثير من مطالبه .. فنصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله .
      وصابر بالله لا بالله ، حال الفاجر القوى ، وصابر لله وبالله ، حال المؤمن القوى ، والمؤمن القوى خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف .
      فصابر لله وبالله عزيز حميد ، ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول ، ومن هو بالله لا لله قادر مذموم ، ومن هو لله لا بالله عاجز محمود.[7]
      يقول تعالي: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20)وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)
      قيل العهد : سائر ماوصي الله تعالي به عباده . والميثاق : إقرار وقبول .
      " هذه الآية من أولها إلي آخرها جملة واحدة ، شرط وجزاء ، وشرطها مشتمل علي قيود ، وجزاؤها يشتمل أيضا علي قيود.
      1- الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) ،جعل تحته كل ماقام الدليل عليه ... ويدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ، ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات ، ويدخل فيه أداء الأمانات ...
      يقول صلي الله عليه وسلم :
      (لاإيمان لمن لاأمانة له ، ولادين لمن لاعهد له .)[8]
      2-وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) ، لما وجب وجود الوفاء بالعهد لزم أن يمتنع عدمه ، فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان . ..
      3-والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل علي وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات ..فليس ذلك فيما بينه وبين الله تعالي فقط ، وإنما أيضا مابينه وبين العباد ...حيث يلزم رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد... وعلي رأسها صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان .. ويدخل في هذه الصلة إمدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام علي الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم، ويدخل فيه كل حيوان حتي الهرة ..
      وحاصل الكلام : أن قوله تعالي: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) ، إشارة إلي التعظيم لأمر الله .
      وقوله تعالي: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، إشارة إلي الشفقة علي خلق الله ..
      4-وإن أتي بكل ماقدر عليه في تعظيم أمر الله ، وفي الشفقة علي خلق الله إلا أنه لابد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستوليان علي قلبه ."[9]
      "5-والخشية أشد الخوف ، لأنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية أى يابسة ، ولذا خصت بالرب في هذه الآية . وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا ، والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا ..
      6-والذين صبروا :علي كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية ومايخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيها ذكر التكاليف . ابتغاء وجه ربهم :طلبا لرضاه تعالي من غير أن ينظروا إلي جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلي جانب أنفسهم زينة وعجبا ...
      7-والمراد بالصلاة: قيل الصلاة المفروضة ، وقيل مطلقا وهو أولي ، ومعني إقامتها إتمام أركانها وهيئاتها .
      8-والإنفاق: بعض ما أعطيناهم ، وهو الذى وجب عليهم إنفاقه كالزكاة ، وما ينفق علي العيال .. والذى ندب . سرا: حيث يحسن السر ، كما في إنفاق من لايعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار ، أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء ، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من الأخذ ظاهرة . وعلانية : حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر علي خلاف ماذكر .. 9-ويدرأون بالحسنة السيئة :أى يدفعون الشر بالخير ، ويجازون الإساءة بالإحسان ... قال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا ."[10]

      المناسبة

      " ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم: وكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) ، فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل ، وأيضا أنه تعالي قد أتي هنا مما يدل علي توحيده عز وجل مايصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله : أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ (39) ، وأيضا في كل من السورتين مافيه تسلية له صلي الله عليه وسلم ، هذا مع اشتراك آخر السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لايخفي ."[11]

      بين سورتي يوسف والرعد

      قي سورة يوسف عليه السلام أخذ يعقوب عليه السلام ميثاق الرحم علي أبنائه ، حين طلبوا أخاهم ليراه العزيز . يقول تعالي:
      قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(66) (
      وقد أوفوا بعهدهم ولم ينقضوا ميثاقهم لولا مكر العزيز ليأخذ أخاه . وسعوا في إطلاق سراحه حتي بأن يفتدوا أنفسهم به . يقول تعالي :
      قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ(79)فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(80)
      وفي سورة الرعد كان الوفاء بالعهد وعدم نقض الميثاق يرتبط عضويا بالأمر بصلة ماأمر الله به أن يوصل ، وعلي رأسه صلة الرحم . يقول تعالي:
      إأَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20)وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ الْحِسَابِ(21)
      وكان خلق يعقوب في تعامله مع رحمة تتسم بالصبر الجميل ، في قوله تعالي علي لسانه:
      بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌوَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)
      وكانت هذه صفة المؤمنين الذين يصلون رحمهم ويصبرون عليهم في قوله تعالي :
      وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22)
      وكان يعقوب عليه السلام يسلم أمره لله ولايكف لسانه عن ذكره . يقول تعالي علي لسانه:
      قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(86)
      وفي سورة الحجر يصف تعالي المؤمنون :
      الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)ا
      ولهذا بعد أن طهرت قلوبهم من الغل لم ينقضوا الميثاق ، كان إنعام الله عليهم في قوله تعالي علي لسان يوسف عليه السلام:
      وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ

      وفي سورة الرعد كان إنعام الله علي من هذه صفته بالجنة والرضوان ، يقول تعالي :
      جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)



      [1] د. محمد حسن هيتو ، المعجزة القرآنية ص 228-231

      [2] الرازى ، مفاتيح الغيب ج9 ص 221

      [3] الرازى ، مفاتيح الغيب ح9ص208-210

      [4] رواه أبو داود والترمذى ، الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1 ص 661

      [5] رواه أبو داود والترمذى ، الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1 ص 398

      [6] الرازى ، مفاتيح الغيب ج17 ص225-230

      [7] ابن قدامة ، مدارج السالكين ج2 ص 163-164

      [8] رواه أحمد ، الألباني ، ضحيح الجامع الصغير ج2 ص 120

      [9] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 17ص 231-233

      [10] الألوسي : روح المعاني ج7 ص 134-135

      [11] الألوسي ، روح المعاني ج7 ص 80

      تعليق

      • يوسف كمال محمد
        1- عضو جديد
        • 2 فبر, 2014
        • 66
        • عمل حر
        • مسلم

        #63
        القول الثابت
        كما تبينه

        سورة إبراهيم


        مقدمة
        اهتمت السور من يونس عليه السلام حتي سورة الحجر بتربية المجتمع المسلم على منظومة من القيم الإيمانية والأخلاق الاجتماعية التى تعينهم علي مواجهة الظالمين .
        وقد رأينا في سورة الأنفال وبراءة الحدود الشرعية في العلاقات بين المسلمين وغيرهم ، ووضع قواعد تشريعات الولاء والبراء ، ثم يتلطف ربنا سبحانه وتعالى في الأنتقال من التشريع إلى التربية في نفس الموضوع ، فيبدأ في سورة يونس بالتربية على التوكل عليه الذى يميز أولياء الله ، ونهت سورة هود عليه السلام عن الركون إلى الظالمين والاستقامة على أمر الله .
        ولما كان هذا يتضمن خصائص قلبية وسلوكية في مواجهة الظالمين ، تبعتهما سورة يوسف عليه السلام بالتربية على الصبر الجميل ، وتلتها سورة الرعد بالتربية على أن يكون الصبر ابتغاء وجه الله .
        وتهتم سورة إبراهيم عليه السلام بالتربية على الثبات على الحق ، وتؤكد هذا سورة الحجر بالتربية على الصمود على هذا الطريق حتى لقاء الله تعالى ، وهو اليقين الذى لا شك فيه .
        وبالثبات والصمود ، يرسخ الحق فلا يتزحزح الإنسان عن الإيمان مهما اشتعلت الفتنة ، ولا عن الحق مهما اشتد العذاب ، فتستقر نفسه على أرض الإسلام ، وتمتد جذوره بعمق في دنيا الإيمان . ومن ثم عشنا في سورة إبراهيم على فضيلة الثبات على الحق .

        الأساس العقيدى


        تهتم هذه السورة بالتربية علي خلق الشكر لله تعالي علي نعمة الهداية والإيمان .
        وبينما كانت الصلاة مصحوبة بالصبر في سورة الرعد في قوله تعالي: والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً ويَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، صحبت الصلاة الشكر في سورة إبراهيم ، في قوله تعالي: رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ."
        وجمعت سورة إبراهيم الصبر والشكر معا في قوله تعالي : إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) .
        يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن إصابته سراء شكر وكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ."[1]
        " والإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر . وقد أمر الله بالشكر ونهي عن ضده . وأثني علي أهله . ووصف به خواص خلقه ، وجعله غاية خلقه وأمره ، ووعد أهله بأحسن جزائه ، وجعله سببا للمزيد من فضله ، وحارسا وحافظا لنعمته . وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته ، واشتق لهم اسما من أسمائه ، فإنه سبحانه هو الشكور ،... وهو غاية الرب من عبده ، وأهله هم القليل من عباده ...
        وكذلك حقيقته في العبودية : وهو ظهور أثر نعمة الله علي لسان عبده ، ثناء واعترافا . وعلي قلبه : شهودا ومحبة . وعلي جوارحه : انقيادا وطاعة .
        فهذه الخمس: هي أساس الشكر ، وبناؤه عليها ، فمتي عدم منها واحدة ، اختل من قواعد الشكر قاعدة ...
        والشكر معه المزيد أبدا ، لقوله تعالي : لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ، فمتي لم تر حالك في مزيد ، فاستقبل الشكر ...
        فالشكر اسم لمعرفة النعمة ، لأنها السبيل إلي معرفة المنعم . ولهذا سمي الله تعالي الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا ... "[2]
        "والشكر أصله من عين شكرى أى ممتلئة ، فالشكر هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه ، ومن هذا الوجه قيل هو أبلغ من الحمد ، لأن الحمد لايقتضي الامتلاء ، ومن وجه الحمد ذكر الشئ بصفاته المحمودة ، والشكر ذكره بصفاته وبنعمه . فالشكر علي ثلاثة أضرب :
        1- شكر بالقلب : وهو تصور النعمة .
        2- وشكر باللسان : وهو الثناء علي المنعم .
        3- وشكر بسائر الجوارح : وهو مكافأته بقدر استحقاقه .
        وهو أيضا باعتبار الشاكر والمشكور علي ثلاثة أضرب :
        1-شكر الإنسان لمن فوقه ، وهو بالخدمة والثناء والدعاء.
        2- وشكره لنظيره : وهو بالمكافأة .
        3- وشكره لمن هو دونه : وهو بالثواب ."[3]
        "إن شكر النعمة دليل علي استقامة المقاييس في النفس البشرية ، فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة . هذه واحدة ، والأخرى أن النفس التي تشكر الله علي نعمته ، تراقبه في التصرف بهذه النعمة ، بلا بطر وبلا استعلاء علي الخلق ، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس والفساد .
        وهذه وتلك مما يزكي النفس ، ويدفعها للعمل الصالح ، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ، ويرضي الناس عنها وعن صاحبها ، فيكونون له عونا، ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان ، إلي أخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة ، وإن كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن ، أدرك الأسباب أم لم يدركها ، فهو حق واقع لأنه وعد الله .
        والكفر بنعمة الله قد يكون بعدم شكرها ، أو بإنكار أن الله واهبها ، ونسبتها إلي العلم والخبرة ، والكد الشخصي والسعي ، كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله ، وقد يكون بسوء استخدامها ، بالبطر والكبر علي الناس ،واستغلالها للشهوات والفساد ، وكله كفر بنعمة الله .
        والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة ، عينا بذهابها أو سحق آثارها في الشعور ، فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقي بها صاحبها ويحسد الخالين ، وقد يكون عذابا مؤجلا إلي أجله في الدنيا أو في الآخرة كما يشاء الله ، ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لايمضي بلا جزاء .
        ذلك الشكر لاتعود علي الله عائدته ، وهذا الكفر لايرجع علي الله أثره ، فالله غني بذاته ، محمود بذاته ، لابحمد الناس وشكرهم علي عطاياه . "[4]

        موضوع السورة
        وموضوع السورة يدور حول الكلمة الطيبة ، ذات الأصل الثابت . في مقابل الكلمة الخبيثة التي اجتث أصلها . والله يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الدنيا والآخرة ، أما الظالمون فيضلون بتبديلهم الحق .
        وينبثق من الكلمة الطيبة شكر النعمة ، ويترتب علي الكلمة الخبيثة الكفر بآلاء الله ونعمه .
        يقول تعالي: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(27)
        يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
        مثل المؤمن مثل النخلة ، لاتأكل إلا طيبا ، ولا تضع إلا طيبا .[5]
        يقول ابن عباس : الكلمة الطيبة : لا إله إلا الله ، والشجرة الطيبة المؤمن ، والمعني أصل الكلمة في قلب المؤمن ، وهو الإيمان ، شبهه بالنخلة في المنبت ، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة وثواب الله له بالثمر .
        " والقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كلمة الإخلاص والنجاة من النار :لاإله إلا الله، والإقرار بالنبوة ، وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلي يوم القيامة ."[6]
        والكلمة الخبيثة كلمة الكفر وقيل الكافر ، والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل.. ويثبت الله المؤمنين في الدارين جزاء علي القول الثابت .. ويضل الله الظالمين بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق .[7]
        " واعلم أنه تعالي ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها :
        1- كونها طيبة ، طيبة في منظرها ورائحتها وشكلها ...
        2- أصلها ثابت : أى راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ، وذلك لأن الشئ الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه ، إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه . أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لايزول ولاينقضي ، فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به .
        3- وهذا الوصف يدل علي كمال حال تلك الشجرة من وجهين :
        أ- أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل علي ثبات الأصل ورسوخ العروق .
        ب- أنها متي كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية ، فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب .
        4- أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة بأن ثمراتها تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات. ولاتكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضرا في بعض الأوقات دون بعض ...
        وذكر تعالي شجرة موصوفة بصفات ثلاثة ثم شبه الكلمة الخبيثة بها :
        1- أنها تكون خبيثة ، بحسب الرائحة وبحسب الطعم وبحسب الصورة والنظر ، وبحسب اشتمالها علي المضار الكثيرة ...
        2- استؤصلت من فوق الأرض ... فليس لها أصل ولاعرق ..
        3- ليس لها استقرار ، شبه ذلك بالقول الذى لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت ..
        فكونها موصوفة بالمضار ، فإليه الإشارة بقوله تعالي: خبيثة ، وأما كونها خالية من كل المنافع فإليه الإشارة بقوله تعالي:اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار."[8]
        " إن الكلمة الطيبة ، كلمة الحق ، كالشجرة الطيبة ، ثابتة سامقة مثمرة . ثابتة لاتزعزعها الأعاصير ، ولاتعصف بها رياح الباطل ، ولاتقوى عليها معاول الطغيان ، وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان ، سامقة متعالية ، تطل علي الشر والظلم والطغيان من عل ، وإن خيل إلي البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء ، مثمرة لاينقطع ثمرها ، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن .
        وإن الكلمة الخبيثة ، كلمة الباطل ، كالشجرة الخبيثة ، قد تهيج وتتعالي وتتشابك ، ويخيل إلي بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة ، وتظل جذورها في التربة قريبة حتي لكأنها علي وجه الأرض . وماهي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض ، فلاقرار لها ولا بقاء.
        ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب ، ولامجرد عزاء للطيبين وتشجيع ، إنه هو الواقع في الحياة ، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان ."[9]
        وبين الثبات علي كلمة الحق من المؤمنين والإضلال بالكلمة الخبيثة من المستكبرين ، يقف المستضعفون من البشر . ويصور القرآن حالهم في قوله تعالي : وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ (21)
        " برزت الخلائق كلها ، برها وفاجرها لله الواحد القهار ، أى اجتمعوا له في براز من الأرض ، وهو المكان الذى ليس فيه شئ يستر أحدا ، فقال الضعفاء : وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله وحده لاشريك له ، وعن موافقة الرسل ، قالوا لهم : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا، أى مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ َْ ؟ أى هل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ، فقالت القادة لهم : لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ، ولكن حق علينا قول ربنا ، وسبق فينا وفيكم قدر الله ، وحقت كلمة العذاب علي الكافرين ، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ، أى ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه ."[10]
        أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال ، ألم تؤخروا في الدنيا وألم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وسفها مالكم من زوال مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية ، أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدا وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلي هذه الأحوال والأهوال ...
        وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ، قررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات ، وفي إيقاع الظلم علي أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آيلة إلي صاحبه ...وضربنا لكم الأمثال لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم علي أعمالهم ومالكم علي مالهم ...."[11]
        " والضعفاء هم الضعفاء ، هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم علي الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ، وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة ، ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها علي الدينونة لله . والضعف ليس عذرا ، بل هو الجريمة ، فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا ، وهو يدعو الناس كلهم إلي حماه يعتزون به والعزة لله . ومايريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية ، التي هي ميزة ومناط تكريمه ، أو أن ينزل كارها . والقوة المادية ، كائنة ماكانت ، لاتملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية ، ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد ، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . أما الضمير ، أما الروح، أما العقل ، فلايملك أحد حبسها ولا استذلالها ، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال.
        من ذا الذى يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة ، وفي التفكير ، وفي السلوك ، من ذا الذى يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله ، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ؟ لاأحد . لاأحد إلا أنفسهم الضعيفة ، فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة ، ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما ، كلا ، إن هذه كلها أعراض خارجية لاتعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان .
        إن المستضعفين كثرة ، والطواغيت قلة ، فمن ذا الذى يخضع الكثرة للقلة ؟ وماذا الذى يخضعها ؟ إنما يخضعها ضعف الروح ، وسقوط الهمة ، وقلة النخوة ، والتنازل الداخلي عن الكرامة اللتي وهبها الله لبني الإنسان .
        إن الطغاة لايملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير ، فهي دائما قادرة علي الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان ."[12]
        " وقد مكر الظالمون مكرهم وعند الله مكرهم ، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال .

        إن الله محيط بهم وبمكرهم ، وان كان مكرهم من القوة والتأثير حتي ليؤدى إلي زوال الجبال ، أثقل شئ وأصلب شئ ، وأبعد شئ عن تصور التحرك والزوال . فإن مكرهم هذا ليس مجهولا ، وليس خافيا ، وليس غريبا ، عن متناول القدرة . بل إنه لحاضر عند الله يفعل به كيفما يشاء .
        فما لهذا المكر من أثر ، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر .
        والله لا يدع الظالم يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو . يعني ذلك تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم تحقيقا لعدل الله في الجزاء .
        وسيكون ذلك لا محالة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات . ولا ندرى نحن كيف يتم هذا ، ولا طبيعة الأرض الجديدة وطبيعة السموات ولا مكانها . فهذا المكر مهما اشتد فهو ضئيل عاجز حسير ."[13]
        يقول تعالي: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ(45)وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47)يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48)


        عبرة التاريخ

        تميزت سورة إبراهيم في عرضها لتاريخ الرسالات بتبيان أن كل رسول يرسل بلسان قومه ليبين لهم ،يقول تعالي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4)
        " ؤفي السور الماضية يجئ كل رسول فيقول كلمته لقومه ويمضي ، ثم يجئ رسول ورسول ، كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلي أجل في الأرض أو إلي أجل في يوم الحساب ... فأما سورة إبراهيم ، أبي الأنبياء ، فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهلين كلهم في صف ، وتجرى المعركة بينهم في الأرض ، ثم لاتنتهي هنا بل تتابع خطواتها كذلك يوم الحساب ... فههنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ، ويتلاشي الزمان والمكان ، وتبرز الحقيقة الكبرى ، حقيقة الرسالة وهي واحدة ، واعتراضات الجاهلين عليها وهي واحدة ، وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة . وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة ، وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة ، وحقيقة العذاب الذى ينتظرهم هناك وهي واحدة .."[14]
        يقول تعالي: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِه وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9)قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(10)
        وتقص علينا السورة توفيق الله تعالي لإبراهيم عليه السلام في الثبات علي القول الثابت . . يقول تعالي علي لسانه : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(36)
        كما كان توفيق الله تعالي له للشكر علي نعمة الإيمان . يقول تعالي علي لسانه : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ(38)الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(39)
        " يذكر تعالي في هذا المقام مشركي العرب بأن البلد الحرام ، مكة ، إنما وضعت أول ما وضعت علي عبادة الله وحده لاشريك له ، وأن إبراهيم ، الذى كانت بسببه آهلة ، تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن .. وقد استجاب الله له ... وعرف البيت هنا لأنه دعا به بعد بنائها ... ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة ، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلي مكان مكة فإنه دعا أيضا فقال رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً."[15]
        قوله : ومَنْ عَصَانِي، ظهره بالكفر لمعادلة قوله : فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي،وإذا كان ذلك كذلك فقوله: فَإنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ،معناه : بتوبتك علي الكفرة حتي يؤمنوا ، لاأنه أراد أن الله يغفر لكافر . ولكن حمله علي هذه العبارة ماكان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب صلي الله عليه وسلم ، قال قتادة : اسمعوا قول الخليل ، والله ماكانوا طعانين ولالعانين ، وكذلك قال نبي الله عيسي عليه السلام : وإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ."[16]
        " رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، خصها من جملة الدين لفضلها فيه ، ومكانها منه ، وهي عهد الله عند العباد ...وتضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ... فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ :والأفئدة : جمع فؤاد وهي القلوب ... .والمعني : واجعل وفودا من الناس تهوى إليهم . أى : تنتزع . .. قال ابن عباس ومجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس ، ولكن قال: من الناس فهم المسلمون ... وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ: فاستجاب الله دعاءه وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار ، وبما يجلب إليهم من الأمصار ."[17]
        " لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية ، واستدل به علي أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها علي أداء العبادات وإقامة الطاعات ، ولايخفي مافي دعاءه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب ، والمحافظة علي قوانين الضراعة ، وعرض الحاجة ، واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة ، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسؤول . ولابدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام ."[18]
        " أسكن الله أهل مكة حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلي الله عليه وسلم فكفروا نعمة الله تعالي بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم ...وأنزلوا قومهم بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال .. الهلاك .، وهي جهنم يقاسون حرها ... ويحلون بها علي وجه الدوام والاستمرار .. جزاء كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومه... فتمتعوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله كفرا واستتباع الناس في الضلال .. فإن مصيركم إن دمتم علي ذلك إلي النار . "[19]


        المناسبة
        ارتباط سورة إبراهيم " بالسورة التي قبلها واضح جدا ، لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان أنه مغن عما اقترحوه ماذكر . وافتتحت هذه بوصف الكتاب ، والإيماء إلي أنه مغن عن ذلك أيضا . وإذا أريد بـ: ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ في سورة الرعد الله تعالي ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة . وأيضا قد ذكر في تلك إنزال القرآن حكما عربيا ، ولم يصرح فيها بحكمة ذلك ، وصرح بها هنا . وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالي بأنه ومَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ تعالي ، وتضمن هذه الإخبار به من جهة الرسل عليهم السلام ، وأنهم قالوا :ومَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ . وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن : عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وحكي هنا عن إخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه واشتملت تلك علي تمثيل للحق والباطل . وأيضا ذكر في الأولي من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر ، إلي غير ذلك ما ذكر ، وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ماذكر أولا آيات ، وما ذكر ثانيا نعما ، وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر.




        [1]رواه مسلم وأحمد ، صحيح الجامع الصغير ج 2 ص 737

        [2] ابن القيم ، مدارج السالكين ج2 ص 232-236

        [3] الأصفهاني ، الذريعة إلي مكارم الشريعة ص 279

        [4] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج4 ص 2088-2089

        [5] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 1-17

        [6] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج8 ص 239

        [7] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج5 ص 3592

        [8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج17 ص 330-336

        [9] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج4 ص 2098-2099

        [10] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ج2 ص 817-818

        [11] الألوسي ، روح المعاني ج 7 ص 230-234

        [12] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج4 ص 2096

        [13] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج 12ص 2112

        [14] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج8 ص 2079

        [15] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ج2 ص 836

        [16] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج8 ص 251

        [17] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج5 ص2600-2602

        [18] الألوسي ، مفاتيح الغيب ج7 ص 227

        [19] الألوسي ، روح المعاني ج7 ص 2-6

        تعليق

        • يوسف كمال محمد
          1- عضو جديد
          • 2 فبر, 2014
          • 66
          • عمل حر
          • مسلم

          #64
          الصدع بالأمر

          كما تبينه
          سورة الحجر

          مقدمة :

          هذه آخر سور المجموعة . والمجموعة عموما اهتمت بتربية الجماعة المسلمة علي الثبات في مواجهة الظالمين . فأمدتهم سورة يونس بزاد التوكل ، وهدتهم سورة هود إلي الاستقامة ، وعلمتهم سورة يوسف الصبر الجميل ، وربتهم سورة الرعد علي الصبر ابتغاء وجه الله ، وغرست فيهم سورة إبراهيم القول الثابت . وهنا في هذه السورة ، سورة الحجر ، وقد تزودت الجماعة بمقومات الثبات ، يأمرها ربنا تبارك وتعالي بالصدع بالأمر والإنذار المبين ، دون مساومة أو تهاون ، كما يفعل المفرقون بين أوامر القرآن لإرضاء الكافرين . وما أصعبه علي المستكبرين ، وما أشد ردود أفعالهم علي المؤمنين .

