تفسير من أنوار القرآن الكريم
تقليص
X
-
-
بين سورة النساء وسورة المائدة
بينما حددت سورة النساء حقوق الإنسان وواجباته وبينت قاعدتها فى طاعة الله ورسوله، تحدد سورة المائدة حقوق الأمة وواجباتها وتبين قاعدتها فى الحكم بما أنزل الله وإقامة حدوده.
كما أخبر تعالى فى آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التى أخذها عليهم، حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام... ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذين اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذى جلّ مبناه على القلب... فأمرهم بالوفاء لأنه أحل لهم بشامل علمه وكامل قدرته، لطفاً بهم ورحمة لهم، ما حرم على من قبلهم من الإبل والبقر والغنم..
ففى سورة النساء بالنسبة لحفظ النفس :
ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَئاً .
وفى سورة المائدة:
وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والْجُرُوحَ قِصَاصٌ .
وفى حفظ العرض وجدنا فى السورتين اهتماما بالنكاح وتحديداً للفاحش منه والمحصن، والمحرم والحلال. وبينما بينت سورة النساء القواعد المستقرة للزواج من اليتيمات، والعلاقة بين الرجل والمرأة من ناحية القوامة وحل الخلافات، ذكرت سورة المائدة حل نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بشرط إعطائهن مهورهن: تجنب السفاح واتخاذ الأخدان.
وفى حفظ العقل فى سورة النساء:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ .
وفى سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ .
وفى حفظ المال نجد فى سورة النساء:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ .
وفى سورة المائد ة:
والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
نلاحظ تكرار لفظ الطعام ومشتقاته فى سورة المائدة- وركزت على سيد الطعام وهو لحوم الحيوانات وعلى الشراب خصوصا أخبثه وهو الخمر. بينما انفردت سورة النساء بأكبر عدد من لفظ النساء، حيث تكرر سبع عشرة مرة. و نجد فى سورة المائدة النص على جواز زواج المحصنات من أهل الكتاب.
ولقد وضحت سورة النساء حقوق الإنسان وواجباته.. ووجدنا فى قلب هذه الواجبات مسؤولية الإنسان عن طاعة الله ورسوله والتحاكم إلى شرع الله، فعشنا مع أمر الطاعة على مدى السورة:
مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ .
ولَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا واسْمَعْ وانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَقْوَمَ .
ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .
ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم .
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ، ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ .
ويَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَذِي تَقُولُ .
فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً .
وهنا فى سورة المائدة، نجد تحديد واجبات الحاكمين وحقوقهم قبل الرعية. وفى قلب هذه الواجبات الحكم بما أنزل الله وإقامة حدوده. يقول تعالى فى السورة:
... وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ .
... يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا .
... ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ .
... ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ .
ولْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ....
... فَإن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ .
وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ....
وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ....
وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ....
أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ .
لهذا نجد أنه بينما فى سورة النساء يتوجه الخطاب للمحكومين أن يقوموا بالقسط طاعة
لله ورسوله وأن يؤدوا الشهادة منزهة عن الهوى والغرض فى قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
نجد فى سورة المائدة يتوجه الخطاب للحاكمين أن تكون القوامة حكما بكتابه، وضمان الشهادة بالقسط تحقيقا للعدل، فى قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يقول ابن العربى:
" ومن كان قيامه لله فشهادته وعمله يكون بالعدل، ومن كان قيامه بالعدل فشهادته وعمله لله سبحانه، لارتباط أحد هما بالآخر ارتباط الأصل بالفرع، والأصل هو القيام لله والعدل مرتبط به "[1].
والغلو ضد العدل، فالقسط وسط بين الغلو والخسران. لهذا عرضت السورتان الأخريتان من واقع تجربة التاريخ، مرة فى غلو النصارى فى عيسى عليه السلام ومرة فى معاصى اليهود فى التحريف والنسيان وأكل السحت.
فعن الغلو يقول تعالى فى سورة النساء:
يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ إنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
ويقول تعالى فى سورة المائدة:
قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ .
: وعن التقصير يقول تعالى فى سورة النساء:
وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً .
وفى سورة المائدة:
وتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ والْعُدْوَانِ وأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
ويدعم أساس العدل بفريضة الصلاة، التى تولد حافزا قويا يحمى مقيمها من الفحشاء والمنكر والبغى:
ففى سورة النساء أمر بإبعاد السكارى عن الصلاة وتفصيل عن التيمم:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ولا جُنُباً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُواً غَفُوراً.
وفى سورة المائدة أمر بإقامة الصلاة وتفصيل عن الوضوء:
يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ وإن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا....
[1] ابن العربى، أحكام القرآن ج1 ص 585.تعليق
-
تفسيرالحضارات والتاريخ كما تبينه
سورة الأعراف
مقدمة
بينما عنيت سورة الأنعام بتبيان الأساس العقدى لقيام الحضارات واندحارها، فإن سورة الأعراف تبين تفسير هذه الحقيقة على مسار التاريخ الإنسانى من البداية حتى النهاية.
ومن المفيد للإنسان أن يذكر الماضى وهو يتطلع إلى المستقبل، ويرى من عثرات السابقين ما يحميه من السقطات. وهذا هو مغزى تفسير التاريخ.
نظريات تفسير التاريخ:
ولقد احتلت دراسة التاريخ مكانة هامة بين مختلف فروع المعرفة الإنسانية من قديم، ومن
ثم كان السؤال: هل التاريخ بهذا المعنى علم من العلوم أو فن من الفنون؟ بمعنى: هل يمكن وضع التاريخ الإنسانى فى قانون كقانون الجاذبية شأنه شأن بقية العلوم التجريبية؟ أم أن للإنسان خصيصة تستعصى فى كثير من جوانبه على الحتمية؟ هل هناك حتمية للسلوك والمشاعر وفق المصالح والرغبات؟ وهل السلوك والمشاعر محكومان بمحيط من البيئة والإمكانات، أم أن هناك مساحة من الحرية يستعصى فيها الإنسان على هذه الحتميات؟ وهو ترداد لنفس سؤال قديم: هل الإنسان مسير أم مخير؟
كما أن المحللين لنظريات تفسير التاريخ يقسمونها أيضاً إلى قسمين: تحليل يحاول العثور عليها من خلال أحداث مستقلة أو شخصيات منفردة، وتحليل يحاول العثور على التفسيرات من خلال دورات منتظمة، حيث يرى أن التاريخ عبارة عن مجموعة من الدورات التى لابد أن تنتهى بالانحلال والتفكك والكوارث، ومن مؤيدى هذا التفسير المؤرخ العربى ابن خلدون الذى يرى أن كل دولة يجب أن تمر بعدة أدوار هى دور العمران، ثم دور القوة والازدهار، ثم دور الضعف والانحلال، ومن هؤلاء أيضاً شبنجلر فى هذا القرن، حيث يعتقد أن التاريخ مسرح لعدد كبير من الحضارات، وتاريخ كل حضارة كتاريخ الكائن العضوى، أى أنها تنشأ وتنضج ثم تذبل وتموت. وكما أن سياق الحياة واحد بالنسبة للكائنات الحية فللحضارات سياق واحد تسير عليه، فالتاريخ إذن إنما هو مجموعة دورات حياة حضارية، ولكل حضارة دورة حياة مقفلة، ولها سماتها الخاصة بها.
والمؤرخ الإنجليزى توينى يرى أن الحضارة تنشأ بالتحدى، عندما تتحدى ظروف المجتمع وتنشأ أقلية مبدعة تتولى الرد على هذا التحدى عن طريق القيام بالاستجابة اللازمة لذلك، أى أن نشوء الحضارة هو عملية تحد واستجابة، وأن تاريخ البشرية إنما هو سلسلة من التحديات والاستجابات [1].
ولقد تبلورت فى القرن التاسع عشر معظم نظريات التفسير التاريخى، ولو أن عدداً من
هذه النظريات لها جذور تعود إلى عصور قديمة. ويمكن إجمالا تقسيم هذه النظريات إلى نظريات مثالية، ونظريات مادية،. وأخيراً تفسيرات دينية، ونلخصها فيما يلى:
1- النظريات المثالية:
ويمكن عرضها فى تفسيرين:
(أ) التفسير البطولى للتاريخ: وهو يعنى أن أعمال الرجال العظماء هى التى تصنع الحوادث التاريخية فى هذا العالم. ومن أشهر المدافعين عن نظرية التفسير البطولى للتاريخ توماس كارليل، المؤرخ الإنجليزي فى القرن التاسع عشر ، والذى بلور نظريته فى كتابه الأبطال، حيث يقول: " فى اعتقادى أن التاريخ العام تاريخ ما أحدث الإنسان فى هذا العالم، إنما هو تاريخ من ظهر فى الدنيا من العظماء. فهم الأئمة وهم المكيفون للأمور وهم الأسوة والقدوة، وهم المبدعون لكل ما وفق إليه أهل الدنيا، وكل ما بلغه العالم، وكل ما نراه فى هذا الوجود "[2].
وهكذا انتهى هذا التفسير إلى اعتبار الإنسان إلها، يحرك هذا الكون ويحدد مسار التاريخ، ولعمرى لو كان هذا صحيحاً ما شقى الناس كل هذا الشقاء.
(ب) التفسير المثالى للتاريخ: ويعتبر أن الفكر أو العقل أساس كل ما هو موجود، ومن أنصار هذا الرأى هيجل فى القرن التاسع عشر، فالعقل فى نظر هيجل جوهر التاريخ، وأن كل شىء فى التاريخ يجرى بشكل عقلانى. ففلسفة التاريخ تسير فى مسار واحد مستقيم طيلة الزمن، وإن هذا المسار يمر بالإنسان الذى انتقل من حالة التوحش إلى المستوى القانونى، وتاريخ البشرية كله يمكن أن يوصف بأنه عملية طويلة استطاعت الإنسانية خلالها أن تحرز تقدماً روحياً وأخلاقياً، وذلك عن طريق العقل البشرى، وهكذا يرى هيجل بأن هناك إرادة مخططة وراء الحوادث التاريخية [3].
ويرى هيجل أن الفكرة التى عرفت نفسها بالقوة أرادت أن تعرف نفسها بالفعل، وذلك عن طريق المرور فى الضد وهو الطبيعة التى لا تعقل، لتصل إلى إدراك ذاتها فى وعى الإنسان ومؤسساته... والله وهو العقل المطلق، يتجلى فى الموجودات على سنة مطردة هى الصيرورة التى توفق بين الجود المطلق والعدم [4] . سبحانه وتعالى عما يقول من بهتان.
وهكذا أصبح الكون المادى وهما يصيغه الفكر كما يريد، وأصبح العقل إلهاً يتجلى عن طريق العقل الإنسانى ومؤسساته فى العصر الحديث عند هيجل.
ب- النظريات المادية:
ويمكن جمع هذه النظريات فيما يلى:
(1) التفسير الجغرافى للتاريخ: وهؤلاء يفسرون التاريخ وفق عامل واحد هو العامل الجغرافى، ومنهم الفيلسوف الفرنسى مونتسكو فى القرن الثامن عشر، الذى ركز اهتمامه على تعليل التاريخ بأسباب كالمناخ.. يعزى إليه تقدم الحضارات البشرية أو انحلالها أو تأخرها [5].
(2) التفسير المادى للتاريخ: ونادى بذلك كارل ماركس فى نظريته عن المادية التاريخية. حيث يعلى ماركس من شأن المادة، ويعتبرها أصل الحياة، والمحرك الأول لها قوة الإنتاج التى أعطاها خاصية التطور الجدلى الذاتى، وهنا طبق ماركس القوانين الهيجلية التي ترى أن الحركة تتم عن طريق التناقض والصراع، حيث يخرج من باطن الشىء الذى اجتمع فيه مع نقيضه، شىء ثالث مختلف عنهما. وهكذا يتحرك التاريخ فى حركة متعرجة ومتطورة، وأعطى لهذه الجدلية خاصية الحتمية التى لا يمكن معارضتها، وسمى إطاعة هذه القوانين وعى الضرورة.
وطبق ذلك على التاريخ: حيث رآه يتحرك من عصر المشاعية وقوته الإنتاجية الحرية، إلى عصر العبودية وقوته الإنتاجية الإنسان العبد، وعصر الإقطاع وقوته الإنتاجية المحراث ورقيق الأرض، وعصر الرأسمالية وقوته الآلة، وأدوات الإنتاج هذه تخلق ثقافتها وعلاقتها الاجتماعية، وكل مرحلة تتناقض مع التى قبلها حتى تهزمها، أى إن السيطرة على طرق الإنتاج تقرر أية طبقة وأية نماذج فكرية يمكن أن تسود فى فترة ما. ويرى أن الصراع المستمر بين الطبقات الاجتماعية المختلفة سيؤدى فى النهاية إلى انتصار البروليتاريا، أى طبقة العمال، حيث يتحقق عصر الشيوعية، وقوتها الإنتاجية الآلات الكبيرة، فتنتفى الملكية الفردية والاستغلال ويتحرر الإنسان. وهكذا ارتد ماركس بالإنسانية إلى عبادة الأشياء وظواهر الطبيعة، حيث أعطى لأداة الإنتاج قوة الخلق والتغيير [6].
وهكذا ترددت النظريات بين الإفراط فى تقديس المادة وإهدار الإرادة الإنسانية عن طريق
ما ادعوه من حتمية وجبرية، وبين التفريط فيها وإعلاء شأن الإرادة الإنسانية بما أعطوه للإنسانية من صفات الأبطال. هكذا من ضلال إلى ضلال.
ج- التفسير الدينى للتاريخ:
التفسير الدينى للتاريخ قديم، فعند اليونان وشعوب الشرق القديم اعتبروا حركة التاريخ
خطة إلهية لخلاص العالم، تبدأ من بدء الخليقة حتى يوم القيامة. وظهر هذا التفسير فى تواريخ التوراة وفى كتابات الكنيسة المسيحية عن التاريخ، واستمر حتى كتابات توينيى فى العصر الحديث. وتوينيى كان يعطى للدين والعرق والأقليات وأفذاذ الأفراد والجموع المحرومة دوراً هاماً فى عملية بناء الحضارة أو هدمها أو إحلال غيرها محلها فى كتابه " دراسة التاريخ" ، ولكنه بعد الحرب العالمية الثانية أعطى المؤسسة الدينية أولاً ثم الاعتقاد الدينى ثانياً، الصدارة فى عملية التحدى لصنع الحضارة وإحلال حضارة محل أخرى.
يقول توينيى: " وإذن لا مناص لنا اليوم من أن نسائل أنفسنا ما هى أسس حضارتنا ؟ بأى المبادئ نؤمن؟ وإذا كانت هذه المبادئ قد تدهورت، فهل من سبيل لاستعادتها ؟ إن مبدأنا التقليدى هو تقديس الحرية الفردية، فكيف يكون هذا التقديس ؟ أول شروطه ألا نخلط بين أنفسنا وبين الإله، فإذا تشبه الإنسان بالله عبد نفسه، وحين يعبد الإنسان نفسه فهو ينشد السيطرة على المجموع ليستمد منه القوة. ومتى تحول المرء إلى عبادة نفسه وسيطر على المجموع ، فقد سلبهم حينئذ حريتهم وحولهم إلى عبيد، وعبادة الإنسان نفسه شىء تأباه المسيحية، ولقد ضحى الأولون بأنفسهم عمداً أيام قيام الإمبراطورية ليشهدوا الناس على أن المسيحية تأبى عليهم أن يكونوا عبيداً لقيصر، وكذلك الإسلام يأبى عبادة الإنسان، ومن قبل المسيحية والإسلام حرمت اليهودية عبادة الإنسان.
والتاريخ الإنسانى مؤلف من سلسلة من المواقف يتعين على الإنسان أن يختار بين المضي فى سبيل الله أو الانحراف عن هذا السبيل، وقد لوحظ أن حرية الإنسان تبلغ أقصاها حين يتم الاتصال بينه وبين الله، وتهوى إلى الحضيض حين ينأى الإنسان عن تعاليم الله وهديه " [7].
وفى هذا التفسير يتحرك الإنسان والجماعة مع هذا الكون فى حركة واحدة، تتضمن سنن الله وأوامره، التى على أساس طاعتها أو عصيانها يكون الجزاء فى الدار الاخرة، فهذا هو معنى الحياة وغايتها. وهو مقتضى الإيمان بوجود خالق، لهذا الكون وأنه سبحانه عليم حكيم، برهان ذلك ما نراه فى نظام الكون والحياة فلم يخلق الحياة عبثاً، وإنما لغاية يبتلى فيها الإنسان، ومن مقتضى هذه الحكمة أن تكون هناك آخرة يتم فيها الحساب، وإثابة الطائعين بالجنة ورضوان الله وعقاب العاصين بالنار وغضب الله [8].
التفسير الإسلامى للتاريخ:
الإنسان ككيان مادى يتغير ويتبدل حتى أنه لا يبقى منه شىء بعد سنين معدودة، ويظل هو الإنسان بعقيدته وخلقه وتاريخه، وتتداعى إلى العقل مع الصفة العقدية صورة نفسية وتصور محدد عن صاحبها إذا غاب أو حضر. إن الكيان المادى نسيج والعقيدة صبغته، فهو يتشكل بها ويأخذ أوصافه منها. والعقيدة حين تتشبع بها النفس تصدر عنها قيم بعينها، ومشاعر بعينها، بحيث يوصف الإنسان بها، ويتعرف عليه من خلالها. والعقيدة هى نقطة الافتراق بين الإنسان الراشد والحيوان الذى لا يفقه شيئاً، إن العقيدة تضع أقدامه على سر وجوده، فيحس أن لوجوده معنى، وأنه ليس مخلوقاً فقط للاستمتاع بالأكل والتلذذ بالشهوات، فهذه الحياة يشترك فيها مع الحيوان. وإنما يحيا فى اهتمامات كبيرة، ويمتلىء بآمال عظيمة، وتمتد ذاته إلى آفاق عريضة فى المكان والزمان.
وكما يتشكل الإنسان بالعقيدة، فإن النظام الاجتماعى والسياسى والاقتصادى ينمو من جذورها وعلى سوقها، كما يتفرع النبات ويورق ويثمر منها. ولقد أدركت الإنسانية ذلك بوضوح فى عصرها الحديث. فحيث انبثقت الحضارة الغربية من عقيدة تستبعد الله من مناهجها، وتعتبر الإنسان هو سيد الوجود، وأن حريته دون قيود غاية قصوى، تشكلت المؤسسات السياسية على ديموقراطية لا تضع حدوداً، حتى أن نواب إنجلترا أقروا الشذوذ الجنسى واعترفوا به. وتشكل نظامها الاجتماعى على الإباحية حتى تمزقت الأسرة وضاعت القيم، وتأسس نظامها الاقتصادى على الحرية فى المعاملات فأبيح الربا وأنشب الاحتكار مخالبه فى أحشاء الشعوب محلياً ودولياً ولم تفرق فى استهلاكها بين خبيث وطيب فأكلت الخنزير وشربت الخمر وتعاطت المخدرات.
ويوم أن تبنى المجتمع الروسى الشيوعية واعتنق فلسفة مادية وتفسيرا للكون والحياة يقوم على الصراع، تشكلت قيم فى المجتمع تقوم على الإلحاد، وتأسس نظام اجتماعى يقوم على الأحقاد ويدمر الامتياز، ونظام سياسى يقوم على الاستبداد والدكتاتورية، ونظام اقتصادى يقوم على الملكية العامة والتخطيط المركزى الذى يلغى الفرد ويقهره، وفى كل ذلك تأزم الواقع الاجتماعى وتعقدت النفوس ودمرت الفضائل، وكان مصير روسيا الانهيار بسلبية الإنسان فيها، ونرى فى الأفق القريب المصير المفجع للغرب وهو ينحدر نحو الهاوية لتدميره للإنسان فيه.
"وقد رأى المؤرخون حديثا بوضوح أن التاريخ ليس سياسة فقط، وإن من المستحيل أن نفصل السياسة عن الدين والدين عن الحياة الاجتماعية، والحياة الاجتماعية عن الأدب والفنون، وبصفة عامة أن نفرق بين الخيوط التى تمتزج معا لتكون نسيج ثقافة كاملة" [9].
إن الإنسان خلق من طين ثم كرمه الله بنفخة من روحه، وبذلك ألهمه الفجور والتقوى والهدى والضلال، فهو يصفو حتى يطاول السماء ويهبط حتى يكون كالأنعام، وهو فى صفاته يظل مشدوداً إلى الأرض، وفى كبوته يظل متطلعاً إلى السماء، وبهذا فى إمكانه أن يصلح أو أن يفسد.
إن الكون كما أراد الله يتميز بالتنوع والاختلاف، ولو ترك دون ضابط لتنافر وانحل، ولكن سنة الله تمسكه فى نظام. فهذا الكون من الذرة البسيطة إلى المجرة الضخمة يتحرك فيتخذ أشكالاً دائمة التغير والتحول والتطور، فالذرة لا تهدأ، والنجوم تتقد أو تخمد، والخلايا تتكون وتهدم، لا يعرف الكون السكون أبداً، والحال أيضاً فى الإنسان لا يتفق مع غيره فى الشكل أو الطبع بل متميز ومتنوع، وهو أيضاً فى حالة حركة، إما إلى شباب وإما إلى هرم، وكذلك المجتمعات متباينة مختلفة، وفى حركة دائمة، إما إلى حضارة أو إلى نكسة، إما إلى هدى أو إلى ضلال.
ولكن هذه الحركة التى فى الوجود، وفى الإنسان ومجتمعاته، لا تعمل كيفما اتفق، وإلا لتحول الوجود إلى فوضى تؤدى إلى اصطدامه وضياعه، ولكننا نرى تماسك الكون وانتظامه وتناسق الخلائق وانسجامها، وتتابع السنن وانتظامها. وذلك بإرادة رب قدير، إنه الله: رَبُّنَا الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه :5] .
والإنسان محكوم بهذه السنة فى حياته، محكوم بسنة التنفس ليحيا، وسنة الطعام ليعيش، وسنة الزواج ليمتد، لا يستطيع أن يوقف حركة دمه ولا دقات قلبه. هذه السنة هى قانون الله الذى يسلم له الكون به طوعا وكرهاً، ويذعن له كل شىء وكل حى رضى أم لم يرض ، من أكبر سيارة فى السماء إلى أصغر ذرة فى الإنسان، يقول تعالى:
ولَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً [ آل عمران: 83].
والكون ينتظم على سنة الله فى حركة متسقة ونظام متين، يقول تعالى:
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40 ]
ولو خرج أى شىء فى السماوات أو الأرض عن سنة الله لكان مصيره الفناء والضياع. وصدق الله العظيم: ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ إلا أن حكمة الله اقتضت أن يترك للإنسان شقا يختار فيه ليبتلى فى عمله يقول تعالى:
وقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 28] .
لقد أرسل الله الرسل رحمة وأنزل معهم الكتاب ليهتدي به الناس إلى الصراط المستقيم، فمن اتبعه هدى ورشد، ومن أعرض عنه ضل وشقى يقول تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى (123) ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا [ طه: 123، 124].
وحين يقص علينا القرآن قصة الإنسانية والرسالات من لدن آدم حتى ختمت بمحمد (ص) يصورهم فى وحدة واحدة فى عقيدتها وقيمها وأصول شرائعها. ونشهد من القرآن صورة هذه الأمة الواحدة فى مواقف الصراع بين الحق والباطل، يقود المؤمنون موكباً كريماً عبر التاريخ، يرفع أعلام التوحيد، بينما تتعدد أعلام حزب الشيطان فى ضلالات شتى وهم يواجهون الأمة المسلمة على مر العصور.
وحياة الرسل وقصص الأنبياء هو المصدر الذى يستمد منه الفرد المسلم والجماعة المسلمة
والأمة المسلمة تفسير التاريخ وتحليل السياسة ومنهاج العمل الصالح.
ومصارع الظالمين من قبل، وهلاك أمم أشد قوة وأكثر أموالاً وأولادا، وأضخم عمراناً وسلطاناً، أكبر معين يستمد منه الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة العبرة من أحداث التاريخ.
ومن ثم لم تكن عبادة الطواطم أو النور والظلام أو الشمس والقمر، أو نسبة البنين والبنات إلى الله، إلا انحرافا عن أصل التوحيد الذى يقوم عليه الكون، والذى أرسلت به الرسل جميعا. فهى انحراف عن العقيدة السليمة التى بدأت بـ لا إله إلا الله، وسارت فى موكب مهيب عبر التاريخ لتحرر الإنسان من عبودية الإنسان والأشياء.
وهذا الأصل هو نقطة الافتراق بين مفهوم الحضارة ومفهوم التخلف، بين معنى التقدم ومعنى التأخر.
والحركة التاريخية فى القرآن حركة هادفة، حدد لها من أول يوم غاية تسعى إليها، وتحدد
على أساسها علاقات الناس، من مودة وعداء، وولاء وبراء، وحرب وسلام.
ولم تعرف الإنسانية فى تاريخها الطويل أمة تقيم حياتها على المبادئ وتجاهد لسيادتها فى الأرض إلا فى الرسالات. والمظهر الخادع لدعوى الحرية الذى ظهر فى الثورة الفرنسية أو دعاوى حقوق الإنسان فى الغرب أو دعوى المساواة فى الثورة الشيوعية لم يلبث أن كشف عن أنياب الجشع والهوى والقهر والتسلط، الممثل فى عهد الإرهاب فى فرنسا وعصور النهب والاستعمار والجبروت فى سجل الغرب، وفى مخازى التاريخ الروسى الذى نعلمه اليوم وتقشعر منه جلودنا.
فالإسلام الذى أرسلت به الرسل هو وحده الضمان لتحرير الناس من عبودية الطواغيت ونوازغ الشهوات. وعقيدة لا إله إلا الله، التى تحدد للمؤمن رسالته التاريخية، ما تكاد تستقر فى الضمير حتى تحرك صاحبها بحافز لا يهدأ نحو تحقيق واقع محدد المعالم مكلف بإقامته، وهذا هو غاية حياته، التى يشهد بها الحق على الدنيا، حين يؤديها فى نفسه فيطابق بين واقع حياته وبين ما يعتقد، ويطابق بينها وبين مجتمعه حتى يكون كما أراد الله، ويجاهد بها الناس جميعا حتى يتحرروا من كل قيود تمنع اختيارهم الحر فى أعظم أمر خلقت من أجله السمارات والأرض، واستخلف الإنسان، وسخر له الكون وما فيه.
ولكننا ننبه أن القرآن ليس كتاب سرد للتاريخ يسجل فيه تفاصيل هذه الوقائع، وإنما يعنيه التحذير والأسوة، فيقتصر علي النماذج الرئيسة، ويقدم من خلال تنوع عرضها الحكمة والعبرة، ليتلقى المؤمنون فيها زادا من التجارب ترشد مسيرتهم وتجنبهم مزالق وآفات الأمم من قبلهم. وهذا هو مفهوم تفسير التاريخ الذى نستلهمه من القرآن.
[1] نور الدين خاطر وآخررن: موجز تاريخ الحضارة، جـ 1، ص 17، 18، مطبعة الكمال، دمشق 1965.
[2] توماس كارليل: الأبطال، ترجمة محمد السباعى، دار الكاتب المصرى، بيروت، ص 15.
[3] جان هيبوليت: مد خل إلى فلسفة التاريخ عند هيجل، ترجمة انكوان حمصى، ص 43، مطابع وزارة الثقافة، دمشق 1969.
[4] رينيه سبرو: هيجل والهيجلية، ترجمة نهاد رضا، ص 47، دار الأنوار، بيروت. أميل برييه: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ت. و. د.محمود قاسم ود. محمد القصاص، ص 97. أندريه كريسون، إميل برييه، هيجل ت. د. أحمد كوى، ص 22.
[5] البان ج. ريدحرى: التاريخ وكيف يفسرون من كنفوشيوس إلى توينيى، ترجمة عبدالعزيز توفيق جاويد،ص 143، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1972.
[6] Fundamemtals of Marxism-Leninism progress Publishers,Moscow1964 p.16
[7] مجلة المجلات العلمية، أغسطس سنة 1958 عن مجلة الكويكرز.
[8] عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 14، دار العلم للملايين، بيروت 1975.
[9] جلبرت هيمت: هجرة الأفكار- ترجمة سعد فريد ص 103.التعديل الأخير تم بواسطة يوسف كمال محمد; 16 فبر, 2014, 03:26 م.تعليق
-
الأساس العقيدى
لقد استغرقت المدنيات القديمة أمادا طويلة حتى قامت واستوت وكان ذلك لأمد قصير ثم كان اندحارها سريعا، وانفردت الحضارة الإسلامية بتسارع ظهورها فى أمد قصير، مع استكمالها لكل المقومات الأساسية للحضارة واستمر بقاؤها طويلا، سواء فى بنيانها الثقافى أو التشريعى أو العمرانى، حيث صنعها الله على عينه، وأخرجها من القرآن إخراجا، وكان من أسس هذه الحضارة:
أن التوحيد الخالص، الذى يصل الإنسان بخالقه، فيحرره من استبداد الطواغيت، والذل لشياطين الإنس والجن ، والإيمان باليوم الآخر الذى يصل الإنسان بغايته، فتصبح الدنيا على يده حيث البذل لا فى قلبه حيث العبودية.. وسر المحنة التى يعيشها الغرب اليوم أنه لا يعرف له ربا يلجأ إليه، ولا عالما سوى الأرض. فشقت الإنسانية بظلم الأقوى للأضعف، واستعباد الدول للدول، فعرفت البشرية أبشع الجرائم، وسالت على الأرض دماء ملايين القتلى فى حروب عالمية شرسة، تتصارع على مناطق النفوذ، وعلى مصادر الثروة، وعلى استذلال الشعوب، وحروب محلية مدفوعة بنزعات الاستعلاء العنصرى سواء بصلة الدم أو العرق أو الجنس.