          الأساس العقيدى

          يقول تعالي في أول السورة مبينا نعمة القرآن ومحذرا من إلهاء الدنيا : الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ(1)رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3)
          خلق الله تعالي الإنسان من قبضة من طين ونفخة من روحه ، فتحدد حاجاته بإشباع الجسد بالأكل والشرب ، الذى تلاه الاستمتاع بهما والسعي إلي الاستحواز علي مقدراتهما . وله حاجات أخرى ليشبع روحه بمعرفة الله والتقرب إليه وطاعته فيما أمر . فإذا زين له الشيطان الدنيا فأنساه الآخرة يصبح كل همه في المتاع الدنيوى ، وتتقطع أنفاسه في آمال قصيرة للحصول علي أقصي مايستطيع منه . ولأنه لم يشبع روحه فيشقي في داخله ، فيعوض ذلك بمزيد من المتعة ، ويعلق قلبه بسراب من الآمال . فمثل طالب الدنيا ، مثل شارب ماء البحر ، كلما ازداد شربا ، ازداد عطشا حتي يقتله .
          يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
          (ماذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء علي المال والشرف لدينه .)"[1]
          يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
          (يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنتان : الحرص علي المال والحرص علي العمر .)[2]
          خط رسول الله صلي الله عليه وسلم خطوطا ثم بينها فقال:
          (هذا الإنسان ، وهذا أجله محيط به ، وهذا الذى هو خارج أمله ، وهذه الخطوط الصغار الأعراض ، فإن أخطأ هذا نهشه هذا ، وإن أخطأ هذا نهشه هذا .) [3]
          عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنما أخشي عليكم اثنتين : طول الأمل واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق ."[4]

          ونعمة الله علي المؤمنين بنزول القرآن هدى ورحمة لا تعدلها نعمة . والنظر إليها يملأ النفس ويسمو بها عن التطلع إلي لعاعة الحياة الدنيا ، وما يصحبها من غفلة وجشع وعدوان .
          وهنا نرى في آخر السورة يقول تعالي : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(86)وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ(87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88)وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)
          ولقد علمنا أن الشيطان يجد فريسته في النفس الإنسانية إذا ملأت الدنيا قلب الإنسان ، ونسي الآخرة ، فيسهل تسلل الحسد والكبر إليها و اشتعال الغضب فيها ، وقد أعطانا ربنا الأسوة في هذه السورة حين نصحنا بغض الطرف عن زينة الحياة الدنيا . وقدم لنا النموذج في الأنبياء والمرسلين حين لقوا الاستهزاء من الكافرين فقابلوهم بالصفح الجميل .
          ولكي يتحقق النصر علي عدو الله إبليس ، يربي القرآن النفس المؤمنة في مدرستين ، مدرسة الرجاء ، في قوله تعالي علي لسان إبراهيم: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ(56) ومدرسة الخوف ، التي نعرفها في قوله تعالي: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ (99)
          وذلك يجمعه ربنا تبارك وتعالي في رسالته إلي البشرية : نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ(50)
          يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :لو يعلم المؤمن ماعند الله من العقوبة ، ماطمع في الجنة أحد. ولو يعلم الكافر ماعند الله من الرحمة ماقنط من الجنة أحد .[5]
          " المعني : أخبرهم يامحمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم ، الكثير الرحمة لهم ، كما حكمت به علي نفسي ... ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة ، أمره بأن يذكر لهم شيئا مما يتضمن التخويف والتحذير حتي يجتمع الرجاء والخوف ، ويتقابل التبشير والتحذير ، ليكونوا راجين خائفين ... وعندى أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير صاروا في حالة وسطا بين اليأس والرجاء ، وخير الأمور أوساطها ، وهي القيام علي قدمي الرجاء والخوف ، وبين حالتي الأنس والهيبة . ... وأخبرهم بما جرى علي إبراهيم من الأمر الذى اجتمع فيه له الرجاء والخوف ، والتبشير الذى خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنة الله سبحانه في عباده . وأيضا لما اشتملت القصة علي إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين كان في ذلك تقريرا لكونه الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم."[6]

          عبرة التاريخ

          لقد ذكرت قصة غواية إبليس في مكانين سابقين ، أحدهما في سورة البقرة والأخرى في سورة الأعراف . وهنا نرجع إلي ما سبق أن بيناه في المقدمة من الحكمة من القصص القرآني . فليس المقصود منه تفاصيل السرد التاريخي فهذا لا تطيقه الأشجار إن جعلت أقلاما ، والبحار إن كانت مدادا ، وإنما المقصود العبرة من وراء هذه القصة .
          نجد هذه القصة في سورة البقرة تبين طريق الأمة الوسط التي جعلها الله شاهدة علي الناس ، وبيانه تعالي لآدم عليه السلام بعد أن غفر الله له وأهبطه إلي الأرض. وفي سورة الأعراف اهتم القرآن الكريم في عرض السورة ببيان قيم الدعاة في الحفاظ علي الفضيلة وستر العورات .
          وفي هذه السورة يبين لنا القرآن الكريم علي ماسنرى أساليب الإغواء والتزيين التي يتسلل بها الشيطان إلي بني آدم ليضلهم عن سواء السبيل . وذلك في قوله تعالي علي لسانه : قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40)قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41)إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43)
          وخلق الله تعالي آدم وذريته بأمره وحكمته ، وكتب عليهم الموت والحياة للقيام بخلافتهم ، وتتابعت الأمم المتقدمة وتتوالي المتأخرة مختبرة في موقفها بالنسبة لرسالات الله . وتنتهي الحياة ويرث الله الأرض ومن عليها . ثم يحشر الناس للسؤال والجزاء .
          ولقد خلق الله تعالي الملائكة من نور مهيأة علي طاعة الله ، وخلق الجان من نار السموم ، وخلق الإنسان من صلصال من حمإ مسنون وفضله بأن نفخ فيه من روحه . أى أنه يمكن أن يهبط إلي الطين فيعصي ويمكن أن يسمو إلي الروح فيطيع الله . وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا ، وعصي إبليس فأبي أن يسجد كبرا بأنه خلق من نار وآدم من صلصال من حمإ مسنون ، فقد أكل الحسد قلبه لما فضل به آدم عليه . فاستحق اللعنة والرجم إلي يوم يبعثون .
          وهنا أعلن إبليس الحرب ، وكان وسيلته إلي ذلك تزيين الدنيا ، فجند جنده لإغواء البشر وإضلالهم ، حتي يصبح الحق في عقولهم باطلا والصواب خطأ ، فيتمرغون في الطين ويعصون رب العالمين .
          وتفصل السورة حقيقة الرجاء والخوف في نماذج من التاريخ الإنساني وتاريخ الرسالات الإلهية . حيث يظهر مقام الرجاء حين بشرت الملائكة إبراهيم بالولد ، فلما تعجب قالت له الملائكة : قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ( 55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ(56)
          ويظهر مقام التخويف في إنذار لوط وشعيب وصالح لقومهم ، فقد مسخت نفوس قوم لوط فجعلهم إبليس يستمتعون بالخبيث من الفاحشة ، ومسخت نفوس أصحاب الأيكة فظلموا رغم ماأنعم الله به عليهم من الثمار والزروع ، ومسخت نفوس أصحاب الحجر فأمنوا مكر الله حين نحتوا من الجبال بيوتا ، وبخسوا الناس أشياءهم وسعوا في الأرض مفسدين . فكانت العاقبة نزول الملائكة بعذاب الاستئصال الذى اجتثهم جميعا من علي ظهر الأرض .
          فالعجب كل العجب من استعجال قريش لنزول الملائكة واستهزائهم بعذاب الله . وهنا تتجه السورة إلي تسلية رسول الله ، فهذه سنن حدثت في الأمم السابقة ، حيث كذبوا وأنكروا ، واستهزأوا وتطاولوا ، فلم يفلتوا من عذاب الله حين جاء أجلهم .
          وأمر الله تعالي رسوله الكريم أن يعلن الحق عاليا ، وأن ينذر المعاندين ، وبشره أن أعظم نعم الدنيا هو القرآن الكريم الذى أنزله الله تعالي علي رسوله الأمين هدى ورحمة ، وليس هناك مقام شرف أو عطاء عظيم أكبر من هذا الشرف وهذا العطاء . وقد تعهد الله بحفظ كتابه ونصرة رسوله ، فوعظه ألا يضيق صدره بما يقولون وألا يحزن علي ما يفعلون .

          موضوع السورة

          إن الأمر الإلهي بالصدع بالأمر يتبعه ردود أفعال عنيفة من قبل المستكبرين . ومن هنا يطمئن الله تعالي المؤمنين علي حفظه لكتابهم وكفايته لهم، وذلك كما حفظ الله السماء والأرض ،وكما تكفل لهم بالرزق. فهو وحده المتصرف في الكون ،وقد تكفل سبحانه بالزق ، وهو وحده الذى يحيي و يميت ، وإليه الحشر والمصير . فالعبد المؤمن لا يرجو سواه ولا يخاف غيره .
          يقول تعالي :ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) والأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ومَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ومَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ ونَحْنُ الوَارِثُونَ (23) ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَأْخِرِينَ (24) وإنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
          وحسبنا نظرة إلي السماء ومافيها من نجوم وكواكب ، وما يفصل بينها من آماد ، ومايجرى فيها من نظام ، وما يسرى فيها من سنن ، وما يزينها من أشكال وأنوار .
          " والمعني : حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله ...فلا تصل أخبار السماء إلي غير الأنبياء . ولذلك انقطعت الكهانة ."[7]
          " في دقة علمية معجزة يكشف القرآن عن كنه الشهب ، وهو مالم يدركه البشر إلا حديثا ، وأنها تنتج عن حركة الأجسام المادية بسرعة خلال الغلاف الجوى للأرض ..
          كما أشار إلي الحقيقة الفلكية المذهلة وهي : أمتلاء الفضاء بالشهب إنه يقدر أن جو الأرض يدخله يوميا آلاف الملايين من الدقائق بسرعة قد تصل إلي 27 كليو مترا في الثانية لشهب وزنها 1 ملليجرام ، ولايمكن رؤيتها إلا بالتلسكوب ، وسرعان مايتحول معظمها إلي بخار بالاحتكاك بالهواء . ومنها مايرى بالعين المجردة ، كما يقدر مايسقط علي الأرض بعد احتراقه بمقدار 2500 كيلو جرام يوميا ..
          وقد كشف العلم الحديث قرائن مؤكدة علي أنه كان ثمة كوكب بين المريخ والمشترى ، قد انفجر في زمان بعيد ، وتفتت أشلاء لتسبح في الفضاء ، وتصيب كواكب المجموعة الشمسية ، ويعتقد أن هذه الأشلاء وغيرها مازالت مصدر الشهب . "[8]
          و" من الثابت أن للجبال دورا بالغا في تثبيت القشرة الأرضية ، وكبح مابداخلها من مصهورات وأبخرة ، وفي موازنة تأثير الوديان وقيعان المحيطات ، ولولاها لتعرضت الكرة الأرضية إلي اضطرابات لايعلم إلا الله مداها أو منتهاها .
          ومن ناحية أخرى فإن دوران الأرض حول نفسها ثم دورانها حول الشمس في فلك مائل علي محور الأرض بكل ماتحمله الأرض من أثقال ومصهورات ومناطق اضطراب ، هذا الدوران أيضا كان كفيلا ببث الاضطراب في هذا الكوكب لولا دور الجبال ككتل موزعة هنا وهناك علي امتداد القشرة الأرضية ."[9]
          " و جميع الممكنات مقدورة له ومملوكة ، يخرجها من العدم إلي الوجود كيفما شاء ، إلا أنه تعالي وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذى يدخل منها إلي الوجود يجب أن يكون متناهيا ، لأن دخول مالانهاية له في الوجود محال .
          ومتي كان الخارج منها إلي الوجود متناهيا كان لامحالة مختصا في الحدوث بوقت مقدر ، مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلا عنه ، وكان مختصا بحيز معين ، مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلا من ذلك الحيز ، وكان مختصا بصفات معينة ، مع أنه كان يجوز في العقول حصول سائر الصفات بدلا من تلك الصفات ، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين والصفات المعينة بدلا مع أضدادها لابد وأن يكون بتخصيص مخصص وقدير مقدر ."[10]
          " وخواص المادة ، علي أصغر نطاق وعلي الكون كله ، تبدو ملائمة للحياة ملاءمة فذة ، ولاتوجد هناك شواهد كثيرة علي ذلك فحسب ، بل إن حدوث أدني زيادة أو نقصان في الكمية الثابتة يجعل من الحياة في كل حالة أمر مستحيلا ."[11]
          وقد تكفل سبحانه بحفظ الذكر . يقول تعالي: إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
          قوله :إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، رد علي المستخفين في قولهم : ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون . ... وإنا له لحافظون ، عائد علي القرآن ، والمعني: لحافظون من أن يبدل أو يغير كما جرى في سائر الكتب المنزلة .
          " ولم يحفظ تعالي كتابا من الكتب كذلك ، بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار ، فوقع فيها ماوقع . وتولي حفظ القرآن بنفسه سبحانه ، فلم يزل محفوظا أولا وآخرا ... ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالي عنهم لجمعه."[12]
          " وبقاء هذا الكتاب مصونا عن جميع جهات التحريف ، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة علي إبطاله وإفساده ، من أعظم المعجزات . "[13]
          وتكفل سبحانه وتعالي بحماية عباده من إغواء الشيطان . يقول تعالي: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ (42)
          وتكفل سبحانه بحماية رسوله من المستهزئين . يقول تعالي: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ (95)
          ومن هنا يأمر سبحانه وتعالي رسوله بالجهر بالأمر كما أنزل الله تعالي ، غير خائف ولا وجل ، فالله معه ، ناصره وكافيه .
          يقول تعالي: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90)الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ(91)فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95)الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(98)وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)
          " قال ابن عباس : المقتسمون هم أهل الكتاب ، الذين فرقوا دينهم وجعلوا كتاب الله أعضاء ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض." [14]
          يحذر ربنا تعالي المسلمين أن يأخذوا ببعض الكتاب ويتركوا البعض ، لأى سبب من الأسباب ، ومنها مداراة المستكبرين ، بل عليهم أن يأخذوا الكتاب بقوة ، وليبلغوه كما أنزل علي محمد صلي الله عليه وسلم ، وأن يجهروا به بأعلي صوت معرضين عن المشركين .
          "أى بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم ، فقد أمرك الله بذلك . والصدع : الشق ، وتصدع القوم أى تفرقوا ... أى أظهر دينك .. وفرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلي التوحيد ، فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض ...
          وأعرض عن المشركين ،أى عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم ، فقد برأك الله عما يقولون ."[15]
          " الذين يجعلون مع الله إلاها آخر ، أى اتخذوا إلاها يعبدونه معه تعالي .. وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلي الله عليه وسلم وتهوين للخطب عليه صلي الله عليه وسلم بالإشارة إلي أنهم لم يقتصروا علي الاستهزاء به بل اجترءوا علي العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه . فسوف يعلمون ، ما يأتون ويذرون وفيه من الوعيد مالايخفي .
          ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ، من كلمات الشرك والاستهزاء ... فسبج بحمد ربك وكن من الساجدين ، فافزع إلي ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده ... وكن من المصلين ، ففيه التعبير عن الكل بالجزء ..
          وفي أمره صلي الله عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلي مايكشف به الغم الذى يجده ."[16]
          والداعية حين يصدع بالأمر لا بد أن يتصف بخلتان : الحلم والتواضع : فاصفح الصفح الجميل - واخفض جناحك للمؤمنين .
          " والصفح الجميل : هو ماخلا من عتاب ... وكان عليه الصلاة والسلام قادر علي الانتقام منهم ، فكأنه قيل : أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولاتعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم ، وحاصل ذلك أمره صلي الله عليه وسلم بمخالفتهم بخلق رضي وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلي الله تعالي قبل القتال ثم يقاتلهم .... فربك يبلغك إلي غاية الكمال لك ولهم ولسائر الأشياء علي الإطلاق .. عليم بأحوالك وأحوالهم وبكل شئ فلايخفي عليه جل شأنه شئ مما جرى بينك وبينهم ، فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم ."[17]
          و" اعلم أن الغضب شعلة من النار ، وأن الإنسان ينزع فيه عند الغضب عرق إلي الشيطان اللعين ، حيث قال :خلقتني من نار وخلقته من طين . فإن شأن الطين السكون والوقار ، وشأن النار التلظي والاشتعال ...
          ومتي قويت نار الغضب والتهبت ، أعمت صاحبها ، وأصمته عن كل موعظة . لأن الغضب يرتفع إلي الدماغ فيغطي علي معادن الفكر ، وربما تعدى إلي الحس ، فتظلم عينه حتي لايرى بعينه...
          عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم : أوصني . قال:
          ( لاتغضب ، فردد مرارا ، قال: لاتغضب .)[18]
          وينبغي أن يكظم المؤمن غيظه ، لذلك يعظم عند الله تعالي ... يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:( إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتق الشر يوقه."[19]
          قوله تعالي : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)
          " اليقين : الموت ، أمره بعبادته إذ قصر عباده في خدمته ، وأن ذلك يجب عليه ، فإن قيل : فما فائدة قوله : حتي يأتيك اليقين ، وكان قوله : واعبد ربك ،مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا ، وإذا قال :حتي يأتيك اليقين ، كان معناه لاتفارق هذا حتي تموت ... واليقين أبلغ من قوله : أبدا ، لاحتمال لفظ الأبد للحظة الواحدة ولجميع الأبد."[20]

          بين سورتي إبراهيم وسورة الحجر
          " قال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة إبراهيم من لدن قوله سبحانه : ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) إلى خاتمتها ، أعقب ذلك بقوله : رُّبَمَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) أى عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل ، ثم قال تعالى تأكيدا لذلك الوعيد فى سورة الحجر : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) ثم أعقب تعالى هذا ببيان ما جعله سنة فى عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان لا انفكاك لها عنها ، ولا تقدم ولا تأخر ، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت ، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته ، لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه . وقال تعالى في سورة الحجر : ومَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلاَّ ولَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) وكأن هذا يزيد إيضاحا قوله عز وجل في سورة إبراهيم : إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) وقوله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَوَاتُ وتأمل نزول قوله في سورة الحجر : رُّبَمَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) [21]
          وفي سورة إبراهيم نجد مقام الرجاء والخوف في قوله تعالي :
          وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(6)
          وهو نفس المقام في سورة الحجر في قوله تعالي :
          نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ(50)







          [1] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص983

          [2] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1 ص 1358 رواه البخارى ومسلم

          [3] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1 ص 1172رواه البخارى والترمذى

          [4] الألوسي ، روح المعاني ج7 ص 257

          [5] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج 2 ص943

          [6] الألباني ، فتح القدير ج3 ص 134

          [7] الشوكاني ، فتح القدير ج3 ص 125-126

          [8] د. نبيل عبد السلام هارون ، البرهان علي صدق تنزيل القرآن ص 49-50

          [9] د. نبيل عبد السلام هارون ، البرهان علي صدق تنزيل القرآن 58-59 دار النشر للجامعات 1996م

          [10] الرازى ، مفاتيح الغيب ، ج 18 ص 408

          [11] روبرت أغروس ، جوردن ستانسيو ، العلم في منظوره الجديد ص 68 عالم المعرفة 134 في فبراير 1989

          [12] الألوسي ، روح المعاني ج7 ص 263

          [13] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 18 ص 390

          [14] 402 القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج5 ص 3680

          [15] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج5 ص 3678

          [16] الألوسي ، روح المعاني ج 7 ص 238-329

          [17] الألوسي ، روح المعاني ج7 ص 320-321

          [18] رواه البخارى ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 1230

          [19] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1 ص 461

          [20] القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج5 ص 3860

          [21] البقاعي ، نظم الدرر ج 4 ص 204-205

          تعليق

          • يوسف كمال محمد
            1- عضو جديد
            • 2 فبر, 2014
            • 66
            • عمل حر
            • مسلم

            #65
            العدل والاحسان كما تبينه سورة النحل


            مقدمة


            فى بداية هذا الثلث الثانى من القرآن الكريم يظهر الاهتمام بتربية النفوس على قيم التوكل والاستقامة والصبر والثبات، حيث كان المجتمع المسلم فى حالة استضعاف. واعتبارا من هذه السورة يربى القرآن الكريم المجتمع المسلم على قيم أخلاقية تناسب وضعه فى حالة التمكين.
            " هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده، وهى مكية "([1]).
            والنعمة لغة الخفض والدعة والمال، والتنعيم: الترف، والإنعام: الإحسان إلى الغير، ونعمة العيش: حسنه ونضارته ([2]).
            وسورة النحل تركز على النعم الحسية كدليل من أدلة التوحيد، يظهر معه الشرك نشازا فى بنية تسبح بحمد الله.
            والنعم الحسية فى السورة تتمحور حول المنافع البشرية، ولهذا بدأت السورة بشرح حقيقة الإنسان وطبيعة الكون المسخر له يقول تعالي: خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) والأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ومَنَافِعُ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)

            موضوع السورة

            الصلة بين الإيمان والعمل الصالح صلة وثيقة لا تنفصم، فبالعقيدة يؤمن الناس بأن الله هو النافع الضار فلا يخافوا، وأنه الرازق المنعم فلا يذلوا.
            وبالأخلاق يعيش الناس فى نظافة تشرق على سلوكهم وحياتهم، وطهارة تسرى فى كيان الأمة الوضاءة والحياة الطيبة.
            وبالشريعة يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، ويجد الفقير حاجته بأمرالله ممثلة فى إيتائه من مال الله، وفى زكاة تؤخذ من الأغنياء وتُعطى للفقراء.
            وهذا هو العدل والإحسان الذى به تتحقق الحرية لكل إنسان، والسلام لكل العالم، والحياة الطيبة لكل البشر.
            ويقوم نظام الحياة فى الأمة المسلمة على الإبداع المادى فى حضن القيم الإيمانية، فالصلة بين الإيمان والعمل الصالح صلة عضوية لا تنفصم. والأمة التى تقيم نظامها على هذه القاعدة تنعم بالأمن والاطمئنان.
            يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
            والأمة التى تقيم نظامها على الفحشاء والمنكر والبغى لابد وأن يذيقها الله لباس الجوع والخوف.
            يقول تعالى: وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
            فالانحراف الأخلاقى ينتهى بالأمة إلى التفسخ والانحلال، ونقص الأموال والأنفس، والانحراف التشريعى يؤدى إلى المظالم الاجتماعية واستعباد القوى للضعيف، واستغلال الغنى للفقير، وانتشار الأحقاد والصراعات والحروب. والجشع والشره يؤدى إلى إفساد الكون وتلوث الحياة.
            يقول رسول الله ( r ):
            (يا معشر المهاجرين، خصال خمس إذا ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة- فى قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا بينهم الأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤن وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما فى أيديهم، ومالم تحكم أئمتهـم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم)([3]).
            أمة البغي
            إن نظام الحياة فى الغرب الذى انبثق عن عقيدته العلمانية، ومنه النظام الاقتصادى المسمى بالرأسمالية، يأبى تدخل الدين والقيم والأخلاق فى السلوك الاقتصادي، فعلى مستوى الاستهلاك ليس عنده فرق بين خبيث وطيب وعلى مستوى الإنتاج ليس عنده فرق بين حلال وحرام، والهدف الوحيد هو اللذة والربح، فامتلأ المجتمع بالخبائث من خمر وخنزير، واختلط فى دعارة حطمته وأمرضته، وفى شقوة نفسية دمرت الأسرة والقيم، وفى مظالم اقتصادية من الاحتكار والربا والقمار.
            لهذا يتجه الغرب نحو مزيد من الجنون و اليأس والانتحار، يتفق فى إرهاق البنيان المادى للإنسان، والنسيج المكون للأسرة، والبيئة الصالحة فى العالم، يتنافس فى تطوير أدوات الهلاك، ويتفق فى التآمر والكيد، ويسعده الاستكبار والمجون.
            إن الذى أرق ذوى الضمائر من المفكرين والفلاسفة ليس الفرق فى المتاع بين إنسان وإنسان، ولكن ضخامة هذا الفرق،يقول تعالى : واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ فَمَا الَذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ شَيْئاً ولا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ومَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِراً وجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ ومَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76)
            والتميز المادى ضرورة تنتج لنا آفاقا من الفكر والخلق، لازمة لنمو المجتمع، والمساواة الحسابية لن تنتهى بنا إلا إلى مرحلة من الهمجية والتخلف لا توصف. والخير إذن هو تفاضل لا طغيان فيه ولا استغلال، وأيضا لا كسل فيه ولا تواكل، مع رعاية للمحتاجين تنبع من أخص خصائص القيم الإنسانية وهى الرحمة.
            ولكن شريعة الرأسمالية التى ساد فيها الاحتكار والربا والمقامرة انقلبت فيها الموازين على المستوى القومى والعالمى حين أصبح المال دولة بين الأغنياء.
            ونلاحظ هذه الكارثة حين نرى مستوى توزيع الدخل على المستوى القومى فى دولة متقدمة كأمريكا، حيث يؤكد تقرير البنك الدولى للتنمية البشرية سنة 1992 أن الخمس الفقير كقطاع من سكانها ظل يحصل على 5% من الدخل القومى خلال النصف الأخير من القرن العشرين، بينما تجاوزت حصة الخمس الغنى 40% من الدخل القومي. ونسمع فى هذا المجتمع عن مشردين لا يجدون مأوي، وعن قطاع ضخم من الناس يعيشون تحت خط الفقر، ولا يستحى ضمير عالم يسمى نفسه عالما متقدما !.
            وعلى مستوى العالم تظهر بتقارير البنك الدولى عن التنمية البشرية سنة 1992 حقائق مذهلة عن توزيع الدخل على مستوى العالم، حيث نجد أن 60% من سكان الكرة الأرضية لا يحصلون إلا على 5.6% من دخل العالم، ويستمر هذا التفاوت ببشاعة، ففى عام 1989 ارتفع دخل الـ 20% من سكان العالم الذين يعيشون فى الدول المتقدمة إلى 60 ضعف دخل الذين يعيشون فى الدول الفقيرة بعد أن كان 30 ضعفا. ويؤكد نفس التقرير أن الوضع الاحتكارى والربوى للعالم الغربى يكلف ظلما دول العالم الثالث 500 مليار دولار سنويا نتيجة لأوضاع غير متكافئة فى التجارة الدولية ([4]).
            وبينما يتساقط جم غفير من سكان العالم الثالث من المجاعة، تخفض المساحات المزروعة من القمح فى أمريكا ليرتفع سعره مع قيام الحكومة بتعويض المزارعين، وبينما أنفقت السوق الأوربية المشتركة أكثر من مائة مليون مارك ألمانى فى إتلاف آلاف الأطنان من الفواكه والخضر والزبد والجبن، وإبادة قطعان الماشية، خلال سنة 1974، وكان أطفال العالم الثالث يعانون من سوء التغذية وأمراض الجوع.
            والعدل والإحسان والبر بريئون من هذا التصرف، وينسب التصرف إلى فصيلة الفحشاء والمنكر والبغي. وخرافة الديموقراطية التى يروجون لها بالأيمان الكاذبة والدعايات الزائفة، والتلاعب بالرأى العام وتضليله، بينما تحكمها عصابة من أصحاب المصالح من شركات دولية، تنفق بسخاء لاختيار المجالس النيابية وترشيح الرؤساء، والهيمنة على المؤسسات الدولية، لمزيد من الاستغلال للعالم وأكل المال بالباطل.
            إن الغرب لا يعتبر بمقاييس العدل والإحسان عالما متحضرا بل عالما متوحشا، مدجج بأسلحة البغى والعدوان، متصفا بكل أصناف الفحشاء والمنكر.
            فالدول الاستعمارية حين غزت العالم الثالث وموهت بأنها تعمل على تقدمه وتحضره، وأخذت تعمل على تقسيمه وإذكاء الصراعات بينه، وحاربت كل محاولة لإيقاظ الوعى فيه، أو تنمية موارده وتحكمه فيها، حتى وصلت به إلى حافة الهاوية. وهنا يحذر ربنا تبارك وتعالى الأمة من هذه الأساليب الظالمة فيقول: ولا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِى أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
            والله تعالى قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة، ولكنه قدر أن تكون الدنيا دار ابتلاء يمتحن الناس فيها، فيتميز الصالح من المفسد، ويلقى كل جزاءه فى الآخرة ثوابا أو عقابا. يقول تعالى: ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ويَهْدِى مَن يَشَاءُ ولَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
            ومن أشد أنواع البغى فتنة الناس فى دينهم. والدول الغربية اليوم تكرس جهدها وأموالها لتزييف الدين والتشكيك فى ثوابته ومحاربة أهدافه فى طهارة المجتمع والارتفاع بقيمه واهتماماته. نرى ذلك الجهد الشيطانى فى محاولات تحريف الإسلام، واختلاق الأكاذيب عنه فى بلادهم، والتشكيك فى فاعلية الدين ومصداقيته فى البلاد المسلمة مع استعمال كل وسائل الترغيب والترهيب، واستغلال مركز القوة المادية والعسكرية لتحقيق ذلك.
            وصدق الله العظيم: إنَّمَا يَفْتَرِى الكَذِبَ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ولَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ (107) أُوْلَئِكَ الَذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وسَمْعِهِمْ وأَبْصَارِهِمْ وأُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110)
            واليوم يطغى الغرب المسيحى على العالم بحكم تفوقه المادي، ولكن هذا التفوق المادى ما هو إلا تورم يخدع العين لأنه يحمل فى داخله بركان من الفساد والمظالم. وليس لإنسان فيه من دافع إلا اللذة الحسية والتسلط الأناني، فلا نجد من تقديس إلا للآلة والتكنولوجيا، ولا نجد من اهتمامات إلا فى الفجور واللذة. وبذلك تتجه بالإنسان إلى اليأس والانحلال.