الإسلام هو دين البشر منذ خلق الله آدم عليه السلام، ودعوة الأنبياء واحدة إلى حقيقة لا إله إلا الله، وسيرة الرسل هى التاريخ الحق، الذى يعرف منه الراشدون عوامل النهوض وعوامل الاندحار.
تذكر السورة أن كل الرسل دعوا قومهم إلي التوحيد ، ، يقول تعالي علي لسان نوح عليه السلام :
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
وعلي لسان هود عليه السلام :وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65)
وعلي لسان صالح عليه السلام :( وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)
وعلي لسان شعيب عليه السلام ) وإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ )
وموسي عليه السلام قال لقومه حين قال قومه له اجعل لنا إلها كما لهم آلهة : قال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهاً وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ (140)
ومحمد صلي الله عليه وسلم خاتم الرسل نادى في الناس : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
وتوحيد الله سبحانه وتعالي هو أول خطوات العبد علي الصراط المستقيم ، يأمر بالقسط ، ويدعوه بأسمائه الحسني مخلصا له الدين .
ويعلمنا الله تعالي في السورة أسماءه الحسني الذى نعرفه به وندعوه ، حتي يستقيم القلب واللسان علي التوحيد .
إن غاية الوجود الإنسانى هى عبادة الله تعالى، والتوحيد قمة هذه العبادات، فهو الحق الذى قامت به السموات والأرض، ومن أجله خلق الموت والحياة. وأى علم يبنى على غير أساسه فهو إلحاد باطل لا أصل له، وأى عمل لا يدور على محوره فهو عمل حابط لا قيمة له. وأسماء الله تعالى الحسنى هى التى تعرفنا على هذا الغيب وتبصرنا بحقيقته. فهى التى تبين المعرفة الحقة بالله تعالى، وهى التى تمثل الفاعلية الحقة فى جسم الكون، وهى التى ترشد إلى أسلوب العبادة الصحيح.
ولهذا كان طريق الراشدين يبدأ بمعرفة الله تعالى، ومن ثم دعائهم بأسمائه الحسنى، حيث هى التى تبين حقيقته وأمره ومراده فى الكون والحياة، فيهتدون إلى الحق ويعدلون فى الحياة.
" واعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ، أمر بعده بذكر الله تعالى فقال: ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ، وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله، والخلاص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى...
والآية تدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى... فيكون مستحضرا لأمرين:
ا- عزة الربوبية.
2- ذلة العبودية .[1]
حقيقة الاسم: كل لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقا، فإن كان مشتقا فليس باسم، إنما هو صفة. هذا قول النحاة... والحسنى ما فيها من معنى التعظيم، وقيل: ما وعد عليها من الثواب بدخول الجنة... وفى الأسماء ثلاثة أقوال:
ا- أنها أسماؤه كلها التى فيها التعظيم والإكبار.
2- أنها الأسماء التسعة والتسعون التى ورد فيها الحديث الصحيح: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة .[2]
3- أنها الأسماء التى دلت عليها أدلة الوحدانية، وهى سبعة تترتب على الوجود: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة...
والذى أدلكم عليه أن تطلبوها فى القرآن والسنة، فإنها مخبوءة فيهما، كما خبئت ساعة الجمعة فى اليوم، وليلة القدر فى الشهر، رغبة، والكبائر فى الذنوب، رهبة. لتعم العبادات اليوم بجميعه والشهر بكليته، وليقع الاجتناب لجميع الذنوب. وكذلك أخفيت هذه الأسماء المتعددة فى جملة الأسماء الكلية، لندعوه بجميعها، فتصيب العدد الموعود به فيها.
رمعنى الإلحاد فى اللغة الميل عن القصد... والإلحاد فى أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة :
ا- إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله، مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة، ومن ذلك أنهم سموا أصناما باللات.. مشتقة من الإله، والعزى من العزيز ومناة من المنان...
2- أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به، مثل تسمية من سماه أب وابن وروح قدس..
3- أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه (كما يفعل بعض مبتدعة الصوفية)[3]
يقول تعالي: ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وذَرُوا الَذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
عبرة التاريخ
تبدأ السورة ببيان متطلبات الدعوة ، حيث تقف علي قمة المهام التي استخلف الإنسان من أجلها في الأر ض ، وعلي حسب النتائج يكون الحساب ، فالثواب والعقاب في الآخرة.
ومن ثم وجه الخطاب إلي الداعية وهو الرسول (ص) والمدعويين وهم المؤمنون ، وموضوع الدعوة وهو الكتاب المنزل من عند الله ، ويحض المؤمنين علي الاتباع والتذكر ، ويحذر من اتخاذ أولياء من دون الله ، وأن يصبر فلا يضيق صدره بسبب تكذيب المعاندين .
يقول تعالي : الّـمص(1) كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3)
وفي سورة الأعراف أهتمام بموضوع الخلافة، فيقول ربنا على لسان أنبيائه:
هود عليه السلام لقومه: واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 6].
وصالح عليه السلام لقومه: واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف: 74].
وموسى عليه السلام لبنى إسرائيل: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) [ الأعراف: 129].
ويوصى أخيه هارون: واخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ (142) [الأعراف:143].
ويؤنب بنى إسرائيل: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [ الأعراف: 150].
ومن ثم تتوالى موضوعات السورة وتعبر بنا التاريخ من أوله إلي آخره ، من المبدأ إلي المعاد ، من الدار الدنيا إلي الدار الآخرة .
بداية التاريخ:
تبدأ قصة البشرية بإعلا ن ميلا د الإنسان في احتفال مهيب ، في رحاب الملأ الأعلي ، يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم ، زيادة في الحفاوة والتكريم ، وتحشد له الملائكة ، وفي زمرتهم ، وإن لم يكن منهم إبليس ، تشهده السموات والأرض وما خلق الله من شئ .
ومن هنا تبدأ الرحلة الكبرى ، تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشرى في الأرض كحقيقة مطلقة وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلا.
وتحكي لنا السورة مصارع الأمم السابقة حين عصت أمر الله وأشركت به ما لم ينزل به سلطانا .
وكذلك في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله ، نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق ، ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت ، وطبيعة ثالثة وهي الطبيعة البشرية .
إن هذا الإنسان – الذى خلق من قبضة من طين ونفخة من روح الله – يصل إلي القمة حين يستعلي علي غريزته ويكيف شهوته وفق غاية وجوده . وعندئذ يفوق – باقتحامه الصعاب – وبلزومه الطاعات – كل مخلوق من حوله . وهو يكون شرا من الحيوان حين تقوده شهواته إلي الفسوق والعصيان .
وتسلل الشيطان عن طريق إلهاب رغبة الإنسان في الخلود والملك ، ومنها حرصه علي معصية أمر الله ، فغرهما بقوله ، وخدعهما بمكره ، وغشهما بقسمه ، كما غرهما بأن أدلاهما بحبل متقطع في هوة ، فأكلا من الشجرة ، وعصي آدم ربه فغوى . وقصد إبليس أن يكشف عورة آدم وما يليها من ضغوط غريزية ، يستطيع عن طريقها إخراج بني آدم عن الصراط المستقيم .
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة ، لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلي معصيته . فأنزلهما إلي رتبة دنيا . ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت تكشفت لهما ، بعد أن كانت مواراة عنهما ، فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض ، مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريتها .
يقول تعالي : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ (20) وقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن ورَقِ الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (23)
والإنس لا يرون الجن لأن قوله( إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)، يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص، قال بعض العلماء: ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأى صورة شاءوا وأرادوا، لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس. فلعل هذا الذى أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدى أو زوجى جنى صور نفسه بصورة ولدى أو زوجى، وعلى هذا التقدير يرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص. وأيضا فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم، مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس، فلم لا يفعلون ذلك فى حق البشر وفى حق العلماء والأفاضل والزهاد؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى. ولما لم يوجد شىء من ذلك، ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه. ويتأكد- هذا بقوله: (ومَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [4] إبراهيم: 22.
يقول تعالي: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
نهاية التاريخ:
يصور ربنا تبارك وتعالى نهاية الحياة بالموت، حين تقبض الملائكة الأرواح، ويبدأ الحساب والجزاء، وينتهى العمل والابتلاء، ويحكى لنا القرآن الكريم خطاب الملائكة للكافرين تبكيتا وتعذيبا، وحوار التابعين مع المتبوعين تبكيتا وتأنيبا.
ويظهر أصحاب الجنة فى نعيمهم، صافية قلوبهم إخوانا لا غل فى صدورهم، لتهنأ صحبتهم، يسبحون الله وبحمده على هدايته لهم إلى الحق، وتوفيقهم إلى طريق الجنة. وينادى أصحاب الجنة أصحاب النار مذكرين أياهم بوعد الله الحق، وهنا يتوسل إليهم أصحاب النار وهم فى العذاب، من أجل شربة ماء أو شىء من النعيم الذى أعطاهم الله، فيعلمونهم أن الله حرمهما على الكافرين، جزاء اتخاذهم دينهم لهوا ولعبا، وتفضيلهم الدنيا الغرورة، ونسيانهم لقاء الله فى هذا اليوم، ويضع الله حجابا بينهما، حتى لا يتكدر أصحاب الجنة برؤيتهم.
وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار يقف أصحاب الأعراف، الذين تساوت حسناتهم وسيآتهم فلم يدخلوا الجنة ويطمعون فيها، ونرى أصحاب الأعراف وهم يبكتون أصحاب النار ويهنئون أصحاب الجنة.
سنن الكون والحياة:
يبين القرآن الكريم أن الكون تحكمه سنة الله التى لا تتغير ولا تتبدل، من الذرة الصغيرة حتى المجرة الكبيرة، فكله يدور حول محور ويتجه إلى غاية، إذا خرج عنهما انفجر وتحطم، فالأسباب تؤدى إلى النتائج، والمقدمات تؤدى إلى النهايات، لا تبديل لسنة الله.
ومن هنا فإن سنة الله فى الأرض هى أنها إذا كانت طيبة، فأرسل عليها المطر رحمة منه، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وإن كانت سبخة خبيثة وأرسل إليها المطر لم تنبت إلا نكدا.
والحال كذلك مع البشر، إذا كانت نفوسهم طيبة وأرسل إليهم الرسل رحمة منه بالهدى، اتقت وأصلحت، وإن كانت النفوس خبيثة، فلا يصدر عنها إلا العصيان والإفساد.
فالقلب الطيب يشبه بالأرض الطيبة، والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة، فكلاهما، القلب والتربة، منبت الزرع ومأتى الثمر، القلب ينبت نوايا ومشاعر وانفعالات واستجابات واتجاهات وعزائم وأعمالاً تبذل وآثارا فى واقع الحياة، والأرض تنبت زرعا وثمرا مختلفا أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه.مناخ السورة يصور مجتمع وفرة ورفاهية، فلم يقتصر فيه المتاع على الحاجات الأصلية وإنما تعداها إلى الزينة فى اللباس وفي الفراش والسكن والأثاث والطيبات.
يقول تعالي: وهُوَ الَذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
سنن الله التاريخية:
بعد أن بين لنا القرآن الكريم نماذج من الانحرافات العقدية والأخلاقية والاقتصادية التى حدثت فى بعض الأمم السابقة.
تبين السورة السنة التى لا تتبدل، والتى تجرى على استخلاف البشر فى الأرض، وهى إيقاظ البشر على رسالتهم بابتلائهم بالسراء والضراء، حتى يلجأوا إلى ربهم فيعرفوه، ويتجهوا إليه بالدعاء والتضرع فلا ينسوه، ولكن البشر عموا عن هذا التنبيه، وتصوروا أنه عادة ودورة كما أصابت آباءهم من قبل، فحق عليهم العذاب جزاء غفلتهم عن الحق لإفسادهم فى الأرض.
وتلفت السورة الانتباه في دنيا الناس برحلة خاطفة عبر التاريخ إلي مصار ع الأمم المكذبة حين يأخذها العذاب ، وهي في غاية الاسترخاء بالليل وهم نائمون ، أو القيلولة وهم مستريحون ، ثم انتباههم علي الكارثة واعترافهم بأنهم كانوا ظالمين ، ليلفت أنظار الغاصبين بما في المخالفة والغفلة من سوء المصير .
يقول تعالي في أول السورة : وكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إلاَّ أَن قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
وفي وسط السورة تحذير للناس كافة تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ولَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ (101)
وفي آخر السورة يقول تعالي : والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)
وتضع السورة القاعدة الكبيرة التى تميز المسيرة التاريخية، وهى أن الإيمان والتقوى تفتح على الأمم الوفرة والرخاء، حيث يبارك لها فى حياتها، وأن الذنوب التى يكتسبونها من عصيانهم تترتب عليها كارثة لا يستطيعون لها دفعا.
ونظرة إلى تاريخ الأمم، وتوالى القرون، وهلاك السابقين بعصيانهم، كفيل بأن يفيق الناس على نداءات الرسل، وأن يفقهوا ما جاءتهم به من بينات، ولكن طبع الله على قلوبهم فلم يلتزموا بعهد أو ميثاق.
يقول تعالي : ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ (99) أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ونَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
يقول رسول الله (ص):
(يا معشر المهاجرين، خصال خمس إن ابتليتن بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن،
لم تظهر الفاحشة فى قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا بينهم الأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلأ أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم غيرهم فيأخذ بعض ما فى أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم " .[5]
نماذج من الاستبداد السياسى:
وتعرض السورة هنا نموذجا من الانحراف السياسى فمثلا فى استبداد فرعون وجبروته، وهذه ظاهرة مستمرة على مدى التاريخ الإنسانى، حيث يتكبر الإنسان الضعيف فى الأرض حين يملك ويسود فيستعبد الناس ويذل الرقاب ويعيث فى الأرض الفساد.
وهنا يصطدم مع الدعاة إلى الله الذين يرفعون راية التوحيد ليحققوا للبشر حريتهم من الطواغيت، ويحققوا المساواة والعدل بين الناس، ويحلوا فى البلاد الإصلاح بديلا عن الإفساد.
لقد أرسل الله موسى عليه السلام إلى الطاغية فرعون اللعين، يذكره بحقيقة الكون وسنن التاريخ، ويدعوه إلى أن يرسل بنى إسرائيل من إسارهم، وأن يرفع يد البطش الظالمة عن أجسادهم ونفوسهم.
واستعان فرعون بالملأ ليطفئ هذه الرسالة وساعده الكبراء من حاشيته والمنتفعين من ظلمه، باستدعاء من ظنوه قادرا على معارضته من السحرة الذين يمثلون علم عصره، فكان ذلك سبب إيمانهم حين رأوا البينات، وملأت قلوبهم بشاشة الإيمان حتى كان الموت فى سبيل الله أحب إليهم من الحياة..
ولكن فرعون اللعين أراد استثارة الجماهير، وشوش على الحقيقة، باتهامه موسى عليه السلام والسحرة أنهم دبروا مؤامرة ليغيروا نظام المجتمع ودستوره، ويخرجوا الناس من أوطانهم.
ووفق سنن الله التاريخية أخذ آل فرعون بالسراء والضراء لعلهم يعرفون الحق ويرجعون إلى ربهم، فإذا جاءتهم الحسنة ردوها إلى أنفسهم، وإذا أصابتهم السيئة نسبوها بالتطير إلى موسى ومن معه، ومضت سنة الله حين لم يفلح معهم وعظ ولا عبر، وأغلقت قلوبهم على الباطل، فاستأصل شأفتهم الله فأغرقهم أجمعين، ودمر ما صنعوه وما بنوه وأصبح كأن لم يكن، وأورث المستضعفين من بنى إسرائيل الأرض المباركة بما صبروا وآمنوا، واستخلفهم فى الأرض لينظر كيف يعملون.
نماذج من الانحرافات العقيدية :
وقص علينا ربنا تبارك وتعالى قصة نوح وهود وصالح عليهم السلام مع أقوامهم، وكانوا يشركون بالله ويجعلون له أندادا ، فبينوا لهم أنواعا من هذه الانحرافات، وحاولوا أن يصححوا لهم معرفتهم بالله تعالى، واستكبر الطغاة، فمنهم من أغرقه الطوفان، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أرسل الله عليهم حاصبا فأهلكهم واستأصل شأفتهم.
نموذج من الانحرافات الأخلاقية :
ثم قص علينا ربنا تبارك وتعالى نوعا من الانحرافات الاجتماعية ممثلا فى فاحشة اللواط، فنهاهم لوط عليه السلام، وألح فى الإنكار، فهددوه وسفهوه، فانتقم الله منهم وأهلكهم بمطر السوء، فدمرهم تدميرا.
نموذج من الانحرافات الاقتصادية "
ثم قص علينا قصة شعيب، حيث كان قومه يفسدون فى الأرض فيبخسون الكيل والميزان ويأكلون أموال الناس بالباطل مع شركهم بالله فحذرهم شعيب عليه السلام من هذا الإفساد فى الأرض، فكذبوه وأعرضوا عن هداه، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.
ويبين الله تعالى أن ما قصه تعالى من أسماء الرسل والأعم مجرد نماذج على سبيل المثال لا الحصر.
نماذج من الانتكاسات العقدية:
أشد ما يواجه مسيرة الإسلام بعد أن يدخل قلوب الناس، هو تسلل الشرك بأنواعه والبدع بأشكالها، إلى مجتمعاتهم نتيجة وسوسة شياطين الإنس والجن، وغفلة المؤمنين عن ذكر الله، ونسيانهم أوامره ونواهيه وحقائق دينهم وأركانه.
هذه الظاهرة يبينها لنا ربنا تبارك وتعالي فيما حدث فى بنى إسرائيل حتى ورسولهم بين ظهرانيهم، فقد أتوا فى مسيرتهم على قوم يعكفون علي أصنام لهم، فغرتهم طقوسها وهمهماتها، فطلبوا من موسى بجهلهم أن يجعل لهم مثلها، ومن ثم أخذ موسى عليه السلام يعلمهم من جديد، ويبين لهم أن ذلك الباطل هالك ولا يجر إلا إلى الدمار والعذاب، وذكرهم بآلاء الله ونعمه عليهم فى إنجائهم من عدوهم، وإهلاكه لفرعون وملئه، ووراثتهم للأرض المباركة، حتى يثوبوا إلى رشدهم.
وكان هذا ميقات رحمة الله بهم، فأنزل على موسى وحيه، وكتب له فى الألواح موعظة وتفصيلا لكل شىء ، وحتى لا يقع الناس فى الشرك، ويعرفوا طريق ربهم فلا تغريهم الشياطين فى مسالك البدع والضلال، وأمره تعالى أن يأخذها بقوة وأن يأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها.
وقضت سنة الله أن ينصرف عن هذا الهدى المستكبرين فى الأرض بغير الحق، فيصيبهم العمى فلا يرون آيات الله، وينحرفون عن طريق الرشد وإن استبانوه، ويقعوا فى سبيل الغى فيتخذوه سبيلا، جزاء تكذيبهم وغفلتهم، فلا يقبل لهم عملا ولا يجزون إلا بالعذاب.
وكان الانحراف الثانى في غيبة موسى عليه السلام، حين زين السامرى لهم عبادة العجل، كما يفعل الفراعنة، وكانت هذه السقطة خطيرة لدرجة أن استبد الغضب بموسى عليه السلام فألقى الألواح، ثم فتح الله لهم باب التوبة بعد أن اعترفوا بذنبهم واقتصوا من أنفسهم.
وقد بين الله تعالى ما أنعم به عليهم من النعم الحسية: ففجر لهم العيون لمشربهم، وسخر لهم المن والسلوى لمأكلهم، وظلل لهم الغمام لوقايتهم، وكفل لهم المساكن لإيوائهم، فآواهم وكفلهم فى الترحال وفى الاستقرار.
وأنعم عليهم كذلك نعما معنوية فهيأ فطرتهم على الإسلام حين أخذ من ظهور بنى أدم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، وأعطاهم عقولا تهديهم إليه وفصل لهم الآيات الدالة عليه، وأنزل لهم الوحى يبين لهم الحق ويهديهم إلى طريق الفلاح.
ولكنهم قابلوا ذلك بالإفساد والطغيان والظلم والعدوان، ويبين لنا تعالى هذه الانحرافات فيما يلى:
أ- بطر النعمة وتحريف كلام الله وإخراجه عن قصده، اتباعا لأهوائهم، بدلا من دعاء الله أن يحط عنهم ذنوبهم. يقول تعالي: وإذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ القَرْيَةَ وكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
ب- التحايل على أمر الله للهروب من ظاهر النص، كما فعلوا حين حرم عليهم صيد الحيتان في السبت فاحتجزوها ثم صادوها بعد ذلك. يقول تعالي: واسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
ت- انسلاخ بعض الذين أوتوا العلم عن آيات الله اتباعا للشهوات . .يقول تعالي: واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ (175) ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
وكان غضب الله عليهم لذلك عظيما، حتى مثلهم بأسوأ الأمثال، فوصفهم تعالى بما يلى:
1- القردة والخنازير، لاجترائهم على المعاصى في وقاحة وتبلد، ودون إحساس بالذنب ولا بتأنيب الضمير، يستوى عندهم الطيب والخبيث.
2- الكلاب لانسلاخهم من آيات الله على علم منهم، فلهثوا وراء الدنيا دون توقف أو تفكير، كالكلب الذى يلهث فى حالة التعب وحالة الدعة.
3- الأنعام، فى اقتصار حياتهم على متاع الحياة الدنيا، أكلا ومتعة، دون فكر أو وعى، ولكن الأنعام تمسك نفسها حين تأخذ حاجتها، وهؤلاء لا يشبعون من الحرام ولا يتوقفون عند امتلاء، ومن ثم كانوا أضل من الأنعام.
وحكم الله عليهم بتسليط من لا يرحمهم إلى يوم القيامة، من البابليين حتى المجوس والروم، ومن قياصرة روسيا حتى نازية الألمان.
الرسالة الخاتمة:
لما اختار موسى قومه لميقات ربه وأخذتهم الرجفة، استجار موسى عليه السلام بربه ألا يأخذهم بما فعل السفهاء، وناشد ربه المغفرة والرحمة، وأن يكتب لهم الحسنة فى الدنيا والآخرة. وهنا أعلمه الله أن رحمته وسعت كل شىء، فسيكتبها للمؤمنين الذين يتقون ويؤتون الزكاة، ويتبعون الرسول (ص) الذى به يكمل الدين وتتم النعمة.
وقد كان يقوم، قبل الرسالة الخاتمة، بهذه المهمة أنبياء بنى إسرائيل، وكان منهم أمة يدعون إلي الحق وبه يعدلون، لكن خلف من بعدهم خلف فضلوا عرض الدنيا على نعيم الآخرة وتصوروا بغرور أن الله يحابيهم ويغفر لهم فخلفوا العهد ونقضوا الميثاق وأصبحوا شهادة باطل لا شهادة حق لدين الله.
ومن ثم انتقلت الأمانة منهم إلى محمد (ص)، الذى بشرت به كتبهم، ودعتهم حين مجيئه إلى اتباعه ونصرته، رسولا للعالمين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
وحتى يتحقق الإيمان لابد من الإقرار بحقيقة لا إله إلا الله، ولكن هذه الحقيقة لا تتم إلا بعد الإقرار بشهادة أن محمدا رسول الله، ذلك لأن اتباعه هو السبيل لمعرفة الحق، فالإيمان به ونصرته هو مناط الفلاح.
وأعظم مهمات الرسالة الخاتمة هى التعريف بأسماء الله الحسنى، حتى يتعامل بها البشر مع ذات الله ثناء ودعاء، فمن عرف الله عرف الأمور على حقيقتها ومن لم يعرف الله ألحد فى أسمائه وجهل حقائق الأشياء، وإن حاز علوم الدنيا كلها.
"فهو وحده الذى يتصف بصفات الكمال ويتنزه عن شوائب النقص وغيره غارق في بحر الفناء واقع فى حضيض النقصان. والقلب إذا غفل عن ذكر الله أقبل على الدنيا وشهواتها، فوقع فى نار الحرص وزمهرير الحرمان، ولا يزال فى رغبة إلى رغبة حتى لا يبقى له مخلص، وإذا أقبل على الذكر تخلص عن نيران الآفات، واستشعر بمعرفة الله حتى تخلص من رق الشهوات، فيصير حرا فيسعد بجميع المرادات..
والإلحاد هو العدول عن الحق والإدخال ما ليس منه فيه.. كإطلاق اسم الأب على ذات
الله، أو وصف البشر بأسمائه تعالى " [6].
وحملت أمة محمد (ص) أمانة فهدت بالحق، أى الثابت الذى يطابق الواقع، وبه عدلت أى يجعلون الأمور قسطا، لا زيادة فى شىء منها ولا نقص. ومن ثم أطلق أكثر المفسرين الآية على أمة محمد (ص) ، فحملت الأمانة بعد أن أضاعها بنو إسرائيل، وتحقق وعد الله فيهم، ودائما يتحقق وعد الله مع كل أمة تتمسك بالكتاب وتقيم الصلاة، بالجزاء والأجر العظيم لإحسانهم.
والرسالة الخاتمة رسالة كل زمان ومكان، لا تختص بأمة بعينها ولا زمان محدد، ولهذه الاستمرارية اتصفت بصفات هى:
ا- الدعوة للتفكر، فإن تأمل سيرة رسول الله (ص)، وتدبر إعجاز القرآن، بينة لكل من له عقل مستنير وقلب سليم.
2- دعوة إلى الاعتبار بالنظر فى سنن الكون والتاريخ، فإن ذلك يهدى إلى حقيقة الألوهية واليوم الآخر، وينبههم وأجلهم القصير وسؤالهم العسير إذا ظلوا فى ضلالهم وطغيانهم يعمهون.
3- ومن ثم أكدت الرسالة على أن الغيب، ومنه وقت الساعة، لا يعلمه إلا الله وحده، ولا يعرفه نبى مرسل ولا ولى مقرب، ولما كان الغيب لله، فالنفع والضر بيده وحده، وما مهمة الرسول إلا إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين.
يقول تعالي: واكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ والَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
وكما بدأت السورة بذكر بداية التاريخ الإنسانى بخلق آدم عليه السلام وزوجه، وفتنة الشيطان لهما حتى عصيا الله، فانكشفت سوءاتهما، وأهبطا من الجنة إلى الأرض.
تختم السورة بذرية آدم التى تكاثرت بغشيان الذكر للأنثى، واشرأبت نفوس الزوجين إلى ولد تام الخلقة، واعدين بالشكر على النعمة.
ولكنهما بدلا من الشكر جعلا لله شركاء فيما آتاهما بعبادتهم لغير الله، وتقربهم لما لا يقدر على خلق ولا نصر، ولا يسمع، ولا يبصر سواء دعوه أم لم يدعوه.
يقول تعالي: هُوَ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ (191) ولا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ولا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)
184الرازى، مفاتيح الغيب ج 16 ص 54، 58، 59.
[2] رواه البخارى ومسلم، الألبانى، صحيح الجامع الصغيرج ا ص 432.
[3] . ابن العربى، أحكام القران ج 2 ص 803- 805
[4] الرازى مفاتبح الغيب ج 16 ص 45.
[5] رواه ابن ماجه، الألبانى، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 1ص 167 المكتب الاسلامى 1405 هـ..
[6] البقاعى، نظم الدرر جـ 4 ص 160.تعليق
-
موضوع السورة:
بينما كان موضوع السورة في الأنعام ينظم علاقات الناس في الأكل والشراب والنكاح علي مستوى المجتمع ، وهي الغرائز التي انبنت عليها غالبية أحكام الشريعة من معاملات وحدود ، تقوم سورة الأعراف بالرعاية النفسية للإنسان ليستطيع مقاومة تزيين هذه الشهوات بإغواء شياطين الإنس والجن .
الأمر بالقسط
موضوع السورة يدور علي طريق إدارة الغرائز ، بتوجيهها إلي الحلال ، وإبعادها عن الفواحش . وأخذنا عبرة التاريخ بالتحديد في قصة آدم وكيف أخرجه إبليس من الجنة بإثارة غرائزه . وكيف انتقم الله من قوم لوط لإصرارهم علي الفاحشة . وعلي بني اسرائيل لعدم تخليهم عن صيد الحيان ، وعلي عدم اتباع آيات الله واتباع الهوي والركون إلي الدنيا ، وكيف خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات .
يقول تعالي: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ورِيشاً ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا واللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وأَقِيمُوا وجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)
والقسط الذى أمر الله به هنا ، هو السبيل إلي صلاح الإنسان والأمة . ثم التعريف بطريق دحر الشيطان من الذكر وقراءة القرآن .
ولما كان أهم متع الدنيا، الزينة فى المظهر والسمت، واللذة الجنسية التى جعلها الله وسيلة لبقاء الجنس البشرى، ولذة الأكل والشراب التى جعلها الله وسيلة لبقاء الإنسان. فإن منهج الحياة يقيمه ربنا تبارك وتعالى على القسط أى العدل، فلا بغى على الناس ولا جبن، وفى الجنس شرع النكاح ونهى عن الفحش أو الرهبانية. وفى الزينة أمر بالنظافة والجمال فى غير تكلف وتكبر أو إهمال وقذارة، وفى الأكل والشراب أباح الطيبات من الرزق دون إسراف أو إضاعة.
والمسيرة التاريخية بين المبدأ والمعاد تتأرجح فى اتجاهين متطرفين: الاتجاه الأول هو الذى يعتمد على الجانب المادى فحسب، وهو يتجلى فى الفنون والصناعات والمؤسسات، وتتحدد غايته فى الزينة والاستمتاع. والاتجاه الثانى ينظر إلى الحياة من جانبها الروحى فحسب، فينعزل ويتقشف، ويدع الدنيا وزينتها. فإذا ساد الاتجاه الأول فإن المدنية لا تنمو إلا فى الآلات والمبانى، ولا تهدف إلا إلى الترف والبذخ والمظهرية. ومن ثم تظهر أعراضها فى العرى والنهم. فينضب فى قلوب الناس معانى الرحمة والبساطة والعفة. أما إذا ساد الاتجاه الروحى الذى يهمل الحس والجسم وينبذ الحياة، فإن الحضارة تذوى، ويقف نمو الإنسان الفكرى والمادى، وتتحول الحياة الناشطة إلى خراب.
وأمر ربنا تبارك وتعالى بالقسط، وهو الأمر الوسط بين الإفراط صاعدا فى الحد وفى التفريط هابطا به [1].
إن ستر العورة تقوى وإصلاح، وعلى أساسها تتحقق العفة التى تصون صحة النسل وامتداده، وذلك لازم لسنة الله فى الاستخلاف والإبتلاء، كما تصون الأسرة التى هى محضن الرحمة، ولبنة المجتمع فيخرج منها عناصر سوية طيبة، ويتراحم الناس بصلة القربى، حيث يتلاقى البشر فى أنس، ويتواصلون فى مودة وبر، ويتلاحمون أمام الخاطر والملمات. وحين تكشف العورة تظهر الفاحشة ويشيع الفساد،[2] فتتحطم الأسرة وتبهت القرابة، فلا يعرف الأبناء آباءهم، ولا يرتبط الزوج بحليلته، فتنمو القساوة والأزمات النفسية، ويضيع الأبناء فى تيار الحياة، وتنتشر الأمراض والآفات، ويحل المقت والبلاء.
وستر العورة باللباس، وإن كان يحمى المجتمع من الانحراف، لكنه ليس الضمان الوحيد للعفة بالنسبة للفرد، فلا بد أن يكمل بلباس التقوى، التى تحصن الإنسان من الفواحش ظاهرها وباطنها.
إن ستر العورة مقصوده الأساسي هو حماية المجتمع من الفتنة ،في الدرجة الأولي ، أما الذى يحمي المرأة من الفتنة في الدرجة الأولي فالتقوى . فاللباس الذى يستر العورة واللباس الذى هو التقوى ، عنصران متلازمان وضروريان لتحقيق العفة في المجتمع .
فتبين السورة بها وفق ما أمر الله، بستر العورات ومن يتقى الله فلا يمتلئ قلبه إلا بالعفاف، ويشهد ألا إله إلا الله، ويتجه إليه بالدعاء والإخلاص، فلا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا يرتكب الآثام والموبقات، ولا يبغى على عباد الله، فقد استقام على صراط الله المستقيم، وحقق غاية الوجود فى كيان أمة يرضى عنها الله، وفى مسيرة التاريخ وفق ما أراد الله، ومن هنا يتحقق الفلاح ويثاب بخير الحياة الدنيا، وكان له النعيم خالصا يوم القيامة. فيبين المقطع منهاج أمة الرسالة الذى يقوم على الأسس التالية:
ا- القسط: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ .
2- التوجه إلى الله بالعبادة : وأَقِيمُوا وجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ.
3- الاستعانة بالله والإخلاص لله: وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..
4- أخذ الزينة والاعتدال فى الأكل والشراب: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا.
ومنهاج الكافرين يعرف بما يلى:
1- الفحش: قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ.
2- الإثم : والإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ.
3- الشرك: وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً..
4- القول: وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ..
" يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركى العرب، والمحرمين منهم أكل ما لم يحرمه الله عليهم من حلال رزقه، تبررا عند نفسه لربه: خذوا زينتكم من الكساء واللباس عند كل مسجد، وكلوا من طيبات ما رزقتكم وحللته لكم اشربوا من حلال الأشربة لا تحرموا إلا ما حرمت عليكم فى كتابى أو على لسان رسولى محمد (ص).[3]
إن الله أباح الزينة لعباده فى اعتدال دون إفراط أو تفريط، تماما كما أباح الطيبات من الرزق دون إسراف أو تقتير، وهى مثاب عليها فى الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: (ولا تسرفوا ) معناه: ولا تفرطوا، قال أهل التأويل: يريد: ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله عز وجل، قال ابن عباس رضى الله عنهما: ليس فى الحلال سرف، إنما السرف فى ارتكاب المعاصى. قال القاضى أبو محمد رحمه الله: يريد فى الحلال القصد، واللفظ يقتضى النهى عن السرف مطلقا، فمن تلبس بفعل حرام، فتأول تلبسه به، حصل من المسرفين وتوجه النهى عليه. ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن، وإن أفرط حتى دخل الضرر، حصل أيضا من المسرفين وتوجه النهى عليه، مثل أن يفرط إنسان فى شراء ثياب ونحوها ويستنفذ فى ذلك جل ماله، أو يعطى ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه، فالله عز وجل لا يحب شيئا من هذا، وقد نهت الشريعة عنه [4].
وتختم السورة بأوامر تحصن المجتمع والفرد من الفواحش وتحضه علي القسط وهي :
*1*أخذ العفو والأمر بالعرف والإعراض عن الجاهلين
يقول تعالي: خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ (199)
أ- وصية من الله عز وجل لنبيه (ص) تعم جميع أمته، وأمر بجميع مكارم الأخلاق... وقال الجمهور فى قوله سبحانه (خُذِ العَفْوَ ) إن معناه: اقبل من الناس فى أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوا دون تكلف، فالعفو هنا: الفضل والصفو الذى تهيأ دون تحرص...[5]
ب- أما القسم الثانى: وأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وهو الذى لا يجوز دخول التساهل والمسامحة فيه، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف... والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به، وأن وجوده خير من عدمه، وذلك لأن هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال، لكان ذلك سعيا فى تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز.
ج- ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر منه، فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى فى آخر الآية: وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ .[6]
*2*الاستعاذة بالله
يقول تعالي: وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
ويأمرنا الحق تبارك وتعالى بالاستعاذة به مما يلقيه الشيطان، وهنا يحدث التذكر الذى يوقظ المؤمن.
اعلم أن نزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه فى القلب بما يسول للإنسان من المعاصى. عن أبى زيد: نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقيل النزغ الإزعاج، وأكثر ما يكون عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، وتقرير الكلام أنه تعالى لما أمره بالعرف فعند ذلك ربما يهيج سفيها ويظهر السفاهة، فعند ذلك أمره تعالى بالسكوت عن مقابلته... ولما كان من المعلوم أن عند إقدام السفيه على السفاهة يهيج الغضب والغيظ ولا يبقى الإنسان على حالة السلامة، وعند تلك الحالة يجد الشيطان مجالا، حمل ذلك الإنسان على ما لا ينبغى، لا جرم بين تعالى ما يجرى مجرى العلاج لهذا الغرض فقال: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ .[7]
*3*ذكر الله
يقول تعالى: واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ والآصَالِ ولا تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ (205)
*4*الاستماع للقرآن
قوله تعالى: (وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
من رحمة الله بالناس أن أنزل كتابا يتلى فيتذكر العباد غاية الوجود، فيظلون دائما على وعى فلا يغفلون، أوتلهيهم الدنيا فيعدلون عن صراط الله المستقيم.
ويبين للمؤمنين طريق الفلاح فى الاستماع والإنصات للقرآن العظيم، ودوام الذكر(واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودُونَ الجَهْرِ) فى كل حين، فيكون كالملائكة فى التشريف والمنزلة، إذا ما كان حالهم كحالهم من التواضع وإدمان العبادة والتسبيح والسجود والتواضع للعلى الكبير.
المناسبة
سورة الأعراف مقصود بها قصص الأمم فافتتحت بقوله تعالى:
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ومَا كُنَّا غَائِبِينَ .
وختمت بقوله تعالى: فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ .
وبدأت السورة ببيان " أن هلاك من نقص عليك خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس. ثم أتبع ذلك بقصة آدم عليه السلام، ليبين لعباده ما جرت سنته فيهم، من تسلط الشيطان وكيده وأنه عدو لهم.. ووقع فى قصة آدم هنا ما لم يقع فى قصة البقرة من بسط ما أجمل هناك، كتصريح اللعين بالحسد، وتصور خيريته بخلقه من النار، وطلبه الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له فى ذلك، ووعيده ووعيد متبعيه، ثم أخذه فى الوسوسة إلى آدم عليه السلام وحلفه له، وكل هذا مما أجمل فى سورة البقرة ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها. أعنى أنها تفيد، مهما تكررت ما لم يكن حصل منها أو لا. ثم انجرَّت الآى إلى ابتداء قصة نوح عليه السلام واستمرت القصص إلى قصص بنى إسرائيل. فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط فى قصة آدم وما جرى منه ومحنة إبليس. وفصل هنا الكثير وذكر ما لم يذكر فى البقرة.. ومن عجيب الحكمة أن الواقع فى السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف. وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله. فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة [8].
ويمكن ذكر فوائد الألفاظ المختلفة مع ألفاظ سورة البقرة فيما يلى:
ا- قال تعالى فى سورة البقرة: ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ وقال هنا : اسكنوا ،فالفرق أنه لابد من دخول القرية أولاً، ثم سكناها ثانياً.
2- والدخول حالة مخصوصة كما يوجد بعضها ينعدم، فإنه إنما يكون داخلاً فى أول دخوله، وأما ما بعد ذلك فيكون سكنى لا دخولاً.
إذا ثبت هذا فنقول: الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار، فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب بعده. فلهذا قال: ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ وأما السكون فحالة مستمرة باقية، يكون الأكل حاصلاً معه لا عقيبه. فظهر الفرق.
3- أنه ذكر فى سورة البقرة: رغدا، وما ذكره هنا. فالفرق أن الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ، لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم، ولما كان ذلك الأكل ألذ لا جرم أن ذكر فيه قول رغدا. وأما الأكل حال سكون القرية، فالظاهر أنه لا يكون فى محل الحاجة الشديدة ما لم تكن اللذة فيه متكاملة، فلا جرم أن ترك قوله رغداً فيه.
4- وهو قوله فى سورة البقرة: وادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وقُولُوا حِطَّةٌ وفى سورة الأعراف على عكس منه، فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر، "وهذه السورة تدور حول الدعاء تضرعاً وخفية، فكان الأنسب تقديم قول حطة".
5- وهو أنه قال فى سورة البقرة: خَطَايَاكُمْ ، وقال ها هنا: خَطِيئَاتِكُمْ فهو إشارة إلى هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة، فهى مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع.
6- وهو أنه تعالى قال فى سورة البقرة: وسَنَزِيدُ بالواو، وهنا حذف الواو. فالفائدة فى حذف الواو أنه استئناف. والتقدير: كأنه قال: وماذا حصل بعد الغفران؟ فقيل له: سنزيد المحسنين.
7- وهو الفرق بين قوله: أَنزَلْنَا وبين قوله أَرْسَلْنَا فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بها، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل، ثم جعل كثيراً، نظير الفرق بين انفجرت وانبجست (الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة).
8- وهو الفرق بين قوله: يظلمون ، وبين قوله يفسقون، فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين، لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين، لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى فالفائدة فى ذكر هذين الوصفين: التنبيه على حصول هذين الأمرين [9].
[1] البقاعى: نظم الدرج 3 ص 24.
[2] الجصاص من أحكام القرآن ج 3 ص 130 دار الكتاب العربى.
[3] الطبرى، جامع الببان ج ه ص 469.
[4] ابن عطية، المحرر الوجيز ج5 ص 482.
[5] ابن عطية، المحرر الوجيزج6 ص 185- 186.
[6] الرازى، مفاتيح الغيب ج 16 ص 78.
[7] الرازى، مفاتيح الغيب ج 16 ص 79.
[8] البقاعى، نظم الدرر جـ 3 ص 5، 6.
[9] الرازى: مفاتيح الغيب جـ 15، ص 30.تعليق
-
سنن الحضارات
كما تبينها سورة الأنعام
بعد أن بين الله تعالى القواعد التى تقوم عليها الأمة المسلمة فى سورتى البقرة وآل عمران، ثم حدد حقوق الإنسان والجماعة وواجباتهما فى سورتى النساء والمائدة، أخذ بأيدينا فى سورتى الأنعام والأعراف لتعريفنا بعوامل قيام الحضارات واندحارها وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم مصطلح "الاستخلاف ".
السنن والحضارة:
المدنية لغة من مادة مدن، متصلة بالمدينة والعيش فيها، وهى فى عرفنا الجارى تعنى الجانب المادى والمظهرى فى الحياة من بيئة طبيعية، ومنشآت إنسانية، وسلع إنتاجية، وما يرتبط بها من نظم وقوانين.
والثقافية تعنى التشذيب والتهذيب والتقويم والخدمة والفطانة، ونعرفها اليوم على أنها ما يقابل المدنية من الناحية المعنوية فى حياة الناس، بما فى ذلك ما يتصل بالروح والفكر والعقل والذوق والمشاعر، فهى تعنى الحياة الروحية والفكرية والعلمية والأدبية والفنية.
والحضارة بمفهومها الحديث هى جماع المدنية والثقافة، أى الحياة بأحاسيسها وأشواقها بتقاليدها وتطلعاتها، وهى إذن المؤشر الذى يميز بين أمة وأمة.
إن مقياس التقدم فى المدنية الغربية الآن مرتبط بالقيم المادية فحسب، ولهذا يقيسون ازدهار الأمم وتخلفها بمقدار الدخل الذى يحصل عليه الفرد، فالدول التى يزيد دخل الفرد فيها عن كذا دولار تعتبر متقدمة والتى تقل عنه تعتبر متخلفة.
ولقد تهافت رجال من النخبة المثقفة فى العالم المسلم على موائد الغرب، يأخذون منه دون تمييز بين التقدم المادى والانحدار القيمى، معتقدين أن هذا التفوق المادى لا يمكن الوصول إليه إلا بالأخذ الكامل لكل مفاهيم الغرب وسلوكياته.
وفى السورة يبين ربنا تبارك وتعالى أن الحضارة لا تستمر ولا تثمر إلا إذا قامت على عنصرين:
ا- الإبداع المادى 2- القيم الإيمانية.
فإن انفرد أحدهما دون الآخر كان ذلك إيذانا بدمار هذه الحضارة .
ولا يمكن أن تقوم الحضارة على قيم روحية فحسب، فالرهبانية الانعزالية تجفف ينبوع النعم، وتؤدى بالعمران إلى الأفول والبوار، ولابد إذن لقيام الحضارة أن يقوم الإبداع المادى فى حضن القيم الإيمانية.
إن الإنسان خلق من طين ثم كرمه الله بنفخة من روحه. وبذلك ألهمه الفجور والتقوى والهدى والضلال. فهو يصفو حتى يطاول السماء، ويهبط حتى يكون كالأنعام. وهو فى صفائه يظل مشدوداً إلى الأرض، وفى كبوته يظل متطلعاً إلى السماء. وبهذا كان فى إمكانه أن يصلح وأن يفسد، وأن يتقى وأن يفحش، وأن يعدل وأن يظلم.
وما تميز الإنسان عن الحيوان إلا بالروح التى نفخها الله فيه، وما استقامت له حياة إلا حين تلقى الوحى من ربه وعمل به، وكان الله لطيفا بعباده بإرسال الرسل، حين ينتكس البشر فى جاهلية بعد إسلام، ليأخذ بأيديهم إلى الحق والخير. وظلت الرسل تترى حتى أذن الله بحفظ الوحي وختم الرسالات بمحمد (ص)، فكان الإسلام هو شاطئ النجاة للبشر، وملجأ الأمان للعباد، ببيانه للحق، وهدايته للصراط المستقيم.
ويبين القرآن بوضوح أن التحولات الكبرى فى العالم، والتغيرات الجذرية فى حركة التاريخ، ومنها صعود وهبوط الحضارات، يرتبط ارتباطا عضوياً بنوع القيم التى تحرك الإنسان وهو يضرب فى الأرض. والإبداع المادى وحده، وفق تجارب الإنسانية، لا يشكل حافزاً للنهضة وامتلاك زمام التفوق وتحقيق الرخاء إلى أمد طويل. ولا يمكن له مهما تطورت مفاهيمه أن يحافظ على المستوى الموجود، أو أن يحقق مزيداً من التقدم، إذا ما غابت قناعة الإنسان ودأبه، وأحس بالمسئولية واستعد للتضحية، وهذا لا يتحقق إلا بالإيمان والإسلام. ولقد رأينا أمام أعيننا انهيار العالم الاشتراكى المدوى بسبب سلبية الإنسان ويأسه، نتيجة فساد المنهج وطغيان السلطة. فالقوة العسكرية لم تهزم الاشتراكية، ولكن هزمتها الروح الإنسانية. والغرب اليوم يترنح نتيجة فقدان الإنسان توازنه، فالتركيز على الرفاهية المادية وحدها، يعصف بمنجزاته ويهدد بدمار مدنيته، فضياع الدين أورث الإنسان عدمية يائسة قانطة، لم تشبعها لذة مؤقتة، ولا مباهج استهلاكية. وغياب القيم دمر الإنسان حيوياً ونفسياً، فمزق الأسرة بأنياب التحلل، وتفشى الظلم فى العالم، فتحول إلى غابة مسلحة بمخالب نووية وكيماوية وبيولوجية قاتلة، يكفى انطلاقها لخراب الدنيا وإبادة الحياة.
ولقد حقق العالم المسلم استقلاله بتضحيات عزيزة من أبنائه، ولكن لأنه غيب الإسلام عن نهضته جرى وراء أفكار غربية كالديمقراطية والاشتراكية، يبست جذوره، وضاع منه سر قوته، وفقد من أقدامه الطريق الوحيد الذى يضمن له نهضته، والقوة التى تدفع التنمية فى مجتمعه، وبهذا تحرك دائماً فى دائرة الإحساس بالدونية، وهو يلهث فى ضعف وراء التقليد والتبعية.
ولا يمكننا أن نعتبر أوروبا متحضرة وهى تعصى الله وتلغ فى الحرام وتمعن فى الظلم. والأمة التى تتخذ مشرعين من دون الله يفسرون لهم بغير سلطان، ويبيعون لهم الغفران، ويزهدونهم فى الدنيا، فى رهبانية تاركين الحياة يدمرها الطواغيت بالإفساد والاستكبار، ليست من الحضارة فى شىء. فالحضارة ليس معناها النمو المادى فحسب، وليس معناها السمو الروحى فقط، وإنما هى ابتغاء ما أفاء الله علينا من نعم الدنيا استثماراً لما أعده الله لنا فى الدار الآخرة.
إن الله تعالى خلق الدنيا وسيلة للآخرة، وسن قوانينها على أن تكون دار ابتلاء وليست دار جزاء، بينما الآخرة غاية لا وسيلة، وكيفت قوانينها لتكون دار جزاء لا دار ابتلاء. لذلك يعطى الله الدنيا لمن أحب ومن لا يحب، ولا يعطى الآخرة إلا لمن أحب. ومن هنا فالمشروع الإنساني لا تقتصر حساباته النهائية على أجل الدنيا، وإنما يمتد إلى أفق الآخرة، وقد يكسب الإنسان الدنيا، ولكنه فى نهاية الحساب يكون خاسراً فى الآخرة.
وسنة الله الماضية فى مسيرة الحضارات تقوم على قاعدة أساسية هى أن القيم الإيمانية مرتبطة تماماً بالسنة الطبيعية لأنها كلها سنة الله فى الأرض. فكما يتفتت كوكب أو نجم حين يخرج عن مساره فى الكون بانحرافه عن النظام العام، تهلك الأمة حين تخالف أمر ربها وتختار الجاهلية بديلاً عن الإسلام.
فالذنوب تهلك أصحابها تماما كما يهلك الوباء أهله، فهى تؤدى إلى الدمار على المستوى الفردى وعلى المستوى الجماعى. إما بقارعة من الله، وإما بالانحلال البطئ الذى ينخر فى جسد الأمة.
يقول تعالي: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
ورغد العيش مرتبط بالإيمان والتقوى، والبركة تظهر آثارها بطاعة الله فى وفرة فى الرزق، وعافية فى البدن ورضا فى النفس، ورعاية من الله تصرف الأذى، وبركة فى المال والولد.
ففى أمة يختفى فيها الاحتكار يزيد الإنتاج بفعل المنافسة فتتوفر الجودة وتنخفض الأسعار، وفى أمة تحرم الربا ينمو الاستثمار ويتلاشى الاستغلال ويطارد الظلم، فيستقر الإنتاج ولا يتخبط، وفى أمة تمنع الميسر تتحرر سوقها من الأزمات والانهيارات، ويأمن ملاكها على مالهم، فيتوفر مناخ النمو والرخاء. وفى مجتمع تجتث فيه الخبائث من الخمر والميتة والخنزير يطهر المجتمع من الرجس والأمراض، ويتحرر الناس من العداوة والبغضاء، وفى مجتمع تصان فيه البيئة من التلوث وتتحرر من الفساد فتبقى صالحة كما خلقها الله، يأمن الناس على حاضرها وعلى مستقبلهم، ويطيب الرزق ويفيض.
والحقائق العلمية تبين كيف أن كفر الإنسان وظلمه هما سبب شقائه ومآسيه. فيشقى بالحاجة فى مكان الوفرة، ويلفه الغم والحزن والخوف وكان فى إمكانه أن يعيش راضياً مطمئناً آمناً. ونظرة واحدة إلى ما يثور بين الأمم من صراعات وحروب نتيجة الاستكبار والعصبية والجهالة، تبين مدى حماقة البشر حين يبذلون الجهد فى تطوير آلات الدمار وتعميق جذور الفتن وتدمير فطرة الإنسان.
ومن رحمة الله بالبشرية لتفيق من خمارها، وتتنبه من غفلتها أن يبتليها بالبأساء والضراء، لتتنبه إلى عجزها وتعرف سنن الله فى الوجود، وتعلم يقينا أن اللجوء إلى الله هو الملجأ الوحيد لأمنها ورخائها، فتسلم لله أمرها، وتتقيه فى نفسها، وتطيعه فى شئونها، وتتجه إليه داعية متضرعة خاشعة خاضعة، وإن استمرت فى غيها فالله غنى عنها، فيأخذها بغتة بياتاً وهم نائمون أو نهاراً وهم يلعبون، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
. يقول تعالي: ولَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَذِينَ ظَلَمُوا والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (45)
وتؤكد الحقائق والتجارب أن أى استراتيجية تضمن تنمية مستقرة لا يتحقق لها النجاح ولا تصل إلى أهدافها وغاياتها إلا بعقيدة تسرى فى دم الإنسان، فلا تهدأ حتى تقيم واقعا محدد المعالم، وقيماًََ تضمن إشباع الروح جنبا إلى جنب مع الإشباع المادى، وشريعة تؤمن البشر من أهواء البشر فى التسلط والاستغلال.
إن كل الحضارات التى صعدت بالإنسان قامت على أساس من الرسالات التى أوحى بها
الله ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن العذاب إلى الرحمة. ولم تعرف الإنسانية فى كل تاريخها أمة تقيم حياتها على المبادئ، وتجاهد لسيادتها فى الأرض، إلا فى الرسالات.
والكون والحياة تحكمهم بذلك سنن ثابتة جعلها الله قانوناً، يتفاعل الإنسان معه ويعمل من خلاله. وهذا شرط ضرورى لاختبار الإنسان، وهو يسعى إلى ربه ليعرفه من آياته فى كتابه وفى الكون والتاريخ، بالحجة والبرهان لا بالخوارق والمعجزات.
وهذه السنن الثابتة هى التى تحكم نمو الحضارات واندحارها. فأى حضارة تقام على القيم الإيمانية وحدها أو القيم الدنيوية وحدها، محكوم عليها بالاندحار. وينبه الله تعالى أنه قد يملى لهم حتى يفرحوا بما أوتوا. ثم يأخذهم بغتة فيكون العذاب أشد إيلاماً. وأن شرط استمرار الحضارة وتحقيقها للحياة الرغيدة لأهلها، أن يتحقق الإبداع المادى فى حضن القيم الإيمانية. فيصاحب الرخاء قيم التقوى والإصلاح.
وينبه الله تعالى أن قوانين الكون والحياة ليست مانعة لطلاقة مشيئته، فهو يتدخل فيها حيثما شاء وكيفما شاء. كما يحدث عندما تنحرف الحضارة عن سبيل المؤمنين إلى سبيل المجرمين، فيأخذها بعذاب من عنده أو من عند أنفسهم.
كما ينبه الله تعالى أن هذه القوانين الثابتة بالنسبة للحضارات لا تنطبق على ابتلاء الإنسان. فالدنيا بالنسبة للمؤمن دار ابتلاء وليست دار جزاء، يبتلى فيها بالخير ليشكر، ويبتلى فيها بالضر ليصبر، وهنا ينال ثواب الدنيا والآخرة. وحاله فى كلا الأمرين خير. عكس الكافر الذى تبطره النعمة وييئسه الضر، وهنا يعذب فى الدنيا والآخرة.
فالله كما يبتلى الناس بالنفع فهو يبتليهم بالضر. ويحدد الله القصد من وراء الابتلاء والضراء بأنه حفز للمؤمنين على التضرع لله، وهذا من أعلى المقامات فى الدنيا. فيُشهد بذلك المؤمن الدنيا على إسلامه، ويطيع أوامر ربه ويستعلى على شهواته. وينتصر على شياطين الإنس والجن الذين يشيعون زخرف القول غرورا، ويواجه أكابر المجرمين فى المجتمع الذين يمكرون بالناس يضلونهم.
وبينما اهتمت سورة المائدة بتبيان الحلال والحرام من الطعام والشراب فى حدود تطهير الإنسان وتوفير احتياجاته الأساسية، تقدم سورة الأنعام الحلال والحرام من الحرث والأنعام فى مجتمع الوفرة والرخاء حيث الجنات المعروشات وغير المعروشات، وفى الحياة الطيبة من الأنعام فى الركوب والفرش والمتاع.
الأساس العقيدي
توضح السورة الأسس التى تقوم عليها الحضارة، ويمكن تلخيصها فيما يلى:
ا- الإيمان فطرة:
تدعو السورة الإنسان إلى فتح منافذ المعرفة عنده، من عقل وحس، على أسرار الكون المنظور، داعية إلى النظر والتأمل فى هذا الكون المعجز، حيث تنطق الدلائل والآيات بالخالق الحكيم العليم.
وتدعو السورة إلى فتح منافذ المعرفة على التاريخ كتاب الزمان، نراه فى آثار القرون السابقة، ونحن نكتشف أسباب نهضتها وأسباب نكستها، لأخذ العبرة ومعرفة الحكمة. وتدعو السورة إلى تدبر كتاب الله الكريم حيث المعجزة الإلهية تتجلى فى هذا الكتاب المقروء، وبه تنقطع الحجة عند الاعتذار بأن الكتب السابقة نزلت على طوائف سابقه، فقد جاء القرآن بالبينة وقامت به الحجة، وتحقق الهدى والرحمة. فالذى يعرض عنه ظالم لنفسه مستحق لعذاب الله.
يقول تعالي: إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ومُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً والشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ (96) وهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وهُوَ الَذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
كل هذه الآيات المنظورة والمقروءة كافية لمعرفة الله تعالى، وهى بطبيعتها خوارق إذا ما عرفتها النفوس السوية والعقول الذكية حق المعرفة، وهى تغنى عن اللجاجة بطلب المعجزات الحسية.
والعقل الراشد لا يحتاج إلى خارقة من الخوارق العارضة ليؤمن بالله. إن السنة المألوفة خارقة لو تأمل فيها، والذى لا يؤمن بالخارقة الكبيرة فى الكون المنظور والقرآن المسطور، لا يؤمن بالخوارق الصغيرة.
إن معارضة بعض البشر للرسل والرسالات تقوم ابتداء على العناد والاستكبار، فآيات الله الكونية، وما أعطاه للرسل من معجزات وما حمله الرسل من هدى ونور، كافية لفتح مغاليق القلوب، وداعية لالتماس سبل الهداية لمن كان صادقاً فى التعرف على الحق، ولمن سمع نداء فطرته وأعمل ما حباه الله من عقل وحكمة.