            أمة العدل
            قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)
            " قال غير واحد : لو لم يكن فى القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت فى كونه تبيانا لكل شئ وهدى، ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى : ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ ، للتنبيه عليه، فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ماجمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها."([5])
            العدل أول منازل التوحيد وثمرته. وهو ضد البغى وهو الاعتدال والاستقامة والميل إلى الحق.. والعدالة يقال لها تارة هى الفضائل كلها من حيث لا يخرج شئ من الفضائل عنها، وتارة يقال لها هى أكمل الفضائل من حيث صاحبها يقدر أن يستعملها فى نفسه وفى غيره.
            " العدل لفظة تقتضى معنى المساواة... فالإنسان فى تحرى فعل العدالة يكون تام الفضيلة إذا حصل مع فعله هيئة مميزة لتعاطيه، فقد يقع فعل الإنسان موصوفا بالعدل ولايكون ممدوحا به، نحو أن يقسط مراءاة أو توصلا إلى نفع دنيوى أو خوف عقوبة السلطان. وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة. وبه يستتب أمر العالم...
            والعدل هو وسط، أطرافه كلها جور، فالجور هو الخروج من الوسط بزيادة أو نقصان، ولذلك صار الجور والخطأ بالإضافة إلى العدل والصواب من حيز ما لانهاية له، والعدل والصواب من حيز المتناهى وإدراكه صعب عسر... ولما كان الوصول إلى ذلك عسرا جدا صار ضابطه إذا تحرى فيه بجهده، وإذا أخطأ فيه معذورا مأجورا...
            وعلى الجملة فالشرع مجمع العدالة، وبه تعرف حقائقها.. والذى يجب أن يستعمل الإنسان مع العدل خمسة أشياء:-
            1- بينه وبين رب العزة سبحانه وتعالى بمعرفة توحيده وأحكامه.
            2- بين قوى نفسه وذلك بأن يجعل هواه مستسلما لعقله، فقد قيل أعدل الناس من أنصف عقله من هواه.
            3- بينه وبين أسلافه الماضيين فى إيثار وصاياهم والدعاء لهم.
            4- بينه وبين معامليه فى أداء الحقوق والإنصاف فى المعاملات: من البيع والشراء وا لكرا مات وجميع المعاوضات والإجارات.
            5- بث النصفة بين الناس على سبيل الحكم وذلك إلى الولاة وخلفائهم.
            والعدل يدعو إلى الألفة والمحبة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد، وتنمى به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن له السلطان لحصول الأمن العام وانبساط الآمال. والعدل يعتبر الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شئ من الفضائل عنه، وبه قامت السماوات والأرض.. وبالجملة الشرع مجمع العدل، وبه تعرف حقائقه، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل..
            قال عمر بن عبدالعزيز لمحمد بن كعب القرطبى رضى الله عنه: صف لى العدل. فقال: كن لصغير الناس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل أخا، وللنساء كذلك. وعاقب الناس بقدر ذنوبهم لا على قدر أجسامهم، ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتعدى فتكون من العادين" ([6]).

            العدل و الإحسان
            الإحسان فعل الطاعة على أعلى الوجوه، فالعدل فرض والإحسان فضل وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس، لأنه ربما وقع فى الفرض نقص فجبر بالنفل، وهو فى التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات، ومن أعلاها الغنى عن التأكيد ([7]). والأفضال والإحسان أشرف من العدل، إذا كان الحكم بينك وبين غيرك، فأما إذا حكمت بين اثنين فليس إلا العدل، وإنما الإحسان إلى المتحاكمين... إذا كان فى مال فمسامحة، وإذا كان فى النفس فعفو، وإذا كان فى الكرامة فتواضع. وعكس ذلك مذموم: وهو فى المال غبن، وفى النفس والكرامة هوان ومذلة...
            قال يحيى بن معاذ: اصحبوا الناس بالفضل لا بالعدل، فمع العدل الاستقصاء ومع الفضل الاستبقاء. وإنى لأرجو أن يحاسب الله تعالى عباده بالفضل لابالعدل. وقد أمرهم أن يصاحب بعضهم بعضا بالفضل. وقد عظم الله تعالى أمر الإحسان والإفضال... " ([8]).
            ويبين معالم طريق العدل والإحسان للمؤمنين فى ختام السورة:
            ا- فالمؤمن يستمتع بالدنيا بالحلال، لا يحرم ما أحل الله ولا يحل ما حرم الله. يقول تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً واشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) بعيدا عن الخبائث التى حرمها الله، وبعيدا عن التشدد كما حرم اليهود من الذبائح.
            2- والمؤمن يشغله أمر الدعوة، ويهمه هداية البشر، ولكنه يفعل ذلك بالعدل والإحسان. فالحكمة خطاب للعلماء والموعظة الحسنة خطاب للعامة والجدال الحسن خطاب لغير المسلمين. يقول تعالى: ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ (125).
            3- والمؤمن يخط طريق العدل فى القصاص، فلا يسرف فى القتل، والصبر والعفو أولى. يقول تعالى: وإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ولَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126).
            ولقد راعى القرآن العدل والإحسان فى كل معاملة، ومن ذلك القصاص. كان شرع موسى عليه السلام فى القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة، وفى شرع عيسى عليه السلام العفو. أما فى شرعنا فإن شاء استوفى القصاص! على سبيل المماثلة، وإن شاء استوفى الدية، وإن شاء عفا.
            عبرة الكون والتاريخ

            قدر الله للبشرية أقواتها كافية كامنة فى الأرض والسماوات، وقد قضى الله أن تكون الدنيا دار ابتلاء يختبر الإنسان فيها فى عمله أيعدل أم يظلم، وعلى أساس ذلك يكون الحساب والجزاء فى الدار الآخرة، ولذلك لابد من بذل الجهد للحصول على النعمة، وتحقيق العدل لحسن توزيعها. وما يشقى الناس إلا من إهدارهم لنعم الله سواء بسوء استغلالها أو بالظلم فى تحصيلها.
            ومن النعم ما هو ظاهر وما هو باطن، وإذا أحب الله عبدا وفقه لشكر نعمه الظاهرة فيزيده، وألهمه معرفة النعم الخفية ليشكر الله عليها، فضلا من الله ونعمة. ومن العسير بحال أن نحصى نعم الله سبحانه وتعالى التى سخرها للإنسان، لأن منها ما يخفى ويدق ويتعدد ويتباين، بحيث لا يحتويها الحصر والبيان.
            يقول تعالى فى السورة:
            وإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
            ومَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
            يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ (83)
            فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً واشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

            عبرة الكون
            تبدأ السورة من الكل إلى الجزء فالماء ينزل من السماء بأمر الله فينبت له الزرع والزيتون والنخيل والأعناب. والليل والنهار والشمس والقمر تتوالى فيهما منفعة الإنسان تسخيرا من الله تعالى. والبحر مسخرا أيضا له يأكل منه لحما طريا ويستخرج منه حلية يلبسها.
            وألقى فى الأرض رواسى تحفظ توازنها، وجعل فيها انهارا تسقى الزرع وسبلا تصل بين البلاد وجعل لهم النجوم ليهتدوا بها فى ترحالهم.
            اعلم أنه تعالى احتج على إثبات الإله فى المرتبة الأولى بأجرام السماوات، وفى المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه، وفى المرتبة الثالثة بعجائب خلقه الحيوانات، وفى المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات، وفى المرتبة الخامسة بعجائب أحوال العناصر من البحار والجبال والأنهار والسبل والعلامات والنجوم.([9])
            " واعلم أن منافع النعم منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية:
            1- فالمنفعة الأولى : قوله تعالى : لَكُمْ فِيهَا دِفْ ،.. والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية...
            2- والمنفعة الثانية : قوله تعالى: ومَنَافِعُ ،قالوا : المراد نسلها ودرها، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم، لأن النسل والدر قد ينتفع به فى الأكل، وقد ينتفع به فى البيع بالنقود، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات، فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل.
            3- المنفعة الثالثة : ومِنْهَا تَأْكُلُونَ،...والأكل منها هو الأصل الذى يعتمده الناس فى معايشهم، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر، فيشبه غير المعتاد، وكالجارى مجرى التفكه. ويحتمل أيضا أن غالب أطعمتكم منها، لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التى تأكلونها منها، وأيضا تكتسبون بإكراء الإبل وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم.
            واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هى المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام. أما المنافع الحاصلة من الأنعام التى هى ليست بضرورية فأمور:
            1- المنفعة الأولى: قوله تعالى :ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ، والإراحة رد الإبل بالعشى إلى مراحها حيث تأوى إليه ليلا، ويقال: سرح القوم إبلهم سراحا، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعي.
            واعلم أن وجه التجميل بها أن الراعى إذا روحها بالعشي، وسرحها بالغداة، تزينت عند تلك الإراحة والتسريح فى الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، وفرحت أربابها، وعظم وقعهم عند الناس، بسبب كونهم مالكين لها...
            2- المنفعة الثانية قوله تعالى:وتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ.. إن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة. "([10])
            ومن نعم الله تعالى الشراب الذى منه ما يتخذه سكرا ورزقا حسنا. قال تعالى: ومِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ والأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) السكر العصير الحلو الحلال.. قال أبو عبيدة : السكر : الطعم، يدل على ماقاله جمهور أهل اللغة... ورجح هذا ابن جرير فقال: إن السكر مايطعم الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد.. "([11])
            ومن الشراب السائغ اللبن يقول تعالى : وإنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبِينَ (66)
            حكى القرآن عن نظام النحل الدقيق وعمله الدءوب، ودورة غذائه على مختلف النباتات، ليخرج العسل أنواعا وأنواعا، كما أشار إلى إلهام المولى تعالى للنحل أن تجمع الرحيق من مختلف الأزهار والثمار، ثم تحوله فى داخلها إلى عسل مختلف لونه وطعمه، ليخرج من باطنها سائغا له فوائد جمة، وبه شفاء كثير من الأمراض حتى ظهرت مراجع متخصصة تتناول فوائد وأوجه العلاج بعسل النحل كتبها مؤلفون غير مسلمين."([12])
            يقول تعالى : وأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً ومِنَ الشَّجَرِ ومِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
            ومن نعم الله تعالى على الإنسان فى الكون الظلال والأكنان
            يقول تعالى : واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ويَوْمَ إقَامَتِكُمْ ومِنْ أَصْوَافِهَا وأَوْبَارِهَا وأَشْعَارِهَا أَثَاثاً ومَتَاعاً إلى حِينٍ (80) واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وجَعَلَ لَكُم مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
            قوله تعالى " مِّمَّا خَلَقَ: يعم جميع الأشخاص المظللة، و أَكْنَاناً :جمع كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك."([13])
            " اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيما أو مسافرا، والمسافر إما أن يكون غنيا يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط، أولايمكنه ذلك... وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لابد أن يستظل بشئ آخر كالجدران والأشجار، وقد يستظل بالغمام...
            واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعانى فى معرض النعمة العظيمة، وأيضا البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جدا، والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد.
            وعلى كل التقديرات فلابد للإنسان من سكن يأوى إليه، فكان الإنعام بتحصيله عظيما.
            ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكر بعده أمر الملبوس...
            وسرابيل : كل مايلبس من قميص أو درع.. ليقى من الحر والبرد... ومن البأس والحروب.. وما وقى من الحر وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر.
            كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)، أى مثل ماخلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم... لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله."([14])

            عبرة التاريخ

            يقارن الله سبحانه وتعالى بين قرية كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وبين إبراهيم عليه السلام الذى كان أمة قانتا لله فأنعم الله عليه بالولد الصالح وهو حسنة الدنيا والقبول فى الآخرة.
            يقول تعالى : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(113).
            آمنة إشارة إلى الأمن، ومُطْمَئِنَّة إشارة إلى الصحة ويَأْتِيهَا رِزْقُهَا إشارة إلى الكفاية.([15])
            " قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة : القرية المضروب بها المثل مكة، كانت بهذه الصفة التى ذكر الله، لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد. وكانت الأرزاق تجلب إليها، وأنعم لله عليها برسوله r، والمراد بهذه المآئر كلها أهل القرية، فكفروا بأنعم الله فى ذلك وفى جملة الشرع والهداية، فأصابتهم السنون والخوف.. بسبب الكفر والتكذيب
            وإذا كانت هى التى ضربت مثلا، فإنما ضربت لغيرها مما يأتى بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هى فيه."([16])
            " وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسل جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء، آية 15].
            وبه يتم التمثيل. فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة، أولهم ولمن سار سيرتهم كافة، أشبه بحال أهل تلك القرية ولقد جاءهم رسول منهم، أى الرسول..r... فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله تعالي، وكذبوه عليه الصلاة والسلام، فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف."([17])
            وضرب الله مثلا للعدل بإبراهيم عليه السلام، الذى كان يعدل أمة بإيمانه وطاعته لله تعالى واستقامته على الهدى وشكره لأنعم الله، ففيه من القيم الدنيوية والأخروية ما يوجب أن يؤمه ويقصده كل أحد يمكن انتفاعه به، وكان فى ذلك مخلصا لا يحركه شئ من الهوى، ميالا مع الأمر والنهى، شاكراً لأنعمه، اختاره لطريقه وهداه ووفقه إلى الصراط المستقيم، وهو الحنيفية السمحة، فكان ممن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . آتاه الله تعالى فى الدنيا لسان صدق والثناء الجميل، فأجمع الناس على محبته ورزقه من أولاده الأنبياء والصالحين. وفى الآخرة له ما للصالحين من الثواب العظيم
            يقول تعالى : إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وآتَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وإنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (123)
            واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات :-
            1-أمة :قال ابن عباس رضى الله عنه : كان عنده عليه السلام من الخير ماكان عند أمة، وهى الجماعة الكثيرة، فإطلاقها عليه، عليه السلام، لاستجماعه كمالات لاتكاد توجد إلا متفرقة فى أمة جمة...
            2- قانتا: مطيعا، قائما بما أمر الله تعالى به.
            3- حنيفا :مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه.
            4- ولم يك من المشركين، معناه أنه كان من الموحدين من الصغر والكبر.
            5- شاكرا لأنعمه :كان عليه السلام لايخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة، على خلاف ماهم عليه من الكفران بأنعم الله تعالى حسبما أشير إليه بضرب المثل...
            6-اجتباه : اصطفاه للنبوة.
            7- وهداه إلى صراط مستقيم : موصل إليه تعالى وهو ملة الإسلام.والدعوة إلى الله والترغيب فى الدين الحق والنفير عن الدين الباطل.
            8- وآتيناه فى الدنيا حسنة : بأن حببه إلى الناس حتى إن جميع أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.
            9-وإنه فى الآخرة لمن الصالحين، داخل فى عدادهم كائن معهم فى الدرجات العلى من الجنة. "([18])

            الأساس العقدي

            وهنا نجد ابتداء من سورة النحل تنشغل السور بشرح عقيدة التوحيد التى هى محور الوجود والحياة وغايته، ومسيرة التاريخ ومعركته يقول تعالى : ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِى إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [ سورة الأنبياء آية 25] داعية البشر جميعا إليها، مبينة السبب فى الإعراض عنها يقول تعالى: إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22)
            " فأما الإطار الذى تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذى تجرى فيه الأحداث فهو فسيح شامل، هو السماوات والأرض، والماء النازل والشجر النامي، والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار، وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والآخرة بأقدارها ومشاهدها، وهو الغيب بألوانه وأعماقه فى الأنفس والآفاق....

            أدلة التوحيد


            وتناقش السورة شبهات المشركين، فتقيم الدليل على التوحيد، فى حضن بيان لنعم الله على عباده. ومن هنا تقدم السورة هذه الأدلة على النحو التالي:-
            1- دليل الخلق. فى قوله تعالى: والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ(20)
            إن العلم الحق يبدأ من مسلمة ضرورية هى أن الله هو خالق كل شئ وهو على كل شئ قدير، فكل الظواهر الكونية وسنن الأشياء والأحياء ومواقع النجوم والكواكب وأحوال الأمم وعوامل نهوضها وأفولها، كلها تشهد على ذلك.
            والانحراف عن هذا الحق، يؤدى بصاحبه إلى الضلال والشقاء، حيث يضيع منه النور الذى يأخذ بيده من ظلمات الجهل، وتفقد أقدامه الطريق الذى يوصله إلى السلامة.
            ومن ثم كان على العقل الراشد أن يتعرف على هذه الحقيقة وأن يتصل بها وأن يخضع لأمرها، إن أراد لنفسه رشادا وأراد لمستقبله فلاحا.
            وهذا هو الضمان الوحيد ألا تسيطر على عقله أوهام تشتت جهده، وتخضعه إلى ما لا ينفع ويضر، وتعبده إلى ما لا يستحق ، ممن لم يخلق من الكون شيئا، ولم يدبر من الحياة أمرا.
            وكل شئ ينطق أمام الناس أن الله خالق كل شئ ومليكه، وأنه العالم بسره وعلانيته، وهو هادى كل حيران ومرشده. وقد أفاض إنعامه على العالمين، فكيف نسويه بمن لايقدر على شئ وهو كل على مولاه، وبمن لا يخلق شيئا وهم يخلقون ؟
            وتقدم هذه الحقيقة فى حضن نعم الله فى الغذاء ووسائل الركوب والزينة. التى يختمها الحق تبارك وتعالى بقوله: وإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
            2- حجية البلاغ. فى قوله تعالى: وقَالَ الَذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ (35) ولَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ ومِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ(36)
            وتقدم هذه الحقيقة فى حضن نعمة الرسالة والوحي. التى يبينها الحق تبارك وتعالى بقوله: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
            يتفكر الإنسان فى الكون والحياة، فيصل الراشد إلى إدراك حقيقة الإله الخالق لكل شئ، المالك لكل ما فى الكون، المدبر لكل أمر. ويرى من دلائل الألوهية فى الكون والحياة الحكمة المنزهة عن العبث، والجدية البعيدة عن اللعب، سواء فى تكوين الكون والحياة أو فى تنظيم السنن والقوانين. وهو بذلك يدرك أن الله خلق الكون والحياة لهدف يبغيه وغاية يريدها. ومن ثم يجد العقل الراشد نفسه مسلما بالبعث والجزاء.
            ولكن الإيمان بالله واليوم الآخر يحتاج إلى من يبينه لعقل الإنسان الضعيف عن إدراك تفاصيل تاريخ المبدأ والمعاد ، وعن معرفة صفات الله وآلائه وأحوال اليوم الآخر وأوصافه، وهو بالتالى محتاج إلى ما يبين له رسالته فى الكون والحياة، واجباته وحقوقه.
            ومن ثم كانت نعمة الله الغامرة فى أن يرسل للناس رسولا، ويوحى إليه بيانا، يبلغه للبشر عن حقيقة الكون والحياة وعن غاية الوجود ورسالتهم فيه
            3- ولله المثل الأعلى. فى قوله تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (60)
            الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلي، أى الكمال المستغني، فهو الذى خلق العباد ويرزقهم، وينعم عليهم ويرحمهم. وهذا الكمال المطلق لا يستطيع بشر أن يتصوره أو أن يحيط به. ذلك لأن علم الإنسان محدود بإمكانيات عقله، وقدرة الإنسان محدودة بإمكانيات حسه، وكلاهما لا يستطيع أن يمتد إلى آفاق السماوات والأرض، ولا يستطيع أن يصل إلى عالم الغيب والشهادة. ومن ثم كان تصور حقيقة الألوهية بهذه القدرات المحدودة باطل لا يؤدى به إلا إلى خرص وضلال.
            ومن هنا وقع الإنسان عبر التاريخ بغروره وجهله فى مهاوى الشرك. فمنهم من عبد الصنم والنجوم، ومنهم من تصور أن الله محتاج إليه فجعل له نصيبا من الحرث والأنعام ، ومنهم من نسب إلى الله الصاحبة و الولد.
            " ولِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى، أى الصفة العجيبة الشأن، التى هى مثل فى العلو مطلقا، وهو الوجوب الذاتي، والغنى المطلق، والجود الواسع، والنزاهة عن صفات المخلوقين، ويدخل فيه علوه تعالى عما يقولون علوا كبيرا...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ،الشورى:11، وهُوَ العَزِيزُ المنفرد بكمال القدرة على كل شئ.. الذى لا يوجد له نظير، الحَكِيمُ ،الذى يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة."([19])
            وتصحب هذه الحقيقة بنعمة الماء الذى يحيى الأرض والشراب من ثمرات النخيل والأعناب واللبن سائغا للشاربين والعسل شراب فيه شفاء للناس، ويختمها الحق تبارك وتعالى بقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ (83)
            4- دليل الرزق فى حضن نعم الله فى المأوى والملبس. فى قوله تعالى: ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ شَيْئاً ولا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)

            ومن نعمه تعالى على عباده ما فيض عليهم من رزق بغير حساب، يرى ذلك من عنده عقل فتدبر فى كل ما سخره الله تعالى له فى الأرض وفى السماء. لذلك كان من السفه أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك ولا يستطيع أن يحقق لهم أى رزق فى السماء أو فى الأرض. أو أن يجعلوا لآلهة وهمية نصيب مما رزقهم الله.ورغد العيش مرتبط بالإيمان والتقوى، وضنك العيش والعذاب مرتبط بالتكذيب والغفلة عن ذكر الله، والبركة تظهر آثارها فى وفرة فى الرزق، وعافية فى البدن، ورضا فى النفس، وصرف الأذى، ودفء فى العلاقات.
            يقول تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) ورزق الله لا حدود له، يعطيه بغير حساب، ويأتى الإنسان من حيث لا يحتسب، أى من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون فى حسبانه.([20])
            فلا يقدر عليه إلا العليم الذى يحيط علمه بكل شئ، ولا يستطيعه إلا القدير الذى ليس لقدرته حدود. وذلك لا يطيقه غير الله ، وذلك لقصور علم الخلق ، وعجز قدرتهم . ومن ثم كان عبادة غير الله من أشياء أو أحياء أو أموات تعبير عن الجهل والعقوق، وصفة للجحود والخسران.
            ومع كل دليل يقدم الحق تبارك وتعالى أسباب استكبار المشركين، وعلى رأسها عدم الإيمان بالآخرة، وسلوكيات الكافرين فى المكر بالمؤمنين، وعاقبته من عذاب الدنيا والآخرة. وفى مقابله امتنان المؤمنين، وسلوكهم فى التصديق والصبر والهجرة، وعاقبتهم الحسنى فى الدنيا والآخرة.
            يقول تعالى: إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22)
            " واعلم أن الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هى ثمرته، فيظهر على الجوارح، وذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعنى يرى نفسه فوق الغير فى صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبرا..
            ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له... والتكبر على العباد هو احتقارهم واستعظام نفسه عليهم، وذلك أيضا يدعو إلى التكبر على أمر الله تعالى، كما حمل إبليس كبره على آدم عليه السلام أن امتنع من امتثال أمر ربه فى السجود ([21]).

            المناسبة


            ختمت سورة الحجر بقوله تعالى: ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وإنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ (86)
            وفى بدايات سورة النحل يقول تعالى : خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4)
            " وذكر السيوطى أن آخر الحجر شديد الالتئام بأول هذه، فإن قوله سبحانه: واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ (99)، الذى هو مفسر بالموت، ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)" ([22]).
            وتلتقط سورة النحل الخيط من سورة الحجر التى بينت استكبار إبليس وكيف كان سببا لخروجه من طاعة الله: قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ (33)، لتصله باستكبار الكفار وكيف يكون سببا فى شركهم وكفرهم بنعم الله فى سورة النحل: إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22)
            ثم تبين سورة الحجر أن الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين: إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ(40) وتبين سورة النحل أنه ليس له سلطان على المؤمنين إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
            كما تبين سورة الحجر صفة يحبها الله لرسله وهى خفض الجناح للمؤمنين: واخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـينَ (88) وتبين سورة الإسراء صفة يحبها الله فى عباده فى خفض الجناح للوالدين: واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً (24)
            وبينما كانت قصة إبراهيم عليه السلام فى شجرة الر فى آخر سورة إبراهيم تبين سيرته فى معرض الرسالة فى قول الله تعالى على لسانه: فَمَن تَبِعَنِى فَإنَّهُ مِنِّى ومَنْ عَصَانِى فَإنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36)، كانت قصة إبراهيم فى آخر سورة النحل تبين سيرته فى معرض التوحيد، فى قول الله تعالى: إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ (120). وكلاهما قدم فى محضن الشكر والامتنان من إبراهيم عليه السلام لله تعالى على نعمه. ففى سورة إبراهيم: الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِى وهَبَ لِى عَلَى الكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ إنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) وفى سورة النحل: شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)




            (1) ابن عطية، المحرر الوجيز ج 8 ص 363.

            (2) الدمشقي، الإشارة إلى محاسن التجارة ص 20- 21.

            (1) الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 1 ص 167 المكتب الإسلامى 1405 هـ .

            )1( البنك الدولي، تقرير عن التنمية البشرية لعام 1992. دار الوحدة العربية 1992 م.

            ([5]) الألوسي، روح المعانى ج7 ص 456.

            )1( البقاعى نظم الدرر ج4 ص 303.

            )2( البقاعى نظم الدرر ج 4 ص 303.

            )3( الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 250-256.

            ([9]) الرازى، مفاتيح الغيب ج18 ص 492.

            ([10]) الرازى، مفاتيح الغيب ج18 ص 477-480.

            ([11]) الشوكاني، فتح القدير ج 3 ص 175.

            ([12]) د. نبيل عبد السلام هارون، البرهان على صدق تنزيل القرآن ص 77، 97.

            ([13]) ابن عطية، المحرر الوجيز ج 8 ص 483-484.

            ([14]) الرازى، مفاتيح الغيب ج18ص 605-607.

            ([15]) الألوسي، روح المعانى ج7 ص 477.

            ([16]) ابن عطية، المحرر الوجيز ج 8 ص 526-527.

            ([17]) الألوسي، روح المعانى ج7 ص 478.

            ([18]) الألوسي، روح المعانى ج7 ص 483-484.
            و الرازى، مفاتيح الغيب ج 18 ص 658-659.

            ([19]) الألوسي، روح المعانى ج 7 ص 409

            ([20]) الشوكاني، فتح القدير ج5 ص 212

            ([21]) ابن قدامة، مختصر منهاج القاصدين ص 236-237.

            ([22]) الألوسي، روح المعانى ج 7 ص 334.

            تعليق

            • يوسف كمال محمد
              1- عضو جديد
              • 2 فبر, 2014
              • 66
              • عمل حر
              • مسلم

              #66
              التفاضل والعدل كما تبينه سورة الإسراء

              مقدمة

              يمكن القول بحق أن سورة الإسراء هى سورة التسبيح. ففى أول السورة يقول تعالى : سُبْحَانَ الَذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وفى وسطها يقول تعالى : أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إنَاثاً إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) ولَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ومَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذاً لاَّبْتَغَوْا إلى ذِى العَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وفى آخر السورة يقول تعالى على لسان الرسول r : أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَراً رَّسُولاً(93).
              ومعنى التسبيح التنزيه. فالمثل الأعلى يتنزه عن النقص والعجز والقبح، فهو كمال مطلق. ومن كان كذلك فإنه من الافتراء أن ينسب إليه شئ من هذه السلبيات التى يتنزه عنها، والله تعالى له المثل الأعلى، ويتصف بالأسماء الحسنى
              موضوع السورة

              يدور موضوع السورة حول محاور ثلاثة :

              أولا : المسئولية الفردية
              تبين السورة المسؤولية الفردية لكل إنسان، وتحمله نتيجة عمله بعد أن أعذر الله بإرسال الرسل بالهدى ودين الحق، ومعهم الكتاب والميزان، بلاغا لكل الناس مبشرين بالجنة لمن أطاع الله وبالنار لمن عصاه. وهنا يفترق العباد بين عبد كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق، وبين عبد يستحق الذم واللوم ولايكون مصيره إلا إلى الاندحار والخذلان والحسرة.
              يقول تعالى : وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَاوَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا(15)
              إن الشعور بالمسؤولية شعور نبيل، لأنه شعور بالاستقلال والتحرر من أسر الطبيعة، شعور بالقدرة على تغيير معالم الأشياء، وعلى معالجتها بالعزيمة والإرادة المبتكرة، شعور بالكرامة التى كرم الله بها بنى آدم، وبالفضل الذى فضلهم به على كثير من خلقه. والمسؤولية إذا صفة يستمدها كل امرئ من فطرته الإنسانية قبل أن يتلقاها من واضعى الشرائع والقوانين، وهى كما قلنا صفة لازمة للإنسان بما هو ذو عقل وإرادة واقتدار، وليست صفة له بما هو مقهور مجبور، مسير مسخر، ومن عجب أمر الإنسان أنه يجمع هذين الوصفين المتناقضين فى علاقته بالكون، إنه سيد مسود، وحاكم محكوم، ولكن فى ميدانين مختلفين، فهو فى عالم المادة وعالم الحياة وعالم النفس لايخرج عن أن يكون جزءا من هذه العملية الكونية خاضعا لنواميسها وقوانينها..
              أولا تراه فى نفسه وهضمه ونبضات قلبه، وفى نموه واكتماله، وشيخوخته وهرمه، كائنا حيا ككل كائن حى تسرى عليه قوانين الحياة، ثم ألا تراه حين يأخذه النوم كيف تساوره الأحلام ؟ وحين تتقلب عليه المؤثرات كيف يسر ويحزن، ويخاف ويأمن، ويرضى ويغضب ؟ لأنه ذو نفس تسرى عليها أحوال النفوس وأعراضها الجبلية.
              الإنسان فى هذه الميادين كلها أسير طينته، وسجين فطرته، لا جرم وضعت عنه فيها الأحمال والأعباء، لأنه يستوى هو وسائر الأشياء.
              لكن له من فوق هذه الميادين ميدانا أعلى يملك فيه حريته، ويبرز فيه سلطانه، وتتقرر فيه مسؤوليته، ذلك حيث تسلم له الطبيعة قيادها، وتملكه زمامها، وتمهد له سبلها المختلفة، ينتقى منها وينتخب تحليلا أو تركيبا، تعميرا أو تدميرا، وذلك حيث تأذن له قواه البدنية والنفسية، وعلاقته الخاصة والعامة، أن يتصرف قبضا أو بسطا، رفعا أو خفضا، قطعا أو وصلا، يؤاسى ويأسو، أو يصلح ويفسد، يألف ويؤلف، أو يتجبر ويتكبر، يضيع أمانته أو يصونها، يحمى أوطانه أو يخونها، يرفع رأسه إلى السماء طلبا للمثل العليا، أو ينكس بصره إلى الأرض سعيا وراء زخرف الدنيا.
              الإنسان فى هذا كله، وفى سائر تصرفاته الاختيارية سيد مسؤول، ومسؤوليته مشتقة من سيادته، إنه يشعر بتسويد الله له منذ جعله خليفة فى الأرض، فمكنه منها واستعمره فيها، وإنه مسؤول بموجب هذه السيادة أن يؤدى حقها.
              كم من مرة سمعنا الكلمة المأثورة، إن من نعم الله عليكم حاجة الناس إليكم، غير أننا عند سماع هذه الكلمة كنا نفهمها على صورة ضيقة، وفى نطاق محدود. إذ كان يبدو لنا أن صاحب المال، أو صاحب الجاه هو الذى ينبغى أن يعد نفسه فى نعمة لقدرته على قضاء حاجة المحتاجين. أما الآن فإننا نفهمها فى أوسع معانيها، ونستطيع أن نناشد بها الناس جميعا قائلين : إن من نعم الله عليكم حاجة المجتمع، بل حاجة الكون إليكم. ذلك أن مطالب الحياة والصحة، والعلم والقوة، والأمن والرخاء، والعدل والبر، والرحمة والإحسان، وسائر القيم الكبرى والمثل العليا لا غنى لها طرفة عين عن تضافر القوى البشرية وتماسك أياديها وسواعدها وتعاون عقولها وقلوبها، فنحن جميعا شركاء فى المسؤولية، لافضل لكبير على صغير، ولا لقوى على ضعيف، كل على قدر وسعه، وفى حدود متناوله، مطالب بنصيب قل أو كثر، عمارة هذا الكون بالصلاح والإصلاح. وإن كل سهم تبخل به عزيمة من العزائم، نقض به لبنة أو لبنات فى بناء المجتمع الصالح الذى يتطلب منا إقامته بمقتضى خلافتنا فى الأرض، والذى لولا الإنسان ما ارتفع له بنيان، بل لولاها ما تغير وجه التاريخ فى هذا العالم."([1])


              ثانيا -العدل و الإحسان إلى الأسرة والمجتمع

              بدأت السورة بالتنبيه على الإحسان فى قوله تعالى: إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا(7).
              والسورة، من قاعدة الرحمة التى أمر بها الرحمن الرحيم، تأمر بالإحسان. وهى تربى المسلم على هذا الإحسان كما يلي:-
              1- فى خطابه مع غيره من الناس يوجهه الله تعالى أن يقول التى هى أحسن. وفى ذلك يقول رسول الله r : إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها فى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب. ([2]) ويقول r : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق مالا يعطى على العنف ومالا يعطى على ما سواه.وقال: إن الرفق لايكون فى شئ إلا زانه ولانزع من شئ إلا شانه.([3])
              وكان هديه تعالى الذى تلى الأمر بعبادته وحده لاشريك له هو الإحسان إلى الوالدين خصوصا فى القول وذلك فى قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاإِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا(24) ويتبع تعالى الوالدين بصلة الرحم، يقول رسول الله r : من سره أن يبسط له فى رزقه أو ينسأ له فى أثره فليصل رحمه.([4])
              وتنصح السورة باليسر فى القول مع المحتاجين حين لايملك الإنسان ما يعطى بقوله تعالى : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا(28) يقول رسول الله r : البر حسن الخلق، والإثم ماحاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.([5])
              وحتى مع الكفار يهيب القرآن الكريم بعباد الله المؤمنين أن يحسنوا خطابهم حتى لايثيروا حفيظتهم ويعينوا الشيطان أكثر عليهم. يقول تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِى أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(53) يقول رسول الله r : المستبان ما قالا، فعلى البادئ، مالم يعتد المظلوم. وقال : إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه.([6])
              2-فى تعامله بالرفق مع البشر تواضعا دون كبر أو استعلاء، فيصف المؤمن بأنه يتحلى بالتواضع وينفر من الاستعلاء على عباد الله. يقول تعالى: وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا(37)كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38)ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا(39)
              3- إشاعة قيم الخير والطهارة فى المجتمع فيحيط الأسرة بأواصر التماسك والتراحم، يقول تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً(23)
              4-تحقيق مقاصد الشارع فى حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
              4/1-ففى حفظ المال يأمر المسلم بالاعتدال فى النفقة فيقول تعالى :وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا(29)إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(30) وفى قوله تعالى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا(34)وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(35)
              4/2- وفى حفظ النفس يقول تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31)ويقول تعالى : ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِّى القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً (33)
              4/3- وفى حفظ العرض يقول تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَاإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا(32)
              4/4- وفى حفظ العقل يقول تعالى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ٌإِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)
              4/5- وفى حفظ الدين يقول تعالى : ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا(39)

              ثالثا : التفاضل:
              شهد العالم فى العصر الحديث اتجاهين متعارضين فيما يختص بالتفاوت بين الدخول وذلك بين إفراط وتفريط.
              فيقيم الغرب علاقاته على أساس الطبقات، وتحتكر الطبقات الرأسمالية الامتياز فى الرأسمالية. وتقوم باستغلال بقية الطبقات لصالحها. ويصل نفوذها إلى تحكمها فى اختيار أعضاء المجالس النيابية، بل والحكام، لقوتها المالية، وحاجة الانتخابات إلى إنفاق كبير. وبذلك تتحكم فى القرار لصالحها، وتزيد بذلك معاناة الطبقات الأخرى. وبهذا انتشر الحقد بين فئات المجتمع، وتعرض المجتمع إلى الصراع وافتقد العامل الحافز على البذل والعطاء.
              وفى المقابل، معارضة للرأسمالية قامت الاشتراكية على أساس المساواة الحسابية، مجرمة كل دخل من الملكية الرأسمالية. وكانت النتيجة أن فقد الناس الحافز على الإبداع والاجتهاد، الذى يحركهما الجزاء والعائد، ولاقيمة للجزاء والعائد بدون تملكه وتوريثه للأبناء. ومن ثم لجأ الحكام إلى القسر والاستبداد، وانفرد الحزب الشيوعى بالسلطة فى دكتاتورية قاسية، وافتقد السوق رأس المال المخاطر الذى يكتشف آفاق الإبداع المادى لتجريم عائده من الربح. وقضت الأسعار الحسابية دون عرض وطلب من لجان التخطيط على كفاءة الإنتاج وقتلت روح الإبداع
              " إن الاختلاف بين أبناء النوع الواحد دليل على التقدم وتعدد المزايا والملكات، وكلما تشابه أفراد النوع كان ذلك دليلا على الهبوط والإسفاف، كما يشاهد فى التشابه بين الحشرات الدنيا والاختلاف بين الأحياء العليا من جميع الأنواع. والمطلوب هو أن يتساوى الناس فى عدل القانون، وألا تكون الفوارق بينهم سببا لاستغلال الأقوياء عمل الضعفاء، أو لاغتصاب المالكين حق المحرومين، أما الفوارق التى يجئ بها فضل الفاضل وجهد المجتهد وأمانة الأمين وهمة الهمام فلا يزيلها من الحياة الإنسانية إلا عدو لبنى الإنسان. وبعض المساواة عدل لا شك فيه وبعضها كذلك ظلم لاشك فيه، لأن مساواة من يستحق بمن لا يستحق هو الظلم بعينه، والمساواة بين جميع الأشياء هى العدم المطلق الذى لا محل فيه لموجود. والمساواة التى فيها الغبن الوخيم العقبى إنما هى المساواة التى تبطل مزايا العمل، وفضائل الرجحان، وتقعد ذوى المساعى عن مساعيهم."([7])
              بينما يقيم الإسلام علاقاته على أساس الدرجات التى يحددها العمل، وتميزها التقوى. فهو فى الوقت الذى يسمح به بالتفاوت وإعطاء كل ذى حق حقه، يجرم الاحتكار حماية للمستهلكين، ويجرم التسعير الجبرى حماية للمنتجين، ويحقق العدالة التامة فى المعاملات بتجريم الدخول الطفيلية كالربا، وتحرير السوق من كل وسائل الغش والخداع بتجريم الغرر. وبهذا يتحقق القسط فى المعاملات. وفوق كل ذلك يرعى الفقير بحق ثابت هو الزكاة ورعاية واجبة له من قبل الدولة.([8])
              " وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيارالله لرجل لم يؤت شيئا من عرض هذه الحياة الدنيا، ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة، أو بما يملكون من مال. ويرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهى لا تدل على قربى منه، ولا تنبئ عن رضا ولا تشى باختيار. وهكذا يضع القرآن الأمور فى نصابها، ويكشف عن سنن الله فى توزيع الأرزاق فى الدنيا والآخرة. ويقرر حقيقة القيم كما هى عند الله ثابتة.
              وهكذا يرسى القواعد الأساسية والحقائق الكلية التى لا تضطرب ولا تتغير ولا تؤثر فيها تطورات الحياة واختلاف النظم وتعدد المذاهب وتنوع البيئات، فهناك سنن للحياة ثابتة تتحرك الحياة فى مجالها، ولكنها لاتخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون إلى هذا القانون الإلهي، الذى يجمع بين الثبات والتغير فى صلب الحياة وفى أطوار الحياة. ([9])
              وقد قسم الله بين العباد أسباب معيشتهم فى الحياة الدنيا قسمة تقتضيها مشيئته سبحانه وتعالى المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضى أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى. ورفع الله بعضهم فوق بعض فى الرزق وسائر مبادئ المعاش درجات متفاوته بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف وقوى، وغنى وفقير، وخادم ومخدوم، وحاكم ومحكوم، ليستعمل بعضهم بعضا فى مصالحهم ويستخدموهم فى مهنهم، ويسخروهم فى أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافقوا ويصلوا إلى مرافقهم، لا لكمال فى الموسع عليه ولا لنقص فى المقتر عليه. ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا فى تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية، وهو على طرف التمام لهذه الحالة، فما ظنهم بأنفسهم فى تدبير أمر الدين .. فمن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها.؟"([10])
              يقول تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدم وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)
              ويقول تعالي: مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) ومَنْ أَرَادَ الآخرة وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)

              عبرة التاريخ
              تبين السورة كيف كان سبب ما أصاب إبليس من اللعنة أنه استجاب لدوافع الشر فى نفسه فاستكبر أن يسجد لآدم، وامتلأ قلبه بالحقد عليه فطلب النظرة أى لا يموت حتى يشفى مرض قلبه بإضلال عباد الله عن طريق إثارة الكبر فى نفوسهم والحقد فى ضمائرهم. ولعل من أهم هذه الوسائل التى يستعملها إبليس فى هذا الإضلال هى الكلمة، فأسلوب الخطاب العدوانى سبب لإثارة الأحقاد وإشاعة الفرقة وإثارة الحروب والعدول عن العدل إلى الظلم وعن الرحمة إلى القسوة.
              يقول تعالى : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ ءأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا(61)قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا(64)
              وتبدأ السورة بعرض تاريخى مقدم فى نموذج لما يصيب الأمم من دمار نتيجة إفسادهم واستعلائهم فى الأرض، حين يعلمنا الحق تبارك وتعالى أن بنى إسرائيل أفسدوا فى الأرض مرتين، واستعلوا على عباد الله فى كلتا الحالتين علوا كبيرا. وهنا بعث الله عليهم عبادا له فجاسوا خلال ديارهم، لأن هذه هى سنة الله التى لا تتبدل، ووعده الذى لايتخلف. ثم رد الله عليهم العافية فانتصروا على عدوهم وأمدهم بالقوة المالية والبشرية التى جعلتهم قوة عسكرية مهابة . وخيرهم الله بين طاعته بالإحسان فى الأرض، وبين معصيته بالإساءة فيما استخلفوا فيه. وفى هذه المرة الأخيرة تمضى سنة الله حين يسلط عليهم من يسوءهم ويستولى على أرضهم.

              واليوم نرى مدى إفساد بنى إسرائيل فى الأرض، وعلى أى مدى بلغ علوهم فى شتى الدول. فعلى مستوى العالم لا يجرؤ أحد مهما كان مكانه أو علمه أن ينقد إفساد اليهود للعباد ولا إشاعتهم للفاحشة ، ولا قيادتهم لعصابات المافيا، وأبسط شئ أن يغتال أو يسجن، وأن يعزل ويدمر، وأن يشوه و يفترى عليه. ونحن اليوم نرى فى هجمتهم على عرب فلسطين، حيث جاوز القتلى بالألوف، ولم ينطق صوت فى العالم يشجب هذا الإجرام. أما يوم أن قتل منهم عددا يسيرا تزاحم رؤساء العالم على الدول العربية وعلى الفلسطينيين يشجبون ويضغطون ويهددون ويتوعدون. يكفى أن نعرف أن أغلب الشركات الدولية فى أيديهم، وأنهم يديرون المؤسسات الدولية لصالحهم، وقد دسوا أنفهم فى كل شأن حتى انتخاب رؤساء الدول وأعضاء مجالسها التشريعية ، ليسهل هيمنتهم على من بيده إصدار القرار.
              والحديث عن نشر الفاحشة وإفساد أخلاق الأمم يطول ولا يمكن أن يوفى به فى كتب، فهم وراء كل بيوت الأزياء التى كشفت عورة المرأة الأوربية التى كنا نراها من مائة عام فقط لا تكشف إلا وجهها ويدها. وهم وراء حرية الجنس التى اعتبروها من حقوق الإنسان لتفتك بنسيج الأخلاق والأجسام، حتى ظهر طوفان الإيدز الذى لا يقاوم. وأصبحت تجارة الجنس فاشية أسوأ من تجارة الرقيق. وشاع خراب الذمم والفساد فى كل موقع على المستويات المحلية والدولية، ووراء كل ذلك يهود.

              يقول تعالى:
              وقَضَيْنَا إلى بَنِى إسْرَائِيلَ فِى الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُواً كَبِيراً (4) فَإذَا جَاءَ وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْداً مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإذَا جَاءَ وعْدُ الآخرة لِيَسُوؤُوا وجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8)
              هذا عن سنن العلو والإفساد الذى يقود فيه بنى إسرائيل العالم نحو الهاوية، وينتهون به إلى سنة الله فى إهلاكهم وإذلالهم، كما حدث لهم عبر التاريخ.
              ومن السنن الأخرى التى تهلك الأمم، ما يقود إليه الترف من فسق، وما ينتهى به إلى انهيار نسيج المجتمع وانحلال روابطه وتماسكه.
              يقول تعالى: وإذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(17)
              وقد حاول الكفار أن يفتنوا رسول الله r والمؤمنين فى مكة عن دينهم، وأرادوا إخراجهم والقضاء على دعوتهم. يقول تعالى :
              وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِى عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا(76)سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا(77)
              وهو نفس ما فعله فرعون مع موسى وبنى إسرائيل،يقول تعالى:
              وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّى لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا(101)قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا(102)فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا(103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا(104)
              وفى آخر السورة يعرض الإسلام نموذج آخر لبنى إسرائيل يبين به كيف ينتصر الله لعباده المستضعفين. فقد استهان فرعون برسالة الله واتهم موسى عليه السلام بأنه مسحور، وأراد أن يستفزه هو وبنى إسرائيل من الأرض فكانت سنة الله الماضية على المكذبين الذين يمارسوا هذا الإثم بالهلاك وأن يمكن للمستضعفين فى الأرض، فأغرق فرعون ومن معه وأسكن المستضعفين الأرض آمنين. يقول تعالى :فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا(103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا(104)
              وهنا تعلم السورة كيف يتعامل المسلم مع اسم من أسماء الله الحسنى وهو اسم الوكيل الذى تردد فى السورة مالم يتردد بقدره فى سورة أخرى.
              والوكيل هنا معناه الحفيظ والمهيمن.([11])
              وبهذا الاسم يحمى عباد الله الذين يهتدون بهداه،يقول تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا(65)
              واتخاذ الله وحده وكيلا فى مواجهة إبليس وجنوده من الجن والإنس، هو نصيحة الوحى لأتباع كل دين. يقول تعالى فى سورة الإسراء: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِى إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِى وَكِيلًا(2)
              وبهذا الاسم يوقظ الله الغافلين عن حقيقته، فيقول تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا(68)
              ويوجه الله تعالى رسوله r إلى أبعاد التعامل مع هذا الاسم.
              فيقول تعالى : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا(54) وفى قوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا(86)إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا(87)

              الأساس العقدي

              كثير من معارفنا لاندركها مباشرة بالحواس، بل نصدق بها بالخبر الصادق، سواء كانت هذه الحقائق جغرافية أم تاريخية. وهنا تقوم الرسالات بدورها فى الإبلاغ عن الغيب الذى لايطيق الإنسان معرفته بقدراته الحسية المحدودة.
              فما بقى أمامنا إلا سبيل الوحى الذى يقدم تفسيرا للوجود والتاريخ قائما على قاعدة أساسية، هى أن هذا الوجود من خلق إله عليم حكيم، وأن الله وحده هو القادر على تقديم تفسير للوجود والتاريخ عن طريق الوحي، رحمة منه بعباده.
              وبهذا لاينبغى القول بأن الدين هو الإيمان بالغيب، وبأن العلم هو الإيمان بالملاحظة العلمية، فالدين والعلم كلاهما يعتمدان على الإيمان بالغيب. غير أن دائرة الدين الحقيقية هى دائرة تعيين حقائق الأمور نهائيا وأصليا، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية.
              ومعرفة الإنسان الرائدة إذن لا تتم إلا بتكملة القلب للعقل. إن الحس يدرك البيئة المادية ويحللها ويسخرها، والقلب هو الذى يعرف الغيب، فهو الذى ينقل إلينا الوحدة الحيوية بين أجزاء الوجود. فالمعرفة الحقة تقوم على إدراك الغيب جنبا إلى جنب مع إدراك الحس، وعمل القلب لابد أن يلازم عمل العقل فى هذا الإدراك. فذلك إذا لم يدعم الإدراك العقلى القائم على التحصيل والفكر، بعمل القلب القائم على العبادة الصواب والخالصة، فإن حلاوة العرفان والإيمان لا تقران فى النفس. إنها تبرق مع العقل ثم تخمد، ويغطيها النسيان ما لم تستمر يقظة القلب. إن الإيمان طائر له جناحان العقل أحدهما والقلب ثانيهما، لا يطير بأحدهما.
              لذلك كان لابد للعقل أن يدرك الغيب بعين الوحي، حتى لا يزيغ البصر أو يطغى، وحتى لايضل العقل أو ينسى.
              إن الإنسان خلق لايعلم شيئا، وخلق الله له من الملكات مايستطيع به أن يعرف. فهو يدرك يقينا ماهو من الحياة الدنيا بعقله، الله خلق السماوات والأرض بالحق. ونفخ الله فيه من روحه ليدرك بها الغيب الذى يحيط به. وأرسل إليه الرسل بالبيان الحق عن الكون والحياة فيما لايطيق أن يدركه بالعقل هدى من الله ورحمة.
              فالقلب يدرك الوجود، ويوجه الحياة بالوحي، فتزكو النفس ويفلح الإنسان. إن الإنسان إما أن يعيش بحسه، وحينئذ يجد نفسه محكوما بهذا الوجود المادى، خاضعا له، لايزيد علمه عنه، فيستعبد نفسه لضرورات، وتظلم نفسه بالجهل. وإما أن يعيش بقلبه فيدرك الحق على ماهو عليه، ويتحرر من سلطان الضرورة، وتشرق جنبات نفسه بأنوار العلم والهدى.
              العقلية العلمية إذن هى التى تؤمن بالغيب ،وتعرفه بالوحي، ولا يمكن للعلم أن يكون حقا إلا إذا بدأ من طريق الإيمان بالغيب.
              " فمن اتصف قلبه بصفات نفسه بحيث صار قلبه نفسا محضة، فغلبت عليه آفات الشهوات ودواعى الهوى فهذا حظه من السماع كحظ البهائم لايسمع إلا دعاء ونداء.
              ومن اتصفت نفسه بصفات قلبه فصارت نفسه قلبا، غلبت عليه المعرفة والمحبة ، والعقل واللب، وعشق صفات الكمال، فاستنارت نفسه بنور القلب، واطمأنت إلى ربها، وقرت عينها بعبوديته، وصار نعيمها فى قربه وحبه.
              ومن له منزلة بين المنزلتين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظه منه قويا، وإن صادفه وقت دولة النفس كان ضعيفا."([12])

              ويقول تعالى:
              أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79)
              " مرض حب الدنيا مسئول على الخلق ولاعلاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته، هذا علاج شاق على النفوس، وقل من يقبله وينقاد له، لاجرم أن الأنبياء اجتهدوا فى تقليل هذا المرض، وحمل الخلق على الشرع فى الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم، مما ينفع فى إزالة هذا المرض."([13])
              يقول تعالى :
              وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(82)وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا(83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا(84)وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا(86)إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا(87)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)
              وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة، والقرآن قسمان : بعضهما يفيد الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء. وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التى بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة. ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعى فى تكميل موجبات الصحة، لاجرم بدأ الله تعالى فى هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة.
              واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، بين كونه سبب للخسار والضلال فى حق الظالمين، والمراد به المشركون. وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيده غيظا وغضبا وحقدا وحسدا. وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة، وتزيد فى تقوية تلك الأخلاق الفاسدة فى جواهر نفوسهم، ثم لايزال الخلق الخبيث النفسانى يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق.
              والأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها، فبعضها مشرقة صافية، يظهر فيها القرآن نور. وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال."([14])

              قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)
              وقع التحدى بكل القرآن، كما فى هذه الآية، ووقع التحدى أيضا بعشر سور … ووقع التحدى بالسورة الواحدة... ووقع التحدى بكلام من سورة واحدة . فى قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ...
              و"الآية فيها الدلالة على إعجاز القرآن، فمن الناس من يقول : إعجازه فى النظم على حياله وفى المعانى وترتيبها على حياله، ويستدل على ذلك بتحديه فى هذه الآية العرب والعجم والجن والإنس. ومعلوم أن العجم لايتحدون به من طريق النظم، فوجب أن يكون التحدى لهم من جهة المعانى وترتيبها على هذا النظام دون نظم الألفاظ "([15])
              وهذه هى مناسبة لشرح اتصال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى يتلقى منه خبر السماء ، وقصة الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى كان يقظة لامناما بالدليل القطعى المتواتر من تكذيب من كذب وارتداد من ارتد. وهذا مذهب الجمهور وأهل السنة والجماعة وقد ورد فى صحته ما لا يحصى من الأخبار، هذا النقل، وأما الإمكان العقلى فثابت غير محتاج إلى بيان، فإن كل ذرة من ذرات الموجودات فيها من العجائب والغرائب والدقائق والرقائق ما يتحير فيه العقول، لكن لما كان على وفق العادة ألفته الطباع فلم تنكره الأبصار ولا الأسماع، وأما مثل هذا فلما كان على خلاف العادة استنكره ضعفاء العقول الذين لا يتجاوز فهمهم المحسوسات، على ما ألفوا من العادات، وأما أولو الألباب الذين سلموا من نزغات الشيطان ووساوس العادة، ونظروا بأعين البصائر إلى آثار رحمة الله فى صنع المصنوعات وإحداث المحدثات فى الملك والملكوت، والشهادة والغيب، والخلق والأمر، فاعترفوا به، وأن من عظيم الآيات وبدائع الدلائل النيرات. وأدل دليل على ذلك قوله تعالى فتنة لأنه لو كان رؤيا منام لم يكن بحيث يستبعده أحد فلم يكن فتنة.روى البخارى فى التفسير عن ابن عباس رضى الله عنهما : هى رؤيا عين أريها رسول الله r ليلة أسري به. ([16])

              المناسبة
              تعالج سورة النحل والإسراء موضوعا مشتركا هو العدل، وبينما تعالج سورة النحل بعلاقة العدل مع الإحسان، تهتم سورة الإسراء بعلاقة التفاضل بالعدل.
              ففى سورة النحل يقول تعالى : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِى القُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) ويقول تعالى : مبينا علاقة العدل والإحسان: وإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ولَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126) ). (واصْبِرْ ومَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إنَّ اللَّهَ مَعَ الَذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128) .
              وتؤكد سورة الإسراء الموضوع الأساس لسورة النحل فى قوله تعالى: ولا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (34) ) وأَوْفُوا الكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) .
              وبينما ركزت سورة الإسراء على صلة التفاضل بالعدل سواء كان ذلك مع البشر فى قوله تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ، أو فى تفضيل البشر على كثير من العالمين فى قوله تعالى: ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدم وحَمَلْنَاهُمْ فِى البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) أو حتى فى تفضيل بعض النبيين بعضهم على بعض فى قوله تعالى : ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (55) .
              وفى سورة النحل قمة التنزيه لله تعالى فى تعريف البشر لربهم بقوله تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (60 )
              وتعمر سورة الإسراء بالتسبيح ففى أول السورة يقول تعالى :سُبْحَانَ الَذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وفى وسطها يقول تعالى : أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إنَاثاً إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) ولَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ومَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذاً لاَّبْتَغَوْا إلى ذِى العَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وفى آخر السورة يقول تعالى على لسان الرسول r : أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93).