ويعرض الكفار عن هذه الآيات، وبصلف يطلبون خوارق صغيرة وأمامهم هذه الخوارق الكبيرة فيقولون: لولا أنزل عليه ملك أو يطلبون نزول كتاب من السماء. ولو أنزل عليهم الله ملكا لكان فى ذلك هلاكهم، ولو جعله فى صورة البشر لما استطاعوا التمييز والتبس عليهم الأمر، ولو أنزل الله عليهم كتابا من السماء لقالوا هذا سحر مبين، فهم لا يتأملون الهداية بعقولهم، ولا يقفون أمام إعجازها بقدر ما يشدهم ويكبتهم القهر لحسهم.
ورغم أن حياة الرسول التى نقلت إلينا صحيحة لاشك فيها، من الله فيها عليه بالكثير من الخوارق والمعجزات الحسية، فإن الرسول (ص) أبى إلا أن يبين أن معجزته الخالدة، ممثلة فى كتاب الله العظيم، آية بينة تفتح عقول الناس على آيات الله فى الكون والتاريخ، وتوقظ فطرتهم على التوحيد والتسبيح.
ولهذا رد رسول الله (ص) على من ظن أن الخسوف يوم موت ابنه إبراهيم معجزة بقوله: "إن الشمس والقمرآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله "[1].
ومن هنا نفهم مقصود الآية التي تعبر عن يقين رسول الله صلي الله عليه وسلم في قوله تعالي: قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ (57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ واللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
وهنا تبين السورة ما واجهه رسول الله (صلي الله عليه وسلم ) من إلحاح الكافرين فى طلب معجزات حسية حتى يؤمنوا، ليعتذروا أمام عقولهم القاصرة وأهوائهم الجامحة عن عدم الاستجابة للحق من جهة، متصورين أنهم يضعون الرسول فى موقف حرج، يشفى غليل قصورهم وزيغ أهوائهم.
يقول تعالي :( وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ومَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ونَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) ولَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)
ويقول تعالي: ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ولَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ (8) ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ولَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)
ويقول تعالي: : ولَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
ويوجه القرآن الرسول صلي الله عليه وسلم ألا يأسي عليهم ، ولايحزن علي إعراضهم فيقول تعالي : وإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ (35)
وأن يغلق الباب علي لجاجتهم فيأمره تعالي أن يقول: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
2- حقيقة الغيب
نوه الله تعالى فى كتابه العزيز بشأن العقل والملاحظة الحسية فى تحقيق الرشادة الفكرية بإعمار الأرض،وبدون استخدام العقل والحس فى أمور الدنيا تعشق الخرافة ويجثم التخلف والضياع،والعقل آية الكون المنظور فى ملكوت السماوات والأرض، وآية الكتاب المقروء الذى أوحى به الله إلى رسله.
ولقد أعطى الله البشرية الكون (ملكوت السموات والأرض )، كتاب الله المنظور ودعاهم أن يتأملوه ويتفكروا فى شأنه، ويسيروا فى الارض ليعرفوا التاريخ ويدركوا عبره، ويغوصوا فى أعماق أنفسهم ويعلموا خفى أسرارها. وهذه الآيات كلها تشهد لوحدانيته، وتنطق بعلمه وحكمته.
،إن الإنسان الذى يؤمن بوجود شىء بآثاره، ويدافع عن علمية هذا الإدراك، لا يمكن أن يكون سوئا حين يرى آيات الله فى كونه وخلقه ونفسه، ولا يشهد له بالوحدانية.
يقول تعالي: وهُوَ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ ويَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ ولَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ وهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ (73)
وقد رحم الله البشر بآية مباركة هى الوحى الذى أنزله فى كتاب لهداية العباد وتعريفهم بحقيقة الكون والحياة ورسالتهم فيه. فأرسل الرسل ومعهم الكتاب ليبين لهم ما خفى عنهم ولا يطيقون معرفته بعقلهم وحواسهم من علم الغيب. والعقل السليم حين يتدبر كتاب الله ويشاهد مناحى الإعجاز فيه، يصدق بكلمات الله ويهتدى بها فى حياته وعباداته. وتقوم هذه المدركات الإنسانية بدور بالغ الأهمية فى تحقيق الإيمان فى القلب، بوعى ويقين.
وبعد هذا الإيمان، يقود العقل الراشد إلى الإيمان اليقينى بالغيب، ثم تلقيه من الله كما أوحاه إلى رسله.
تماما كما يحدث فى الظواهر الدنيوية، فعندما سار التيار الكهربائى وأنار، حاولوا أن يدركوا ذلك السيال الذ ى يحتلث فيضىء، وافترضوه دون أن يروه بآثاره، ولليوم يؤمنون بالكهرب " الألكترون" ولم يلمسوه بحواسهم.
إن عدم رؤيتهم للكهرب لم يمنعهم أن يؤمنوا به، ومن الرشد أن يسأل عما لا يمكنه معرفته وأيقن بوجوده. ومن الجهل والغباء أن ينكر وجود شىء لأنه لا يراه، أو يلجأ إلى الخيال لمعرفته دون علم أو يقين.
فالله حق يشهد على ذلك كل ما فى الكون، ولكن معرفة الله تعالى فى ذاته الكاملة وأسمائه الحسنى، التى هى صفات ذاته وفعلها، خلفا وأمرا، فوق متناول العقل والحس. ومن مقتضى علمه وحكمته أن يكون هناك ابتلاء وحساب وجزاء فى الدار الآخرة، فسنن الله كلها تشهد بالآخرة. ولكن العقل لا يمكنه إذا وصل إلى هذه المشارف أن يتجاوز حدوده، فيعرف أحوال الآخرة وحقائقها.
ومن هنا كانت نصيحة رسول الله (ص) لأمته: تفكروا فى خلق الله، ولا تفكروا فى الله[2]
فليس إلا الله يبين للإنسان حقيقة الكون والحياة ورسالته فيه. ومن ثم فإن شرعه الحياة التى تحدد له الصراط المستقيم خصيصة للالوهية، إذا ادعاها البشر لأنفسهم تحيزوا لأنفسهم أو أهلهم أو قومهم فظلموا العباد بأهوائهم، أو اعتمدوا على الظن وتخبطوا فى الضلال لعجزهم عن معرفة الصراط المستقيم، فى كون متسع يؤثر فى واقعه، وزمان متصل بماضى وممتد إلى مستقبل مغيب، ونفس تغمض أغوارها إلا على خالقها.
ولولا أن الله هدى ورحم عباده بإرسال رسلهم، لكانت حياة الإنسان ضلالا وعذابا، وتخبطا وشقاء. ولكان بطن الأرض خير من ظاهرها. فإرسالهم ضرورة تتفق مع حكمة الله وإعذاره للناس.
ومع الرسل أنزل الله الكتب فيها البيان الشافى عن حقيقة الكون والحياة، وفيها شرعة الحياة ومنهاجها الذى يهدى إلى سبل السلام.
وكان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة حتى ختمت الرسالات بمحمد صلي الله عليه وسلم، وحفظ الوحى من النسيان والتحريف، فكانت الحجة على الناس كافة فى كل مكان، وكان فيه النجاة والهدى والرحمة لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
والخبر الصادق يعتبر مصدرا يقينا من مصادر المعرفة، وإلا لما تيسر للإنسان علم ما يسعفه فيه عمره وسدرته. ولهذا يعجب ربنا تعالى من قوم لا يقدرونه حق قدره حين ينكرون الرسالة. فمن مقتضى حكمته أن يبين للإنسان ما غيب عنه، كيلا يكون للناس حجة بعد الرسل. ومن ثم كان الكتاب مباركا لكل ذى عقل سليم ليعرف ربه فيعبده ولا يعصاه. وكان ذلك الحشد من الرسل والأنبياء الذين ذكرهم الله بعد قصة إبراهيم عليه السلام. فهم حملة منارات الهدى بما حملهم الله تعالى من الكتاب والحكم والنبوة، يقتدى بهم المؤمنون على مدار الزمان، ليتذكروا رسالتهم ويعرفوا غايتهم فيسيروا على الصراط المستقيم والذين يحادون هذه الحقيقة، ويواجهونها بالخوض واللعب، سيرون سفاهتهم حين يحين موتهم أو ينزل الله العذاب بقومهم.
. يقول تعالي¨ ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وتُخْفُونَ كَثِيراً وعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ ولا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ ولَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ ومَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ولَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ والْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
وعند اكتمال العقل مع الوحى فى قلب إنسان، يصل الإنسان إلى قمة الرشادة. وتعمر نفس الإنسان بحقيقة التوحيد.
وحين يقوم المجتمع على هذا الإيمان ولا يشوبه شرك، يتحقق له الأمان والاطمئنان، فلا خوف ولا حزن، ويمتلئ بالرضا والسكينة. ويتحقق النماء والرخاء. وهنا تزدهر الحضارة ويرفع الله درجات أهلها فى معارج الدنيا والآخرة.
أما هؤلاء الذين أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا من أشياء وأحياء وأموات، فتمتلئ حياتهم بالخوف والحزن، سواء من طواغيت الإنس والجن، أو من الأوهام والأباطيل فهم فى خوف من أشباح غير حقيقية لا تستحق الاهتمام من العقلاء، بل العاقل من خاف من الله الحق فلا يشرك به ما لم ينزل به سلطانا. والشرك بذلك سبب رئيسى فى حبوط أعمال المشركين وأفول حضارتهم، ثم يوكل الله شرف إبلاغ الرسالة إلى قوم آخرين.
وحتى لو أمهل الله الكافرين، وحتى لو أملى لهم ففتح عليهم أبواب كل شىء، فإن مصير الأفراد غير مصير المجتمعات. فالموت آت لا ريب فيه ويحم بالإنسان دون إنذار، وعندئذ يترك كل ما بيده من الدنيا، حيث لا تنفعه شفاعة، ولا يؤازره ما كان يعبد من دون الله، فتنزع الملائكة روحه وتلقى بها إلى عذاب الهون جزاء افترائه واستكباره.
وقد كان هذا هو الأسلوب العلمى الذى يهتدى به الراشدون فى المعرفة الحقة. وقد كان هذا منهج إبراهيم عليه السلام وهو يعلم قومه ويهديهم سبيل الرشاد. وهى الحجة التى أتاها الله إبراهيم على قومه، ومنهج الأنبياء وأتباعهم من قبله ومن بعده لإقامة الحجة على العباد. وكان تكريم الله لهم بالهداية والأمان، وتشريفهم بالكتاب والحكم والنبوة، فجعلهم الله منارات للهداية، ورموز للاقتداء على مدار الزمان.
يقول تعالي: وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)
لا إله إلا الله
"وأشهد أن لا إله إلا الله كلمة قامت بها الأرض والسموات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها تقاسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، فهى منشأ الخلق، والأمر والثواب والعقاب، وهى الحق الذى خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد. وهى حق الله على جميع العباد، فهى كلمة الإسلام ودار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون. فلا تزول قدم للعبد بين يد الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارا وعملا، وجواب الثانية بتحقيق أن محمد رسول الله معرفة وإقرار وانقياد وطاعة ".[3]
فحقيقة لا إله إلا الله هى المحور الذى يدور عليه الكون والحياة، حيث سنة الله لا تتبدل، وكل ما فى الكون خاضع لمشيئة الله، القمر يدور حول الشمس فنعرف حساب الزمان، والنبات والحيوان خاضعان لسنة فى نموهما وبقائهما. الله هو الذى يخرج الحب من النوى والحى من الميت والنهار من الليل. ويسقط المطر فيخرج به الحب والنخل والعنب والزيتون والرمان. والنظر إلى ثمره وينعه، يرينا آيات الله الباهرة.
يقول تعالي : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ (102)
ويقول سبحانه : اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ (106)
فالأمة المستخلفة من الله فى الأرض تقيم حضارتها على توحيد الله وتنزيهه عن الشرك واجتناب الفواحش ومنها الزنا وقتل النفس، والإحسان إلى الوالدين، ورعاية اليتيم والمحافظة على ماله، والقسط فى المعاملات، والعدل فى القول، والوفاء بالعهد.
وينتج عن هذا التحرير الكامل للبشر من أشباح الخوف من الأوهام والحزن على المتاع القليل، ويبث فى النفوس كل عوامل الأمن والاطمئنان.
وسورة الأنعام تبين القيم العليا التى تشكل الحضارة الإسلامية وأعظمها التوحيد الخالص، وهو أهم وأول الوصايا التى نزلت فى السورة. فهو قاعدة كل علم حق وكل حضارة صالحة، فأى علم لا يقوم على أساسه علم باطل لا يتجاوز الدنيا بمتاعها القليل وعمرها القصير. وأى عمل لا يدور حول محوره إنما هو عمل حابط لأنه يصطدم بسنن تدير الكون كله فى حركته ونحو غايته.
فعقيدة (لا إله إلا الله) التى تكشف للمؤمن حقيقة الوجود، وتحدد له رسالته التاريخية ما تكاد تستقر فى الضمير حتى تحرك صاحبها لتحقيق واقع محدد المعالم، مطلوب إنشاؤه بحافز لا يهدأ حتى يقام،. فهو يقيم الشهادة أولاً فى نفسه بأن يطابق بين واقع حياته وبين ما يعتقد، ويطابق بين مجتمعه وبين ما يهدف إليه الدين من غايات وما يحققه من قيم، ويدعو إليها الناس جميعا حتى يتحرر العباد من كل ظلم وقهر واستبداد.
ومن أجل ذلك خلقت السماوات والأرض، وتوالى الليل والنهار، وسيرت الرياح ونزل المطر، وأخرج الحى من الميت والميت من الحى، واستخلف الإنسان فى الأرض.
والسورة تقدم حقيقة التوحيد على محورين:
ا- توحيد الله فى عالم الغيب، فهو الرازق الذى يطعم ولا يطعم، وهو النافع الضار، وهو المحيى المميت. وأى نسبة لهذه الفاعلية لشىء أو حتى معناه شرك بالله وفساد فى الاعتقاد. وبعد عن الحق.
2- توحيد الله فى عالم الشهادة. فلا تشريع إلا من الله، وإذا أحل البشر ما حرم الله، أو حرموا ما أحل الله، فقد أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.
عبرة التاريخ
تقدم السورة في قصة إبراهيم عليه السلام نموذجا لأسلوب الاستدلال علي الإيمان بالله تعالي ، وذلك باستخدام العقل والحس في النظر إلي الحكمة في خلق السموات والأرض .
اعلم أنه سبحانه كثيرا ما يحتج على مشركى العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل، فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقريين بأنهم من أولاده، واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلال قد ره. فلا جرم ذكر الله حكاية حاله فى معرض الاحتجاج على المشركين.
يقول تعالى: وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (74) وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
" الملكوت هو الملك، والتاء للمبالغة، كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة.
وكانت الإراءة بعين البصيرة والعقل، لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
أ- أن ملكوت السموات عبارة عن ملك السماء ،وقدرة الله لا ترى، إنما تعرف بالعقل، وهذا كلام قاطع، إلا أن يقال المراد بملكوت السماوات والأرض نفس السموات والأرض، إلا أن على هذا التقد ير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه قائدة.
ب- أنه تعالى ذكر هذه الإراءة فى أول آية على سبيل الإجمال وهو قوله: (وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ، ثم فسرها بعد ذلك بقوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً)
فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة. فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال.
ج- أنه تعالى قال فى آخر الآية: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه )، والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه، لأنهم كانوا غائبين عنها، وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم فى تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة، وإنما كانت الحجة التى أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذى نطق به القرآن. فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم، كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم.
د- إن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضرورى بأن للعالم إلها قادرا على كل الممكنات. ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم.
ألا ترى أن الكفار فى الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم فى تللث المعرفة مدح ولا ثواب. وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذى يفيد المدح والتعظيم.
هـ- أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل، إذا كان مسبوفا بالشك. وقوله تعالى: (وليكون من الموقنين ، كالغرض من تلك الإراءة، فيصير تقدير الآية: نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين. فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل، وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال.
قوله تعالى:( وحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدَانِ ولا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ولا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ (82) وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وعندما أتى إبراهيم عليه السلام بهذه الحجة القاطعة التى لا يمكن إنكارها، تمسك قومه بالضلال وأصروا عليه، بل خوفوه بغبائهم أن تضره وتؤذيه الأصنام التى لا تضر ولا تنفع، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: وكيف أخاف الأصنام التى لا خطب لها، وهى حجارة وخشب، إذا أنا نبذتها ولم أعظمها، ولا تخافون أنتم من الله عز وجل، وقد أشركتم به فى الربوبية أشياء لم ينزل بها عليكم حجة؟
ثم تساءل على جهة التقرير: من أحق بالأمن؟ ثم أجاب: إن ذلك ليس إلا للمؤمن الذى نزه إيمانه عن الشرك.
ولذا نزل قوله تعالى: (الَذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ )، شق ذلك على المسلمين فقالوا يارسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان: [4].
ويتحقق الأمن فى واقع مجتمع التوحيد بما يلى:
ا- توحيد الله تعالى فى عالم النفع والضر يحرر الإنسان من الخوف على حاجته، سواء كان هذا الخوف من خزعبلات خرافية أو من طواغيت سلطانية. فيتحرر من كل عوامل الخوف .
2- توحيد الله تعالى فى الرزق، يحقق للمؤمن تحررا من الخضوع لغير الله حيث لا يملك أى شىء أو حى دفع الرزق إليه. وهنا لا يفرح بما أوتى ولا يحزن على ما فاته.
3- توحيد الله فى العبادة يحرر الإنسان من ضغوط وهمية اخترعها أصحاب مصلحة ليضمنوا ولاء العامة لهم بتخويفهم بالخرافات والاستفادة من هذا الخوف بالمال والجاه.
4- التوحيد يحرر الناس من هؤلاء المفترين الذين شرعوا للعباد بغير ما أنزل الله فحرموا طيبات أحلت للناس من بهيمة الأنعام وغيرها.
5- توحيد الله فى التشريع يحرر العباد من الخبائث التى تضر أجسادهم وأرواحهم، كالميتة والدم ولحم الخنزير، ويرد باطل شياطين الإنس والجن الذين يحلون ما حرم الله بغيا وافتراء.[5]
موضوع السورة
تبين السورة على هذا الأساس نقطة الافتراق بين الصراط المستقيم الذى خطه الله كسبيل لمسيرة المؤمنين، والفرق الشتى المتعددة، والشيع المتناحرة، والسبل الشتى التى يشقى فيها الكافرون باتباعهم سبيل المجرمين.
فهناك نوعان من السبل: سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين، وعليه يفترق الطريق بين نوعين من الحضارات، الحضارة التى تقوم على تقوى الله وطاعته، فتنشئ الإبداع المادى فى حضن القيم الإيمانية، وتعيش حياتها وهى ترنو إلى الآخرة، فيكفل لها الله حياة طيبة فى الدنيا وجزاء حسنا فى الآخرة، ونوع آخر من الحضارات تكون كل غاياتها محصورة فى شهوات الدنيا، وتجعل هذا الهدف هو محل اهتمامها الوحيد. يقول تعالي:
وقَالُوا إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ومَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وهنا يملى الله لهم ويزيدهم من شهواتها، حتى إذا فرحوا بما أوتوا كان الأخذ أشد إيلاما فى الدنيا ولعذاب الآخرة أشق. وعذاب الدنيا يكون كما تبين السورة، بعذاب من السماء أو الأرض أو انتشار الفتن والصراع بين بعضهم البعض، أو الحروب التى يذيق بعضهم فيها بأس بعض. وهنا تؤكد السورة أن هلاك الحضارات يكون بالذنوب من أصحابها
وهذه نقطة الافتراق بين الاستمتاع الحلال والاستمتاع الحرام، إن عوامل الاستقرار وعوامل الاضطراب، بين آفاق الرحمة وآفاق العذاب فطريق الإسلام هو الطريق الوحيد للحضارة ، والانحراف عن الإٍسلام يؤذن بانهيار الحضارة وشقاوة أهلها ، لأنهم اتبعوا السبل فتفرقوا واختلفوا يقول تعالي: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ومَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39)
ويقول تعالي:وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ (116)
ويقول سبحانه :وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
سبيل المجرمين:
إن قيمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض، فلا يعطاها إنسان لأنه ذو جاه أو مال، وإنما يعطيها الله لمن اطلع على سريرته، وعلم صدقه، فثبته على الحق، وإن كان ضعيفاً تزدريه الأعين. وهذا يشعل الغيظ فى قلوب المستكبرين فيجحدون البينات، ويعاندون الحق. إنه ليس يمنعهم عن الإيمان نقص الحجة والبرهان، وإنما المكابرة والعناد الصفيق. ومن ثم يستعينون بالاستهزاء والسخرية، بديلا عن التبين والتفكر.
" والمشركون على أصناف: منهم عبدة أصنام، أشركوا فى العبودية لا فى الخلق، ومنهم آزر الذى حاجه إبراهيم- عليه السلام- ومنهم عبدة الكواكب، وهم فريقان: منهم من قال: هى واجبة الوجود، ومنهم من قال: ممكنة، خلقها الله وفوض إليها تدبير هذا العالم الأسفل، وهم الذين حاجهم إبرهيم- عليه السلام- بالأفول، ومنهم من قال: لهذا العالم كله إلهان: فاعل خير، وفاعل شر، وقالوا: إن الله وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور، ويلقبون بالزنادقة وهم المجوس، لأن الكتاب الذى زعم زردشت أنه نزل من عند الله سمى بالزند " [6].
ومن هنا افتتحت السورة فى آياتها الثلاث الأولى، وفى قصة إبراهيم- عليه السلام- بالحجج الدامغة على فساد عقيدة الثنوية التى كان يؤمن بها أهل فارس. فالذى خلق السموات والأرض هو الذى خلق النور والظلمة، فهو سبحانه فالق الإصباح، وهو تعالى الذى جعل الليل سكنا.
" وتذكر آيات السور قبح طريقة المشركين فى إنكار البعث... وظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم وسخافة عقولهم بوضعهم الأشياء فى غير مواضعها، وإخراجها عمن هى له، ونسبتها إلى من لا يملك شيئاً، ومن قتل الأولاد وتسييب الأنعام وتحريم ما رزقهم الله افتراء عليه وغير ذلك.
وذكر تعالى فى السورة تفاصيل سفاهة المشركين، وأشار إلى معانيها، وصرح بما أثمرته من الخيبة، وتؤزهم الشياطين الذى يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزا. ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم، الذى لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر، وهم بسفاهتهم خسروا ثلاث خسرات، مع إدعائهم غاية البصر بالتجارات: النفس بقتل الأولاد، والمال بتحريم ما رزقهم الله، فأفادهم ذلك خسارة الدين.
ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها، والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار، وأتقن تقرير هذه الأصول لاسيما فى هذه السورة، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، وعجَّب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً فى إثر توبيخ بتكذيبهم للداعى من غير حجة، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة، مع ادعائهم أنهم أبصر الناس، وبطلبهم للآيات تعنتا، مع إدعائهم أنهم أعقل الناس، وإخلاصهم فى الشدة وإشراكهم فى الرخاء، مع إدعائهم أنهم أشكر الناس، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم، مع إدعائهم أنهم أشجع الناس إلى أن عجَّب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهم سبحانه من حيوان وجماد، ومضوا عليه خلفا عن سلف تنبيها على ضعيف عقولهم وقلة علومهم، وتنفيراً للناس من الالتفات إليهم والاغترار بأقوالهم.. وبين تعالى عظيم ملكه، وشمول قدرته، وباهر اختياره وعظمته، زيادة فى التعجيب منهم فى تصرفه فى ملكه بغير إذنه سبحانه، وشرعهم ما لم يأذن فيه، فى سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد "[7].
وتقسم السورة ظلمات الشركين إلي نوعين : شرك في عالم الغيب ، وشرك في عالم الشهادة .
1- الشرك في عالم الغيب :
يقول تعالى:( وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وخَلَقَهُمْ وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) (100)
(من المشركين من قال أنه لجملة هذا العالم، بما فيه من السموات والأرضين إلاهان: أحدهما فاعل الخير، والثانى فاعل الشر.. واعلم أن المجوس قالوا: كل ما فى العالم من الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وهو المسمى بإبليس فى شرعنا.. فأثبتوا للة شريكا هو إبليس.. وكانوا يقولون عسكر الله هم الملائكة وعسكر إبليس هم الشياطين.. والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين.. فأثبتوا لله شركاء من الجن.
وكان الكفار يقولون الملائكة بنات الله.. وهى مدبرة لأحوال العالم، وهكذا بين الله تعالى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكا له تعالى، ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات، أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله .[8]
وخرقوا معناه افتعلوا وافتروا، وقد كان البعض يتصور أن هذه جاهليات قديمة لعقول متخلفة، حتى طلع علينا آخر القرن العشرين بطائفة تعبد الشيطان، وتتقرب إليه بارتكاب كل ألوان الفجور والانحراف، ولها طقوسها وخزعبلاتها التى جاوزت كل معقول، ودنست كل طاهر بدعوى إرضاء الشيطان. تقدست ذات الله وتنزهت عن الشريك والولد والصاحبة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرأ.
2- شرك في عالم الشهادة:
هدى الله سبحانه وتعالى عباده إلى حكمه رحمة بهم، ولكن الشياطين يزينون للناس استباحة الحرام بألوان شتى من الفلسفات المزخرفة والأباطيل المموهة. وكتاب الله الذى أنزله لعباده تمت فيه كلمته تعالى صدقا فى القول وعدلا فى الحكم، وفى هذا الضمان الوحيد للقسط فى الدنيا والنعيم فى الآخرة، ولقد بين الله تعالى لهم فيه حقيقة الكون والحياة وفصل فيه الحلال والحرام، وبهذا حررهم من أوهام الشياطين ومن ظلم الحكام وقهر الأكابر وتزييف المجرمين، فلا يستطيعون التبديل أو التحريف.
ولقد امتلأت قلوب الشياطين من الجن والإنس بالحقد على المؤمنين، لتكريم الله لهم، ولاستعلائهم على الشهوات، مما لا يحقق لهم العلو والاستكبار. فشنوا حربا مشبوبة بتزيين الباطل لصرف البشر عن حكم الله بفلسفات زائفة من زخرف القول، يترددون فيها من إفراط إلى تفريط، ومن طغيان إلى خسران.
ولعلنا فى عصرنا هذا نرى بوضوح هذه الشعارات الجوفاء، والفلسفات الضالة، فى أوهام الليبرالية الغربية التى عدلت عن حكم الله، والاشتراكية المادية التى جعلت المادة وثنا معبودا. ورأينا كم سخرت أجهزة الإعلام لتضليل الناس، وزخرفت هذه الأفكار بالأباطيل، واستمر أكابرها فى ظلم العباد، والإجرام فى حق البشرية، حتى هوت الاشتراكية غير مأسوف عليها، مخلفة وراءها مآسى تقشعر منها الجلود. وتنهار الليبرالية الغربية اليوم بما شوهت به الإنسانية من انحلال ودعارة، وأشقت به العباد من استعمار واستكبار وحاولت إفساد صلاح الكون بالأنانية والجشع.
وصغت إليها عقول ضائعة، همها فى شهواتها، وخوفها أورثها الذل، لبعدهم عن الإيمان بالله والإيمان بالآخرة، فرضوا بهذه الأباطيل واقترفوا بها كل إثم وفجور.
وهكذا نتج عن طاعة أكثر البشر من دون الله ما يصيب البشرية اليوم من مآسي وعذاب .، وما يهددها من مخاطر ومصائب .
يقول تعالي: وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ (112) ولِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ولِيَرْضَوْهُ ولِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (114) وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (115) وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
وتبين السورة أنواع الشرك بالله فى عالم الشهادة، وذلك فى الحكم والتشريع بغير ما أنزل الله وتبين أنواعه:
· استباحة الحرام كالميتة بزخرف القول غرورا، بدعوى أن ما أماته الله أحق أن يؤكل أكثر مما أماته الإنسان بالذبح.
· الذبح لغير الله تقديساً لظواهر الطبيعة أو لأموات أو لشياطين..
يقول تعالي: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ وإنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وبَاطِنَهُ إنَّ الَذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
· تحريم الحلال من الحرث والأنعام بدون سلطان من الله.
· استباحة قتل البنات .
يقول تعالي: وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلَى اللَّهِ ومَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ (137) وقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ومُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وإن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
ثم بين الله تعالى ما حرمه عليهم من ميتة ودم مسفوح أو لحم خنزير أو ما أهل لغير الله
به، رعاية لطهارتهم وسلامتهم واحتراما لعقولهم، وبين ما حرمه على بنى إسرائيل من كل
ذى ظفر وشحوم البقر والغنم إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، وذلك عقوبة منه تعالى لهم على بغيهم، ورفع ذلك الإصر والأغلال عن المسلمين.
وحكمة التحريم: " طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم فما اجتمعت فيه كان أشد تحريما، وما وجد فيه شىء منها كان تحريمه بحسب.. فمن اغتذى بدنه من شىء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه فى نفسه، ورين على القلب أو صفاء لتقوية ما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به بذكر غيره.. فالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجس للنفس وما أهل لغير الله به فسق يرين على القلب.. وألحق بها فى هذه السورة الخمر لأنه رجس كالخنزير.."[9].
الصراط المستقيم
تبين السورة للمؤمنين سبيل التعامل مع أصناف الناس حسب اختلاف اعتقاداتهم وقيمهم .