              ([1]) د. محمد عبد الله دراز، دراسات إسلامية فى العلاقات الاجتماعية والدولية ص 54-57 دار القلم 1399هـ.

              ([2]) رواه مسلم ج2 ص 593.

              ([3]) رواه مسلم ج 2 ص 433.

              ([4]) رواه مسلم ج2 ص 422.

              ([5]) رواه مسلم ج2 ص 431.

              ([6]) رواه مسلم ج2 ص 432، 433.

              ([7]) العقاد، الديموقراطية فى الإسلام ص 190 دار المعارف المصرية 1971.

              ([8]) يوسف كمال، الإسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة ص 181- 191.

              ([9]) سيد قطب، فى ظلال القرآن ج 5 ص3188.

              ([10]) الألوسي، روح المعانى ج13 ص 78.

              ([11]) معجم ألفاظ القرآن الكريم ج2 ص 1200مجمع اللغة العربية 1990.

              ([12]) ابن القيم، مدارج السالكين ج2 ص 413-414.

              ([13]) الرازى، مفاتيح الغيب ج19 ص 164.

              ([14]) الرازى، مفاتيح الغيب ج 19 ص 173-175.

              ([15]) الجصاص، أحكام القرآن ج3 ص 208.

              ([16]) البقاعي، نظم الدرر ج4 ص 400.

              تعليق

              • يوسف كمال محمد
                1- عضو جديد
                • 2 فبر, 2014
                • 66
                • عمل حر
                • مسلم

                #67
                الرحمه بالناس كما تبينه سورة الكهف

                مقدمة


                اهتمت السورتان السابقتان ( النحل والإسراء)بترسيخ قيم العدل فى المجتمع المسلم وتقوم هاتان السورتان(الكهف ومريم ) بتربية المجتمع على قيم الرحمة.
                وتقدم السورة أربعة نماذج تفسر الأساس العقدى للسورة وموضوعها، فقصة أصحاب الكهف تحكى جبروت الظالمين، وذلك نراه على لسان أصحاب الكهف وكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إنَّهُمْ إن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ ولَن تُفْلِحُوا إذاً أَبَداً (20).
                وتشاهد القصة رحمة الله تحيط بأصحاب الكهف وإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إلى الكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16).
                وفى القصة الثانية وهى قصة أصحاب الجنة نرى قسوة قلب صاحب الجنة على صاحبه وكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وأَعَزُّ نَفَراً (34).
                ففى كلا القصتين نشهد الاستخدام الغاشم للقوة، والغفلة المخزية عن إدراك أبعاد قوة الله.
                وفى القصة الثالثة نشاهد عبدا صالحا أعطاه الله علم الغيب فاستخدمه فى رحمة الناس ويقول عنه القرآن: فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65)، ويفسر بعض أعماله فى القرآن (وأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى المَدِينَةِ وكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ويَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ومَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (82)
                وفى القصة الأخيرة وهى قصة ذى القرنين تبين المسارعة فى الخيرات فى عالم الشهادة يقول القرآن على لسان ذى القرنين مبينا غرض الرحمة من هذا العمل بقوله : قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى فَإذَا جَاءَ وعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّاءَ وكَانَ وعْدُ رَبِّى حَقاً (98)
                يقول رسول الله r
                (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء، الرحم شجنة من الرحمان فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله).([1])

                موضوع السورة
                الإسلام يتحقق بالإخلاص


                كما نبهت سورة الإسراء على خطورة الظالمين، واستمداد مد الثبات من الله فى قوله تعالى:
                وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75). فإن سورة الكهف تحذر من الاستجابة إلى الغافلين المفرطين فى استعلائهم على المؤمنين.
                إن المسلم لابد ابتداء أن يكون فى معية الله تعالى، لايتحرك إلا بقناعة أن كل أمر يتم بمشيئة الله، ولا يعتقد أن ما أمده الله من قدرة إلا بنعمة من الله. فلو كان وحده فى كفة، والله معه، لرجحت كفته على غيره ولو كانت الدنيا كلها معه.
                حقا إن الله أمره فى صراعه مع الباطل أن يجهز ما يستطيع من قوة، لكن ذلك تكليف فى ابتلاء العمل، أما هو فليس الأداة الوحيدة للنصر، وإنما جند الله لاتحصى ولاتعد، من ملائكة ورياح وأمطار … كما حدث من قبل فى بدر والأحزاب.
                إنه لن ينتصر بالمال والسلطان إن لم يكن فى أعماقه يجاهد ويصبر ابتغاء وجه الله ، فيستقر فى نفسه خلق الصبر واليقين .
                ولذلك يضيع الطريق من أقدام العاملين لنصرة الإسلام إذا تصوروا أن وسيلتهم لذلك هى المال والسلطان، إنهم يرجون بذلك دنيا ناسين أن النصر بيد الله، وأن طريق زينة الحياة الدنيا محفوف بالأخطار، وأن إبليس لهم بالمرصاد يقلب لهم الحق باطلا، ويدخل عليهم من باب الحرص على الدنيا ليبعدهم عن طريق الله، فلايكون جهدهم وهمهم موجه إلا إلى حفظ المال والولد وتنميته، ويضيع فى نفوسهم نور الإخلاص والتجرد والتضحية فى سبيل الله بالمال والنفس والأولاد. ولايكون حصيلة عملهم إلا تحقيق ثروة أو هيمنة على دولة .
                وواهم من يتصور أن الدعوات تصنع بأصحاب المال والجاه. يقول تعالى:
                إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7)وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا
                الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)
                ويقول رسول الله r :
                ما ذئبان جائعان أرسلا فى غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه.([2])
                إن الإسلام لن ينتصر ابتداء بأساليب التسلل إلى السلطة، ولاوسائل تجميع الأموال ،والتفكير بهذا الأسلوب يفتح الطريق واسعا أمام الشيطان ليزيغ بالناس عن طريق الهدى، فيصبح الإسلام وسيلة لدنياهم دون أن يشعروا، وتتحكم الدنيا فيهم فيخضعوا كل قيمة لها، ويتأولوا فى ذلك ما استطاعوا، حتى لايبقى الإسلام إلا شعارا ووسيلة للحصول على القوة، سلطانا ومالا. والنتيجة أن أصبحوا إخوانا للشيطان وإن ادعوا أنهم عباد للرحمن، ورقت العقيدة فى نفوسهم رويدا رويدا حتى يجرفهم بصفة نهائية تيار الجاهلية دون مقاومة أو وعى بما حصل لهم.
                إن إعلاء كلمة الله لاتتم ابتداء بسلطان المال والجاه، وإنما تتم بالصبر واليقين. وليس معنى هذا إغفال أن يعد المؤمنون لهذا الشأن ما استطاعوا من قوة، ولكن المحظور أن تعتبر هذه القوة هى الوسيلة الأولى لتحقيق أمر الله. إن الله سبحانه وتعالى يقبض على السماوات والأرض، وإرادته طليقة لاتقيدها سنن الكون والتاريخ التى نعرفها.وخطورة فهم التعلق بالمال والجاه فى نصرة هذا الدين أنه يتحول فى نفس الإنسان وفى عقل الجماعة إلى غاية فى ذاته، وينزل الدين على مقتضاها، حرصا على ماتحقق من قوة. حتى يصبح القرآن تابعا للمصالح لاموجها لها.
                إن الإنسان يحقق غاية وجوده كما أراد الله إذا تيقن أنه لامشيئة إلا بتوفيق الله، ولاقوة إلا بمدد الله، وإلا إذا تيقن أن اجتيازه عتبة الدنيا إلى الآخرة بنجاح يتحقق إذا ما كان بعمله يريد وجه الله، ويطمع فى حسن لقاء ربه بالآخرة.إن حياته كلها تتجه نحو رضاء الله والفوز فى الآخرة. وهو إذا استقرت فى قلبه هذه الحقيقة لاتهمه الدنيا، ذهبت أو جاءت، ولايهمه أن يسرع الله بالنصر أو أن يتأخر به.
                والنصر يتحقق حين يظل عباد لله يرجون وجهه، وإن حرموا الدنيا، ويعملون بهديه، وإن تفنن أعداء الله فى وسائل التعذيب والنكال. إن نصر المؤمن هو فى استقامته على أمر الله وصدعه بالحق وثباته عليه، ويشهد على ذلك حتى بأغلى ما عنده وهو روحه فينطلق شهيدا إلى الله. أما نصرة الأمة فوعد أكيد من الله إذا تحقق فيها شرط الصبر واليقين.
                والذى يقيم الدين هو الإخلاص والتضحية بالمال والنفس والولد. ولا مكان لمؤمن إلا بصحبة المخلصين. يقول تعالى :وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)
                فرب رجل إذا حضر لم يعرف وإذا غاب لم يفتقد، لاحظ له فى مال أو جاه، مكانته تسبق الكثيرين ممن يملؤون العين فى ظاهر الحياة الدنيا. يقول رسول الله r :رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره.([3])

                عبرة التاريخ
                تبين لنا عبرة التاريخ فى السورة نماذج تطبيقية فى أربعة قصص تبين الأساس العقدى من خلالها وتحدد موضوع السورة من مراميها. والقصة الأولى لأصحاب الكهف تبين أنه قد يستنفد أهل التقوى جهدهم الحسى فيما هم فيه من أمر الله، فلا يبقى لديهم من الأسباب المادية قليل ولا كثير، فتنهض لهم تقواهم بما كانوا يرجون أن تنهض به الأسباب، بل بأكثر مما كان يدور بخلدهم من ذلك، وها هم أولاء فتية الكهف كانوا يدعون إلى الله جهدهم، ويرجون أن تقوم للتوحيد دولة فى مملكتهم، فلما ضيق عليهم الطغيان واضطهدهم، وصب عليهم عذابه، لم يجدوا فى أيديهم من إمكانات الدعوة إلا أن يعتزلوا قومهم، ويخرجوا من المدينة إلى كهف عتيد يمارسون فيه ما تنبض به قلوبهم من شعائر توحيد الله عز وجل. ويقص الله سبحانه هذا الجانب من نبئهم.. فهم يأوون إلى الكهف لا لكى ينجوا بحياتهم، ولا ليحرزوا أنفسهم من أذى عدوهم … وإنما أووا إليه لأنهم حملة دعوة لايمثلهافى البلاد سواهم، والعمل لنشر رحمتها بين الناس واجب عليهم، فإذا سلبهم عدوهم إمكانات هذا العمل حسيا، فهم يدركون سر الإيمان حينما لايبق فى وسع الإنسان سوى خفقة بالقلب ، فنودوا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16).
                وانظر إلى فقههم الجميل فى الأسباب كيف رأوا أن الانطواء يثمر لهم الانتشار، انطواؤهم فى الكهف حيثما لم يجدوا سواه يثمر لهم انتشار ما يدعون إليه، وقد صدقهم الله وعده، فبارك لهم هذا العمل السلبى – فى نظرنا – وجعل فيه البركة والثمر ما لانظن أنه خطر ببالهم." ([4])
                وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن فى الناس أن يفر العبد من الجبارين خوفا على دينه. كما جاء فى الحديث عن رسول الله r :
                يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.([5])
                ففى هذا الحال تشرع العزلة عن الناس، ولاتشرع فيما عداها لما يفوت بهما من ترك الجماعات والجمع. ولهذا نوهت السورة بالفتية الذين آمنوا بربهم حين اعتزلوا الجبارين من قومهم، ووقع عزم أصحاب الكهف على الذهاب والهرب ، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك فى قوله : وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، أى : وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم فى عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم ، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أى يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16)، أى أمرا ترتقون به.
                فعند ذلك خرجوا هربا إلى الكهف فآووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك…وكذا فعل بنبيه محمد r وصاحبه الصديق حين لجآ إلى غار ثور([6])
                وهنا وعدهم الله تعالي: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16)

                والقصة الثانية تتضح فى قوله تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32)كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا(33)وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34)وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا(36)قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا(37)لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا(38)وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا(39)فَعَسَى رَبِّى أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا(40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا(41)وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِى خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا(42)وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا(43)
                تأمل هذه الهيئة التى ذكر الله تعالي، فإن المرء لايكاد يتخيل أجل منها فى مكاسب الناس : جنتا عنب أحاط بها نخل بينهما فسحة هى مزدرع لجميع الحبوب، والماء الغيل- الجارى- يسقى جميع ذلك من النهر الذى جمل هذا المنظر، وعظم النفع، وقرب الكد، وأغنى عن النواضح وغيرها.([7])
                والعبرة أن " الفقر والغنى من الله فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى ولا أتكبر عندما ينعم على ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي، وذلك لأن الكافر لما أعنى بكثرة المال والجاه، فكأنه قد أثبت لله شريكا فى إعطاء العز والغنى...
                ولا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله و إقداره. والمقصود أنه قال المؤمن للكافر هلا قلت عند دخول جنتك : الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، اعترافا بأنها، وكل خير فيها، بمشيئة الله وفضله، فإن أمرها بيده، إن شاء تركها وإن شاء خربها. وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها، فهو بمعونة الله وتأييده، لا يقوى أحد فى بدنه ولا فى ملك يده إلا بالله.([8])
                الخيرة ما اختارها الله
                والقصة الثالثة هى قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح نموذج توضيحى أبانه الله تعالى لكل مؤمن ليعلم أن الخيرة ما اختارها الله. فحين عاب السفينة لمساكين يعملون فى البحر كان وراءهم ظالم يصادر كل سفينة غصبا لم يره موسى حين اعترض، وحين قتل الغلام لم يعلم موسى ما سيسببه لأبويه من إعنات وكفر وما سيبدله الله لهم من عوض خير زكاة ورحما، وحين أقام الجدار لم يكن يعلم موسى أنه ليتيمين وأنه تحته كنز لهما. والله قادر على أن تجرى الحوادث بخلاف ذلك فتجرى السفينة بعيدا عن الظالم، ولا يخلق الغلام الكافر، ولا يظهر الكنز الذى سيقع جداره، ولكنه تعالى يريد أن يعلمنا كيف أن علمنا محدود وكيف أن الله يختار لعباده الخير وإن قصر إدراكنا عن فهم المقصد. فالخيرة ما اختارها الله للمؤمن، فإذا أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. فلايأسى على مافاته ولايفرح بما آتاه، وإنما يفوض أمره كله إلى الله راضيا بما قسمه له.

                أما الأب المؤمن فكانت نعمة الله عليه أن عافاه من الابن الذى كان سيرهقه طغيانا وكفرا، ويبدله خيرا منه. يقول تعالى:
                فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81)
                وفى القصة الرابعة يقارن لنا ربنا بين إمامتين وبين دعوتين عالميتين أحدهما تقوم على الشرك والآخرى تقوم على التوحيد.
                إن البشر ابتلى فى العصر بفلسفات نفعية تدعو إلى إطلاق وحوش الغرائز والنزوات دون قيد، بدعوى الحرية، وتفلسف الظلم باعتبار أن الصراع أصل فى علاقات الناس على أساس البقاء للأقوى. وعندما لاتوجد شريعة تحمى أعراض الناس، وقوانين تحفظهم من أكل المال بالباطل، وحينما تنتزع الرحمة من النفوس فلا يستجاب لدعاء المحروم والمكروب، وفى نفس الوقت يتبجح المستكبرون فى الترف الاستفزازى والأنانية المقيتة، والشعارات المضلة، والمعايير المزدوجة، فإن الدنيا تصبح جحيما لايطاق.
                ومن هنا نرى أن خرافة الديموقراطية وحقوق الإنسان تبخرت بقوة أسلحة الدمار، وثقل جماعات الضغط فى الداخل، ونفوذ شركات الاقتصاد المتعددة الجنسيات فى الخارج. فانتشرت المعايير المزدوجة، وأصبح الظلم أصلا والعدل مطاردا. ولم يعد العالم يسمع إلا شعارات جوفاء، وسلوكيات قبيحة، وجبروت لايرحم.
                ومن هذه السلبيات كان لقضية العولمة وجهان :
                · وجه استعمارى، وهو قد تطور من اجتياح عسكرى من الغرب لدول العالم ، ثم تبعية تحت استقلال مزيف وحكام عملاء توفيرا لدماء عسكرهم، ثم جبرية اقتصادية عن طريق التفوق المادى.
                · الوجه الآخر حرب أيديولوجية، حيث الدين هو القوة الوحيدة التى تستطيع التصدى لهذا الاجتياح باستنارة رجاله وتضحياتهم، ولهذا فالهجمة عليه شديدة سواء بالقتل والتشريد، أو بالإعلام المسلح بالأقمار الصناعية وشبكات الإنترنت.

                فالعولمة المعاصرة تتفنن فى أساليب الإفساد والظلم عن طريق :
                1- الاجتياح الإعلامي، فى عصر الإنترنت والأقمار الصناعية، لإزاحة تراث الأمم وثوابتها خصوصا مايتصل بالقيم والدين، وتغليب النموذج الغربى الانحلالى والاستهلاكى فحسب على مزاج هذه الشعوب.
                2- الاجتياح الاقتصادى، بقوة التفوق الساحق تكنولوجيا وماديا، لصالح الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، وبأدوات محددة هى الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية. ومع هذا التطور استخدمت المضاربات والعقود الوهمية التى لايقصد بها غير المقامرة، وتحركات رأس المال المقصود منها إفقار الدول، وتحيز لذلك معدل التبادل الدولى لصالح الأغنياء، لتركيع الضعفاء. وتسلح كل هذا بكم هائل من الأدوات المتطورة.
                3- إعطاء الغطاء السياسى لذلك كله عن طريق مؤسسات اقتصادية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية، ومؤسسات سياسية عالمية على رأسها مجلس الأمن، التى تفرض مصالح الغرب على العالم تحت مسمى الشرعية الدولية، وتستخدم أسلحة الحصار الاقتصادى والعزل السياسى لتركيع العالم الثالث.
                والغرب يكشف اليوم خططه عن طريق مفاهيم ساذجة، منها نهاية التاريخ لفوكوياما الذى رأى أن التاريخ قد أسدل على انتصار النظام الرأسمالي. وصراع الحضارات لصمويل هيتنجتون الذى كشف بوضوح عن صراع مرتقب بين الغرب والإسلام والكونفوشيسية . وهما معا يرهصان إلى بداية تاريخ جديد تسود فيه التكنولوجيا وقوى الإنتاج والأسواق الرأسمالية. ومن ثم تتحول السيادات الوطنية لدول العالم الأضعف إلى توابع فلكية تسبح فى مدارات سيادة قطبية مركزية ديناصورية، تتقاطب فيها المراكز الكونية الكبرى بأدواتها من الشركات المتعددة الجنسيات، بصورة أكثر طغيانا من الإمبراطوريات العسكرية فى سالف الزمان. وحيث تتساقط الدول الضعيفة على أعتاب هذه القوة بدعوى أن الخطوط بيدها والإنقاذ لايكون إلا بحبلها.
                إن الأمر يحتاج من كل ذى عقل أن يواجه هذه القيادة الضالة للرأسمالية. فالأزمات تعصف بها كل حين، والانهيار الاقتصادى يقلق مضاجعها دوما. وهى نتيجة طبيعية لبناء الاقتصاد العالمى على الاستغلال والنهب. فزيادة إفقار الفقراء وزيادة غنى الأغنياء محليا ودوليا بفعل أدوات الرأسمالية المبنية على الربا والاحتكار والفساد، وسيادة النفعية والانتهازية والانحلال على المستوى الأخلاقي، يضع الرأسمالية فى مأزق شديد لن ينجيها منه السيطرة على مقدرات العالم، بل سيكون الخطب أكثر فداحة حين يكون الانهيار شاملا. وهذا يستدعى المقاومة العامة من كل الحريصين على القيم والاستقرار والنمو، والتوحد المقدس على مقاومة هذه النهاية المفجعة. إن رخاء العالم يعتمد على التعاون المشترك لاالنهب الطاغى ،وعلى الأخلاق الفاضلة لا الشهوات الذاتية، والمنافع المتبادلة لاالسرقات المنظمة، والعدالة فى الأخذ والعطاء لاحكم شريعة الغاب وترسانات الأسلحة.
                يقول تعالى فى سورة الكهف مصورا حال هؤلاء القوم : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105)

                وفى هذه السورة نتعلم شروط الإمامة الصالحة التى يمكنها الله فى الأرض فتوجه العالم نحو سبل الخير والفلاح. فهى تحدد بدقة مهمة قيادة العالم وشروطها :
                1- إقامة العدل، ومعاقبة الظلم، وتحقيق الأمن لكل المجتمعات.
                2- التنمية المستمرة لما حباه الله للناس من نعم، وما بثه من سنن.
                3- نصرة المستضعفين وحمايتهم من المفسدين.
                4- تربية المجتمعات على خلق التعاون والتعاضد على الخير.
                5- رد القوة والعلم اللذان يتحقق بهما تنمية المجتمعات إلى الله تعالى الذى عمت رحمته العباد
                فالآيات تدل على أن أول مهام الحاكم الصالح هو نشر العدل والإحسان فى الأرض، ومطاردة الظلم والإفساد بين العباد. وهذا ما فعله ذو القرنين حين بلغ مغرب الشمس ووجد قوما فوضه الله فى الحكم بينهم، فحكم بينهم بالعدل والإحسان.
                وذلك قوله تعالي: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا(87)وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88)
                وعندما بلغ بين السدين تعلمنا الآيات دروسا أخرى. " إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لنا أنه إذا مكننا فى الأرض بأسباب من عنده فلا بد أن نضيف إليها أسبابا أخرى … فإذا مكننى الله بأن أعطانى أرضا، فيجب أن أضيف إليها بأن أزرع هذه الأرض لتنتج الثمار. فإذا تركت الأرض بورا، ولم أضف إليها عملا من عندى، فقد أخذت أسباب الله دون أن أضيف إليها سببا، وهنا فأنا لا أعمل بشريعة الله..وإذا مكننى الله سبحانه وتعالى من مال، فيجب أن أستخدمه فيما ينفع الناس ويفتح أبواب الرزق لهم، ويعمر فى الأرض … وهكذا فى كل أمور الدنيا، إذا مكننى الله سبحانه وتعالى من أى شئ فيجب أن أضيف له من عندى فيبارك فيه الله ويزيده …
                والله تعالى يريد أن يقول لنا إننا يجب أن نعمل لندرأ الظلم، فإذا كان هناك أناس ظالمون مفسدون فى الأرض، فإننا يجب أن يكون بعضنا عونا لبعض فى درء هذا الخطر أو هذا الظلم الذى يهددنا، وأننا فى حياتنا الدنيوية يجب أن نستخدم الإمكانيات العقلية التى أعطاها لنا لندرأ عن أنفسنا كل ماهو شر، ونأتى أو نعمل لما هو خير … فنكشف عما فى الأرض من أسرار وضعها الله سبحانه وتعالي، وعن مواد خلقها الله سبحانه وتعالي، ثم نستخدم عقولنا لنصنع من هذه المواد ونستخدم هذه القوانين التى خلقها الله، مايوفر لنا درء الخطر."([9])
                وذلك قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)
                ولما عرف ذو القرنين أن الناس دون السدين أهل ضعف وأنهم مستعدون لدفع الأجر مقابل أن يحميهم من الجبارين الذين يفسدون فى الأرض .. أجابهم ذو القرنين أن ما أوتى من علم وما أوتى من قوة هو من عند الله.. ومن ثم فإن هذا التمكين خير … حيث العمل الذى يقوم به بهذا العلم والقوة يكون ابتغاء لوجه الله تعالى لا لسمعة أو سلطان.
                ثم إنه طلب منهم التعاون معه لإقامة الردم الذى يحميهم من اجتياح هذا الفساد لهم ، واستخدم فى ذلك كل ما وفقه الله فيه من علم، وما أنعم به على عباده من موارد كالحديد والنحاس، ولم يبع لهم التكنولوجيا كما تفعل الدول المستكبرة اليوم، وإنما جعلها مشاعا بتعليم إياها. وذلك قوله تعالى:
                قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94) قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95) آتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)
                وهو هنا يشركهم فى العمل كى يحفز فيه المبادرات الفردية، ولايجعلهم كما تفعل الدول المستكبرة اليوم الدول المحتاجة عالة على خبرتها.
                ثم رد كل ذلك لله تعالى ولم يغتر بهذا العلم والقوة، وإنما أفهم الناس أن هذا من رحمة الله التى أحاط الله بها عباده. وذلك قوله تعالى فى ختام هذه السورة :
                فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)

                الأساس العقدي
                فالله سبحانه وتعالى يعلمنا أنه ليس على مشيئته قيود أو حدود، فهو يفعل مايشاء ويختار، وإرادة الإنسان محدودة بإمكاناته وقدراته. وعلم الله مطلق، يعلم الماضى والحاضر والمستقبل، وما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، فعلمه بكل شئ محيط. ولهذا فإن الإنسان حين يختار طريقا أو يرغب فى رغبة، يحده علمه المحدود وقدراته المحدودة، ومن هنا تتنوع الطرق التى تحقق له ذلك، ولايعرف الطريق الذى يحقق له الخير من هذه الطرق ، والله يعلمه. ومن ثم فإنه قد يحب شيئا وهو شر له، ويكره شيئا وهو خير له. ولكنه حين يسلم أمره لله فيصل علمه بعلم الله وقدرته بقدرة الله، فإن الله يختار له الخير ويحقق له الفلاح.

                والحقيقة أن الإنسان يبلغ رشده حين يصل علمه وقدرته بعلم الله وقدرته ، وهنا يربط كل فكرة وكل عمل بمشيئة الله تعالى ، فلا يتلبث أن يقول : مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

                ومن هنا تنبهنا السورة إلى طوق النجاة، فيقول تعالى : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
                وكما أن العلم المطلق المنزه عن كل نقص هو علمه تعالى، فالقدرة الطليقة من كل قيد هى قدرته سبحانه، ومن ثم نصحتنا السورة بأن نرد الأمر فيما لدينا من قوة إليه فلا قوة إلا بالله.
                وعلى مدى هذه السورة يتردد الدرس فى أنه : لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ ، بنفس التأكيد الذى تردد فيه رد العلم إلى الله.فالمناقشة بين صاحبى الجنتين تبين هذا. فالقرآن يحدثنا على لسان الكافر بهذه القدرة فيقول:
                مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا
                بينما يحدثنا القرآن على لسان العبد المؤمن الفاهم لآفاق هذه القدرة فيقول:
                أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا(37)لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا(38)وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا(39)فَعَسَى رَبِّى أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا(40)
                ويدور موضوع سورة الكهف حول هذه القيم:-

                1- نسبة مقدرات الإنسان من علم وإرادة وقوة إلى الله تعالى.
                يقول تعالى :قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)
                ويربط إرادته بمشيئة الله.يقول تعالى : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا.
                وهذا ما تبينه قصة موسى مع الخضر.
                ويعلم يقينا أن ما حباه الله من قوة إنما هى من الله، عليه ألا يستخدمها إلا فى خير الناس. وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا(39)، وهذا ما تفصله قصة أصحاب الجنة.
                2- هذا الدين ينتصر ابتداء بالإخلاص والتجرد لله تعالى والرجاء فى لقاء الله. ومن هنا بدأت السورة بقوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وانتهت بقوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)
                3-على المسلم إذا خشى الفتنة أن يفر إلى الله، وهذا ما فعله أصحاب الكهف وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16) كما يتبين من قصة أصحاب الكهف.وإذا تمكن حكم بين الناس بالعدل وسعى فى مصالح العباد.، وهذا ما فعله ذو القرنين : قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)، كما يتبين من قصة ذى القرنين.
                وينبه تعالى المؤمنين إلى حقيقة أن الخير هو ما اختاره الله لهم فهو العليم الكامل العلم ولا قوة إلا به.
                وفى ذلك يقول رسول الله r :
                (عجبت للمؤمن، إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا).([10])
                ولأن الله يعلم ونحن لانعلم ويقدر ونحن لا نقدر، فإن الخيرة هى ما اختاره تعالى. ويتم ذلك حين نربط علمنا المحدود بعلمه الذى ليس له حدود، وأن نصل قدرتنا الضعيفة بقدرته التى لاتتناهي. ومن ثم سن لنا رسول الله r الاستخارة فى الأمور كلها.
                عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال كان رسول الله r يعلمنا الاستخارة فى الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول:
                (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل :
                اللهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى، أو قال عاجل أمرى وآجله، فاقدره لى ويسره لي، ثم بارك لى فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى، أو قال فى عاجل أمرى وآجله، فاصرفه عنى واصرفنى عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم أرضني، ثم يُسمي حاجته).