· سبيل المؤمنين يقوم على إعلاء قيم الإيمان فوق قيم الدنيا، ومن هنا كان الاعتزاز بالمؤمن وتكريمه واجب مهما كان حاله من الغنى أو الفقر، ومهما كان جاهه من رئاسة أو سلطان. يقول تعالي: ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ (52) وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)
· من سبيل المؤمنين الإعراض. عن الذين يخوضون فى آيات الله، والابتعاد عن الذين يتخذون الدين هزواً ولعباً، مع تذكيرهم بسفاهة عقولهم وسوء مصيرهم. يقول تعالي: وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) ومَا عَلَى الَذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ولَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
· ترك الإساءة إلى الكفار حتى لا يسبوا بجهلهم مقدسات الإسلام، وعدم إثارتهم والبعد عن كل ما يزيدهم كفرا، والاقتراب منهم بكل وسيلة تشرح صدورهم للإسلام. يقول تعالي: ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
ولما أبطل تعالى دين الكافرين كله أصولاً وفروعاً فى التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذى له الخلق والأمر.. فليس التحريم لأحد غيره... فدعاهم إلى الخروج من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال.
والآيات فى آخر السورة مرتبة جملها أحسن ترتيب:
ا- فبدأ بالتوحيد، فى صريح البراءة من الشرك.
2- وقرن به البر بالوالدين، لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق... فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب فى الوجود، فأمر بالإحسان إليهما.
3- ولما أوصى بالسبب فى الوجود نهى عن التسبب فى الإعدام، فنهي عن قتل الأولاد للفقر، فهو الرزاق لكم ولهم. والآباء موسرون ولكنهم يخشون الفقر، فبدأ بتأكيد رزق الولد قبل رزقهم.
4- وأتبعه النهى عن مطلق الفواحش، وهى ما غلظت قباحته، وعظم أمرها بالنهى عن القربان، ولم يفرق بين الظاهر منها والباطن.
5- ثم نهى عن مطلق القتل تنفيراً منه.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس ختمها بما لا يقوله إلا المحب الشفوق، ليتقبلها القلب حين يوصى من يحب، ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها فى النفوس، لا تحتاج إلى مزيد فكر فهى بذلك منهاج العقلاء.
6- ولما كان المال عديل الروح من حيث إنه لا قوام لها إلا به، ابتدأ الآية التى تليها بالأموال، ولما كان أعظمها خطراً وحرمة مال اليتيم لضعفه وقلة ناصره ابتدأ بالنهى عن قربه، فضلاً عن أكله إلا بالتى هى أحسن كتثميره ليحفظ المال حتى بلوغ اليتيم.
7- ثم ثنى بالمقادير من كيل ووزن، لأنهما الحكم فى أموال الأيتام وغيرهم بميزان العدل الذى لا إفراط فيه ولا تفريط.
8- العدل فى الشهادة والحكم. ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب، أمر بألا يحابى طمعاً فى مناصرته أو خوفاً من مضارته.
9- ثم ختم بالعهد لجمعه الكل فى القول والفعل، فأمر بالوفاء بكل ما على الإنسان وله.
10- وختم هذه الآيات أيضاً بالتوصية منه تعالى لهم على ذلك، وهو المحسن إليهم فيما أنعم به. وحض على تذكر هذه الوصية، فتحبون لغيركم ما تحبونه لأنفسكم، وتحكمون لهم بما ترضونه حكماً لأنفسكم "[10].
يقول تعالي: : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُمْ ولا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) ولا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
هذه وصايا الله لقيام الحضارة الصالحة، حيث ترتفع قيم العدل والإحسان، والعفة والأمان، وهذه الوصايا هى الامتحان والابتلاء الذى يختبر به الإنسان، والتى من أجلها خلقت السموات والأرض والجنة والنار، وهى رسالة الإنسان فى الكون والحياة، التى على أساسها جعل الناس خلائف، وعلى وقائعها يكون العقاب والثواب. من أحسن ضوعف له فى الحسنات، ومن أساء فلا يجزى إلا بقدر إساءته، وما ربك بظلام للعباد.
" ثم تختم السورة بتسبيحة التوحيد الطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات وتخلصها لله وحده ، لله رب العالمين، القوام المهيمن المتصرف المربى الموجه الحاكم للعالمين، فى إسلام كامل لا يستبقى فى النفس ولا فى الحياة بقية لا يعبَّدها لله"[11]
يقول تعالي: قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (161) قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباً وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)
المناسبة:
"ذكر الله تعالى فى السورة الخلق والإنشاء لما فيهن من النيَّرين (الشمس والقمر) والنجوم، وفلق الإصباح، وفلق الحب والنوى، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات، وغير معروشات، والأنعام ومنها حمولة وفرش، وكل ذلك تفصيل لملكه..
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك أكثر فيها من ذكر الرب، الذى هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنسانى، والملكوتى، والملكى، والشيطانى والحيوانى والنباتى ..
ولما ذكر تعالى فى سورة المائدة طيبات ما أحل لنا، ثم ذكر بعده أنه تعالى لم يجعل من بحيرة ولا سائبة ولاحام، فأخبر الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله، افتراء على الله، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئاً مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار فى صنيعهم، وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز. ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار فى صنيعهم، فأتى به على الوجه الأبين، والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة. فكانت هذه السورة شرحاً لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال. وتفصيلاً، وبسطاً وإتماماً وإطناباً. وافتتحت بذكر الخلق والملك، لأن الخالق والمالك هو الذى له التصرف فى ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعاً، وتحريماً وتحليلاً. فيجب أن لا يتعدى عليه بالتصرف فى ملكه.. وكل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد:
فأول القرآن سورة الحمد لله الفاتحة.
والربع الثانى الحمد لله الأنعام.
والربع الثالث، الحمد الله الكهف.
والربع الرابع الحمد لله سبأ وفاطر.
وجميع هذه الوجوه التى استنتجتها من المناسبات بالنسبة إلى أسرار القرآن كنقطة فى بحر "[12].
[1] رواه البخارى فى صحيح الجامع الصغير جـ1 ص 338.
[2] ) صحيح الجامع الصغير، للسيوطى، تحقيق الألبانى ج ا، ص 572.
[3] ابن القيم، زاد المعاد ج2، ص 403، المطبعة المصرية.
[4] الألبانى، صحيح صنن الترمذى ج 3، ص 49.
[5] الرازى ،، مفاتيح الغيب ج 13 ص 53-55
[6] برهان الدين البقاعى: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ص 687، 688. دار الكتب العلمية 1995.
[7] البقاعى: نظم الدرر جـ 2، ص 720.
[8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 13 ص ص 92-095
[9] البقاعى: نظم الدرر جـ 2، ص 732- 734.
[10] البقاعى: نظم الدرر جـ 2، ص 740- 743.
[11] سيد قطب: فى ظلال القرآن جـ 3، ص 1240، 1241.
[12] السيوطى، تناسق الدرر فى تناسب السور ص 50- 53 دار الكتاب العربى 1983 م.تعليق
-
بين سورة الأعراف و الأنعام
نلاحظ علاقة سورة الأعراف بسورة الأنعام فى أنه ختمت سورة الأنعام بقوله تعالى:
وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .
وابتدأ سورة الأعراف بقوله تعالى:
كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ .
واهتمت سورة الأنعام بعوامل نهضة الحضارات بالأمم وانحدارها فى قوله تعالى فى أولها: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ.
وافتتحت سورة الأعراف التى تهتم بدروس التاريخ وعبره بقوله تعالى:
وكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ
( واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)
وفي سورة الأنعام عن قوانين الحضارات
يقول تعالي : كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ
ولَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
وفي سورة الأعراف يقول تعالي : ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ
أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ونَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ
ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
وفي سورة الأنعام سبيل المؤمنين يقول تعالي :
وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ
وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
ولا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ
وذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وبَاطِنَهُ
وأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
وفي سورة الأعراف يقول تعالي :
ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
وإن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً
وإن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً
قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِتعليق
-
الولاء
كما تبينه
سورة الأنفــــال
مقدمة
نزلت هذه السورة والمسلمون قلة ، يخافون أن يتخطفهم الناس ، فآواهم الله ونصرهم في بدر وهم أذلة . فكان التأكيد علي ترابطهم وتواصلهم له أهمية قصوى ، في مواجهة كثرة من الأعداء .
الأساس العقيدى :
العقيدة أصل في علاقة المسلم بأخيه ، وعلاقته مع الغير ، لذلك ، فإن عليها تبني حقوقه في النصرة والتحالف ، من ولاء وبراء .
ويكتسب الإنسان خصائصه من عقيدته التي تحدد خلقه وتاريخه . وتصاحب هذه العقيدة صفات محددة تنعكس علي شخصه إذا غاب أو حضر . فالكيان المادى نسيج والعقيدة صبغته ، فهو يتشكل بها ويأخذ أوصافه منها . والعقيدة حين تتشبع بها النفس تصدر عنها قيم بعينها ، ومشاعر بعينها بحيث يوصف الإنسان بها ، ويتعرف عليه من خلالها .
فالعقيدة هي نقطة الافتراق بين الإنسان الراشد والدواب التي لاتفقه شيئا ، إن العقيدة تضع أقدامه علي سر وجوده ، فيفهم أن لوجوده معني ، وأنه ليس مخلوقا فقط للاستمتاع بالأكل والتلذذ بالشهوات ، فهذه يشترك فيها مع الدواب ، بل يكون شرا منها إذا استعمل عقله في العبّ منها والتفنن فيها .
وعلي هذا الأساس تتحدد المعارك والحروب ، حيث تصطدم الغايات والرغبات نتيجة اختلاف النفوس والاهتمامات . فإذا أردنا أن نعرف مسار المعارك علينا أن نعرف العقائد وراء نفوس الناس ، وهذا يجعل رؤيتنا السياسية أكثر دقة وقراراتنا المصيرية أكثر رشادة .
ومن هنا عمرت سورة الأنفال ترسيخ أركان العقيدة في نفوس المؤمنين ، فبينت مقومات صفة الإيمان الحق ، وبينت صفات الكافرين بأعلامهم الشتي ، لتعرف طبيعة نفوسهم وتتحدد مسارات نزواتهم .
وبينت السورة أن الإيمان يتحقق ببذل الجهد لإحداث التغيير إلي الدرجات العلي ، وبدون ذلك يحدث التغيير إلي الدرجات الدنيا . فالإيمان يزيد بالقربات فيستنير القلب وينير الطريق إلي الله والذنوب تظلم القلب وتغبش الطريق إلي الله .
يقول تعالي : وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(51)كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53)كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ ِ كَانُوا ظَالِمِينَ(54)
وتحدثنا السورة عن سنن الله في الحياة ، وبالتحديد في تغيير الواقع إلي المثل الأعلي ، فيبين أن التغيير يأخذ منهجا محدد الخطوات :-
1- التغيير النفسي : ويتحقق بالإيمان ، الذى يكتشف به الإنسان حقيقة الكون والحياة ورسالته فيه .
2- التغيير الاجتماعي : وهو الإسلام ، أى الالتزام بمنهج الله ، حيث تتولد في النفس إرادة طاعة الله والرسول ، ولا تهدأ حتي تقيم واقعا محدد المعالم . وهو التغيير الهيكلي.
3- حماية منجزات التغيير : وذلك بالجهاد لحماية قواعد الحق والخير التي أرادها الله بعباده ، وهي رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
4- الوعد : التغيير شرط لنزول نصر الله . ولا يرتبط النصر بقدرة الإنسان واستطاعته ، فالإيمان وإن كان يمد المؤمن بقوة تعادل العشرة ، فإنه ليس الأداة الوحيدة للنصر ، فجنود الله لا يعلمها إلا هو ، وهو ماحدث في بدر التي تحكي قصتها السورة .
5- الوعيد : الفتنة والفساد يتعاظمان إذا ترك الناس الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والعذاب يعم الجميع إذا ، المفسد وغير المفسد .
و" أخبر الله تعالي أنه لايغير ما بقوم حتي يقع منهم ، أو من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم بسبب ، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم إلي غير هذا من أمثلة الشريعة ، فليس معني الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ."[1]
بدأت السورة في تعليم المؤمنين . فقد سألوا نصيبهم من الدنيا ممثلا في الأنفال ، فكان الرد بيانا لواجباتهم في تربية أنفسهم علي الإيمان .
وبينما عنت السورة في مطلعها بتحرير النفس من جواذب الدنيا الممثلة في الأنفال:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(1)
وفي وسط السورة أظهر الله تعالي سببا آخر للفتنة داخلي يتصل بعرض الدنيا:
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(28)
و ختمت السورة بنفس المعني :
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)
والحد الأدني من الإيمان هو النطق بالشهادتين ، ولكن الإيمان درجات ، يزيد وينقص بالأعمال ، ومن هنا عرفتهم السورة بالإيمان الحق ، يقول تعالي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)
وتبين السورة صفات المؤمنين التي تتحدد بمقتضاها سلوكياتهم وأهدافهم في معركة الحق والباطل . وهذه الصفات تبينها السورة ابتداء في صفات عقيدية هي معرفة الله وانفعال القلب بعظمته ، والتجاوب الإيماني مع آيات القرآن وتلقيه في يقين وخبوت ، وهنا تمتليء النفس بزاد التوكل علي الله فلا تخاف من أحد ولاتحزن علي دنيا .
" واعلم أن هذه الصفات الثلاث مرتبة علي أحسن جهات الترتيب :فإن المرتبة الأولي : هي الوجل من عقاب الله. والمرتبة الثانية : هي الانقياد لمقامات التكاليف لله .
والمرتبة الثالثة : هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله ، والاعتماد بالكلية علي فضل الله ، بل الغني بالكلية عما سوى الله تعالي .
والصفة الرابعة والخامسة : قوله : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ،واعلم أن المراتب الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ، ثم انتقل منها إلي رعاية أحوال الظاهر . ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة ، وبذل المال في مرضاة الله . ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلات والإنفاق في الجهاد ، والإنفاق علي المساجد والقناطر .
واعلم أن الله تعالي لما ذكر هذه الصفات الخمس: أثبت للموصوفين بها أمورا ثلاثة :
1- أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، أى هم المؤمنون بالحقيقة ...
2- لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، لهم مراتب بعضها أعلي من بعض .
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان : الثلاثة الأولي هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية ، وهي الخوف والإخلاص والتوكل ، والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق ، ولاشك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب وفي تنويره بالمعارف . ولاشك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد . فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب ، كانت المعارف أيضا لها درجات ومراتب ....
3- وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ، ومن الرزق الكريم نعيم الجنة ...
والله تعالي خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر علي التعيين ، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة علي التعيين ، تنبيها علي أن أشرف الأحوال الباطنة التوكل ، وأشرف الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة ."[2]
وختمت السورة بتحديد الإيمان الحق علي المستوى الجهادى من الهجرة والجهاد والإيواء والنصرة .
يقول تعالي: والَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
وهنا يبين الله تعالي كيف يرتقي المؤمن في مدارج الإيمان ، فمن خشية الله واليقين بآياته والتوكل عليه ، إلي إقام الصلاة والإنفاق في سبيل الله ، إلي الهجرة والنصرة والجهاد .
عبرة التاريخ
كانت غزوة بدر أول غزوة غزاها النبي صلي اله عليه وسلم ، وكان فيها لقاء ، وكانوا غير متأهبين للقتال غاية التأهب ، إنما خرجوا للقاء العير ، هذا مع أنهم عدد يسير ، وعدد أهل النفير كثير، وكانوا في غاية الهيبة للقائهم والتوجس من قتالهم .
" روى أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، وأقوام آخرون ، فأخبر جبريل رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير ، وقلة القوم ، فلما أزمعوا وخرجوا ، بلغ أهل مكة خبر خروجهم .. فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير ... وأخذت العير طريق الساحل ونجت .. ومضي المسلمون إلي بدر ... وبدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة ، واستشار النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه ....
وكانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لالكلهم ، بدليل قوله تعالي: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، والحق الذى جادلوا فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم تلقي النفير... . وقوله : بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، المراد منه : إعلام رسول الله بأنهم ينصرون . وجدالهم قولهم : ماكان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب للقتال؟ وذلك لأنهم كانوا يكرهون القتال، ثم إنه تعالي شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم بحال من يجر إلي القتل ويساق إلي الموت ... وكان خوفهم لأمور : 1- قلة العدد . 2- أنهم كانوا رجّالة ، وروى أنه ماكان معهم إلا فارسان . 3- قلة السلاح ."[3]
يقول تعالي: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ(5)يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ(6)وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(8)
وقد بين ابن قيم الجوزية في آخر كتاب الفروسية المحمدية ، نذير الحروب أحسن جمع علي أتم وجه فأمر بأشياء ما اجتمعت قط في فئة إلا انتصرت وإن قلت فيجنب عدوها ، وملاك ذلك وقوامه وأساسه وهو الصبر ، فعلي هذه الدعائم تبني قبة النصر ومتي زالت أو بعضها زال من النصر بحسبه ، وإذا اجتمعت قوى بعضها بعضا وصار لها أثر عظيم . ولما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم لم تقم لهم أمة من الأمم ، ففتحوا البلاد شرقا وغربا ، ودانت لهم العباد سلما وحربا ، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت ، آل الأمر قليلا قليلا إلي ما ترى ، فلا قوة إلا بالله ، والجامع لذلك كله هو طاعة الله ورسوله ، فإنها موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته . وذلك سر قول أبي الدرداء رضي الله عنه الذى رواه البخارى في باب (عمل صالح قبل القتال ) :إنما تقاتلون الناس بأعمالكم . [4]
وهنا يلقي الله تعالي عليهم الدرس . فلله حكم تخفي علي العباد ، وما علي المؤمن إلا أن يمضي لما أراد الله ، يبذل أقصي الطاقة ، ملتزما بتعاليم الله ورسوله ، ويعد ما استطاع من القوة ، لايستعجل النتيجة ، ولا يحسب حساب الأعداء . فقدر الله طليق من كل قيد ، ولاتمضي السنن والقوانين التي سنها إلا الأشياء والأحياء. والوعد القاطع أن الله ناصر المؤمنين وقاهر الكافرين . فلماذا يكره فريق من المؤمنين لقاء الجيش دون العير ، ولماذا يجادلون في الحق بعد البيان .
إن النصر أيسر شئ حين يريده الله . فليس البشر هم الأداة الوحيدة لتحقيقه ، فجنود الله كثيرة ، وهذا ما بينه ربنا سبحانه وتعالي في هذا المقطع ، فمن هذه الجنود كانت :
1- البشرى والتطمين بتنزيل الملائكة حين استغاث المؤمنون بربهم ، فأنزل المدد بألف من الملائكة ، ويتبعهم بأمثالهم . وأوحي الله إلي الملائكة بتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم .
2- ألقي في قلوب المؤمنين الطمأنينة والأمن والسكينة بدليل النعاس الذى غشيهم في موضع هو أبعد الأشياء عنه ، وهو موطن الجلاد ومصاولة الأنداد ، ولاينام إلا الآمن ، فكيف تغمض العين إلا بإرادة الله ؟
3- تنزيل المطر ، ، في المنزل الذى ساروا منه إلي بدر فحصل للمسلمين منه ما ملؤوا منه أسقيتهم فتطهروا من حدث أو جنابة ، ولبد لهم الرمل وسهل عليهم المسير ، وأصاب المشركين ما زلق أرضهم حتي منعهم المسير ، فكان ذلك سببا لسبق المسلمين لهم إلي المنزل وتمكينهم من بناء الحياض وتغوير ما وراء الماء الذى نزلوا عليه من القلب .[5]
4- إلقاء الرعب في نفوس الكافرين ، فيمكن منهم المؤمنين يضربون أعناقهم ، جزاء مشاقتهم لله ورسوله ، فحق عليهم العقاب من رب العالمين ، وكان الله من وراء كيدهم يحبطه ويفقده أى فاعلية .
يقول تعالي: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ(9)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10)إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ(11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(12)
ولهذا كله يدعو القرآن المؤمنين إلي عدم الفرار حين الزحف ، فالذى يفر يبوء بسخط الله ، إلا إذا كان مناورة في الحرب ، أو انضماما إلي فئة أخرى يقاتل معها .
فالله هو الذى يحسم المعركة ، وهو الذى قتل وهو الذى رمي ، وما كان تواجد المؤمنين في الساحة إلا اختبارا من الله لإيمانهم .
ويبين الله تعالي للمؤمنين أن المقصود من استنفارهم ليس تحقيق النصر وإنما الابتلاء لتمحيص النفوس ، فيتميز المؤمن عن الكافر .
وهذا من مقتضي حكمة الله التي خلق من أجلها الكون والحياة ، وابتلي فيها الإنسان ليصطفيه . يقول تعالي: لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ويَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ (37)
موضوع السورة
في السورة ترتيب هادف ، حيث بدأ القسم الأول بالسؤال عن الأنفال ، فكان درس التربية الأخلاقية للمؤمنين ، وكان تنبيه إلي نوع الفتنة الداخلية في المال والولد . وكان توضيح صفات الكافرين . وبدأ القسم الثاني بالإجابة عن السؤال ، وكان معه درس التربية الجهادية ، وهنا نبه تعالي إلي نوع الفتنة ممثلة هجمة الكافرين ، والتنبيه إلي مواجهتها وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . وفي كلا القسمين كان التوصية بالثبات عند اللقاء ، وطمأنة المؤمنين بنصر الله ومدده . وفي كلا القسمين تأكيد علي وصف الكافرين بأنهم شر الدواب ، لأنهم لا يسمعون ولا يعقلون ، ولأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق .
الجهاد لرد العدوان
ويبين الله تعالي في السورة أن القتال شرع في الإسلام لمواجهة عدوان الكافرين ابتداء ، ويختم المقطع بدعوة إلي الانتهاء عن العدوان فذلك خير ، وإذا عادوا إليه فالمسلمون قادرون علي دحره . ويعدد الله تعالي أنواع هذا العدوان فيما يلي :
1- المكر بالمسلمين بحصارهم والتدبير لقتلهم . يقول تعالي" وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)
2- إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله .وكان المشركون يمنعون من شاءوا من دخول البيت ويصدون المؤمنين عن الطواف ، وصدوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن معه في عام الحديبية عن الوصول إلي البيت . فضلا عن إنفاق الأموال لتجييش الجيوش للقضاء علي دعوة الحق . يقول تعالي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)
ولله في ذلك حكمة وهي تمييز الصفوف ، فيميز الخبيث من الطيب ويجمع الخبيث بعضه علي بعضه فيلقيه في النار.
وبهذا لا بديل أمام المسليمن، إن استمر الكافرون في العدوان ، غير دفعه ودحره بالقتال ، وقبل ذلك يتوجه إليهم بالدعوة للانتهاء عن هذا العدوان , وأن يدخلوا في دين الله ، فيغفر لهم ، وذلك خير لهم ، وإلا فالمسلمون جاهزون مستعدون للدفاع عن دينهم وأوطانهم . ذلك لأن غلبتهم معناها الفساد في الأرض ، وفتنة الناس في دينهم ، والاعتداء علي أعراض الناس وأموالهم ، فلا رادع يردعهم ، ولاخلق يمنعهم .
والله يتولي أمر المسلمين فهو ناصرهم ، نعم المولي ونعم النصير " ولم تدخل فاء السبب هنا لأن المأمور به العلم واعتقاد كونه مولي واجب لذاته لا لشئ آخر ، بخلاف ما في آخر سورة الحج حيث المأمور هناك الاعتصام بالله مهما كثروا وقويت شوكتهم .
وفي نهاية الجزء الأول منها ضرورة الجهاد بالنفس والمال وسببه :
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39)
ختمت السورة بتوضيح ذلك:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(73)
صفات المعتدين
قبل أن يعدد سبحانه وتعالي صفات المشركين ، يبين خذلان الشيطان لهم وتبرؤه منهم عند الفرقان بعد أن زين لهم سوء أعمالهم وأقنعهم بأنه لا غالب لهم ووعدهم بنصرتهم ، حين رأى عذاب الله وعقابه بهم . كذلك لم يغن عنهم تحريض المنافقين وتهوين أمر المسلمين لهم ، وكم سيكون حسابهم حين تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ويذوقوا عذاب الحريق . ومن خلال التاريخ حين يقص علينا ربنا تبارك وتعالي إهلاكه لآل فرعون بذنوبهم لكفرهم بآيات الله وتكذيبهم لرسله .
وهنا يذكر ربنا تبارك وتعالي بأنه لايظلم أحدا ولا ينزع النعمة إلا ممن غير فطرة الله فانغمس في الكفر والفسوق ، فهو تعالي يمهل لإكمال الحكمة و لايهمل من استحق النقمة .
ومن خلال ذلك كله يستكمل سبحانه وتعالي أسباب قتالهم فيما يلي :
1- أنهم خرجوا بطرا ورئاء الناس ، وليسوا أصحاب قضية أو مبدأ.
2- أنهم يصدون عن سبيل الله يقول تعالي .
ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً ورِئَاءَ النَّاسِ ويَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ واللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
3- أنهم ينقضون عهدهم في كل مرة .
4- أنهم لا يتقون الله .
يقول تعالي: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ(56)
ولهذا كله يأمر ربنا أن ننكل بهم إذا ظفرنا بهم في القتال ، حتي يرتدع غيرهم ولايسارع بالعدوان ولا يستهين بالإسلام وأهله .
ولما أمره بما يفعل بمن تحقق نقضه ، أرشده إلي ما يفعل بمن خاف غدره ، فأعلمهم قبل القتال بزوال العهد بينكم وبينهم ، ولا تناجزوهم وهم علي توهم من وفاء العهد . ، فالمسلون أهل عدل ونصفة .
صفات المجاهدين
وأثبت تعالي صفات مشتملة علي الأخلاق والأعمال هي علامة الإيمان ، لها تأثيرات في تصفية القلوب وتنويرها بالمعارف الإلهية ، هذه الصفات هي تقوى الله ، وإصلاح ما بينهم ، وطاعة الله ورسوله . ودليل الإيمان خوف القلوب من الله تعالي وظهور ذلك في سائر معانيهم وأجسامهم ، وإذا سمعوا آيات الله حصل لهم من نور القلب وطمأنينة النفس ، ويكلون أمرهم لله فهو يكفيهم من حيث لايحتسبون ، فإن خزائنه واسعة ، ويده سخاء الليل والنهار ، ويتوكلون عليه في القتال والنصر فلا يخافون قلة أو ضعف .
ولما وصفهم بالإيمان الحامل علي الطاعة والتوكل ، الجامع لهم ، الدافع للمانع منها ، قال متنقلا من عمل الباطن إلي عمل الظاهر ، مبينا أن همتهم إنما هي العبادة والمكارم ..صلاة وزكاة .
ووعدهم الله بمغفرة لذنوبهم إن رجعوا عن المنازعة في الأنفال وغيرها ، ورزق كريم ، أى لا ضيق فيه ولا كدر بوجه ما من منازعة .. ، فهو يغنيهم ويوسع عليهم [6].
حتي يتنزل نصر الله علي عباده المؤمنين لابد من توفر متطلبات نفسية وسلوكية ، هي علامة اليقين بربهم والطمأنينة في قلوبهم . من هذه المتطلبات :
1- السمع والطاعة لله ورسوله ، فالذى لايسمع ولاينطق ولا يعقل هو الكافر الذى أغلق فطرته وقلبه عن الإدراك والفهم . وإذا عذر الحيوان بذلك لأن ليس له عقل ، فالإنسان الكافر لاخير فيه لإعراضه عن الحق وهو بذلك شر من الدواب . فطاعة الرسول واجبة في أى أمر من الأوامر خف أو ثقل ، سهل أو صعب ، من الجهاد وغيره ، ومن قسمة الغنائم وغيرها ، وهذا دلالة الوعي واليقظة في قلوبكم وعقولكم .
2- الاستجابة لله والرسول فيما أمر ، لأن في هذه الاستجابة فلاحهم ، وفلاحهم دليل الحياة في قلوبهم ، فينقلكم تعالي بعز الإيمان والعلم عن حال الكفرة من الصمم والبكم وعدم العقل الذى هو الموت المعنوى ، والعاقل من ابتدر هذا الفلاح قبل أن يحول بينه وبينه الموت .
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيقوم حجاب بينكم وبين البلاء العام الذى لايصيب الظالمين وحدهم ، فأصلحوا ذات بينكم تنجون من عقاب الله . ولما كان من أشد العقاب الإذلال حذرهم منه بالتذكير بما كانوا فيه من القلة والضعف ، ومنته عليه بالإيواء والنصرة .
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون علي أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا .[7]
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : بينما نحن حول رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال:
إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا،وشبك بين أصابعه ، قال :فقمت إليه فقلت : كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ قال :
الزم بيتك ، واملك عليك لسانك ، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة .[8]
4-الأمانة ونبذ الخيانة ، والسبب الأكبر الذى يدفع إليها هو حب المال والولد ، اللذين يدفعان الشح والحرص ، والغلول والخيانة .
5- التحرر عن فتنة المال والولد ، التي تؤدى إلي كل شر ، والمسارعة إلي البذل والجهاد ابتغاء الأجر العظيم من الله . .
6- تقوى الله التي تجعل لهم فرقانا يعلو عندهم فيه الحق علي الباطل . وسمي لذلك عمر بن الخطاب فاروقا بإظهاره الإسلام في مكة واعتزازه به ، ففارق الإيمان فيه الكفر فلا يزيغ عن الحق ولايخاف الباطل . فخوف أهل الباطل من الناس يزيدهم ذلا وخوف أهل الحق من الله يزيدهم عزا. وبالتقوى يكفر الله عن السيئات ويمحو بها المعاصي ، ثم بعد الكفارة والمغفرة يزيد من فضله العظيم .
وصدق الله العظيم : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25) واذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) واعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ويُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ (29)
وهو سبحانه يجيبهم عن حقهم ، من خلال تربيتهم علي مجموعة من الخلال يستكمل بها سبحانه مقتضيات نصره لهم ، وهي :
1- الثبات في القتال والاستعانة في ذلك بذكر الله .
2- الالتزام بطاعة الله ورسوله ، ليتجنبوا النزاع الذى يؤدى للفشل والضياع .
3- الصبر علي المشاق والجلد علي المصاعب .
4- التواضع للعباد والإخلاص لرب العباد ، فالبطر والرياء والصد عن سبيل الله صفات المشركين .
يقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً ورِئَاءَ النَّاسِ ويَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ واللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
سلام الأقوياء
ومهما غدر الكفار فلن يتحقق لهم السبق ولن تحقق لهم خيانتهم أى سبق ، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم ، ولن يعجزه رد الكفار ودحرهم .
ويأمر الله المسلمين بأن يجنحوا إلي السلم ، ولكن ليس سلم الضعفاء الذى يجترئ عليهم الأقوياء ، ويفرضون عليهم ما يريدون ، ويخضعونهم لجبروت قوتهم .
ولا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لإقامة الحق والعدل ودحر الظلم والفساد ، وليرهب بها المؤمنون أعداء الله فلا يتجرأون علي المسلمين ، وليقدر المسلم أن يستجيب بها لصرخات المستضعفين في الأرض ، فيعلن الجهاد بالنفس وينفق ما قدر من المال ، خالصا لله ، لا رياء ولا بطرا ، وإنما طاعة واستجابة لأمر الله . وما علي المسلمين إلا أن يعدوا علي قدر الطاقة ، والله قادر علي نصرهم بجنوده التي لايعلمها إلا هو .
وإن مال الأعداء عن جانب الحرب إلي جانب السلم ، فاجنح لها أيها الرسول ، فليست الحرب غرضا مقصودا لذاته عندك ، إنما أنت قاصد بها الدفاع لعدوانهم وتحديهم لدعوتك . فاقبل السلم منهم ، وتوكل علي الله ولا تخف كيدهم ومكرهم ، إنه سبحانه هو السميع لما يتشاورون به ، العليم بما يدبرون ويأتمرون . فإن أرادوا من تظاهرهم بالجنوح إلي السلم خدعة ومكرا بك ، فإن الله يكفيك أمرهم من كل وجه ، وقد سبق له أن أيدك بنصره ، فهو يكفيكم شرهم ، وليس عليكم إلا الصدق في اللقاء والمسارعة إلي الإنفاق .
يقول تعالي: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(61)وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)
ولاية التحالف والنصرة:
يعتبر الولاء للأمة في التحالف والنصرة، أمرا هاما لحماية الأمة من الخيانة ومن اختراق الصف المسلم ، خصوصا وأن أعداء الأمة يوالون بعضهم بعضا. فإن لم يوال المؤمنون بعضهم بعضا ، يسود الكفار ، وعندئذ تكون فتنة في الأرض وفساد كبير .
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:
" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ."[9]
" المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة . ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ."[10]
ويتحقق الولاء بالهجرة والإيواء وبنصرة المؤمن والجهاد في سبيل الله .
أ- الهجرة :
الهجرة لغة : المجافاة والترك.
واصطلاحا: الانتقال من بلد الكفر والشرك إلي دار الإسلام.
والهجرة مفهوم شامل ، يبدأ بالهجرة إلي الله ورسوله ، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلي محبة الله ، ومن عبودية الأشياء والأحياء إلي عبودية الواحد الباقي ، ومن خوف العبيد ورجائهم إلي الثقة بما عند الله ، ومن الخضوع والذل إلي غير الله إلي الحرية الكاملة بالعبودية الخالصة لله . وهذا يظهر أثره في هجران مايكرهه الله وإتيان مايحبه ويرضاه.
ويتبع ذلك الهجرة بمعني الانتقال من دار الكفر إلي دار الإسلام . إن إقامة المسلم في دار الكفر تجعله ضعيفا مستكينا عرضة للفتنة في دينه . والإسلام يريد أن يكون المؤمن عزيزا ، ويتحقق ذلك بتواجده في دار الإسلام مواليا للمؤمنين مقويا لشوكتهم .
ومن هنا كانت الهجرة فرض عين علي كل مسلم ، والمعيشة في دار الكفر في ضعف حرام بإجماع . ولا ولاية تحالف ونصرة لمسلم لايهاجر إلي دار الإسلام ، وإن كانت له ولاية الأخوة والحب في الله . ولكن حين يستنصر في الدين فعلي المؤمنين نصره ، إلا إذا كان هناك ميثاق مع من يعيش بين ظهرانيهم ، فلا بد من احترام الميثاق .
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:
" أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، لاتراءى نارهما."[11]
وقد كانت هذه الهجرة فرضا في أيام النبي صلي الله عليه وسلم ، وظلت كذلك إلي يوم القيامة . والتي انقطعت هي الهجرة إلي النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان . لقوله صلي الله عليه وسلم حين جاء رجل يبايع علي الهجرة: " لاهجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه علي الإسلام.".[12]
ب - الإيواء :
آوى لغة : المأوى :الملجأ والحرز...
ومن أركان ولاية التحالف والنصرة استقبال المهاجرين وإسكانهم ، كما فعل الأنصار مع المهاجرين . وهنا تسيطر علي القلوب والسلوكيات عاطفة الأخوة ، وخلق الإيثار ، وينتفي الإحساس في داخل المهاجر بالغربة أو الحرمان .
ج- النصرة والجهاد :
الجهاد لغة : المشقة.
واصطلاحا: بذل الجهد في قتال الكفار.
لقد قضي الله في سننه أن الإيمان يقوى بالمجاهدة ، والمجتمعات تصلح بالتدافع ، والباطل يزهقه الحق ، تماما كما أن الجسم يقوى برياضة المقاومة.
قول ابن تيمية: :" لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.. لأن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا ، وهو مشتمل علي جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة ، ففيه من محبة الله ، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال مالا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنين دائما : إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة ."[13]
ومن ثم كان الولاء والهجرة والجهاد في سبيل الله دلالة الإيمان الحق ، ومقومات خير أمة أخرجت للناس .
و" اعلم أنه تعالي قسم المؤمنين في زمان الرسول صلي الله عليه وسلم إلي أربعة أقسام ، وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنه عليه السلام ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلي الدين ، ثم انتقل من مكة إلي المدينة . فحين هاجر من مكة إلي المدينة صار المؤمنون علي أربعة أقسام : منهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي هناك .
أما القسم الأول : فهم المهاجرون الأولون ... وهؤلاء موصوفون بصفات أربعة :
1- أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد صلي الله عليه وسلم ...
2- أنهم فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله ، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة ...
3- المجاهدة بالمال ، فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم ، وبقيت في أيدى الأعداء ، وأيضا فقد احتاجوا إلي الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة . وأيضا كانوا ينفقون أموالهم علي تلك الغزوات . وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا علي محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولاعدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة . وذلك يدل علي أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله .
4- أنهم كانوا أول الناس إقداما علي هذه الأفعال والتزاما لهذه الأحوال ، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين ... لأن إقدامهم علي هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم ، فيصير ذلك سببا للقوة أو الكمال ...
وأما القسم الثاني من المؤمنين الموجودين في زمان محمد صلي الله عليه وسلم ، فهم الأنصار ، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة . "[14]
" والقسم الثالث من أقسام مؤمني زمان الرسول عليه السلام : وهم المؤمنون الذين ماوافقوا الرسول في الهجرة ، وبقوا في مكة .. فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة ، فوجب أن يكون حكمهم حكما متوسطا بين الإجلال والإذلال وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول تكون منفية عن هذا القسم ، إلا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم ...
واعلم أنه تعالي لما ذكر هذا القسم الثالث ، عاد إلي ذكر القسم الأول والثاني مرة أخرى .. وهذا ليس بتكرار ، وذلك لأنه تعالي ذكرهم أولا ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضا ، ثم إنه تعالي ذكرهم ههنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم .. والحاصل أنه تعالي شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة . أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله : أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب . أما دفع العقاب فهو المراد بقوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله : وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
والقسم الرابع من مؤمني زمان محمد صلي الله عليه وسلم : هم الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة ، إلا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه ، وهو المراد من قوله : وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ
قوله تعالي : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ...إن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود ، فلما ظهرت دعوة محمد صلي الله عليه وسلم تناصروا وتعاونوا علي إيذائه ومحاربته ... ولما اشتركوا في عداوة محمد صلي الله عليه وسلم صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلي بعض وقرب بعضهم من بعض وذلك يدل علي أنهم ما أقدموا علي تلك العداوة لأجل الدين ، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه ، بل كان ذلك من أدل الدلائل علي أن تلك العداوة لمحض الحسد والبغي والعناد .
ثم إنه تعالي لما بين هذه الأحكام قال: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، والمعني : إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التفاصيل المذكورة المتقدمة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة . وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه:
1- أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم ، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سبا لالتحاق المسلم بالكفار.
2- أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم .
3- أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدة ، صار ذلك سببا لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ورغبة المخالف في الالتحاق بهم ."[15]
قوله تعالي :وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(75)،
الولاية بين المسلمين عند نشأة المجتمع المسلم كانت ولاية توارث وتكافل في الديات وولاية تحالف ونصرة ، قامت مقام علاقات الدم والنسب . فلما وجدت الدولة ورسخت بعد موقعة بدر بقيت ولاية التحالف والنصرة ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلي قرابة الدم والنسب .
" وذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم آخي بين المهاجرين والأنصار ، وكانت بين الأنصار أخوة النسب ، وكانت أيضا بين بعض المهاجرين . فكان المهاجرىّ إذا مات ، ولم يكن له بالمدينة مهاجرى ، ورثه أخوه الأنصارى ، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر ، فكان المسلم الذى لم يهاجر لاولاية بينه وبين قريبه المهاجرى فلايرثه... ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه ، وإن لم يكن مهاجرا معه ، بعد أن كان أولا يرث المهاجرى الأنصارى ... أثبت الله ذلك في كتابه وهو القرآن ."[16]
يقول تعالي: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(73) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(74)وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(75)
المناسبة
بين تعالي في سورة الأعراف صفة من صفات المؤمنين في قولة تعالي :
اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3)وبين تعالي ذلك في سورة الأنقال في قولة تعالي :
ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ . فهؤلاء إنما أتي عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أغراضهم وشهواتهم . وذلك ما أشار إليه تعالي في سورة الأعراف : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى ، وكذلك ما وصف به تعالي من انسلخ من آياته بأنه : أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ . فالهوى سبب الضلال وتنكب الصراط المستقيم . وفي سورة الأنفال أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء ، والتسليم فيما لهم به تعلق وإن لم يكن هوى مجردا لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى فافتتحت السورة بالأمر : فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ .
ولما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه ، لما ثبت من تفرده واقتداره ، كان مقصود هذه السورة اتباع الداعي إليه بغاية الإذعان والتسليم والرضا ، والتبرؤ من كل حول وقوة إلي من أنعم بذلك ، ولو شاء سلبه . وأدل ما فيها علي هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في أمرها ، وتنازعوا قسمها ، فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع ، وأعطاها نبيه صلي الله عليه وسلم ، لأنه الذى هزمهم بما رمي من الحصيات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم ، وبما أرسل من جنوده . فكأن الأمر له وحده ، يمنحه من يشاء . ثم لما صار له صلي الله عليه وسلم ، رده فيهم منة منه عليهم وإحسانا إليهم ، واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائما أضعاف المسلمين ، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم ، وتجب مصابرة الضعف . فلو كان النظر إلي غير قوته سبحانه ما أطيق ذلك ، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجهاد ، وإن كثرت من الأعادى الجموع والأعداد ، وتوالت إليهم زمر الإمداد من سائر العباد "[17]
[1] القرطبي ، أحكام القران ج 5 ص 2523
[2] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 15 ص 97-101
[3] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 15 ص 102-103
[4] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 225
[5] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 193
[6] البقاعي ، نظم الدرر . ج 3 ص 185
[7] الألباني ، صحيح سنن أبي داود ج 3 ص 819
[8] الألباني ، صحيح سنن أبي داود ج 3 ص 819
[9] متفق عليه صحيح الجامع الصغير ج2 ص 1128
[10] صحيح البخارى ج 5 ص97 كتاب المظالم
[11] رواه أبو داود والترمذى ، صحيح الجامع الصغير ج 1 ص 306
[12]صحيح البخارى ج6 ص 189 باب الجهاد
[13] السياسة الشرعية ص 118 الجامعةالإسلامية بالمدينة 1389هـ
[14] الرازى ، مفاتيح الغيب ج15 ص 165-166
[15] الرازى ، مفاتيح الغيب ج15 ص 167-168
[16] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج6 ص 388، 395
[17] البقاعي، نظم الدرر ج3 ص 188 - 191تعليق
-
البراء
كما تبينه
سورة براءة
إن الإسلام ليس مجرد مبادئ مطلقة تحرك الإنسان في أى طريق يريد ، إنه بعقيدته يبين حقيقة الكون والحياة وغايتها ، وبشريعته يحدد المنهج الحركي للإنسان والأمة لتحقيق الرسالة التي من أجلها خلقت السماوات والأرض. وهو بذلك دستور للحياة وتفسير للتاريخ وتحليل للسياسة وتخطيط للمستقبل ، ومنه تتولد مشاعر المودة والعداء والولاء والبراء والحرب والسلام.
فلذلك من حق قارئ القرآن أن يستشعر مواقع آى القرآن من نفسه في ذات قلبه ، وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه ، وفي سره مع ربه وفي علانيته مع خلقه ، فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقا عليه خاصا به ، حتي أن جميعه لم ينزل إلا إليه .. فيستمع القرآن بلاغا من الله تعالي إليه بلا واسطة بينه وبينه ، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء ، ثم تلين له جلده وقلبه انتهاء ، وربما يجد من الله سبحانه وتعالي نفخ رحمة يفتح له بابا إلي التخلق بالقرآن أسوة بالنبي صلي الله عليه وسلم . [1]
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت :كان خلقه القرآن . [2]
وهذه السورة هي [3]آخر سورة نزلت في القرآن الكريم عن البراء رضي الله عنه ، أنه قال : " آخر سورة نزلت براءة " .
ولقد نزلت سورة براءة والمسلمون كثرة ، غرّهم عددهم في موقعة حنين، كما أن الأعداء بدأ يتسع نطاقهم من المشركين وأهل الكتاب .
وظهرت مع تعاظم قوة المسلمين فئة أخرى داخلية تبيت العداوة ولاتقدر أن تظهرها وهم المنافقون ، خصوصا عند ساعة العسرة الممثلة في الاشتباك مع قوة الروم في موقعة تبوك .
فكان لابد من حماية الجماعة المسلمة من تسيب العلاقات مع هذه الفئات ، خصوصا إذا كانت هناك صلة قرابة أو مصلحة .
وقد تضمنت السورة تصنيف الناس ، فالمسلمون منهم السابقون وأهل بدر وأصحاب بيعة الرضوان ، وتمييز من قاتل وأنفق قبل الفتح ومن قاتل وأنفق من بعد الفتح . ونوهت بالمؤمنين من الأعراب المنفقين قربي إلي الله وصلوات الرسول .
كما بينت صفات المنافقين وسلوكياتهم في داخل المجتمع المسلم ، وصفات الأعراب الذين يعتبرون ماينفقون مغرما ويتربصون بالمؤمنين الدوائر . كما قدمت وصفا لاعتقادات أهل الكتاب وسلوكياتهم . وبذلك حددت أوضاعهم وكيفية معاملتهم .
وهكذا عنيت هذه السورة بتوضيح الصفات النفسية ، وسلوكيات هذه الفئات وطريقة التعامل معهم في السلم والحرب ، لتمد المسلمين بزاد من الدراية في تفسير التاريخ وتحليل السياسة ، وهم يواجهون أعداءهم .
" فما صد أكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذى فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل الأديان أجمعين أن ذلك إنما مقصود ه الأخبار والقصص فقط ، كلا ، وليس كذلك . إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار ، حتي يسمع السامع جميع القرآن ، من أوله إلي خاتمته ، منطبقا علي هذه الأمة وأئمتها ، هداتها وضلالها . فحينئذ ينفتح له باب الفهم ، ويضئ له نور العلم ، ويتجه له حال الخشية ، ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية …فيترقي سمعه إلي أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق علي كلية الأمة منطبقا علي ذاته في أحوال نفسه وتقلباته وتصرفات أفعاله وازدحام خواطره ، حتي يسمع القرآن منطبقا ، فينتفع بسماع جميعه ، ويعتبر بأى آية سمعها منه ، فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما رغبة كانت أو رهبة تقريبا كانت أو تبعيدا إلي أرفع الغايات أو إلي أنزل الدركات ...
واختلف الصحابة في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان ؟ " فقال بعضهم : هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ، ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال ، وهي سبع ، ومابعدها المئون . وهذا قول ظاهر ، لأنهما معا مائتان وست آيات . فهما بمنزلة سورة واحدة . ومنهم من قال هما سورتان ، فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيها علي قول من يقول هما سورتان . وماكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها علي قول من يقول هما سورة واحدة . "[4]
" قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أشبهت معانيها معاني الأنفال ، وكانتا تدعيان القرينتين في زمن النبي صلي الله عليه وسلم ، فلذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب :بسم الله الرحمن الرحيم . ووضعتها في السبع الطوال .
وقال علي بن أبي طالب لابن عباس : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمان وبشارة ، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود ، فلذلك لم تبدأ بالأمان ."[5]
و" في هذا دليل علي أن تأليف القرآن كان منزلا من عند الله ، وأن تأليفه من تنزيله ، بيّنه النبي صلي الله عليه وسلم لأصحابه ، ويميّزه لكتابه ، ويرتبه علي أبوابه ، إلا هذه السورة فلم يذكر لهم فيها شئيا ليتبين الخلق أن الله يفعل مايشاء ويحكم مايريد ، ولايسأل عن ذلك كله ، ولايعترض عليه ، ولايحاط بعلمه إلا بما أبرز منه إلي الخلق وأوضحه البيان ."[6]
ووضع هذه السورة ليس بتوقيف عن الرسول صلي الله عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالي عنهم ، كما هو المرجح ، بل باجتهاد عثمان رضي الله عنه .
" ويقع بيان مقصد عثمان رضي الله عنه في ذلك بأمور :
1- أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها ، لكونها مشتملة علي البسملة ، فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها ، وتتكون براءة لخلوها منها كتتمتها وبقيتها . ولهذا قال جماعة من السلف : إن الأنفال وبراءة سورة واحدة لاسورتان .
2- أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطوال ، وأنه ليس في القرآن بعد الست السابقة سورة أطول منها ، وذلك كاف في المناسبة .
3- أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلي أن ذلك أمر صادر لاعن توقيف ، وإلي أن الرسول صلي الله عليه وسلم قبض قبل أن يبين محلها . .
4- أنه لو أخرها وقدَّم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي بن كعب ، لمراعاة مناسبة السبع الطوال ، وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر أكد في المناسبة ، فإن الأولي بسورة يونس أن تولي بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من الاشتمال علي القصص ، ومن الافتتاح بـ (الر) وبذكر الكتاب ، ومن كونها مكيات ، ومن تناسب ، ماعدا الحجر ، في المقدر ، ومن التسمية باسم نبي ، والرعد اسم ملك ، وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فهذه ستة أوجه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها ، وهي آكد من ذلك الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف . ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر علي النحل مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذه السور الستة لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول .
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقدم الحجر علي النحل لمناسبة ذوات (الر) قبلها ، وما تقدم آل عمران علي النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح ب(الم) وتوالي الطواسين والحواميم ، وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل ب (الم) . ولهذا قدمت السجدة علي الأحزاب التي هي أطول منها . "[7]
الأساس العقيدى
بينت سورة الأنفال وهي تقدمها موضوعها في أركان الولاء للمؤمنين ، أوصاف الإيمان الحق ، وما يترتب عليه من صياغة للمشاعر والعلاقات . يقول تعالي :
وإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
وقولة تعالي : إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
واستكملت سورة التوبة وهي تقدم موضوعها في البراء من المشركين والمنافقين ، استكمال التعريف بهذا الإيمان الحق وما يترتب عليه من مشاعر وعلاقات في جانب البراء ، يقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
فمن شروط الإيمان الحق الذى ذكرته السورة :
1- حب الله ورسوله :
قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ (24)
إن الله سبحانه وتعالي : " تعالي لما أمر المؤمنين بالتبرى عن المشركين وبالغ في إيجابه ، قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه ؟ فذكر الله تعالي: أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر ...
واعلم أنه تعالي ذكر الأمور الداعية إلي مخالطة الكفار ، وهي أمور أربعة :
أ- مخالطة الأقارب ، وذكر منه أربعة أصناف علي التفصيل : وهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج . ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل ، وهي لفظ العشيرة .
ب- الميل إلي إمساك الأموال المكتسبة .
ج- الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة .
د- الرغبة في المساكن .
ولاشك أن هذا الترتيب ترتيب حسن ، فإن أعظم الأسباب الداعية إلي المخالطة القرابة ، ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلي إبقاء الأموال الحاصلة ، ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلي اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة ، وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكني . فذكر تعالي هذه الأشياء علي هذا الترتيب الواجب ، وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور ."[8]
و" فيه نهي للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والانتصار بهم وتفويض أمورهم إليهم وإيجاب التبرؤ منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم ... إلا أنه قد أمر مع ذلك بالإحسان إلي الأب الكافر وصحبته بالمعروف .. وإنما أمر المؤمنين بذلك ليتميزوا من المنافقين ، إذ كان المنافقون يتولون الكفار ويظهرون إكرامهم وتعظيمهم إذا لقوهم ويظهرون لهم الولاية والحياطة ، فجعل الله تعالي ماأمر به المؤمن في هذه الآية عاما يتميز به المؤمن من المنافق . وأخبر أن من لم يفعل ذلك فهو ظالم لنفسه مستحق للعقوبة من ربه ."[9]
" قال المفسرون : هذه الآية في بيان حال من ترك الهجرة ، وآثر البقاء مع الأهل والذلّ ."[10]
وفي الحديث الصحيح : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه : فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك ؟ فعصاه فأسلم .
ثم قعد له بطريق الهجرة ، فقال : تهاجر وتدع أرضك وسماءك ، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول . فعصاه فهاجر .
ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد ، فهو جهد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل ، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد .
فمن فعل ذلك كان حقا علي الله أن يدخله الجنة . ومن قتل كان حقا علي الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا علي الله أن يدخل الجنة ، وإن وقصته دابته كان حقا علي الله أن يدخله الجنة .[11]
وتستكمل سورة التوبة ما بدأته سورة الأنفال من شروط الإيمان الحق ، فمن ذلك :
2- الحرص علي الجهاد :
يقول تعالي: لا يَسْتَئْذِنُكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
والذين يؤمنون بالله ويعتقدون بيوم الجزاء لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ، ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح ، بل يسارعون إليها خفافا وثقالا كما أمرهم الله ، طاعة لأمره ، ويقينا بلقائه ، وثقة بجزائه ، وابتغاء لرضاه . وإنهم ليتطوعون تطوعا فلا يحتاجون إلي من يستحثهم فضلا عن الإذن لهم . إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير ، لعل عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها ، وهم يرتابون فيها ويترددون ...
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائفة خطر علي الجيوش ولو خرج أولئك المنافقون مازادوا المسلمين قوة بخروجهم ، بل لزادوهم اضطرابا وفوضي ، ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل ، وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين . ولكن الله الذى يرعي دعوته ويكلأ رجالها المخلصين ، كفي المؤمنين الفتنة فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين ."[12]
3- متطلبات ولاية المؤمنين :
قوله تعالي : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(72)
" إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لتقابل من صفات المنافقين : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدى . وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار . وإن تلك الصفات هي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ."[13]
" قال تعالي في صفة المنافقين :المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، وهنا قال في صفة المؤمنين :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، فلم ذكر في المنافقين لفظ من وفي المؤمنين لفظ أولياء ؟ الجواب : قوله في صفة المنافقين :بعضهم من بعض ، يدل علي أن نفاق الأتباع كالأمر المتفرع علي نفاق الأسلاف . والأمر في نفسه كذلك ، لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر ، وبسبب مقتضي الهوى والطبيعة والعادة . أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت ، لا بسبب الميل والعادة ، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية . فلهذا السبب قال تعالي في المنافقين : بعضهم من بعض ، وقال في المؤمنين :بعضهم أولياء بعض .
.. واعلم أنه تعالي لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ، ذكر بعده مايجرى مجرى التفسير والشرح له فقال: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله . فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق ، فالمنافق علي ماوصفه الله تعالي في الآية المتقدمة : يأمر بالمنكر ، وينهي عن المعروف . والمؤمن بالضد منه . والمنافق لا يقوم إلي الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه . والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات .. والمؤمنون يؤتون الزكاة . والمنافق إذا أمره الله ورسوله بالمسارعة إلي الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويبطئ غيره ، كما وصفه الله بذلك ، والمؤمنون بالضد منهم ... ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم ، فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة ، وهي ثواب الآخرة . فلذلك قال : أولئك سيرحمهم الله ... واعلم أنه تعالي لما ذكر الوعد في الآية الأولي علي سبيل الإجمال ، ذكره في هذه الآية علي سبيل التفصيل ، وذلك لأنه تعالي وعد بالرحمة . ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة : جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(72)
والعدن معناه : لزوم المكان وإلفه ."[14]
4- متطلبات البيع الرابح :
* قوله تعالي : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(112)
المجاهد الذى يستحق جزاء الله الحسن لا بد أن تتوفر له مقومات تؤهله لهذا العطاء . من هذه المقومات ما يتصل بصلته بربه ، سواء كان ذلك داخليا أو خارجيا ، ومنها ما يتصل بعلاقاته مع الناس .
والمقومات الداخلية التي تتصل بعمل القلوب هي:
1- أول هذه المقومات التوبة الخالصة لله من كل ذنب والاستغفار من كل معصية . فالتوبة أساس العمل الصالح .
2- العبودية الكاملة لله وإفراده سبحانه بالربوبية ، فأقبلوا علي العبادة فأخلصوها لله .
1- حمده سبحانه وتعالي علي ما أنعم من نعم الدنيا حمدا تنطق به الألسنه ، وتنعقد عليه القلوب ، وتتبعه آثاره.
أما المقومات الخارجية في صورة الشعائر فهي :
1- السياحة ومن معانيها الصيام والتفكر في آلائه .
2- الركوع والسجود في الصلاة خضوعا وتنزيها وشكرا لله .
والمقومات في صورة المعاملات التي تتصل بعلاقاته بالناس فهي :
1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2- الحفاظ علي حدود الله في المعاملات الاجتماعية والمالية والدولية .
" والمراد فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها . فأتي بها اتباعا دون عطف لذلك . وأشار إلي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام ، لأن المقصر في شئ من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه ، فيجب التجرد التام فيه ، لأن النهي أصعب أقسام العبادة ، لأنه متعلق بالغير ، وهو مثير للغضب ، موجب للحمية ، وظهور الخصومة ، فربما كان عنه ضرب وقتل ، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال:والناهون ، أى بغاية الجد ،عن المنكر، أى البدعة . ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلي الموت أتبعه قوله :والحافظون ،أى بغاية الحزم ،لحدود الله ،أى الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزا شيئا منها … فختم بما بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة .
والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره . والثاني للتجرد عن قيود العادات إلي قضاء العبادات ، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر . والرابع للتوسع إلي التجرد عن قول الباطل . والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر . والسابع للسير إلي إفاضة ذلك علي الغير ، والثامن للدوام علي تلك الحدود بترك جميع القيود . فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلي الشرف الروحاني ..
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين ، وجاء الأمر أيضا بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم ، جاءت هذه الآية مشيرة إلي البراءة من كل مشرك . فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه …
ولما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت علي تخصيص الجنة بالمؤمنين ، وأنه تعالي أوفي من عاهد ، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار .. فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتي ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات ، فإن ذلك ربما جر إلي ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة . وتقييد النهي بالتبين يدل علي جواز الدعاء للحي ، فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلي الإيمان الموجب للغفران . ولما أنكر أن يكون لهم ذلك ، وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه ، بين أنه كان أيضا قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه التأبيد في النار ..