                المناسبة
                فى سورة الإسراء وعينا الدرس حين قال الله تعالى : وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85). وهنا فى سورة الكهف يتعلم موسى عليه السلام هذا الدرس على يد من اختاره الله لذلك، فى قوله تعالى :فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا(65)قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرًا(67)وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)
                والعلم الكامل الذى يعبر عن الحق المطلق ليس إلا عند الله تعالى، فهو بكل شئ محيط يقول تعالى فى آخر سورة الكهف : قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)
                ومن هنا كان أدب أصحاب الكهف فى تعاملهم مع قدراتهم العلمية، يقول عنهم الحق تبارك وتعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ...
                ويعلمنا القرآن أدب التعامل مع مدة لبث أصحاب الكهف فى كهفهم، فيقول تعالي: قُلْ رَبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا(22)
                وفى سورة الإسراء استمعنا إلى هديه تعالى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ٌإِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36) وذلك بعد أن علمتنا السورة محدودية فى علمنا فى قوله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85). وتعلى سورة الإسراء من قيمة التسليم لعلم الله المطلق يقول تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً(107) وهو نفس الدرس الذى تعلمه سورة الكهف ،فى إثبات الجهل لمن ينسب لله ولدا، وإلقاءه الكلام دون علم أو برهان يقول تعالى : وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(4)مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا(5)
                وفى المقابل يتأدب المؤمنون فى تعاملهم مع الغيب فلا يتخرصون ولا يستنتجون مالا طاقة لهم به. يقول تعالى عن سلوك المؤمنين فى التعرف على الغيب ومنه عدد أصحاب الكهف : سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا(22)
                وبينما فى سورة الإسراء تبين لنا أن علم الإنسان محدود بقدرته، وأن تمام العلم وكماله عند الله تعالى، فهنا فى هذه السورة يبين تعالى أن الإرادة الحقة هى إرادته سبحانه، والعلم والقدرة هما أساس القوة وأن ما أوتى الإنسان من علم وقدرة محدود غير كامل.
                والتسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدما على التحميد.. " والتسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي، وهو إشارة إلى كونه كاملا فى ذاته، والتحميد عبارة عن كونه مكملا لغيره، ولاشك أن أول الأمر هو كونه كاملا فى ذاته، ونهاية الأمر كونه مكملا لغيره، فلا جرم وقع الابتداء فى الذكر بقولنا : سبحان الله. ثم ذكر بعده الحمد لله، تنبيها على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية...

                والإسراء به أول درجات كماله، وإنزال الكتاب غاية درجات كماله. والأمر فى الحقيقة كذلك، لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضى حصول الكمال له، وإنزال الكتاب عليه يقتضى كونها مكملا للأرواح البشرية وناقلا لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية، ولاشك أن هذا الثانى أكمل...
                والإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق، وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحى عليه من فوق إلى تحت..ومنافع الإسراء به كانت مقصورة عليه، ألا ترى أنه تعالى قال هنالك : لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية، ألا ترى أنه تعالى قال: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2)مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(3)… "([11])
                وكما قال تعالى فى سورة الإسراء : قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا(107)وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا(108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا(109)
                يقول ربنا تعالى فى سورة الكهف : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ




                (1)الألباني، صحيح سنن الترمذى ج 2 ص 180 .

                ([2]) رواه أحمد والترمذى، صحيح الجامع الصغير ج 2 ص983.

                ([3]) رواه مسلم، صحيح الجامع الصغير ج 1 ص 655.


                ([4]) البهى الخولي، آدم عليه السلام ص 60-61 مكتبة وهبة 1974م.

                ([5]) رواه البخارى، صحيح الجامع الصغير ج 2 ص 1360.

                ([6]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج3 ص 122-123.

                ([7]) ابن عطية، المحرر الوجيز، ج9 ص 306.

                ([8]) الرازى، مفاتيح الغيب ج8 ص 312-313.

                ([9]) محمد متولى الشعراوى، معجزة القرآن ص 230-237.

                ([10]) رواه أحمد، صحيح الجامع الصغير، ج2 ص 738.

                ([11]) الرازى، مفاتيح الغيب ج19 ص 232.

                تعليق

                • يوسف كمال محمد
                  1- عضو جديد
                  • 2 فبر, 2014
                  • 66
                  • عمل حر
                  • مسلم

                  #68
                  الرحمه بالتزكية كما تبينه سورة مريم


                  مقدمة

                  السورة امتداد لشجرة الرحمة، وقد تكرر فى السورة اسم الرحمن اثنتا عشرة مرة، والرحمة أربع مرات.
                  قال تعالى :
                  · قَالَتْ إنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إن كُنتَ تَقِياً (18)
                  · فَكُلِى واشْرَبِى وقَرِّى عَيْناً فَإمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِياً (26)
                  · يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياً (44)
                  · يَا أَبَتِ إنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ ولِياً (45)
                  · جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِى وعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إنَّهُ كَانَ وعْدُهُ مَأْتِياً (61)
                  · ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياً (69)
                  · قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداً حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إمَّا العَذَابَ وإمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وأَضْعَفُ جُنداً (75)
                  · أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78)
                  · يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمَنِ وفْداً (85)
                  · لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87)
                  · وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَداً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَداً (91) ومَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ ولَداً(92) إن كُلُّ مَن فِى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)
                  · إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً (96)
                  و ترق السورة وتتلطف فى الجزء الأول حيث الحديث عن عباد الله الصالحين، وفى الجزء الثانى تشتد حيث الحديث عن الكفار المعاندين.
                  وتستخدم السورة العلاقة بين الوالد والولد كتطبيق لهذه القيمة فالحديث عن يحيى وعيسى عليهما السلام ترفرف عليه عواطف الحنان والبر والزكاة.
                  وفى الحديث عن إبراهيم عليه السلام تظهر عاطفة البنوة فى حرص الإبن على إنقاذ أبيه من هاوية الكفر، صابرا على إيذائه له، فأنعم الله عليه السلام بالذرية الصالحة إسحاق ويعقوب وإسماعيل، وكان أرفع خصائصهم التربية الصادقة.
                  وتذكر السورة معهم إدريس عليه السلام مشتركا فى خصيصة الصديقية وتذكر موسى عليه السلام وتنوه بخصيصة الإخلاص فيه. ووراءهم بعد ذلك مواكب الإيمان قال تعالى : أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدم ومِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ومِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وإسْرَائِيلَ ومِمَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِياً (58)
                  وفى الجزء الثانى تظهر اللدادة والعداوة فى سلوك الكافرين فنرى من يقول القرآن على لسانه:أَفَرَءَيْتَ الَذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً ووَلَداً (77) أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً(78)
                  ويظهر أسوأ تحريف لهذه العاطفة بادعاء الولد لله يقول تعالى وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً (89)

                  موضوع السورة
                  عمرت السورة بإعلاء شأن تزكية النفس والأمر بها.
                  يقول تعالى فى صفة يحيى عليه السلام: وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا *
                  وفى صفة عيسى عليه السلام :قال إنى رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا *
                  وفى إسماعيل عليه السلام : وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا *
                  "واعلم أن الطهارة لها أربع مراتب :
                  1- تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات.
                  2- تطهير الجوارح من الذنوب والآثام.
                  3- تطهير القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.
                  4- تطهير السر عما سوى الله تعالى، وهذا هو الغاية القصوى.
                  فمن قويت بصيرته سمت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرته لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى ،.."([1])

                  وسائل التزكية

                  وتحدد السورة الوسائل، التى تحقق التزكية وهي:
                  التقوى :
                  هى جعل النفس وقاية من سخط الله تعالى، وذلك بقمع الهوى.([2])
                  وكما بدأت السورة بمواصفات التقوى الذى استحق بها يحيى عليه السلام الإنعام من ربه :
                  يقول تعالى : وحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وزَكَاةً وكَانَ تَقِياً (13)
                  تختم السورة بالإنعام من الله على الذين اتقوا حين ينجيهم من النار ويذر الظالمين فيها جثيا :
                  يقول تعالى : ثُمَّ نُنَجِّى الَذِينَ اتَّقَوْا ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياً (72)
                  وبين البداية والنهاية تتردد كلمة التقوى :
                  يقول تعالى : تِلْكَ الجَنَّةُ الَتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِياً (63)
                  يقول تعالى : فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداً(97)
                  الصلاة :
                  وصى الله عيسى عليه السلام بالصلاة، يقول تعالى على لسان عيسى :
                  وجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وأَوْصَانِى بِالصَّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً(31)
                  وفى وصية زكريا لأهله:
                  يقول تعالى وكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكَاةِ وكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً (55)
                  " و الصلاة هى عماد الدين وغرة الطاعات. وقد ورد فى فضائل الصلاة أخبار كثيرة مشهورة، ومن أحسن آدابها الخشوع..
                  يقول رسول الله r :
                  ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله.([3])
                  الدعاء:
                  قال رسول الله r :
                  الدعاء هو العبادة.
                  والدعاء لايرد بين الآذان والإقامة
                  والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، عليكم عباد الله بالدعاء.([4])
                  وأثر الدعاء فى الإجابة واضح فى دعاء زكريا عليه السلام فى قوله تعالى:
                  قَالَ رَبِّ إنِّى وهَنَ العَظْمُ مِنِّى واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ولَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً (4)
                  وفى دعاء إبراهيم عليه السلام :
                  يقول تعالىوأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّى شَقِياً(48)
                  والدعاء أيضا هو الصلة بين المؤمنين وربهم سبحانه وتعالى، ففى سورة مريم:
                  يقول تعالى : ويَزِيدُ اللَّهُ الَذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى والْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وخَيْرٌمَّرَداً(76)والباقيات الصالحات هى التسبيح والدعاء.

                  علامات تحقق التزكية
                  تؤدى التزكية إلى آثار معينه على سلوكيات الإنسان منها :
                  البر:
                  "البر : السعة فى علم الحق وفعل الخير. وهو مشتق من البر أى السعة فى الأرض. وهو المعبر عنه بانشراح الصدر واطمئنان القلب. "([5])
                  عن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال: سألت رسول الله r عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك فى نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس."([6])
                  وعن ابن مسعود قال : سألت رسول الله r : أى العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت : ثم أى ؟ قال: بر الوالدين. قلت : ثم أى ؟ قال: الجهاد فى سبيل الله.([7])
                  ويحيى عليه السلام استحق الإنعام الإلهى حيث اتصف بهذا البر فى قوله تعالى :وبَراً بِوَالِدَيْهِ ولَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِياً (14)
                  ومقتضى الإنعام على عيسى عليه السلام نجده فى قوله تعالى:
                  وبَراً بِوَالِدَتِى ولَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِياً (32)
                  وإبراهيم عليه السلام مع أبيه.
                  قال تعالى :يَا أَبَتِ إنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ ولِياً (45)
                  ولأنهم متقون ويرجون الله، نفى الله عنهم صفات السوء من العصيان والجبروت.
                  الإخلاص:
                  هو أن يقصد الإنسان بفعله وجه الله تعالي، متعريا عن الإلتفات إلى غيره.. ([8])
                  ومقتضى الإنعام على موسى عليه السلام هو الإخلاص، نجده فى قوله تعالى:
                  واذْكُرْ فِى الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وكَانَ رَسُولاً نَّبِياً (51)
                  " إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص : أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.."([9])
                  قال رسول الله r :
                  قال الله عز وجل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لى عملا أشرك فيه غيرى، فأنا منه برئ، وهو للذى أشرك.([10])
                  " واعلم أن كل شئ يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه، سمى إخلاصا. والإخلاص يضاد الإشراك، فمن ليس مخلصا، فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات. فالإخلاص فى التوحيد يضاده الشرك فى الإلهية. والشرك منه جلى وخفي، وكذلك الإخلاص … والإنسان قلما ينفك فعل من أفعاله وعباداته عن شئ منه..
                  والعمل الذى لايريد به إلا الرياء، فهو على صاحبه لا له، وهو سبب للعقاب، كما أن العمل الخالص لوجه الله تعالى سبب للثواب."([11])
                  يقول رسول الله r :
                  ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندى من المسيح الدجال. قلنا :بلي. قال: الشرك الخفى : أن يقوم الرجل يصلى فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل.([12])
                  ويقول r :
                  إذا جمع الله الأولين والآخرين، يوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك فى عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله. فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك.([13])
                  الصدق :
                  وهو: اسم لحقيقة الشئ بعينه حصولا ووجودا …
                  وأنعم الله بصفة الصديقية على إدريس وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم السلام، وذلك ظاهر فى قوله تعالى:
                  واذْكُرْ فِى الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً (41)
                  ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياً (50)
                  واذْكُرْ فِى الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وكَانَ رَسُولاً نَّبِياً (54)
                  واذْكُرْ فِى الكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً (56)
                  " والصدق يستعمل فى معان :
                  1- الصدق فى القول، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه، ولا يتكلم إلا بالصدق، والصدق باللسان هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها. وينبغى أن يحترز عن المعاريض، فإنها تجانس الكذب إلا أن تمس الحاجة إليها، وتقتضيها المصلحة فى بعض الأحوال. وقد كان النبى r إذا أراد غزوة ورى بغيرها لئلا ينتهى الخبر إلى الأعداء فيتهيؤوا لقتاله...
                  2- الصدق فى النية والإرادة وذلك يرجع إلى الإخلاص، فإن مازج العمل شوب من حظوظ النفس، بطل صدق النية …
                  3- الصدق فى العزم والوفاء به …
                  4- الصدق فى الأعمال، وهو أن تستوى سريرته وعلانيته، حتى لاتدل أعماله الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر فى باطنه، ويكون الباطن بخلاف ذلك...
                  5- الصدق فى مقامات الدين، وهو أعلى الدرجات، كالصدق فى الخوف والرجاء، والزهد والرضى، والحب والتوكل. فإن هذه الأمور لها مبادئ ينطلق عليها الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق، فالصادق المحقق من نال حقيقتها.وإذا غلب الشئ ونمت حقيقته سمى صادقا." ([14])
                  يقول رسول الله r :
                  عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدىإلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار. وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا."([15])
                  وبين الصدق والبر قرابة ونسب. فالصدق يهدى إلى البر كما فى الحديث الشريف. وبين الصدق والإخلاص قرابة ونسب، فالإخلاص لايتحقق إلا بالصدق. وبين الإخلاص والود والحنان قرابة ونسب، فالإخلاص ينبثق من عاطفة المودة والحب، وبدون هذه العاطفة يكون الولاء رياء والحنان نفاقا. وبين الصدق والحب صلة ونسب، فالذى أحب لا أقول له إلا الصدق. ومن هنا نجد الرباط بين البر والحنان من جهة صفتى يحيى وعيسى عليهما السلام، وبين الصدق والإخلاص صفتى آل إبراهيم وموسى عليهم السلام.

                  أثار التزكية

                  تظهر آثار التزكية على عواطف المؤمنين بامتلائها بالحب والحنان والود :
                  والمحبة هى المنزلة التى فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهى قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون ،وهى الحياة التى من حرمها فهو من جملة الأموات والنوع الذى من فقده فهو فى بحار الظلمات، والشفاء الذى من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التى من لم يظهر بها فعيشه كله هموم وآلام.
                  وهى روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التى متى خلت منها فهى كالجسد الذى لاروح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكن بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها. وهى مطايا القوم التى مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذى يبلغهم إلى منازله الأولى من قريب. "([16])
                  "والحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق … والمعنى إذا كان صفة لله : فمعناه: رحمة منا عليه …
                  وإذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام كان معناه : آتيناه الحكم والحنان على عبادنا، أى التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم، فيما أوليه من الحكم عليهم … ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة، ومعناه أن لاتكون شفقته داعى له إلى الإخلال بالواجب، لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب … فالمعنى : إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات.."([17])
                  والود: " قال الجمهور أن الله تعالى يحدث للمؤمنين الذين يعملون الصالحات فى القلوب مودة ويزرعها لهم فيها، من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التى يكتسب الناس بها مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء، تخصيصا لأوليائه بهذه الكرامة، كما قذف فى قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا."([18])
                  يقول رسول الله r:
                  إذا أحب الله عبدا نادى جبرئيل : إنى قد أحببت فلانا فأحبه. قال : فينادى فى السماء، ثم تنزل له المحبة فى أهل الأرض، فذلك قول الله : إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً(96)
                  وإذا أبغض الله عبدا نادى جبرائيل : إنى قد أبغضت فلانا، فينادى فى السماء، ثم تنزل له البغضاء فى الأرض.([19])
                  " ومن حببه الله إلى الناس فقد أنعم عليه نعمة وسيعة، كما أن من بغضه إليه فقد جعل له نقمة فظيعة. والسبب فيمن يكون محببا أن من رعاه الله تعالى فصفى جوهره، وأطاب روحه، وحسن عمله، حصل له نوره يسرى فى مشاعر من يراه فيحبه. "([20])

                  اخلاق الكافرين

                  على العكس من المؤمنين فإن الكافرين تتنزل عليهم النقمة بدلا من النعمة، ويتصفون بالجبروت والعصيان والشقوة والعدوانية بديلا عن البر والصدق والإخلاص، ولايعرفون وسيلة التقوى والصلاة وإنما أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
                  ويبين الله تعالى النقمة على الكافرين فى كتابه العزيز بقوله تعالى :
                  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً (59)
                  فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِياً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِياً (70)
                  وأوضحت السورة فى نهاياتها صفتى المشركين : العتو واللداد. وهناك صلة قرابة ونسب بينهما وبين الجبروت والشقاوة. فالعتو هو لون من ألوان الكبر والجبروت، واللداد هو لون من ألوان الشقاوة لأن معناه شدة الخصومة بالباطل.
                  وإذا لم يتحصن المؤمن بالتقوى اتصف باللداد والعتى والإجرام ،نرى ذلك فى قوله تعالى :-
                  فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداً (97)
                  ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياً (69)
                  ونَسُوقُ المُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ ورْداً (86)
                  وفى مقابل التقوى والدعاء والصلاة من المؤمنين فإن الوسائل التى أوصلت الكافرين إلى هذا الدرك هى اتباع الشهوات وإضاعة الصلوات، وذلك نتيجة طبيعية لأن الكافرين لايتقون الله تعالى ولايرجون لقاءه، وليس لهم قيم إلا المال والولد. يقول تعالى:
                  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً (59)
                  قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداً حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إمَّا العَذَابَ وإمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وأَضْعَفُ جُنداً (75)

                  عبرة التاريخ
                  حين يقذف الله الرحمة فى النفس البشرية، تسرى بين جنباتها فيحولها إلى رحمة تسير على الأرض، فينطلق منها البر والحب ليشيع بين الناس الأنس والراحة والاطمئنان، فربنا أنعم على يحيى بالكتاب، وغمره بالحنان والزكاة، فكان منه البر واللين والإلف , يقول تعالى : يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياً (12) وحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وزَكَاةً وكَانَ تَقِياً (13) وبَراً بِوَالِدَيْهِ ولَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِياً (14)
                  وأنطق الله عيسى وهو فى المهد صبيا، شارحا لقومه نعمة الله عليه حين أتاه الكتاب يقول الله تعالى :قَالَ إنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِى الكِتَابَ وجَعَلَنِى نَبِياً (30) وجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وأَوْصَانِى بِالصَّلاةِ 0والزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً (31) وبَراً بِوَالِدَتِى ولَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِياً (32) والسَّلامُ عَلَى يَوْمَ ولِدتُّ ويَوْمَ أَمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَياً (33)
                  وفى وسط السورة نجد إبراهيم عليه السلام، بما أتاه الله من العلم، يفيض رحمة على والده، يقول تعالى على لسانه : واذْكُرْ فِى الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً (41) إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إنِّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياً (44)
                  وفى آخر السورة ،يبشر الله المتقين بالود والتكريم، يقول تعالى: إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً (96) فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداً (97)
                  ومن خلال السورة نجد أن تزكية النفوس، تولد فى النفس أخلاقا مخصوصة، ففى سيرة يحيى وعيسى عليهما السلام، كان خلق البر طابعا للأخلاق الإيجابية، واختص يحيى عليه السلام بالحنان، بينما اختص عيسى عليه السلام بالبركة.وانتفى عن كليهما ألوان من الأخلاق السلبية وهى الجبروت، بينما انتفى عن يحيى عليه السلام العصيان، وانتفى عن عيسى عليه السلام الشقوة.
                  وفى سيرة إبراهيم عليه السلام وذريته وضحت صفات الصدق والإخلاص ، وانتفت صفتى العصيان والشقوة.

                  الأساس العقدي
                  فى أول السورة يبين الله تعالى لعباده قدرته الطليقة التى لاتتقيد بالأسباب التى خلقها للكون والحياة، وذلك بهبته يحيى لزكريا عليهما السلام : قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً (9) ، فبقدرته الطليقة خلق زكريا ولم يكن شيئا، وعيسى لمريم عليهما السلام ,وبين لمريم أن ذلك عليه هين : قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ.وفى نهاية السورة يرد على تعجب الجاحدين من الخروج بعد الموت فيقيم عليهم نفس الحجة وهى الخلق من لاشئ ، حيث الإعادة أهون : أَوَلا يَذْكُرُ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً (67)

                  المناسبة
                  بدأت السورة بالنداء الخفى من زكريا عليه السلام الذى يمتلئ بالرجاء والثقة فى الله :إذ نادى ربه نداءً خفيا، تختم السورة بتحدى أن يسمع للقرون الهالكة من قبل ركزا، وهو النداء الخفي، وقد كانوا من قبل يفتخرون بأموالهم وأولادهم، ويتباهون بأنهم خير مقاما وأحسن نديا :وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا.
                  قال الإمام أبو جعفر بن الزبير فى برهانه : لما قال تعالى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ والرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) ،ثم أورد خبرهم وخبر الرجلين وموسى والخضر عليهما السلام وقصة ذى القرنين، أتبع سبحانه وتعالى ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا، فافتح سورة مريم بيحيى بن زكريا وبشارة زكريا به بعد الشيخوخه وقطع الرجاء وعقر الزوجة حتى سأل زكريا مستفهما ومتعجبا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلامٌ وكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِياً(8). فأجابه تعالى بأن ذلك عليه هين، وأنه يجعل ذلك آية للناس، وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة، فكأن قد قيل : أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آيه ،وهو قصة زكريا فى ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، و قصة عيس فى كينونته بغير أب، ليعلم أن الأسباب فى الحقيقة لا يتوقف عليها شى من مسبباتها إلا بحسب سنة الله، وإنما الفعل له سبحانه لا بسبب، وإلى هذا أشار قوله تعالى لزكريا عليه الصلاة والسلام : قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً (9)، ثم أتبع سبحانه بشارة زكريا بيحيى بإيتائه الحكم صبيا، ثم بذكر مريم وابنها عليهما الصلاة والسلام([21])
                  كما نلاحظ الصلة بين سورة الكهف و مريم فى الموقف الإيمانى وهو الاعتزال إذا اشتدت سطوة الجبارين يقول تعالى فى سورة الكهف وإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إلى الكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16)
                  وهو نفس الموقف الذى اتخذه سيدنا إبراهيم عليه السلام فى مواجهة قومه يقول تعالى على لسانه: وأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّى شَقِياً (48)
                  كما نلاحظ هذه الصلة بين السورتين فى موضوع الولد وإن اختلف الحالان، فلما قتل الخضر الغلام قال فى السورة مبررا ذلك وأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وأَقْرَبَ رُحْماً (81)
                  بينما فى سورة مريم كانت أخلاق الإبن أخلاقا عالية يقول تعالى يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياً (12) وحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وزَكَاةً وكَانَ تَقِياً (13) وبَراً بِوَالِدَيْهِ ولَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِياً (14)





                  ([1]) ابن قدامة، مختصر منهاج القاصدين ص 19.

                  ([2]) الأصفهانى : الذريعة إلى مكارم الشريعة. ص 212.

                  ([3]) رواه مسلم، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 992.

                  ([4]) الألباني، صحيح الجامع الصغير ج1ص 641.

                  ([5]) الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 212.

                  ([6]) رواه البخارى ج4 ص 26.

                  ([7]) رواه البخارى ج10 ص336.

                  ([8]) الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 213.


                  ([9]) ابن القيم، مدارج السالكين ج2 ص 87.

                  ([10]) الألباني، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص409.

                  ([11]) ابن قدامة، مختصر منهاج القاصدين ص 292-293.

                  ([12]) الألباني، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص410.

                  ([13]) الألباني، صحيح سنن ابن ماجه ج2 ص 410.

                  ([14]) ابن قدامة، مختصر مناهج القاصدين ص 394- 396.

                  ([15]) صحيح الجامع الصغير ج 2 ص 751.

                  ([16]) ابن القيم، مدارج السالكين ج2 ص 8.

                  ([17]) الرازى، مفاتيح الغيب ج20 ص 414.

                  ([18]) الرازى، مفاتيح الغيب ج20 ص 515.

                  ([19]) الألباني، صحيح سنن الترمذى ج3 ص 76.

                  ([20]) الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 366.

                  (1) البقاعي، نظم الدرر ج 5 ص 519 .