فالاستغفار للمشركين أمر عظيم ، لأن فيه نوع ولاية لهم .. وأظهر تعالي عدم المؤاخذه قبل بيان أحكام الشريعة مما هو جدير أن يحذروه ويتجنبوه خوفا من غائلته ."[15]
زار النبي صلي الله عليه وسلم قبر أمه فبكي وأبكي من حوله وقال :استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي . فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ..
وكما أن الولاء للمؤمنين تصحبه الرأفة والرحمة ، فإن البراء من الكافرين تصحبه القوة والغلظة .
5- معية الصادقين
يقول تعالي: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)
" الصادقون : الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم.. وهي الغاية التي إليها المنتهي في هذه الصفة، وبها يرتفع النفاق في العقيدة ، والمخالفة في الفعل ، صاحبها يقال له صدق."[16]
" والمعني: لازم الصدق ولا تعدل عنه ، إذ ليس في الكذب رخصة .. وهذه صفة أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم : المهاجرين والأنصار .. فهم الذين صدقوا .. فدل علي قيام الحجة علينا بإجماعهم ، وأنه غير جائز لنا مخالفتهم لأمر الله إيانا باتباعهم ."[17]
6-التوبة
وسميت السورة باسم التوبة لأهمية التوبة بالنسبة للإيمان .
قال العلماء : التوبة واجبة في كل زمن ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالي لا تتعلق بحق آدمي ، فلها ثلاثة شروط:
1- أن يقلع عن المعصية .
2- أن يندم علي فعلها .
3- أن يعزم ألا يعود إليها أبدا .
فإن فقد أحد الثلاثة ، لم تصح توبته .
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة : هذه الثلاثة ، وأن يبرأ من حق صاحبها ، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه ، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه ، أو طلب عفوه ، وإن كانت غيبة استحله منها .
ويجب أن يتوب من جميع الذنوب ، فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي . وقد تظاهرت آيات الكتاب والسنة وإجماع الأئمة علي وجوب التوبة .[18]
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:
والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة .[19]
وعن أبي موسي عبد الله بن قيس الأشعرى رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
إن الله تعالي يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل ، حتي تطلع الشمس من مغربها .[20]
وقد علمنا أن التوبة من صفات المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، وأنعم الله بها علي نبيه محمدا صلي الله عليه وسلم وصحبه ، فقال تعالي :
لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ الَذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117)
ويفتح سبحانه وتعالي باب التوبة للعاصين ، يقول تعالي :
وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويَأَخُذُ الصَّدَقَاتِ وأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) ويقول تعالي:
وعَلَى الثَّلاثَةِ الَذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) بل يفتح سبحانه باب التوبة للمنافقين ، يقول تعالي :
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ وهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ومَا نَقَمُوا إلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وإن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ ومَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ (74)
وفي السورة دعوة لتوبة المشركين ، يقول تعالي :
فإذا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ونُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
عبرة التاريخ
عبرة التاريخ في سورتي الأنفال والتوبة تؤخذ من وقائع عصر النبوة ، بعد أن استوفي في السور السابقة عبرة التاريخ من أهل الكتاب والأمم السابقة . ونلاحظ هنا أن عبرة التاريخ تؤخذ من أواخر حياة النبي صلي الله عليه وسلم بعكس سورة الأنفال التي أخذت من بداية الأحداث بعد هجرة المسلمين إلي المدينة . وبينما كان المسلمون قلة نصرهم الله علي أعدائهم لتوفر شروط الإيمان فيهم ، وسورة التوبة تبين مدى المشاكل التي سببها الطلقاء في غزوة حنين وهم الحديثي عهد بالإيمان ، وما سببه المنافقون من مشكلات في غزوة تبوك بعد أن اتسعت رقعة الإسلام وزاد الأتباع . ويلاحظ هنا أن هذه الغزوات كانت أبدا ردا علي مبادءة الكفار بالعدوان .
غزوة حنين
حنين موضع بين مكة والطائف نسبت الغزوة إليه . فلما سمعت هوازن بفتح مكة تجمعوا وأتوا لقتال النبي صلي الله عليه وسلم . ، وجمع ملكها الجموع من هوازن وغيرها لقتال المسلمين . [21]
واختصار هذه القصة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء ، فصار في اثني عشر ألف ، سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم ، فجمعت له هوازن وألفافها ، وعليهم مالك بن عوف النصرى ، وثقيف وعليهم عبد بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتي كانوا ثلاثين ألفا . فخرج إليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي اجتمعوا بحنين . فلما تصافّ الناس حمل المشركون من جوانب الوادى فانهزم المسلمون . قال قتادة : ويقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين . "[22]
" عن كثير بن عباس بن عبد المطلب قال : قال عباس : شهدت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلي الله عليه وسلم فلم نفارقه . ورسول الله صلي الله عليه وسلم علي بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الحذامي . فلما التقي المسلمون والكفار ولي المسلمين مدبرين ، فطفق رسول الله صلي الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار . قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلي الله عليه وسلم أكفّها إرادة أن لا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلي الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أى عباس ، ناد أصحاب السمرة . فقال عباس ( وكان رجلا صيّتا ) فقلت بأعلي صوتي : أين أصحاب السمرة . قال : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر علي أولادها فقالوا: يالبيك يالبيك . قال : فاقتتلوا والكفار . والدعوة في الأنصار يقولون : يامعشر الأنصار ، يامعشر الأنصار . قال: ثم قصرت الدعوة علي بني الحارث بن الخزرج فقالوا : يابني الحارث من الخزرج ، يابني الحارث بن الخزرج . فنظر رسول الله صلي الله عليه وسلم علي بغلته كالمتطاول عليها إلي قتالهم ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : الآن حمِي الوطيس . قال : ثم أخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم حصيّات فرمي بهن وجوه الكفار ، ثم قال : انهزموا ورب محمد . قال : فذهبت أنظر فإذا القتال علي هيئته فيما أرى . قال : فوالله ماهو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا ." [23]
وأعطي رسول الله صلي الله عليه وسلم قريش من غنائم المعركة ، ليؤلف قلوبهم . فوجد الأنصار في أنفسهم ، فجمعهم رسول الله صلي الله عليه وسلم وخطب فيهم :
( يامعشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : الله ورسوله أمنّ وأفضل . ثم قال: ألا تجيبوني يامعشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يارسول الله ، لله ولرسوله المن والفضل . قال: أما والله لو شئتم ، لقلتم ، فلصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذَّبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك ، أوجدتم علي يامعشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلي إسلامكم . ألا ترضون يامعشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير ، وترجعون برسول الله إلي رحالكم ، فوالذى نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به . ولولا الهجرة ، لكنت امرءا من الأنصار ، ولوسلك الناس شعبا وواديا ، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها ، الأنصار شعار ، والناس دثار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناس الأنصار .) فبكي القوم حتي اخضلوا لحاهم . وقالوا : رضينا برسول الله صلي الله عليه وسلم قسما حظا ."[24]
" وقدم وفد هوازن علي رسول الله صلي الله عليه وسلم ... فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال . فقال : إن معي من ترون ، وإن أحب الحديث إلي أصدقه ، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟
قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا . فقال: إذا صليت الغداة فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله صلي الله عليه وسلم إلي المؤمنين ، ونستشفع بالمؤمنين إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أن يردوا علينا سبينا . فلما صلي الغداة، قاموا فقالوا ذلك . فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أمّا ماكان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وسأسأل لكم الناس . فقال المهاجرون والأنصار : ماكان لنا فهو لرسول الله.. ورد باقي الناس عليهم نساءهم وأبناءهم .”[25]
غزوة تبوك
بلغ رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام ، وأن هرقل رزق أصحابه لسنة ، وأعد عدته وقدمت مقدمته إلي البلقاء .
وكان ذلك وقت الحر الشديد ، وموعد جني ثمار أشجارهم ، والناس تحب جني الثمار والتمتع بالثمار . [26]
ولقد بلغت العسرة في غزوة تبوك مبلغا عظيما ، فقد كان التمرة تقسم بين رجلين ، والماء يؤخذ من كروش الإبل المذبوحة ، وقد كان يزيغ فريق وينصرف من الشدة ، ومن ثم حفتهم توبة الله ورحمته لتمسكهم وثباتهم . وكانت محنة الثلاثة المؤمنين الصادقين الذين تخلفوا شديدة ، حتي ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وقاطعهم الناس مدة طويلة فذاقوا كربا عظيما ، حتي نزلت التوبة عليهم من سابع سماء في وحي تلاه رسول الله صلي الله عليه وسلم .
قوله تعالي: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ(81)فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ(83)وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ(84)
"هذه آية تتضمن وصف حالهم علي جهة التوبيخ لهم ، وفي ضمنها وعيد . وقوله :المخلفون، لفظ يقتضي تحقيرهم ، وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه . وهذا أمكن في هذا من أن يقال: المتخلفون . ولم يفرح إلا منافق ، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب الأعذار . .. وكانت غزوة تبوك في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال .. قيل لهم : فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد ، أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم . .. وهم لما هم عليه من الخطر مع الله وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا ... وأمر الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم بأن يقول لهم:لن تخرجوا معي ، هو عقوبة لهم ، وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم . وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولاخزى أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب ... ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة علي النفاق ، وعيّنوا للنبي صلي الله عليه وسلم.
موضوع السورة
"قال حذيفة وغيره ، وتسمي الفاضحة ، قاله ابن عباس ، وتسمي الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، قال ابن عباس : مازال ينزل (ومنهم ، ومنهم ) حتي ظن أنه لايبقي أحد . وقال حذيفة : هي سورة العذاب ، وقال ابن عمر : كنا ندعوها المًقَشْقِشة ، قال الحارث بن يزيد : كانت تدعي المبعثرة ، ويقال لها المثيرة ويقال لها البحوث ." [27]
و" لماّ قدم النبي صلي الله عليه وسلم المدينة ، صار الكفار معه ثلاثة أقسام :
* قسم صالحهم ووادعهم علي ألا يحاربوه ، ولايظاهروا عليه ، ولايوالوا عليه عدوه ، وهم علي كفرهم آمنون علي دمائهم وأموالهم .
* وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة .
* وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا مايؤول إليه أمره ، وأمر أعدائه .
ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن.
ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم .
ومنهم من دخل في الظاهر ، وهو مع عدوه في الباطن ، ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون.
فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالي ."[28] " مقصود السورة معاداة من أعرض عما دعت إليه السورة الماضية من اتباع الداعي إلي الله في توحيده واتباع ما يرضيه ، وموالاة من أقبل عليه ، وأدل ما فيها علي الإبلاغ في هذا المقصد قصة المخلفين ، فإنهم لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك … هجروا وأعرض عنهم بكل اعتبار حتي الكلام ، فذلك معني تسميتها بالتوبة ، وهو يدل علي البراءة لأن البراءة منهم ، بهجرانهم حتي في رد السلام ، كان سبب التوبة .. وتسميتها ببر اءة واضح أيضا فيما ذكر من مقصودها "[29].
تواصل سورة براءة مسيرة سورة الأنفال ، فبينما فصلت سورة الأنفال في بيان صفات المؤمنين من جهة الولاء ، وأجملت أسلوب التعامل من الكافرين من ناحية البراء ، تفصل سورة براءة في بيان أنواع الكفار وسبيل التعامل معهم من ناحية البراء .
ومن هنا بينما سورة الأنفال مظاهر الولاء تبين هنا سورة براء مظاهر البراء . وهي تقسم المعسكر المواجه للجماعة المؤمنة إلي : المشركين ، أهل الكتاب ، المنافقين .
البراء من المشركين
واجهت الجماعة المؤمنة في المدينة مواجهات من مشركي الجزيرة العربية ، فوضح تبييت الغدر والتربص بالمسلمين رغم قيام العهد والميثاق بينهم وبين المسلمين . .
أسباب سياسية للبراء من المشركين :
الوفاء بالعهد ، والنبذ علي سواء ، قمة سامقة مارسها الإسلام في مواجهة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب . وهي قمة لا يطاولها أى نظام معاصر ، الذى يتميز حكامه ودوله بالميكيافيلية السياسية التي تبرر فيها الغاية الوسيلة ، والتي لاتعرف في قاموسها إلا الغدر والخيانة، ولاتراعي عهداً ولا ميثاقاً .
ولنبذ عهد المشركين للمشركين أسبابا ذكرها ربنا تبارك وتعالي في كتابه:
1- ظهور علامات الغدر ، وعدم مراعاتهم لعهد ولا ميثاق إذا ظفروا بالمسلمين ، وكان ذلك عادة وخلقا لهم ، وقد عرضنا وقائعه. والدلالة علي ذلك كثيرة من التاريخ الصحيح . علي سبيل المثال:
قدم قوم علي رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أحد من عضل والقارة فقالوا : يارسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام ، فبعث معهم عشرة . وأمر عليهم عاصم بن ثابت فخرج معهم ،حتي إذا كانوا بالرجيع، ماء لهذيل ، غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا ، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا : إنا والله لانريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحدا ، فلم يقبل البعض وقاتلوا حتي قتلوا .. وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتي باعوهما بمكة فقتلوهما [30].
وقصة العرنيين الذين قدموا علي رسول الله صلي الله علية وسلم فأظهروا الإسلام ثم خرجوا إلي لقاء النبي صلي الله عليه وسلم فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما رأوا من الآيات ، فبعث النبي صلي الله عليه وسلم في آثارهم فقتلهم .[31]
وكما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة ، مع أنهم في جوار عمه ،قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم : لو بعثت رجالا من أصحابك إلي أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إني أخشي عليهم أهل نجد . فقال أبو براء : أنا لهم جار . فبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين ، فلما نزلوا بئر معونة ، بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه ، وعدا عليه فقتله ، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا ، وقالوا : لن نخفر أبا براء ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم فقتلوهم ، فلم يفلت منهم إلا ثلاثة .[32]
وقصة خزاعة الذين كان بينهم وبين بني بكر عداوة في الجاهلية ، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي صلي الله عليه وسلم بالحديبية لما كان فكان لهم فيه من المحبة من مسلمهم وكافرهم . ودخلت بنو بكر في عهد قريش . فمرت علي ذلك مدة . واعتدى بنو بكر علي خزاعة ، وأعانتهم قريش في عدوانهم رغم عهدهم مع النبي صلي الله عليه وسلم .
2- اختلاف ما يضمرونه في قلوبهم عما يظهرونه من أقوالهم .
3- يبيعون وفاءهم ودينهم بالثمن القليل من لعاعة الدنيا . وهو التمتع بما هم فيه مدة حياتهم مع مايصيرون إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر ، ومن قاده هواه إلي تجاهل الآيات والإعراض عن الآخرة إلي هذا العرض الزائل اليسير ، كان غير مأمون علي شئ ،لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان .
4- أرادوا إخراج الرسول من مكة ظلما وعتوا ، كما أرادوا إخراجه في عمرة القضاء ، كما أراد المنافق ابن أبي إخراجه من المدينة .
5- كانوا هم البادئون بالعدوان ، ويقود إلي ذلك دائما الرؤساء من أئمة الكفر حرصا علي جاههم . وقد كان ذلك واضحا في الحديبية ، بإصرار الكفار علي القتال رغم أن المسلمين أتوا معتمرين ، وما كان لهم أن يصدوا عن المسجد الحرام .
ومن هنا كان موقف المسلمين من هؤلاء الذين ظهر منهم الغدر إعلانهم بنبذ العهد حتي لا يأخذوا المسلمين علي غرة ، وحتي يكونوا علي علم كامل بنبذ هذا العهد فلا يباغتوا بإعلان الحرب . وأعطوا مع سائر المشركين الذين لا تربطهم بالمسلمين عهود مهلة أربعة شهور يأمنون فيها أمنا لا يتعرض لهم أحد بسوء ، بل يذهبون فيها حيث شاءوا ،أو حتي يعدوا أسلحتهم وحصونهم ، حيث الإسلام لايغدر ولا يبدأ بالعدوان . يتدبروا أمرهم فيها ، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فهم إخوة في الدين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم . وذلك مع الوفاء بالعهد ولم يظهر منهم نية للغدر فلهم الوفاء بالعهد إلي المدة التي اتفق عليها .[33]
والخلاصة أمر بالوفاء لمن احترم العهد ، وأمر بالقتال لمن غدر وبدأ بالعدوان
أسباب عقيدية :
ويتلخص السبب العقيدى بتكليف الله تعالي للجماعة المؤمنة بصيانة البيت من الدنس والشرك . منع المشركين من الطواف بالبيت وهم يعلنون شركهم ، ويتعرون من ثيابهم .
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميرا علي الحج بعد رجوعه من تبوك ، ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة . قال أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل مني ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . [34]
البراء من أهل الكتاب :
يقيم الإسلام نظامه علي حرية العقيدة فلا إكراه في الدين ، ويراعي الإسلام الفرق بينهم وبين الوثنيين ، فهم عندهم بقايا كتاب حرفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به . ومن ثم يجيز التعامل معهم ، وحل طعامهم ، والزواج من المحصنات منهم .
ولكنه بين الدين الحق ، ويعرف الانحراف عنه في العقيدة والشريعة . ومن ثم كانت هناك أسباب سياسية وأسباب عقيدية يبرأ منها المسلم ويبرأ ممن يؤمن بها وإلا لأحب أن يعصي الله في الأرض .
الأسباب العقيدية :
1- أنهم انحرفوا عن الدين الحق في معرفة حقيقة الألوهية وحقيقة اليوم الآخر .
2- أنهم ادعوا لله الولد ، سواء من بعض اليهود ( قيل أربعة وقيل واحدا ، وأسند إلي الكل لغة كما هي عادة العرب في الخطاب)[35]، وكذلك من النصارى ممن يقولون بألوهية عيسي عليه السلام.
3- أنهم يشركون بالله في عالم التشريع فيحلوا ويحرموا بغير ما أنزل الله عن طريق الأحبار والرهبان.
الأسباب السياسية :
لم يبدأ الإسلام أهل الكتاب أبدا بالعدوان . ولكنهم منذ قيام الإسلام وهم يناوؤنه ويتحرشون به ويحرضون عليه . سواء كان ذلك من يهود المدينة ، أو من الروم النصارى في أقصي الشمال من الجزيرة العربية . واستمر هذا العدوان علي مدار التاريخ ، مرورا بالحرب الصليبية ، حتي ذلك العدوان الغربي الغاشم علي الإسلام منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادى ، وأخيرا تواطؤهم مع الصهيونيين الذين لا يتوبون عن الغدر والفتن ، ووضع لغم في فلسطين يهددون به المسلمين . .
وتحدد السورة هذه الأسباب فيما يلي :
1- محاولتهم إطفاء نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره رغم أنفهم .
2- منازلة أهل الحق وهم يسعون إلي إظهار الحق والهدى .
3- أكل مال الناس بالباطل ، سواء كان بالتضليل عن طريق الأحبار والرهبان ، أو بالاستعمار عن طريق قراصنة الغرب في العصر الحديث . وهم بذلك يجمعون الثروات ويحرمون منها أهلها ويكنزونها في بلادهم .
" أى يأخذونها بالرشي وأنواع التصيد ، بإظهار الزهد والمبالغة في التدين ، ويستجلبونها بالنذور ونحوها ، فيكنزونها ولاينفقونها في سبيل الله ، بإقبال قلوب العباد إليهم . ومن هنا يخفون آيات الله الدالة عليه عن الناس خوفا علي انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك علي الحق .
روى البخارى في التفسير عن زيد بن وهب قال : مررت علي أبي ذر رضي الله عنه بالربذة قلت : ماأنزلك بهذه الأرض ؟ قال : كنا بالشام فقرأت : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ،الآية ، قال معاوية : ماهذه فينا ، ماهذه إلا في أهل الكتاب . قلت : إنها لفينا وفيهم .[36]
والجزية من جزى يجزى إذ قضي ماعليه.[37] وهي اسم مشتق من الجزاء ، يدفعه المواطنون من أهل الكتاب عن يد أى عن غني وقدرة ، وهم صاغرون أى طائعون لنظام الدولة .[38]
وتؤخذ الجزية من أهل الكتاب بالنص ، ومن المجوس حيث أخذها رسول الله صلي الله عليه وسلم من مجوس هجر .[39]
".. والصحيح قبولها من كل أمة وفي كل حال عند الدعاء إليها والإجابة بها ."[40]
فمن باب عدم الإكراه في الدين أنه لم يفرض عليهم في واجباتهم المالية اسم الزكاة ، لأنها عبادة عند المسلمين ، وفرض عليهم بديلا عنها جزاء رعايتهم اجتماعيا مساواة بالمسلمين ، وأعطاها مسمي الجزية .
ولما كانت الزكاة هي مورد الرعاية الاجتماعية للمسلمين ، كان مقابلها حتي تشمل مظلة الرعاية الجميع الجزية .
والجزية هي نفس الزكاة نسبا ونصابا وشروطا.
سئل ابن عباس عما في أموال أهل الذمة فقال : العفو ، يعني : الفضل . [41]
ويدل علي ذلك قول عمر لحذيفة وعثمان بن حنيف : لعلكما حملتما أهل الأرض مالايطيقون . فقالا : بل تركنا لهما فضلا . وهذا يدل علي أن الاعتبار بمقدار الطاقة ، وذلك يوجب اعتبار حالي الإعسار واليسار."[42]
وسبب مصطلح أهل الذمة أن في ذمة المسلمين الدفاع عنهم، ولما كانت الأمة المسلمة تدافع عن عقيدتها في الدرجة الأولي، وإلزام غير المسلمين بهذا العمل من باب الإكراه في الدين ، خصوصا إذا كان العدو من نفس دينهم، فقد أعفاهم الإسلام من ذلك ، إن أرادوا . وأبقي عليهم أنفسهم ، نظير أن يقدموا من أموالهم مقابل الدفاع عن الوطن ، وعيشهم في أمن من أى اعتداء. وهذه الضريبة لا يترك تقديرها للحكام، وإنما حددت بمضاعفة المفروض عليهم من الزكاة لمصرفين: الرعاية الاجتماعية والحماية من العدوان.
ولم تعرف الإنسانية في تاريخها الطويل أمة تقيم حياتها علي المبادئ وتحقق للعالمين الحرية والأمان منزهة عن روح العصبية والإقليمية ، مبرأة عن نوازع الأنانية والاستغلال ، مثل الأمة المسلمة.
والمؤمنون مطالبون بمحاربة الظلم وإنقاذ المستضعفين من طغيان المستكبرين . وهي مهمة سامية ليتحقق للعباد الحرية والعدل .
وعلي هذه القواعد تكفل الأمة الأمان والحرية لرعاياها من أهل الكتاب ، وتسميهم أهل الذمة ، وتمنع عنهم أى ظلم وتدفع عنهم كل عدوان ، بشرط ولائهم وعدم خيانتهم للعهد والميثاق . [43]
4-النسئ
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان .[44]
يبين الله تعالي لعباده أن الله خلق السماوات والأرض ، وزينها بالشمس والقمر ، ليعلم الناس عدد السنين والحساب . وقد بنيت العبادات علي هذا الحساب ، من الصلوات إلي الزكوات إلي الحج إلي الصيام.
وقد كان صيام النصارى يجرى علي الشهور القمرية فيأتي مرة في الصيف ومرة في الشتاء ومرة في الخريف ومرة في الربيع ، فلما اشتدت حرارة صيف نقلوا الصوم إلي الربيع وزادوا في العدد وتركوا ما تعبدوا به .
ونفس الحال حصل لمشركي الجزيرة العربية في الحج ، فكان الحج يتنقل بين الفصول . وكان ذلك يشق عليهم في الأسفار ويتعارض مع مواسم التجارة . فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية .
فعدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا منذ أن خلق الله السماوات والأرض ،منها أربعة حرم وفي حجة الوداع عادت العبادات والشهور إلي طبيعتها كما كانت قبل النسئ أى التأخير، ومنها شهر ذى الحجة ، وكانوا لايصيبونه إلا كل ست وعشرين سنة مرة ، وهو من ضلال أهل الشرك وتحريفهم لشريعة الله بالهوى رغبة في لعاعة الدنيا . فأبطل الإسلام النسيئ لأنه فعل أهل الشرك.
ساق الله تعالي هذا المثال بيانا لاتفاق طبيعة المشركين في الاجتراء علي حرمات الله ، وحلهم للحرام وتحريمهم للحلال . ومواجهتهم كل من يفضح انحرافهم بالعداوة والطغيان .
" فالله سبحانه لما عاب أهل الكتاب باتخاذ الرؤساء أربابا ، اشتدت الحاجة إلي بيان أنهم في البعد عن ذلك علي غاية لا تخفي علي متأمل ، فوصفه بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة ، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلا، وبأنهم يغشونهم لصدهم عن السبيل التي لا يخفي حسنها علي من له أدني نظرة ، ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلي السؤال عن العرب : هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم ؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أ شهر الحل ، والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء."[45]
ومن هنا كانت دعوة الله للمؤمنين أن يقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونهم المشركون كافة ، ووعد الله المؤمنين بالنصرة إذا ما اتقوا ربهم وأطاعوه . وكان العتاب لهؤلاء الذين دعوا إلي القتال شغلتهم لعاعة الحياة الدنيا، وكان ذلك في غزوة تبوك حيث الحر شديد والروم كثير ، وقد طابت الثمار والظلال . ومن ثم كان الوعيد شديدا بالعذاب ، وإنذارهم بأن الله يأتي بقوم غيرهم يحقق بهم الغاية ، دون أى تأثير لإزاحتهم . والمثال قريب حيث نصره الله بعد أن أخرجه الذين كفروا من مكة ولجأ إلي الغار هربا منهم . ولم يفقد ثقته بالله بل تيقن بنصره وأنزل الله السكينة علي قلبه وأزاح الحزن خوفا علي الدعوة عن صاحبه .
" فالله كان معهما بالعون والنصرة ، وهو كاف لكل مهم ، قوى علي دفع كل ملم ، فالذى تولي نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادرا علي أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أجر . وكما أنه كان موجودا في ذلك الزمان بأسمائه الحسني وصفاته العلي ، هو علي ذلك في هذا الزمان وكل زمان ، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم ، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله علي هذا المنوال إلا لفوزكم ، وفي هذه الآية من التويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلي منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذى أعطاه إياه ..
والصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلي الغار يدرك الرصد فيتقدم النبي صلي الله عليه وسلم ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما ، ويقول للنبي صلي الله عليه وسلم : إن قتلت أنا فأنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة . " [46]
النفير العام
إن المعتدين علي سلطان الله في الأرض لن يعدلوا عن غيهم بالموعظة الحسنة ، وإنما بالمواجهة والمنازلة ، ومن ثم كان دعوة الله عامة للمسلمين بالنفير أغنياء كانوا أم فقراء ، قلة كانوا أم كثرة ، ضعافا كانوا أم أقوياء.
ومن الناس من يتثاقل عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك ، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر ، وما كان من طيب الظلال في أرض الجنان ، وقت الأخذ في استواء الثمار ، كما هو مشهور في السر، اقتضي المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضي ، فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول مفارقة الأموال والأولاد ، وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين : قلته ، ومحبة الإقامة في الحدائق ، إيثارا للتمتع بها وخوفا من ضياعها ، مع أن بها قوام الأنفس ، فصار النظر إليها هو الحامل علي الشح بالأنفس فقدم تعالي الأموال علي الأنفس … وهذا الأمر وإن كان عاما ، فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية ، فإن العلم ، ولا يعد علما إلا النافع ، يحث علي العمل وعلي إحسانه بإخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم . وذلك قوله تعالي : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ."[47]
ورفع ربنا سبحانه وتعالي النفير للفقه والعلم ، كالنفير للجهاد ، في سبيل الله سواء بسواء ، يحقق نفس الغاية ويحقق نفس الجزاء . يقول تعالي: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(122)
البراء من المنافقين
من أكبر دواعي النفاق حب الدنيا وكراهية الموت . ولهذا كان من علامات المنافقين الجبن والبخل ، يترتب عليهما المسارعة إلي المكاسب الدنيوية والتهرب من التكاليف الأخروية ، فالأولي شهوات لاتكلف شيئا والثانية تضحيات تطلب بذلا للنفس والمال . ويستعينون علي إخفاء هذا الضعف بالحلف الكاذب والاعتذارات المزيفة .
وينكشف هذا الضعف حين الدعوة إلي الجهاد فهو يتطلب بذل للنفس وإنفاق للمال . والذى يؤمن بالله واليوم الآخر يسارع إلي الجهاد لعلمه بخير الجزاء في الآخرة ، أما المنافق فإنه يسارع للاعتذار ويكثر من الحلف علي صدقه لأنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وتنطوى نفسه علي الارتياب في دين الله ، ومن ثم كان التردد في مهاوى هذه الريب . ومن هنا كان عتاب الله لرسوله صلي الله عليه وسلم حين أذن لهم ، فكان الأولي ألا يقبل اعتذارهم حتي يظهر للناس الصادقين من الكاذبين . فهم أصلا لم يستعدوا للقتال ولم يجهزوا له فكيف يكونوا صادقين .
وهذا من غضب الله عليهم ، فثبطهم عن النفير في سبيل الله ، وزين لهم القعود مع النساء والعجزة ، كراهة منه تعالي أن ينالوا شرف نصرة دينه .