                  تعليق

                  • يوسف كمال محمد
                    1- عضو جديد
                    • 2 فبر, 2014
                    • 66
                    • عمل حر
                    • مسلم

                    #69
                    الرشد في اتباع الهدي من سورة طه


                    مقدمة
                    اهتمت سورة مريم عليها السلام بتزكية النفوس وتربيتها على البر والود، وتحريرها من العتو واللداد. وفى سورة طه تنبيه على أن أسلوب هذه التربية ليس متروكا لكل إنسان يشكله كما يريد، وإنما يجب تلقيه من الله تعالى الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى.
                    ومن ثم كان اهتمام السورة بشحذ العزم على اتباع هدى الله وطاعته، فهذا وحده الهادى إلى الفلاح فى الدنيا والآخرة، والتحذير من الإعراض والنسيان الذين يؤديان بالضرورة إلى الشقاء والمعيشة الضنك.
                    تظلل سحابة الرحمة فى السورة، فتبين السورة أن اتباع وحى الله هو الذى يحقق هذه الرحمة بين جنبات المجتمع والإعراض عنه ونسيانه يترتب عليه المعيشة الضنك وترتب السورة موضوعها فيما يلى :
                    1. رفع المعاناة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل أمانة الرسالة بأن حدد مسئوليته بالإبلاغ وكان مطلع السورة مفتاح إسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
                    2. وتتلألأ بين جنبات السورة التعريف بأسماء الله الحسنى شأنها شأن بقية سور مجموعة الرحمة.
                    3. ثم تتحدث السورة عن اصطفاء موسى عليه السلام والإنعامات التى حباه بها الله، وهو يكلفه بالذهاب إلى فرعون اللعين لتحرير بنى إسرائيل من طغيانه.
                    4. ثم بين له أسلوب الدعوة باللين حتى يصل بالدعوة إلى القلوب وحتى لا يعين الشيطان على المدعوين.
                    5. ثم تبين السورة موضوع الدعوة فيما يلى :
                    أ – التعريف بحقيقة الألوهية، إظهار آيات تجليها.
                    ب-الدعوة إلى اتباع المنهج، لأنه الطريق إلى الهدى والرحمة.
                    6. تقديم نموذج للاتباع والاستمساك به مهما كانت التضحيات، ممثلا فى سحرة فرعون، أمام جبروت فرعون دون اهتزاز أو تردد.
                    7. وتشرح السورة بعد ذلك نموذجان يحيدان عن الاتباع :
                    · نموذج السامرى وهو الذى ابتدع عبادة العجل وأضل الأمة.
                    · نموذج النسيان الذى أخرج آدم من نعيم الجنة إلى شقاء الدنيا.
                    8. ثم تبين السورة ابتلاء بنى آدم فى الدنيا والإنعام عليهم بالرسل والوحي، وأن من اتبع الهدى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا.
                    9. وسائل صيانة هذا الاتباع بالذكر والتسبيح.
                    10. تختم السورة بالتأكيد أن العاقبة للتقوى.

                    موضوع السورة

                    الإيمان بأن الله هو الخالق له نتيجة طبيعية هى الإيمان بأنه هو الشارع الذى يحدد منهج الحياة، الحلال منها والحرام، والنافع فيها والضار، والطيب فيها والخبيث.
                    وعزيمة الإيمان تؤدى إلى الهداية إلى الصراط المستقيم، ويحقق الخير والفلاح فى الحياة الدنيا ومعصية الله تعالى والإعراض عن ذكره يؤدى إلى الضلال عن الصراط، وينتهى إلى المعيشة الضنك.
                    وهذا وعد من الله لايتخلف على مدى مسيرة البشر فى دنياهم . يقول تعالى :
                    وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(82)
                    هذا الهدى هو الذى كان يبحث عنه موسى عليه السلام. يقول تعالى على لسانه: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(9)إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَارًا لَعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى(10)
                    إنه السلام الذى يظلل الناس باتباع هدى الله، يقول تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام:قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى(47)إِنَّا قَدْ أُوحِى إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48)
                    إن العقل لا يقود الإنسان إلا للوصول إلى اليقين بوجود الله، وهذا السبيل من المعرفة يقف عنده ولا يتجاوزه حسه وعقله. ومن ثم كان فى حاجة إلى مصدر أعلى من ذلك يدرك به خالق الكون والحياة، ويتبين به المبدأ والمعاد، والمنهج الصراط المستقيم. وكان لذلك وحى الله لرسله رحمة بالعباد. فسبيل المعرفة هو الاستماع إلى تبيان الحقيقة من القرآن، ومن ثم كان اتباع هدى الله، بيانا وتفسيرا، وأمرا ونهيا ، هو الصراط المستقيم الذى يؤدى إلى الفلاح.
                    والصعود والهبوط، فى هذا المقام، أمران معنويان لا يدركان بالحس، ولا يضبطان بالمشاهدة، وما لم يكن هناك مقياس يعرف به الصعود والهبوط، أو ما لم يكن هناك مثل أعلى ينسب إليه سلوك المرء، وتقاس به الأقوال والأفعال فيعرف الصالح والفاسد، والطيب والخبيث، فإن السبل تنهبهم، والأعمال تختلط، والقيم تتشابه، ويصبح المحسن والمسئ فى ميزان تلك الفوضى متماثلين فى الجزاء والتقدير. لذا نرى الآية الكريمة قدتضمنت الإشارة إلى ذلك القياس وذلك المثل الأعلى إذ قالت : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ، فعهد الله سبحانه من أمر ونهي، هو المرجع الذى يرجع إليه ليعرف على ضوئه صعود الأعمال أو هبوطها، حسنها أوقبحها، خيرها أو شرها. "([1])
                    وطريق التعرف إلى عالم الغيب يختلف كثيرا عن طريق التعرف إلى عالم الشهادة. فعالم الشهادة، أى المشهود فى دنيانا، يستطيع الحس والعقل أن يستوعب منه ويتيقن من وجوده، ولكن عالم الغيب لأنه فوق متناول حسه وعقله لايدركه إلا بالتلقى من الله تعالى، ولايصلح العقل والحس لاستيعابه، ولاينفع الجهد والسعى الدنيوى إلى تحقيقه. فالله جعل وعاءه القلب والروح، وبين أسلوب السعى لتحصيله فى منهاج محدد من المعرفة، وتعاليم من تزكية النفوس وأوامر من العبادات، بينها فى قرآنه المجيد وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. وهذا يفسر لنا لماذا يضل من يقوم بتزكية روحه عن طريق رؤيته الخاصة، وكيف يضيع منه الطريق حين يزيغ البصر أويطغى. إنه لابد من هادى يرشد إليه، ما زاغ بصره وما طغى حين رأى من آيات ربه الكبرى.
                    وحكمة الله اقتضت أن يترك للإنسان شقا يختار فيه ليبتلى فى عمله، ثم يحاسب عليه، ثم يجازى على نتيجته ، ولهذا ترك لكل إنسان اختياره فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فإذا لاءم الإنسان جانبه الاختيارى مع جانبه الاضطرارى مع السنة التى تحكم الكون كله، سنة الله التى لاتتغير ولاتتبدل، انسجم مع الكون وعاش مع عالم مأنوس، وأصبحت حياته طيبة وآخرته هنية. وإذا لم يسلم لسنة الله وخرج على هداه كان نشازا فى كون يسبح بحمد الله، ومع خليقة فطرت على الإسلام. وكان مصيره الضلال والشقاء. لأنه صار بذلك شيئا شاذا ممسوخا، فينتكس ويتخبط، ينفر منه كل ما فى الكون من شئ وحي. وليس له بعد موته إلا النار جزاء وفاقا.
                    ويبين لنا تعالى فى سورة طه أن اتباع الهدى ليس مسألة تذوق، ولاتفكير عقلى محض، وإنما هى تلقى من الله وطاعة له، فتزكية النفوس إنما تقوم على :
                    1- عقيدة صحيحة فى التوحيد والإيمان بالآخرة.
                    2-عبادة من ذكر وتسبيح وصلاة.
                    3-تجرد وتحرر من زينة الدنيا والتطلع إلى الآخرة.
                    4-الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
                    5-وكمال ذلك باتباع طريق المرسلين فى مجاهدة الطغاة والمستكبرين، والصدع بكلمة الحق، والصبر على الأذى، والالتزام بطاعة الله تعالى وإن كلف ذلك إزهاق النفس فى سبيل الله.
                    وقد شغل موضوع الاتباع جانبا كبيرا من مرامى السورة وأهدافها. وتردد موضوعه على مدى السورة من أولها إلى آخرها. يقول تعالى : إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
                    فَأْتِيَاهُ فَقُولا إنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسْرَائِيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ والسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى (47)
                    ولَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وأَطِيعُوا أَمْرِي(90)
                    قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى (93)
                    يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى لا عِوَجَ لَهُ وخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلاَّ هَمْساً (108)
                    قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى (123) ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى (124)
                    ولَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى (134)
                    واتباع الأنبياء أحد ركائز الإيمان، ومن أعظم مسلمات الشريعة، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة.
                    ومعناه اللغوى السير فى الأثر، والاقتفاء والاقتداء والتأسى ([2])
                    ومعناه الشرعى : التأسى بالنبى فى الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك. والابتداع هو عكس الاتباع، ويكون فى الاعتقاد والقول والفعل والترك.
                    عن عرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله r صلاة الفجر ثم وعظنا موعظه بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال :
                    أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة."([3])
                    والإعراض عن ذكر الله قرين المعيشة الضنك فى الدنيا والآخرة. يقول تعالى :
                    كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وزْراً (100)
                    ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى (124)
                    ويترتب على الإعراض صفات من الظلم والطغيان والاستعلاء والإسراف والافتراء. وذلك نعرفه فى قوله تعالي:
                    وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى(61)
                    وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَى الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(111)
                    وَكَذَلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وَأَبْقَى(127)
                    اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24)
                    فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى(64)
                    كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى(81)
                    ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى (124)
                    ويترتب عليه نتائج من الإسراف والخيبة والشقاء والسقوط يقول تعالى : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَى الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(111)
                    ولقد تولت يد القدرة إدارة المعركة بين الإيمان والطغيان فلم يتكلف أصحاب الإيمان فيها شيئا سوى اتباع الوحى والسرى ليلا. ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين فى عالم الواقع. موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة، وفرعون وجنده يملكون القوة كلها. فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلا. هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة. ولكن بعد أن اكتملت حقيقة الإيمان فى نفوس الذين لايملكون قوة سواها، بعد أن استعلن الإيمان فى وجه الطغيان لاي***ه ولايرجوه، لايرهب وعيده ولايرغب فى شئ مما فى يده. يقول تعالى :
                    ولَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً ولا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ومَا هَدَى (79) يَا بَنِى إسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ ووَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ ونَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ولا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ومَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى (81) وإنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى(82)
                    " وإذا كان لكل منا وجودان : روحى وحسي، فلابد لكل منهما من رزق يناسبه يقوم به شأنه، للحسى زاد الحس وللروحى زاده الروحى … ومن البديهى أن زاد الوجود الحسى هو ما قدر الله تعالى لنا من أقوات هذه الأرض، أما الوجود الروحى فزاده ورزقه هو معرفة الله عز وجل ،والله سبحانه يرزقنا فى عالمنا هذا الحسى وفق سنن من الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج، ووفق قوانين من طبيعة التربة والجو والماء..الخ.. هذا شأنه سبحانه حين يرزقنا من عالمنا هذا الحسي، أما شأنه حين يرزقنا من الملأ الأعلى فغير هذا. شأنه هناك أن يخلق بلا سبب، يبدع بلا مقدمات، إذ هو سبحانه سبب كل شئ، وإرادته هى علة الخلق والأمر ….
                    وهى أرزاق عظيمة الشأن لو سوم العارفون على لمحة منها بملء الأرض ذهبا لرفضوا أن يبيعوا الغنم بالخسران، والجدة بالحرمان، والعلو بالضعة، ومجد الخلو بالوكس البائر.. هى الإيمان بالله، والاهتداء بهديه، والمعرفة بقدره، والخشية لمقامه والحب لذاته. وهى النصر على العدو، والتأييد فى مواقف المعارضة، والسكينة فى مواطن الروع، والجنود التى لا تراها العيون ولايعلمها إلا الله. وهى الفرقان الذى يفرق به بين الحق والباطل، والرشد الذى تدرك به حقائق الأشياء..
                    وتقوى الله لايقتصر أثرها على تصحيح الأعمال وسلوك الصراط السوى والنجاة من سوء العاقبة، بل يمتد ذلك الأثر إلى استفتاح ما عند الله من أرزاق طيبة مباركة.. وهذا لايتعارض مع الأسباب، ولايوهم أنا ندعو إلى ترك العمل وإهمال العدة، ونبذ ما جعل لنا الله فى هذه الأرض من ثروة، فتقوى الله سبحانه إن هى إلا سبب يسعى به الإنسان فى مجاله الروحي، كما يسعى بسائر أسبابه الحسية فى مجاله المادى. فإذا أخذ بتقوى الله وترك الأسباب الحسية فهو جاهل معطل لوجوده الواقعي. وإذا أخذ بالأسباب الحسية وترك تقوى الله فهو فاجر معطل لأسمى أسبابه وأقواها. وسنة الله التى رسمها لعباده هى أن يبذلوا الطاقة الروحية والحسية جميعا. إذ الروحية وحدها ليست بمغنية، والحسية وحدها ليست بكافية …
                    ولا يقف أثر تقوى الله وحسن معرفته والرغبة إليه تعالى عند توفير الأرزاق الروحية … إنما يمتد إلى الهيمنة على قوانين الطبيعة نفسها.. فالبركة إحدى حقائق العندية الإلهية، فإذا قلت إنها تضاعف حاصل الأرض من الثمر فهو حق، وإذا قلت إنها تحمل الثمار نفسها مباركة فلا تعطب ولاتسرع بالنفاد على كثرة المطالب فهو حق، وإذا قلت إنها تجعلها مباركة الأثر فيما أنفقت فيه فهو حق. ويبقى بعد ذلك أن من معانى البركة : القداسة والنمو والبقاء، وهى حقائق يقصر العقل عن تبينها، ولكنها بدون شك عوامل ذات أثر واقع مسلم فيما يكون للأفراد والأمم من قداسة الوجهة وعلو الشأن وبقاء المجد والأثر …
                    والإنسان مع الأخذ بأسباب التقوى يكون قريبا من الله، موصول السبب به سبحانه، فيكون عونه جل شأنه متحققا له، ويكون ما يملك هو من إمكانات حسية مجرد مظهر أو أداة لما يجرى الله من تأييد..أما إذا كانت أسبابه إلى الله منقطعة، وليس له من حول فى الحياة إلا ما يملك من أسباب مادية، كالمال والعدد والعدة، فهو معزول عن المصدر الحق للعون والتأييد.."([4])
                    يقول تعالى فى آخر سورة طهوأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)



                    عبرة التاريخ

                    فى سورة طه تنبيه إلى العزم الذى يجب أن يتحلى به المؤمن. يقول تعالى لسيدنا موسى وهارون عليهما السلام :
                    اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43)فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)
                    وحينما خاف موسى من آية الله فى العصا، قال الله تعالى له :
                    قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى(21)
                    وحين خاف على الناس من سحر السحرة قال الله تعالى له :
                    فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68)
                    وفى طمأنته تعالى لموسى عليه السلام حين كاد أن يدركه فرعون اللعين :
                    وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى(77)
                    عندما يأذن الله بهداية عباد له فلا راد لأمره. ففى قمة الكفر والجحود ، كان التحول المفاجئ للإيمان والتوبة. ذلك كان شأن السحرة حين ألقوا حبالهم وعصيهم متحدين، وبعد رؤية آية الله ألقيت جباهم لله ساجدين. كانوا فى أول النهار سحرة أشرار وفى آخره شهداء أبرار. يقول تعالى على لسانهم :
                    قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا(74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا(75)جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76)
                    ولقد عرضت السورة نماذج ثلاث :
                    1- نموذج الصدود عن الهدى ممثلا فى فرعون عليه لعنة الله، وجحوده وعناده فى رده على رسالة موسى عليه السلام. قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأَبْقَى (71)
                    2- نموذج الابتداع فى الدين ونسبة ماليس فيه له، والسورة تشرح هذا فى مثال عملى من قصة السامرى مع بنى اسرائيل حين غاب موسى فى موعده مع ربه، ورغم ما أنعم الله على بنى اسرائيل من الهدى ورغد العيش فقد عصوا الله وانحرفوا عن طريقه. يقول تعالى : وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى(83)قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ(85)فَرَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي(86)قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ(88)أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا(89)
                    وقد كان موقف موسى عليه السلام شديدا من أخيه هارون من هذه الزاوية، وبدأ بحساب أخيه هارون عليه السلام على موقفه من فتنة السامرى لبنى إسرائيل يقول تعالى :
                    ولَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وأَطِيعُوا أَمْرِى (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى (93) قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى ولا بِرَأْسِى إنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسْرَائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى (94)

                    3- نمودج العصيان وقلة العزم ثم التوبة والاستغفار، ممثلا فى قصة آدم عليه السلام. وكيف كان ذلك سبب خروجه من الجنة، وكيف يقوده الهدى بعد ذلك إلى العودة إليها. يقول تعالى : ولَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدم مِن قَبْلُ فَنَسِى ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

                    الأساس العقدي

                    تتحدث السورة عن موضوع الدعوة فى إجابة موسى عليه السلام على تساؤل فرعون، فكانت إجابته تقوم على توضيح أمرين :
                    1- معرفة حقيقة الألوهية، وذلك فى قوله تعالى : قَالَ رَبُّنَا الَذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50)
                    2- التعرف بالمنهج فى قوله تعالى ثُمَّ هَدَى
                    وسنتعرف هنا على الأساس العقدى أما ما يخص المنهج فهو مبين فى موضوع السورة.
                    يقول تعالى فى سورة طه : قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى(49)قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50)قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى(51)قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنْسَى(52)الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِى النُّهَى(54)
                    خلق الله الإنسان من قبضة من طين، فكان ذلك موضع غرائزه وشهواته وتعلقه بالدنيا، وسبيل معرفته هنا هو الحس وأعلاه السمع والبصر، وأعطاه العقل سبيلا إلى معرفة ظواهر الكون والحياة، والاستنباط من قوانينها، ليتعرف على الكون ، ولينهل من رزق الله الذى سخره له. وهذا موضع علومه الطبيعية وكشوفه العلمية. وهذا السبيل من المعرفة يقود الإنسان إلى معرفة ربه بقدرته على الخلق والإبداع، إذا ما تأمل كتاب الله المنظور فى الكون والحياة، ويقوده التعرف على وحى الله الذى أنزله قرآنا عربيا مبينا، فيرى الآية بين دفتيه والإعجاز فى هديه.
                    فللإنسان منطق قائم على ما بينه وبين هذا الكون المادى من علاقات حسية ومشاهدات وتجارب، أو قل إن للإنسان قوة مدركة فيها سر التجارب والتوافق مع الأشياء الماثلة لحواسنا فى هذا الكون. فنحن نرى شخوصا، ونسمع أصواتها، ونشم روائحها، ونذوق طعومها، ونميز ملمسها، وتقوم تلك القوة المدركة تبعا لتوالى الزمن ومرور التجارب، بإدراك خواصها وعلاقة بعضها ببعض، وعلى أساس ذلك تقوم بتقسيمه.. وخلال ذلك يتبين من قوانين الطبيعة وخواص الأشياء وحقائقها ما تقوم به الدنيا.
                    أقول للإنسان قوة مدركة يقع إدراكها على أشياء هذا الكون المادى، وله مع ذلك خاصية عقلية أخرى تنظر إلى الطبيعة نفسها، لا من حيث أنواعها وخواصها وألوانها، إنمامن حيث أنها صنع الله تعالي. وهذا الصنع يدل بما فيه من آيات الإتقان وإحكام النظام وعجائب الخلق وقصد الإحسان والإنعام، على ما للصانع تعالى من صفات القدرة والعلم والحكمة والكرم والود والرحمة إلى ماله من صفات..
                    وحصيلة هذا التأمل والاستبصار تتنزل فى ضمير الإنسان، فتلتقى بالروح العلوى فيه، فإذا به يتلقاها تلقى الأرض الطيبة لواردات الغيث المبارك، فتثمر ما شاء الله من قيم وصفات..تنشأ بها فى ضمير الإنسان حياة روحية ..ذات وجدان قوى.. يحب الإيمان ويكره الكفر.. يعرف الإنسان به غايته العليا التى يجب أن تتعلق بها همته، وأن تنعقد بها جهوده، فلا يرى باطلا إلا جرد نفسه لمجاهدته، ولايرى حقا إلا جرد نفسه لدعمه وتأييده. وبه يدرك أن حقيقة الثروة هى حظه من معرفة الله، وأن كل الدنيا إلى جنب ذلك قليل. وأن الخير هو أن يؤتى الإنسان حظه من معرفة الله، وأن الشر هو أن يحرم تلك المعرفة. وأن الغنى والفقر، والعزة والذلة، والنصر والخذلان، إنما ترجع كلها إلى جوهر تلك الحقيقة."([5])
                    وترشدنا السورة بأسلوب الحوار فى قصة موسى عليه السلام إلى الموعظة الحسنة و أسلوب الجدال بالتى هى أحسن. حتى يستطيع الداعية أن يصل إلى قلب المدعو، ولا يثير فيه عنادا ولااستكبارا وعلم الله سبحانه وتعالى ذلك موسى عليه السلام وبين له أسلوب خطاب فرعون فقال تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
                    ويقول تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولا إنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسْرَائِيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ والسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى (47) إنَّا قَدْ أُوحِى إلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وتَوَلَّى (48)

                    المناسبة
                    " إن الله سبحانه لما ذكر فى سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. وبعضها بين البسط والإيجاز كقصة إبراهيم عليه السلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، وأشار إلى بقية النبيين عليهم السلام إجمالا، ذكر جل وعلا فى هذه السورة شرح قصة موسى عليه السلام التى أجملها تعالى هناك، فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب، وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط. ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السلام الذى وقع فى مريم مجرد ذكر اسمه، ثم أورد جل جلاله فى سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته فى مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب واليسع وذى الكفل وذى النون عليهم السلام.
                    وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل. وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين، وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السلام البسط التام، فيما يتعلق به مع قومه، ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة، كما أنه فى سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطة.. وينضم إلى ما ذكر استدراك هذه السورة وسورة مريم فى الافتتاح بالحروف المتقطعة، وروى عن ابن عباس وجابر بن زيد رضى الله تعالى عنهما، أن طه نزلت بعد سورة مريم.
                    ووجه ربط أول هذه بآخر تلك أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين،وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك" ([6])
                    و لقد وردت حلقات قصة موسى عليه السلام فى سورة البقرة وسورة المائدة وسورة الأعراف وسورة يونس وسورة الإسراء وسورة الكهف، وذلك غير الإشارات إليها فى سور أخرى.
                    وفى سورة البقرة كانت أحداث قصة موسى عليه السلام تدور حول موضوعها، وهو الأساس الاجتماعى والاقتصادى ،وقد سبقتها قصة آدم عليه السلام وعهد الله إليه ونعمته بخلافته فى الأرض. بينت القصة فى سورة البقرة صور من إنعام الله على بنى إسرائيل ثم انحرافاتهم عن وسطية الأمة أى اعتدالها ، ووحدة الأمة أى تماسكها، بإعناتهم أنبيائهم واختلافهم معهم، ثم حربهم للأمة المسلمة فى عهد رسالة محمدr محاولين إجهاضها مثيرين للأراجيف حولها .
                    وفى سورة المائدة التى يدور موضوعها حول حقوق الدولة وواجباتها، بينت السورة نموذج مجتمع بنى إسرائيل فى التعامل مع أحكام الله، وعدم حكمهم وتحاكمهم بها، كتحريفهم لحد الرجم وكتمانهم له.
                    وفى سورة الأعراف وفيها يظهر أسلوب موسى عليه السلام كداعية لفرعون إلى الهدى، وموقف الأمة منهم فى الدعوة حين اعتدى بنو إسرائيل فى السبت.
                    وفى سورة يونس التى موضوعها الولاء لله وحده، تدور القصة حول ذلك، فنرى موسى عليه السلام يدعو قومه فى مواجهة فرعون إلى التوكل على الله إن كانوا مسلمين.
                    وفى سورة الإسراء تدور قصة موسى حول قدر الله الطليق من الإسراء والمعراج، إلى أخذ القوم المفسدين، وتدور القصة حول موقف بنى إسرائيل فى إفسادهم فى إلأرض مرتين واستعلائهم على عباد الله، وعاقبة ذلك فى تسليط عباد لله عليهم ليسوءوا وجوههم وليتبروا ما علوا تتبيرا. وفى عاقبة استفزاز فرعون لبنى إسرائيل وجحده للرسالة وكيف أغرقه الله ومن ومعه جميعا، وكيف رحم الله بنى إسرائيل منه وأسكنهم الأرض.
                    وفى سورة الكهف، تدور أحداث قصة موسى مع موضوع السورة حول التعريف بعلم الله المحيط، ممثلة فى قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح ليتعلم منه آداب التعامل مع قدر الله، بقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
                    وهنا فى سورة طه حيث يدور موضوعها حول نتائج إتباع هدى الله ونتائج عصيانه، تبين السورة موسى وهو يبحث عن الهدى حتى وجده عند الشجرة المباركة، ثم دعوته لفرعون قائلا بأن السلام لمن اتبع الهدى، ونتائج عصيان فرعون وجحوده لهدى الله وصده عن سبيل الله، ونتائج انحراف السامرى ببنى إسرائيل عن الهدى


                    ([1]) الرازى، مفاتيح الغيب ج 21 ص 179.

                    (1) لسان العرب ج 1 ص 416.

                    ([3]) صحيح الجامع الصغير، ج1 ص 499 .

                    ([4]) د. البهى الخولي، آدم عليه السلام ص 57-66.

                    ([5]) البهى الخولي، آدم عليه السلام، فلسفة تقويم الإنسان وخلافته، مكتبة وهبه سنة 1974م ص 51-54.

                    ([6]) الألوسي، روح المعانى ج 8 ص 463.

                    تعليق

                    • يوسف كمال محمد
                      1- عضو جديد
                      • 2 فبر, 2014
                      • 66
                      • عمل حر
                      • مسلم

                      #70
                      إمامية المهتدين كما تبينها سورة الانبياء

                      مقدمة

                      تستكمل سورة الأنبياء معالم الرشد الإنساني، فلقد أرست سورة مريم قواعد الأخلاق وخاصة قواعد البر والحنان، والصدق والإخلاص فى القلوب، لتولد حافزا داخليا يتجه بالإنسان إلى هذه المثل الأخلاقية.
                      واهتمت سورة طه بالدعوة إلى اتباع الرسل والتأسى بهم، فيشحذ العزم فى مواجهة الطغاة , وهنا فى هذه السورة يربى العقل المسلم على العلم، فيتعود أن يعمله فى الاجتهاد، وأن يلتزم فى تقديراته بالحكمة. وهكذا يتربى القلب على البر والحنان، والنفس على التأسى بالأنبياء، والعقل على العلم والحكمة، والتلقى على الكتاب والسنة، وهى أركان التقوى علامة الإيمان ومظهر الإسلام.

                      موضوع السورة
                      الإنسان الذى خلق من طين ونفخ الله فيه من روحه، كان قادرا على الإيمان وعلى الكفر، وهذا هو موضع ابتلائه، وحقل حسابه، ومناط جزائه , ومن أجل ذلك خلق الله السماوات والأرض والموت والحياة والجنة والنار.
                      يقول تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ونَبْلُوكُم بِالشَّرِّ والْخَيْرِ فِتْنَةً وإلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وفى آخر السورة يقول تعالى : وإنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ ومَتَاعٌ إلى حِينٍ (111) وبينهما يشرح الله الحكمة من الخلق والكون والحياة يقول تعالى : ومَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
                      " والابتلاء لايتحقق إلا مع التكليف، فالآية دالة على حصول التكليف، وتدل على أنه سبحانه وتعالى لم يقتصر بالمكلف على ما أمر ونهي، وإن كان فيه صعوبة، بل ابتلاه بأمرين :
                      1- ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكن من المرادات.
                      2- ما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، فبين تعالى أن العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين، لكى يشكر على المنح ويصبر فى المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم."([1])
                      هذه السنة تجرى على الجميع حتى على رسل الله، منهم من ابتلى بالشر ومنهم من ابتلى بالخير. فنوح عليه السلام ابتلى بتكذيب قومه واستهزائهم، وإبراهيم عليه السلام ألقى فى النار، ولوطا أوذى فى قومه وهدد بالرجم والإخراج، وأيوب ابتلى بالمرض الشديد، وذا النون ابتلعه الحوت.وكانوا من الصابرين. وابتلى داود وسليمان بالخير، فكانا من الشاكرين.
                      وكان من رحمة الله أن أرسل الرسل بالحق مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس حجة يحتجون بها عند السؤال والحساب.
                      وهذه السنة جارية بين الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن غفل وأعرض كان مصيره العذاب الشديد فى الدنيا والآخرة، ومن تذكر وأسلم كان جزاؤه نصرة الله والنعيم المقيم. ومن ثم يقول تعالى مذكرا بعاقبة هذا الابتلاء فى الدنيا فى أول السورة :
                      وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(7)وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ(8)ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9)لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونََ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ(11)فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12)لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13)قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14)فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ(15)
                      وفى آخر السورة يبين الله تعالى العاقبة فى الآخرة بقوله:
                      فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94)وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ(95)حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ(96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِى شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97)
                      ورحم الله الأمة بأن قيض لها أئمة الهدى يبينون لها صراطه المستقيم ويحضونها على فعل الخيرات وبين لها أسلوب ذلك فلا يستخدم الهداه أذواقهم ولا تخيلاتهم وأنما يلتزمون بالوسائل التى حددها ربنا سبحانه وتعالى. وهذه هى القاعدة الأساسية لموضوع السورة.
                      وتدعو السورة إلى تحرى العلم فى المعرفة، وتحرى الحكمة فى التفكير والتدبير . ويشجب التقليد بغير علم والإعراض دون فهم.
                      وهذا واضح فى المناقشة العقلية والسلوك الفعلى لإبراهيم عليه السلام فى جدله مع قومه عما يعبدون من الأصنام. وكذلك يتضح فى التنويه باجتهاد داود وسليمان عليهما السلام فى قضية الحرث، حيث كان حكم سليمان مبنيا على استمرارية التنمية ورعاية الحاجات. كما يتضح فى تعليم الله سبحانه وتعالى لداود عليه السلام صناعة الدروع، والدقة فى هذه الصناعة.
                      " والإنسان جاء هذه الأرض وهو مؤهل بخاصيتين :
                      إحداهما عقلية من شأنها أن ترى الكائنات خلقا معزوا إلى خالقه، ليس فيها شئ قد خلق نفسه. وهى فى الوقت نفسه صنعه تعالى، فيها من معالم الإتقان والحسن، وآثار صفات الجلال والجمال، مايجعل الكون يبدو للفكر معرضا عظيما فريدا، لصفحات حافلة بآثار صفات الخالق تعالى. وتلك الآثار والمعالم تجمعها كلمة الحق، لأنها آثار صفات الخالق جل شأنه.
                      وأما الخاصية الأخرى فهى خاصية الروح التى نفخها الله فى الإنسان، وهى معدن خصائص علوية كامنة فيها كمون البذرة الصالحة فى التربة المباركة الطيبة. فلا تهتز بالحياة، ولاتؤتى زهرها وثمرها إلا إذا نالت زادها وريها. وما زادها إلا آثار الحق ومعارفه …
                      وهذا أمر خطير، لم يقدر لحيوان، أو ملك، فالإنسان البشر الأرضى جهز ذهنه بملكات كاشفة، يكتشف بها أفقا علويا غير أفقه هذا الحسى الطبيعي، أفقا ملؤه الحق الذى لا تفنى مادته. وجهز فى الوقت نفسه بخاصية روحية ذات أشواق وحاجات ضرورية إلى مادة هذا الحق. وسبيل استنزال تلك المادة أو استيرادها من أفقها الأعلى هو أن تكون إرادة الإنسان مع حاجة روحه، فيوجه خاصيته العقلية إلى مجال رؤيتها، ليؤدى حق التفكر فيما فى الخلق من عبر وآيات."([2])
                      وتزود السورة أئمة المهتدين بزاد الهداية عن طريق المصادر التاليه :
                      أولا : العلم
                      العلم هاد والحال الصحيح مهتد به، وهو تركة الأنبياء وتراثهم. وأهله عصبتهم ووارثهم. وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذى به توزن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغى والرشاد، والهدى والضلال.
                      به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد. وبه اهتدى السالكون. وعن طريقه وصل إليه الواصلون. ومن بابه دخل عليه القاصدون.
                      به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام. وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضى الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب.
                      وهو إمام، والعمل مأموم. وهو قائد، والعمل تابع. وهو الصاحب فى الخلوة، والأنيس فى الوحشة، والكاشف عن الشبهة …
                      ولقد رحل كليم الرحمان موسى بن عمران، عليه الصلاة والسلام، فى طلب العلم هو وفتاه، حتى مسهما النصب فى سفرهما..حتى ظفر بثلاث مسائل، وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به.."([3])
                      ويدعو الذين لايعلمون أن يسألوا أهل الذكر، فيقول تعالى فى السورة :
                      وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(7)
                      ويبين فى السورة سبب الإعراض، وهو التقليد الأعمى دون حجة أو برهان ، فيقول تعالى فى السورة : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِى وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(24)
                      والعلم على ثلاثة وجوه :
                      1- علم جلى : به يقع العيان أى البصر ، واستفاضة صحيحة أى السمع، أو صحة تجربة قديمة
                      2- وكذا ما يدرك بخبر المخبر الصادق، وإن كان واحدا..
                      3-وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط، وإن لم يكن عن تجربة."([4])
                      فمصادر المعرفة يمكن تقسيمها إلى ما يلى :-
                      1- المصدر العقلى : وهو طريق الاستنباط ، وترتيب النتائج على المقدمات . والجدل بالحجة والبرهان. من هذا قوله تعالى :
                      أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ(21)لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)
                      2ـ المصدر الكونى ( التجريب ): وهو دعوة إلى التفكر فى ملكوت السماوات والأرض لمعرفة الله تعالى بآياته وآلائه.
                      وقراءة الكون تمثل وعى الإسلام بالخلفية الروحية للوجود، تلك الخلفية التى غابت عن الوعى المعاصر. وربط الإسلام الإنسان بالكون الرحيب ولم يحصره فى ركن واحد تحت اسم الواقعية. والغرب من هذه الزاوية تعس ومتخلف حين افتقد هذه الرؤية فأصبح الإنسان مجرد آلة غير واعية شأنه شأن ما حوله من الأشياء. وأصبح ما يكشف عنه من سنن الله يدمر به نفسه ومجتمعه وعالمه غالبا.
                      ولنأخذ نموذجا تطبيقيا على موضوع السورة ومراميها من منجزات العصر العلمية، ففى بداية السورة ذكر ربنا تبارك وتعالى كيف بدأ الخلق فى قوله تعالى : أَوَ لَمْ يَرَ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَى أَفَلا يُؤْمِنُون(30)
                      وفى نهاية السورة ذكر ربنا نهاية الكون فى قوله تعالى : يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَى السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وعْداً عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
                      وهكذا توضح حقيقة بدء الخلق ونهايته، درجات المعرفة الانسانية بالترتيب التالي:
                      · الرتق والفتق، استطاع العقل الإنسانى أن يستدل عليه بقدراته العلمية.
                      · ثبت انطباق الحق كما أدركه الإنسان على الحق كما بينه الله تعالى من 14 قرن.
                      · ولم كانت حقيقة البدء الجديد بعد الانسحاق الكبير، أمر فوق متناول العلم والعقل وتبين لنا مصداقية الوحى فى تقديمه حقائق الرتق والفتق، كان واجبا أن يسلم العقل بما يبينه الوحى من حقائق الغيب.
                      3- مصدر التاريخ : وهو استقراء لأحداث الماضي، استدلالا بها على تجارب الأمة، واستخلاصا لنتائج الأعمال. وأعظم مناهل التجربة التاريخية، هو مجتمع الرسالات، حيث أنعم الله على رسله بالعلم والحكمة، فكان الاقتداء بهم هو طريق الفلاح.
                      4- مصدر الوحى : من المعلوم أن الإنسان لايستطيع بقدراته المحدودة وعمره القصير أن يحيط نفسه علما بكل حقائق الكون والحياة والغاية منهما. وكثير من معلوماته يستمدها عن طريق نقل الخبر الصادق الذى يتعامل معه تعامل اليقين. وكان من نعم الله على عباده أن أرسل الرسل بتبيان حقائق الغيب التى تحيط بالإنسان وتعريفه بها، ثم تحديد غاية وجوده والرسالة التى يقوم بها فى الأرض. وأيد الرسل بالبينات والآيات لئلا يكون للناس حجة بعدهم. وكانت آية محمد r ومعجزته فى كتاب كريم، لتظل معجزته قائمة وحجته بينة إلى يوم الدين.يقول تعالى : وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48)الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ(49)وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ(50)

                      ثانيا : الحكمة
                      العلوم الطبيعية تمد الإنسان بإمكانات ضخمة، وهى إن لم تدار بكتاب الله والحكمة تصبح مدمرة، ويفقد الإنسان السيطرة عليها، وتتحول إلى لعنة ونقمة على المجتمع والعالم.
                      " فالعلم الطبيعى يكسب علمه وأحكامه عن طريق الحواس المتصلة بعالم الطبيعة. ولولا تلك الحواس لظلت خزائنه خالية من المعارف والتجارب. أما العقل الروحى فقد عرف أنه يبدأ كسب معارفه الروحية بالتفكير فى أفق الدلالات بواسطة الخاصية العقلية.. وبذلك يبدو لنا لون من الموازنة بين كلا العلمين.
                      فالعلم الطبيعى إلى يضع مقرراته بين يديك لتعمل منه وتصنع ما شئت، دون أن يحدد لك الغرض الذى ينبغى أن يستعمل فيه … فإن صنعت به خيرا لايحمدك، وإن صنعت به شرا لايزجرك. هو يعلمك كيف تصنع، لايعلمك لماذا تصنع ؟ هو علم آلة.. وليس علم قيم ومبادئ وصفات وغايات.
                      والعلم الطبيعى علم منطقى بحت خال من العاطفة، لأن أحكامه، قائمة على ملاحظة ظواهر الماديات البحتة..
                      أما العلم الروحى فأحكامه قائمة على تبين وجوه العجب والحكمة فى آيات الخلق، وهى ملاحظة يمتزج فيها المنطق بانفعال الوجدان بروعة مايرى. فيه من المنطق تمييزه بين الحق والباطل، والخير والشر، والحلال والحرام , وفيه من الوجدان حبه للحق والغيرة على حرمته، وبغضه للباطل والنزوع إلى مناوأته، فإذا خلا العلم الروحى من خاصية الوجدان فهو علم زائف تنقصه الروح، ويفقد حوافز الإيجاب والعمل …
                      وإذا كان العلم الطبيعى علم إمكانات وطاقات رهيبة، فإنه إذا كان فى وصاية العلم الروحى كان فى وصاية الحكمة والقيم الراشدة، فلا يستعمل إلا فى غايات الحق، ومقاصد الخير، أما إذا كان فى وصاية الأهواء والشهوات، فليس إلا الحجم الذى لاتنتهى كوارثه عند حد دون الإبادة. "([5])
                      وقد وهب الله تعالى الرسل والأنبياء العلم والحكمة، يقول تعالى :
                      ولُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً ونَجَّيْنَاهُ مِنَ القَرْيَةِ الَتِى كَانَت تَّعْمَلُ الخَبَائِثَ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
                      فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وعِلْماً وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنَّا فَاعِلِينَ(79)
                      و" أحسن ما قيل فى الحكمة، وهو قول مجاهد ومالك : إنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة فى القول والعمل.
                      وهذا لايكون إلا بفهم القرآن والفقه فى شرائع الإسلام وحقائق الإيمان.
                      والحكمة حكمتان : علمية، وعمليه، فالعلمية : الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقا وأمرا. قدرا وشرعا.
                      والعملية :.. هى وضع الشئ فى موضعه …
                      الأمة التى تدير أمرها بالعلم والحكمة بالمواصفات التى قدمناها، إنما يتحقق لها الإصلاح والصلاح فى دنياها وأخراها، وهم بذلك يرثون الأرض فيتحقق لهم القيم والعمران.
                      والأمة التى لا تعتمد على العلم والحكمة فى تسيير حياتها، مصيرها إلى الاختلاف والشقاق، والانحلال والضياع.
                      وهذه الحقيقة هى جوهر الدين الذى أرسل به الأنبياء على مدار التاريخ، وعلى أساسها كانت الدعوة وعلى أساسها قامت الأمة.
                      فلا اختلاف بينهم فى العقيدة ولا فى القيم ولا فى أصول التشريع التى تتضمن صالح الأعمال يقول تعالى: إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إلَيْنَا رَاجِعُونَ(93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وإنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
                      ووعد الله بتمكين الصالحين " أى المتخلقون بأخلاق أهل الذكر، المقبلين على ربهم الموحدين له، المشفقين من الساعه، الراهبين من سطوته، الراغبين فى رحمته، الخاشعين له.
                      وفى هذا الإشارة بالبشارة بأنه تعالى يورث هذه الأمة على ضعفها ما أورث داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام، على ما أعطاهما من القوة من إلانة الحديد والريح والحيوانات كلها ومن الجن والإنس والوحش والطير وغير ذلك.
                      ولما كان ما ذكر فى هذه السورة من الحكم والدلائل والقصص واعظا شافيا تحكيما، ومرشدا هاديا عليما.. كان ذلك كافيا فى البلوغ إلى معرفة الحق.. لأناس أقوياء على ما يقصدونه، معترفين بالعبودية لربهم الذى خلقهم اعترافا تطابقه الأفعال بغاية الجد والنشاط.
                      ولما كان هذا مشيرا إلى رشادهم.. فإن الرحمة تعمهم جميعا، أهل السماوات وأهل الأرض، من الجن والأنس وغيرهم، طائعهم بالثواب، وعاصيهم بتأخير العقاب، الذى كان يستأصل به الأمم. ([6])

                      عبرة التاريخ
                      يعلى الإسلام من شأن العلم والحكمة، وينوه بالفهم، وفى مطلع ذلك مناظرة إبراهيم مع قومه التى تعتمد على الدليل والبرهان، قال تعالى : ولَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إذْ قَالَ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
                      قوله تعالى: وَلُوطًا ءَاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ(74)وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)
                      " اعلم أنه سبحانه بعد ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السلام لما جمع بينهما من قبل …وفى أصناف النعم التى أنعم بها الله عليه :-
                      1. الحكم أى الحكمة وهى التى يجب فعلها …
                      2. العلم، واعلم أن إدخال التنوين عليهما يدل على علو شأن ذلك العلم وذلك الحكم
                      3. نجاه الله تعالى من أهل القوم الذين يعملون الخبائث.
                      4. لما آتاه الله الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب الرحمة."([7])
                      قوله تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76)وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَاإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(77)
                      دعا نوح عليه السلام ربه أن ينجيه مما يلحق من جهة قومه من ضروب الأذى، وكانت الإجابة من الله بنصرته وهلاك الكافرين. والمراد بالأهل هنا أهل دينه، والكرب هو العذاب النازل بالكفار وهو الغرق. فقد كان هؤلاء القوم قوم سوء واستحقوا بذلك العذاب العظيم.
                      قوله تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ(79)وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ(80)وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إلى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَاوَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(81)وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ(82)
                      نفشت :تسرب البهائم فى الزروع وغيرها ليلا
                      واعلم أن قوله تعالى : وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون، كله نسق على ما تقدم من قوله تعالى : وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، ومن قوله تعالى : وَلُوطًا ءَاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
                      واعلم أن المقصود ذكر نعم الله تعالى على داود وسليمان. وذكر أولا النعم المشتركة بينهما، وهى قصة الحكم، ووجه النعمة فيها أن الله تعالى زينهما بالعلم والفهم.. وفى هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها، وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره ههنا على سائر النعم الجليلة، مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن …
                      والنعمة التى أنعم الله بها على داود عليه السلام نعمة إتقان الصنعة، واللبوس وهو الدرع ، والبأس هو الحرب.
                      واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التى خص داود بها ذكر بعدها النعم التى خص بها سليمان عليه السلام. فقد ورث من داود ملكه ونبوته وزاده عليها أمرين : تسخير الريح وتسخير الشياطين، أى جعلها طائعة منقادة له.. فالريح تمضى به إلى بيت المقدس … والشياطين يغوصون له فى البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة.. وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء …، وبعلم الله المطلق وقدرته التى لاتتناهى أعطى سليمان عليه السلام هذه المعجزات."([8])
                      قوله تعالى : وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ(84)
                      وفى أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه ههنا وفى غيره من القرآن من العبر والدلائل ما ليس فى غيره، لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله، مما كان عبرة له ولغيره ولسائر من سمع بذلك، وتعريفا لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة. وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد فى القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتى الضراء والسراء…
                      وهو عليه السلام ألطف فى السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب. وكشف الله سبحانه ما به من ضر، وأعاده إلى ماكان عليه من الصحة والغنى … وفى هذا تذكير للعابدين بالصبر والاحتساب، وعاقبة ذلك فى رعايتهم برحمة الله([9]).
                      قوله تعالى : وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ(85)وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ(86)
                      " اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء، فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة.
                      قوله تعالى : وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ(88)
                      لا خلاف أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة …ونقدر عليه : معناها نضيق عليه.
                      وكان يونس عليه السلام قد ظن أنه مخير فى دعوة قومه، إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأن الله تعالى لا يضيق عليه فى اختياره. فهجر قومه غضبان عليهم لتماديهم وإصرارهم مع طول دعوته لهم، وهو لم يؤمر بذلك. فكان أن التقمه الحوت. فنادى فى الظلمات الشديدة المتكاثفة فى بطنه : لا إله إلا أنت، أنت منزه عن كل عجز.. ظلمت نفسى بفرارى من قومى بغير إذنك …فوصف عليه السلام ربنا بكمال الربوبية ووصف نفسه بضعف البشرية والقصور فى أداء حق الربوبية."([10])
                      فأنجاه الله من الكرب.. وكما أنجا تعالى يونس ينجى كل من آمن به إذا استغاث به من غم أصابه.
                      قوله تعالى وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90)
                      بين تعالى انقطاع زكريا عليه السلام إلى ربه تعالى لما مسه الضر بتفرده، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويكون قائما مقامه بعد موته. فدعا دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك، وإن انتهت الحال به وبزوجته من كبر وغيره إلى اليأس من ذلك بحكم العادة... وذكر عليه السلام فى دعائه على وجه الثناء عليه بأن مآل الأمور إلى الله تعالى، فإن لم يكن له وارث فالله خير وارث …
                      فاستجاب له الله تعالى وأنعم عليه بيحيى وأصلح له زوجه فأزال عنها المناع..ومقتضى ذلك : أنهم كانوا يسارعون فى طاعة الله، وضموا إلى ذلك الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة فى ثوابه والرهبة من عقابه. فضلا عن الخشوع، وهو المخافة الثابتة فى القلب.([11])
                      قوله تعالى : وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِلْعَالَمِينَ(91)
                      "وفى ذلك تفخيم لشأنها، وتنزيها عما زعمه المبطلون من اليهود فى حقها. ونفخ الروح عبارة عن الإحياء لعيسى عليه السلام. وإضافة الضمير إلى الله تعالى تشريف لها ولابنها. ([12])
                      ومريم أحصنت فرجها من الحلال والحرام جميعا، فنفخ الله تعالى الروح فى عيسى، أى أحياه فى جوفها.. وكان إنعام الله عليها بأن جعلها وابنها آية للعالمين ([13])


                      الأساس العقدي

                      لقد بدأت شجرة الإحسان فى حضن التوحيد الخالص بسورة النحل، مبينة أدلته فى كتاب الله المنظور من الكون والحياة، وكتاب الله المقروء الموحى إلى رسوله r. وختمت فى حضن التوحيد الخالص والعبودية المتجردة فى سورة الأنبياء. وكأن السورتان فى قواعدهما الأساسية تعملان فى حقل واحد.
                      ففى مطلع سورة الأنبياء شرح لحقائق التوحيد ممثلة فى حقيقة لا إله إلا الله. يقول تعالى:
                      لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22)
                      وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)
                      وفى خواتيمها تأكيد لهذه الحقيقة. يقول تعالى :
                      إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(92)
                      قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌفَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(108)
                      وكما شرحت سورة النحل دلائل إفراد الله تعالى بالألوهية، تشرح سورة الأنبياء حقيقة العبودية.ومن هنا نجد السورة تتحدث عن التوحيد مبينة حقيقة العبودية، يقول تعالى فى السورة مبينا انحراف الناس عن الحق :
                      وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)
                      إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ(53)
                      قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(67)
                      إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)
                      ويبين الله تعالى فى السورة حقيقة هذه العبودية فيقول تعالي:
                      وَلَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)
                      ويعد الله تعالى عباده الصالحين بميراث الأرض : ولَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى الصَّالِحُونَ (105)
                      والذى يبدو بقليل من التأمل أن توحيد الله حقيقة من حقائق الكون القائمة، أما الخلافة فمنهاج يؤديه المرء عن غيره نيابة عنه.
                      والفرق بين الحقيقة والمنهاج : أن الحقيقة بمثابة القاعدة التى يهتدى بأحكامها، وأن المنهاج هو الخطة التى يهتدى فيها بأحكام القواعد، ونور الحقائق.
                      توحيد الله حقيقة لابد أن ندركها لنصحح بها سلوكنا، ونقوم بها أعمالنا، فهى فى وجودنا الروحي، وجود القيم والمثل، تقوم مقام الواحد نصف الاثنين فى وجودنا الاقتصادى، حيث تقوم بها موازين الصفقات، وتصحح عليها حساب الربح والخسارة.
                      توحيد الله معلم معالم الكون، به تعتدل الأوضاع، وتتهيأ العقول للعمل، وليس هو العمل ذاته.
                      توحيد الله نور لحامل المنهاج، وليس هو خطة ذلك المنهاج …
                      ومما لا شك فيه أن الإنسان خلق أساسا ليعبد الله … والعبادة فى أفق المعنى العام، وجدان صرف دليل يغمر مواهب الإنسان كافة: مواهبه فى الذوق والإحسان والإدراك والرغبة والاختيار، وجدان من الإعجاب بخالق الكون العظيم، وتمجيده وتعظيمه وحبه، والاحتياج إليه وخشيته والثقة به، والركون بل الفرار إلى ساحته. وجدان من الثقافة الكونية يسطع على وعى المرء كله من التفكر فى آيات السماوات والأرض، وما للكائنات والنعم من دلالة على صفات القدرة، والعلم والحكمة والهيمنة والإحاطة والكرم والود والبر والرحمة وغيرها من صفات الجلال والجمال، فإذا هو نابض فى الوجود كله، من غير تقدير منه أو اختيار، بتقديس الخالق جل شأنه وتسبيحه وتحميده."([14])

                      المناسبة
                      وقد بدأت السورة بتحذير القرى من عاقبة الغفلة والإعرا ض : قال تعالى :
                      وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وارْجِعُوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا ويْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15)
                      وختمت أيضا بتحذير القرى من عاقبة الشرك والكفر قال تعالى :
                      وحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)
                      وبدأت السورة بالتحذير من اقتراب زمن الحساب قال تعالى :
                      اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1)
                      وكرر فى الخاتمة التنبيه باقتراب هذا الوعيد، وعاقبته من الويلات :
                      واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإذَا هِى شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَذِينَ كَفَرُوا يَا ويْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
                      فى صحيح البخارى عن عبد الله قال : بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هم من العتاق الأول وهن من تلادى ([15])
                      إن قارئ القرآن الكريم يلاحظ أن التوعية بالتاريخ تمثل أحد محاور كل سوره الكبيرة، وتارة يشير البيان الإلهى إلى أن فى قصصهم عبرة لأولى الألباب، وتارة يدعو إلى التذكير بالماضى لعلهم يتفكرون، وتارة يصرح النبى عليه الصلاة والسلام بأن الهدف من القصص هو أن يثبت فؤاده.
                      وقد سبق أن بينا أن القرآن يستخدم قصصا معينا يكرره ليحركه على موضوعات السور. ليصل بالمتدبر إلى الهدف من التربية، ولايشغله بالتفصيلات، ويمكن له أن يستدعى بعضها إلى ذهنه من سور أخرى سبق أن ذكرت فيها.
                      فقصة إبراهيم عليه السلام سيقت فى مريم لتبين بره بأبيه رغم كفره، وفق سياق السورة التى تقيم التقوى على البر والحنان. ففى سورة مريم عن قصة إبراهيم عليه السلام :
                      يَاأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44)يَاأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)
                      بينما سورة الأنبياء تتجه فى قصة إبراهيم عليه السلام إلى إقامة الحجة والبرهان على فساد عبادة المشركين للأصنام، وفق سياق السورة التى تقيم التقوى على العلم والحكمة.ففى هذه السورة عن قصة إبراهيم عليه السلام :
                      قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إلى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ(64)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ(65)قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(67)
                      و" أورد جل جلاله فى سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته فى مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب واليسع وذى الكفل وذى النون عليهم السلام. وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل... وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة، كما أنه فى سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطة."([16])
                      وكما ختمت شجرة الإحسان فى سورة الكهف بقوله تعالي:
                      قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)
                      تختم هنا الرحلة فى شجرة التقوى بقوله تعالى فى هذه السورة :
                      حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ(96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِى شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97)




                      ([1]) الرازى، مفاتيح الغيب ج 21 ص 125.

                      ([2]) البهى الخولي، آدم عليه السلام، ص 152-153.

                      ([3]) ابن القيم، مدارج السالكين ج2 ص 439-440.

                      ([4]) ابن القيم، مدارج السالكين ج2 ص 440- 441.

                      ([5]) البهى الخولي، آدم عليه السلام ص 55-56.

                      (1) البقاعي، نظم الدرر ج 5 ص 117، 125 .

                      ([7]) الرازى، مفاتيح الغيب ج21 ص 160.

                      ([8]) الرازى، مفاتيح الغيب ج 21 ص 153-176.

                      (2) الرازى، مفاتيح الغيب، ج 21 ص 177-186.

                      ([10]) الرازى، مفاتيح الغيب ج 21 ص 195-198.

                      ([11]) الرازى، مفاتيح الغيب ج21 ص 198-200.

                      ([12]) الألوسي، روح المعانى ج9 ص 84.

                      ([13]) الرازى، مفاتيح الغيب ج 21 ص 201.

                      ([14]) البهى الخولي، آدم عليه السلام ص 128-130.

                      (2) البخارى ج 6 ص 121 .

                      ([16]) الألوسي، روح المعانى ج8 ص 463.

                      تعليق

                      مواضيع ذات صلة

                      تقليص

                      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                      ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 14 أكت, 2024, 04:59 ص
                      ردود 0
                      29 مشاهدات
                      0 ردود الفعل
                      آخر مشاركة الفقير لله 3
                      بواسطة الفقير لله 3
                      ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 3 أكت, 2024, 11:34 م
                      رد 1
                      19 مشاهدات
                      0 ردود الفعل
                      آخر مشاركة الفقير لله 3
                      بواسطة الفقير لله 3
                      ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 02:37 م
                      رد 1
                      26 مشاهدات
                      0 ردود الفعل
                      آخر مشاركة الفقير لله 3
                      بواسطة الفقير لله 3
                      ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 12:04 م
                      ردود 0
                      19 مشاهدات
                      0 ردود الفعل
                      آخر مشاركة الفقير لله 3
                      بواسطة الفقير لله 3
                      ابتدأ بواسطة مُسلِمَة, 5 يون, 2024, 04:11 ص
                      ردود 0
                      63 مشاهدات
                      0 ردود الفعل
                      آخر مشاركة مُسلِمَة
                      بواسطة مُسلِمَة
                      يعمل...