وهم بذلك مذبذبين لا يعدهم الناس من المؤمنين ولا يصرحون لهم بأنهم من الكافرين . ويترتب علي هذا مشاكل للصف المسلم إن لم يفهم حقيقة نفوسهم ومسار أعمالهم . ومن هنا بين الله للمؤمنين هذه الطبيعة المنحرفة بخباياها وسلوكياتها .
ومصلحة المسلمين هي في تخلف المنافقين . فهم بريبهم وترددهم ، وعجزهم عن اللحاق بأفق التضحية والبذل ، يثيرون الجدل في داخل الصف المسلم دفاعا عن ضعفهم وغيظا من قوة المتقين . وهذا يؤدى إلي الفرقة والاضطراب . فينشق الصف المسلم إلي شيع وأحزاب ، وتوهن قوة المسلمين بالصراع بينهم ، خصوصا هناك من يثق بهم لعدم اتضاح كفرهم فيسمع لهم ويتبني أراجيفهم .
والمنافق بطبيعته الملتوية ، وتخلفه عن الجهاد بالنفس والمال ، يغطي موقفه بأن يتلمس الخطأ للمسلمين في الخطة أو التوقيت أو غير ذلك . وهنا لأن الأمر مضي علي غير هواه ، يترصد بالمسلمين فإن أصاب المسلمين النصر أصابه الغم ، وإن قدر الله الابتلاء بالمصيبة فرح وظن أنه علي صواب ، وأنه أهل حكمة وبعد نظر ، وامتلأت جوانحهم بالشماتة والفرح. ومجرد إثارة الجدال في الصف المسلم بعد الهزيمة ، ومنطقة المثبطين بين الناس، يؤدى إلي التلاوم وإلقاء الخطأ علي البعض . وهذا من أعظم الفتن التي تصيب المسلمين حين لا يرضون بحكمة الله من وراء ما أصابهم بعد أن بذلوا استطاعتهم في تدبر أمرهم وجهاد عدوهم .
والمنافقون يقدمون علي الأيمان الكاذبة لستر حال نفاقهم ، والحقيقة أنهم قوم يحرصون علي حياتهم ولا يعدلون بذلك شيئا ، مما يجعلهم جبناء يعصف بهم الخوف، ويتمنون من أعماقهم ما يستر جبنهم وخورهم حتي لو كان حصنا يلجأون إليه أو مغارة في جبل أو نفق في الأرض يتوارون فيه ، فيرتدوا علي أعقابهم كالدابة الجامحة .
ويقدم القرآن فى سورة براءة هذه النفسية المريضة فى تشخيصات لها أربع محاور :
1- الطعن في ذمة القيادة ، يقول تعالي : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ..
2- الاستهزاء بالمؤمنين ، يقول تعالي : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ..
3- نقض العهد والميثاق ، يقول تعالي: ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ..
4- إثارة الفتن .
وسنوجز هذه المحاور حسب ترتيب السورة :
1- الطعن في ذمة القيادة :
لايتوقف المنافقون عن الطعن في القيادة المسلمة ، ويشيعون هذه المقالة في الجماهير ، وذلك لدناءة نفوسهم لشدة طمعهم وشرههم للمال ، ولذلك لايرضون بالعدل في القسمة ويظنون القسط جورا . أما المؤمنون فإنهم لعفتهم وقناعتهم يرضون بالقسمة ثقة في قيادتهم ، فهم لايطلبون من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا وإنما رغبة في رضاء الله وسعيا إلي الجنة .
والزكاة وهي الفريضة المالية الأولي لم يترك الله تعالي توزيعها لأحد وقسمها بنفسه في القرآن الكريم . يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : أنا قاسم أضع حيث أمرت .[48]
وقد منع رسول الله صلي الله عليه وسلم أهله من بني هاشم وبني عبد المطلب من أخذ الزكاة ، وفرض لهم في بيت مصالح المسلمين . وبهذا أغلق الباب علي دعاوى استغلال النفوذ ، ولم يدع سبيلا إلي اتهام أحد بأنه يعطي أهله .
2- الاستهزاء بالمؤمنين
لايجد المنافقون مدخلا إلي القيادة المسلمة بأساليبهم الملتوية من مداهنتهم ورئائهم ومواقفهم المتلونة ، والتي يتسللون بها عادة إلي مراكز القوى بإشباع غرورهم والمسارعة إلي أهوائهم ، لتحقيق مصالحهم . فلا يجدون من قيادة الأمة لاستقامتها إلا صدودا واستبعادا . ومن ثم تمتلئ قلوبهم بالحقد ، ونفوسهم بالغيظ ، فينفثون سمومهم في شكل إشاعات تطعن في القيادة بين جماهير الأمة المسلمة ، ويغلفون هذه السموم بدعوى المصلحة العامة والحرص علي العدالة .
وكانت التهمة التي وجهت للنبي صلي الله عليه وسلم أنه يسمع كل ما يقال دون أن يزنه ويتفحصه ، وهذا يدل علي فساد عقولهم ، فالنبي يؤمن بالله الذى يرعاه ، ويؤمن بالمؤمنين الذين اختبرهم في أشد الظروف وأقساها في القول والعمل ، وهو يجرى الأمور علي الظاهر و لايبالغ في التفتيش عن الباطن رحمة بالناس وسترا لعوراتهم .
وترى المنافقين يفعلون ذلك وفي أعماقهم خوف شديد أن ينكشف هذا الموقف ، والله سبحانه يتولي كشف ما تنطوى عليه صدورهم فيفضحهم ويحمي الصف المسلم من شرورهم . وفي هذه الحالة يتلون موقفهم بسرعة ليحولوا الجد إلي هزل ، والطعن إلي لعب برئ .
وهم يتمحلون اعتذارا أسوأ حيث يعترفون بخوضهم في أركان الدين وأعراض المسلمين ، فذلك الكفر بعد الإيمان .
ولما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين ، وكان ما سبق من الترغيب والترهيب كافيا في الإنابة ، وكان من لم يرجع بذلك عظيم الطغيان غريقا في الكفران ، أتبع ذلك الأمر بجهادهم بما يليق بعنادهم، ولما كان صلي الله عليه وسلم مطبوعا علي الرفق موصي به نبه عليه ربنا تبارك وتعالي بالغلظة عليهم ، لا بمثل اللين الذى عاملهم به حين استأذنوه بالأعذار الكاذبة عن دفع العدوان . وبين له تبارك وتعالي أن وسيلتهم الأيمان الفاجرة لينكروا ما فعلوه وما قالوه ، اعتمادا علي خلق المسلمين العظيم في الثقة واللين ، فسد الله عليهم هذا الطريق بأن نبه إلي أنهم كفروا وقالوا كلمة الكفر وهموا بالغدر نقمة علي المسلمين ، وكان أولي بهم أن يقروا بنعمة الله عليهم ، وأغناهم تعالي ببركة نبيه صلي الله عليه وسلم ، فيتوبوا إلي الله ويستغفروه. وما جزاء استمرارهم علي نقمتهم وعدوانهم ونفاقهم إلا العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، دون أن ينصرهم أحد .
وسيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم في المنافقين ، أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرهم إلي الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ويغلظ عليهم ، فهي مجاهدة تختلف عن مجاهدة الكفار ، التي تقوم علي السيف ، أما مجاهدة المنافقين فتكون بالحجة تارة وبالغلظة والانتهار أخرى .[49]
لكن الرسول والذين آمنوا معه طراز آخر ، يلبون حين الدعوة إلي بذل المال والنفس . وبذلك أعزهم الله بجهادهم فكانت لهم خيرات الدنيا والآخرة ، فقد سادوا الدنيا وأنعم الله عليهم برغد العيش ، وفي الآخرة لهم رضوان الله الكريم وجنات النعيم ، فهم المفلحون .
يقول تعالي: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61)يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ(63)يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)
3-نقض العهد والميثاق
وهذه الصفة لصيقة بحب الدنيا ، فحب الدنيا يؤدى إلي البخل والحرص ، فيتخلفون إذا دعوا للجهاد حفاظا علي أنفسهم ، ويشحون إذا دعوا إلي بذل المال حرصا علي ثرواتهم ، ومن ثم يدفع لنقض العهد والميثاق بالبذل والإنفاق إذا أغناهم الله ببركة رسوله . ولما كانت هذه الصفة مقيتة تشين صاحبها ، فإنه يحقد علي من تحرر من هذه الشهوة فأنفق حتي ولو كان فقيرا في حاجة إلي ما ينفق فيسخر منه ويلمزه، وأمواله وأولاده بذلك لعنة عليه فهي سبب فتنة لا رحمة ، ومحنة لا منحة ، فلا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من عز ولا ما في البذل من كرامة .
ولما كان صلي الله عليه وسلم شديد الحرص علي رشدهم ونفعهم ، وكان ابتداء علي التخيير بين الاستغفار وعدمه واستغفر صلي الله عليه وسلم لرأس النفاق ابن أبي وصلي عليه وقام علي قبره وصرح بأنه لو يعلم أنه لو زاد علي السبعين قبل ، لزاد . واستعظم عمر رضي الله عنه ذلك منه صلي الله عليه وسلم وشرع يمسك بثوبه ويقول : أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك . والنبي صلي الله عليه وسلم لأن النهي غير صريح وفقا لطبيعته في الرفق بالخليقة ومن جميل الطريقة الساعية للائتلاف . ونزل النهي الصريح . وفي موافقة الله تعالي لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له ، وقد وافقه الله تعالي مع هذا في أشياء كثيرة . [50]
ولذلك نهي الله أن يستغفر لهم ، ونهي أن يصلي عليهم وأن يقام علي قبورهم ، كما أمر الله تعالي بعدم الإذن لهم بالخروج ، فمكانهم مع الخوالف من النساء .
ولما انكشف موقفهم بادروا إلي طبيعتهم الممسوخة المليئة بالرجس في الحلف الكاذب والتبرؤ من أعمالهم، يعتذرون للمسلمين ليعرضوا عنهم ، والمسلمون يعرضون عنهم ولكن بعد أن يعرفوهم أنه لا يخيل عليهم التوائهم بعد أن فضح الله خبيئتهم .
يقول تعالي: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)فَلَمَّا ءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76)فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(77)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(78)
4- إثارة الفتن :
وقد أثار المنافقون الفتنة من قبل غزوة تبوك ، في يوم أحد بكسر قلوب المجاهدين وحفزهم علي الهروب حتي كاد بعضه أن يفشل .. وكما كان موقفهم مع يهود بني النضير وبني قينقاع لتقوية عدوكم وإضعاف أمركم . وفي غزوة الخندق بما وقع منهم من تكذيب ووصف وعد الرسول بأنه غرور حين بشرهم بملك الدنيا . . والإرجاف بالمؤمنين حين نقض بنو قريظة عهدهم . ويحرضون المؤمنين قائلين لامقام لكم فارجعوا ، ويدعون أن بيوتهم عورة ، وما يريدون إلا فرارا . رغم عهدهم وميثاقهم بالثبات في القتال ينتهزون الثغرات ويهولون الأحداث ليضعفوا من تماسك الصف المسلم .
"نرى ذلك في الإضرار بمعني المضارة لمسجد قباء ، وكفرا بالله ورسوله وتفريقا بين المؤمنين ، لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء جميعا ، فأرادوا تفريق جماعتهم ، والإرصاد : الانتظار به مجئ أبي عامر ، وهو الذى حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار." [51]
"أقبل رسول الله صلي الله عليه وسلم من تبوك حتي نزل بذى أوان ، وبينها وبين المدينة ساعة ، وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلي تبوك ، فقالوا : يارسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة ، والليلة المطيرة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . فقال: إني علي جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه . فلما نزل بذى أوان جاءه خبر المسجد من السماء ، فدعا ملاك بن الدخشم أخا بني سلمة بن عوف ، ومعن بن عدى العدلاني ، فقال : انطلقا إلي هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه ، وحرقاه . "[52]
" فنهي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يقوم فيه .. ورجح الصلاة في مسجد التقوى بأمرين:
1- أنه بني علي التقوى .. 2- أن فيه رجال يحبون أن يتطهروا ..
ولا يستوى من أسس بنيان دينه علي قاعدة قوية محكمة ، وهي الحق الذى هو تقوى الله ورضوانه خير ، مع من أسس علي قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطل.
والنفاق الذى مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم .. لكونه علي طرف جهنم ، كان إذا انهار ينهار في قعر جهنم . ولا نرى في العالم مثلا أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال .
وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنيانه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد ببنائه المعصية والكفر ، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء ، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم ..
فلما أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بتخريبه .. بقوا شاكين مرتابين .. وهذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون علي هذا النفاق .[53]
يقول تعالي: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107)لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)
البراء من المنافقين من الأعراب
بعد أن بين الله تعالي أوصاف الناس في الحضر ، وأظهر المنافقين منهم ، بين تعالي أوصاف الناس في البادية ، وخص المنافقين منهم بالتوضيح . وذلك لاختلاف الطباع ، فالمعروف أن أهل البادية فيهم من الجفوة ما يجعل نفاقهم أشد وأعظم. بسبب بعدهم عن الحاضرة التي هي موضع العلم والأحكام .
وبين القرآن الكريم صفات المنافقين من الأعراب ، فهم شديدو الكفر والنفاق ، ذلك لبداوتهم النافرة، وعدم تعودهم علي النظام والطاعة ، فكان من العسير تعليمهم فقه الدعوة والالتزام. . ومن ثم لا ينفقون إلا وهم كارهون ، ويعتبرونه مغرما لا قربي . كما أنهم لذلك يتربصون بالمؤمنين الدوائر. فقد كانوا يتصورون لغباوتهم أن غزوة تبوك بلا عودة لما يعرفون من قوة الروم وكثرتهم .
يقول تعالي: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(97)وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(98)
أصناف الناس من ناحية الموقف من الجهاد :
ولما استوفي ربنا تبارك وتعالي الأقسام الأربعة : قسمي الحضر وقسمي البدو ، ثم خلط بين قسمين منهم تشريفا للسابق وترغيبا للاحق ، خلط بين الجميع علي وجه آخر . ثم ذكر منهم فرقا منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار [54] أو متاب ، ومنهم من أخر أمره إلي يوم الحساب . [55]
وهنا يقسم ربنا سبحانه وتعالي الناس وفق موقفهم من الجهاد إلي مؤمنين ومنافقين :
1- السابقون إلي الإسلام من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان سواء من أسلم بعد الحديبية أو من حمل الإسلام في القرن الثاني .، وهم قاعدة الإسلام الصلبة.
2- الأعراب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فلا يتخلفون ويتخذون ما ينفق قربي لله ورسوله .
3- المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهم قوم مؤمنون تخلفوا في غزوة تبوك بغير عذر وأقروا بذلك ولهم أعمال صالحة ، ولم يتخلفوا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من قبل تبوك ، ثم ندموا وتابوا وكفروا عن ذنبهم بالصدقات واستغفر لهم رسول الله .وقد سمع الله دعاءهم وعلم تعالي صدقهم ، فأجابهم وأثابهم .
4- قوم مرجون لأمر الله ، اعترفوا بذنبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم ، وقيل هم الثلاثة الذين تخلفوا ، أرجئ أمرهم حتي تعطف ربنا تبارك وتعالي بالتوبة عليهم.
5- مردى المنافقين من الأعراب ومن أهل المدينة ، وهم صنف غير ظاهر لا يعلمهم إلا الله تعالي . تمردوا في حرفة النفاق وبلغوا إلي حيث لا تعلم نفاقهم لتمرسهم علي النفاق .
يقول تعالي : وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(101)وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(102)
***
وتبين لنا السورة في نهايتها مقومات النفاق ، فهم يتساءلون حين نزول آية من القرآن عن مدى استفادتهم منها ، ويستهزئون بالمسلمين سائلين عن هذه الاستفادة . وهي تزيد المؤمنين إيمانا ، أما المنافقين فلا تزيدهم إلا انحرافا واعوجاجا ، حتي يموتوا علي فسقهم وينالوا عقوبتهم .
وإذا أنزلت سورة فيها فضيحتهم ، راجعوا بعضهم البعض يتساءلون عمن كشف أسرارهم ، ولو اهتدوا لكان خيرا لهم ولكنهم ينصرفون معرضين في غباء وجحود .
وتختم السورة بتذكيرهم أن الرسول صلي الله عليه وسلم منكم في الأصل الواحد والرحم كالجامع . وهو كالطبيب المشفق علي المريض والأب الرحيم علي ولده ، يعز عليه معاناتكم ، حريص علي خيركم ، تشع نفسه بالرأفة والرحمة لكل المؤمنين .
يقول تعالي: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)
المناسبة
ناسب آخر الأنفال المبين للولاء للمؤمنين لأول التوبة الداعي إلي البراءة من المشركين .. تماما كما ناسب آخر الأعراف لأول الأنفال .
وصدر سورة براءة تفصيل لإجمال قوله تعالي في الأنفال : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ . وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله في الأنفال : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ . وأيضا آيات فضح المنافقين في سورة الأنفال: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فصلت في سورة براءة .
عن ابن عباس : كان المسلمون لايعلمون انقضاء السورة حتي ينزل :بسم الله الرحمن الرحيم ، فلما نزل علم أن السورة قد انقضت . فلما اشتبه أمر براءة تركوا كتابة البسملة في أولها وفصلوها عن الأنفال قليلا .. أما بيان تشابه قصتيهما تفصيلا : فلما في كل منهما من نبذ العهد إلي من خيف نقضه ، وأن المسجد الحرام لا يصلح لولايته إلا المتقون ، وأن المشركين نجس لا صلاحية فيهم لقربانه ، وأن قلة حزب الله لا تضرهم إذا لزموا دعائم النصر الخمس وكثرتهم لا تغنيهم إذا حصل في ثباتهم لبس ، والحث علي الجهاد في غير موضع ، وضمان الغني كما أشار إليه في الأنفال . . وذكر أحكام الصدقات التي هي من وادى الغنائم ، وعد أصناف كل . والأمر بالإنفاق .. والتناصر بالإنفاق وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذى أرصدوه حتي استعانوا به في غزوة أحد .. وبيان أحوال المنافقين المشار إليه في الأنفال . والأمر الجامع للكل أنهما معا في بيان حال النبي صلي الله عليه وسلم في أول أمره وأثنائه ومنتهاه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في كتابه : اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف بتوجيهه ، حتي أن شدة المشابهة والالتئام ، مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بين انفصالهما ، أوجب أن لايفصل بينهما .. وذلك أن الأنفال تضمنت الأمر بالقتال .. وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوب فيها بالثبوت ولحوق التأثيم للفار ، وأنها علي حكم الضعف ، وحكم الأسارى وحكم ولاية المؤمنين ، وما يدخل تحت هذه الولاية ومن يخرج عنها ، ثم ذكر في السورة الأخرى حكم من عهد إليه من المشركين ، والبراءة منهم إذا لم يوفوا ، وحكم من استجار منهم إلي ما يتعلق بهذا . وكله باب واحد ، وأحكام متواردة علي قصة واحدة ، وهي تحرير حكم المخالف ، فالتحمت السورتان أعظم التحام ، ثم عاد الكلام إلي حكم المنافقين وهتك أستارهم . [56]
[1] البقاعي ، نظم الدرر ج 3 ص 256
[2] مسلم حديث 746
[3] اأخرجه البخارى رقم 4605 من حديث البراء بن عازب .
[4] الرازى ، مفاتيح الغيب ج15 ص 173
[5] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج 6 ص 396
[6] ابن العربي ، أحكام القرآن ج2 ص 903
[7] السيوطي ، تناسق الدرر في تناسب السور ، ص 55-58 دار الكتاب العربي 1983م
[8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 15-16
[9] الجصاص ، أحكام القرآن ج3 ص 87
[10] ابن العربي ، أحكام القرآن ج2 ص 90
[11] رواه النسائي وأحمد وابن حبان ،الألباني ، صحيح الجامع الصغير ، ج1 ص 339،340
[12] سيد قطب ، في ظلال القرآن جذ6 ص 1162-1163
[13] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج3 ص 1676
[14] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 104-106
[15] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 291-295
[16] ابن العربي ، أحكام القرآن ج2 ص 1037
[17] الجصاص ، أخكام القرآن ج3 ص 160
[18] النووى ، رياض الصاحلين ص 10مطبعة الكتبي دمشق
[19] البخارى ج11 ص 85
[20] رواه مسلم حديث رقم 2760
[21] ابن القيم ، زاد المعاد ، ج 3 ص 465 مكتبة المنار الإسلامية 2004.
[22] ابن عطية ، المحرر الوجيز ، ج 6 ص 448-449
[23] صحيح مسلم ج2 ص 92-93
[24] ابن القيم ، زاد المعاد ج 3 ص 474 والحديث عند البخارى 8/38 ومسلم (1061) تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط
[25] نفس المصدر ص 475-476 والحديث في البخارى 8/24،25 .
[26] ابن القيم ، زاد المعاد ، ج 3 ص 572،465 مكتبة المنار الإسلامية 2004م
[27] ابن عطيه ، المحرر الوجيز ، ج6 ص396
[28] ابن قيم الجوزية ، زاد المعاد ، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة 1994ص126
[29] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 255
[30] البخارى حديث 4086
[31] البخارى حديث 4193
[32] البخارى حديث 4090
[33] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 274-278
[34] البخارى حديث 4656
[35] البقاعي : نظم الدرر ج3 ص 301
[36] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 305، 306
[37] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 25
[38] الماوردى ، الأحكام السلطانية ، ص 142-143 دار الفكر
[39] البخارى ج4 ص 117 مطبعة الشعب
[40] ابن العربي ، أحكام القرآن ج2 ص 922-923
[41] يحي بن آدم القرشي ، الخراج ، ص 74
[42] الجصاص ، أحكام القرأن ج3 ص 96-97
[43] راجع تفصيل ذلك في كتابنا" فقه الاقتصاد العام ص 297 دار القلم 2004
[44] أخرجه البخارى حديث 5550
[45] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 319
[46] البقاعي ، نظم الدرر ج 3 ص320-321
[47] البقاعي ، نظم الدرر ج2 ص 322
[48] الألباني ، صحيح سنن الترمذى ج1 ص 101
[49] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 108
[50] الحديث بالكامل رواه البخارى رقم 4670،4672ومسلم حديث 2400، 2774
[51] أبو الفرج الجوزى ، زاد المسير ج 3 ص 377
[52] ابن القيم ، زاد المعاد ج 3 ص 519
[53] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 155-157
[54] البقاعي ، نظم الدرر ج 3 ص 380
[55] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 380
[56] البقاعي ، نظم الدرر ج 3 ص 359-360تعليق
-
بين سورة الأنفال وسورة التوبة
سورة الأنفال والتوبة تقدمان موضوعاً واحداً من زوايا مختلفة . ويلاحظ ذلك فى التقابل الهندسى المعجز بين موضوعى كلا السورتين :
صفات المجاهدين : نجد فى سورة الأنفال ، تهتم بتربية الصف المؤمن على القيم التى تؤهله للجهاد فى مواجهة هجمة الأعداء . ومن ثم تبدأ السورة بصفات المؤمنين فى معرفة الله والتوكل عليه والإيمان بكتبه ورسله . فهذه القاعدة هى التى يؤسس عليها خلق البذل للنفس والمال فى سبيل الله ، والثبات فى القتال وعدم الفرار عند المواجهة . تلقى درساً آخر فى تربية المؤمن على طاعة الله ورسوله، والاستجابة لأوامره ونواهيه ، وتقواه فى السر والعلن . فهذه قاعدة الألفة بينهم التى تجنبهم النزاع والفشل . وهؤلاء وصفهم تعالى أنهم هم المؤمنون حقاً فى أول السورة .
وفى آخر السورة ، يربى القرآن المؤمنين على خلق الولاء للمؤمنين ، ويحدد درجات هذا الولاء ، ابتداء من الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، والذين أمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، والذين أمنوا ولم يهاجروا . وهؤلاء الذين يوالون المؤمنين وصفهم تعالى فى آخر السورة بأنهم هم المؤمنون حقاً
مقومات النصر : هذه التربية شرط ضروري لتحقيق النصر . فما توفرت مقوماتها تحقق نصر الله . فليس هم الأداة الوحيدة للنصر ، فجند الله كثير .
درس من التاريخ : وكان ذلك مناسباً لقصة غزوة بدر ، ونصرة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة ، وتنزيل الملائكة ، ونزول المطر ، وغشيان النعاس .
يشير القرآن بسرعة إلى صفات الكافرين ، والتنبيه أنهم بعضهم أولياء بعض ، وإذا لم يواجهوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير ، ويحذر المؤمنين من خيانة الأمانة وفتنة المال والولد ، والخروج بطر ورئاء الناس .
صفات الكافرين المعاندين : بينما سورة التوبة تبين بالتفصيل صفات الكافرين ، حيث تمتلئ قلوبهم بالحقد والغل ، ويعقدون العزم على إبادة المسلمين ، ويستعملون فى ذلك كل أساليب الخداع والخيانة ، فلا يرتبطون بعهد ولا يحترمون ميثاق . وتبدأ السورة فى تحديد هذه الصفات بالمشركين ، ثم تحدد هذه الصفات عند أهل الكتاب ، ثم تبين صفات المنافقين الذين يعيشون فى داخل الصف المسلم ، سواء كانوا من أهل المدينة أو من حولهم من الأعراب .
ومن ثم تأخذ السورة فى تربية المؤمنين على خلق البراء من هؤلاء جميعاً، حماية للصف المؤمن من خيانتهم ، وصيانة لأسرار الأمة وقدراتها من أن تصل إليهم . مذكراً أن المنافقين بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ، نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، فأولئك هم الفاسقون .
أسباب الهزيمة : وتحدد السورة أسباب الهزيمة ممثلاً فى الغرور بالقوة ونسيان أن الله هو الناصر والمعين ، وإلهاء المال والأولاد عن اللحاق بركب المجاهدين .
وبينما ختمت سورة الأنفال بالركون إلي الله تعالي حيث هو وحده الذى يقدر كل شيء ، وينصر المؤمنين ويدافع عنهم .
وإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)
ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(64)
ختمت سورة التوبة بأعذب الوصف للرسول الكريم في حرصه ورأفته ورحمته بالمؤمنين ، وأعظم التوكل ، وأحسن الثناء علي رب العرش العظيم ، في مواجهة المتعنتين.
لقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)
تعليق
-
منهج التربية الاجتماعية للأمة المسلمة
كما يبينه
الثلث الثاني من القرآن العظيم
مقدمة
بعد أن انتهينا من تدبر السبع الطوال ، في الثلث الأول من القرآن نبدأ في تدبر الثلث الثاني.
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
أعطيت مكان التوراة السبع وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل . رواه أحمد والطبراني بنحوه . وفي رواية أخرى :
( أعطاني ربي السبع الطوال مكان التوراة والمئين مكان الإنجيل وفضلت بالمفصل )..[1]
وقال صلي الله عليه وسلم :
: إن الله أعطاني السبع مكان التوراة وأعطاني الراءات إلي الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني مابين الطواسين إلي الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل . ماقرأهم نبي من قبلي[2].
" والعلوم الدينية إما نظرية وإما عملية :
أما النظرية فهي معرفة الإله تعالي ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ، وهذا الكتاب مشتمل علي شرائف هذه العلوم ولطائفها.
وأما العملية فهي إما ، تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه ، أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس .
ولانجد كتابا في العالم يساوى هذا الكتاب في هذه المطالب . فثبت أن هذا الكتاب مشتمل علي أشرف المطالب الروحانية ، وأعلي المباحث الإلهية ، فكان كتابا محكما غير قابل للنقض والهدم...
وجعلت آياته فصولا ، حلالا وحراما ، وأمثالا وترغيبا ، وترهيبا ومواعظ ، وأمرا ونهيا ، لكل معني فيها فصل قد أفرد به ، غير مختلط بغيره ، حتي تستكمل فوائد كل واحد منها ، ويحصل الوقوف علي كل باب واحد منها علي الوجه الأكمل . ."[3]
وفي السبع الطوال تبينت لنا المقومات الأساسية للأمة ، وكانت الأحكام الشرعية تشغل مساحة كبيرة فيها .
وفي المئين نجد منظومة أخلاقية اجتماعية ، يربي الله تعالي بها المجتمع المسلم علي القيم ، ويصيغ علاقاته علي أساس من المثل والأخلاق .
وتستخدم القصة كأداة من أدوات التربية في هذا الثلث من القرآن الكريم ، وتطول فيها لأخذ العبرة عنها في الثلثين الآخرين .
وذلك لأن الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية ، فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك علي قلبه ... فإذا سمع الرسول صلي الله عليه وسلم هذه القصص ، وعلم حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا ، سهل عليه تحمل الأذى من قومه ، وأمكنه الصبر عليه ...
ويعوزنا هنا في البدء قبل الدخول في تفصيل ذلك أن نقارن بين مبادئ الأخلاق الاجتماعية في الفكر الوضعي ومبادئها في الإسلام .
منطلقات منهج علم الاجتماع المعاصر (إزاحة الدين)
من المعروف أن الفكر الغربي بعد أزمته مع الكاثوليكية في العصر الوسيط وإزاحته الغيب كمصدر لتنظيم حياته ، قام نظامه الحياتي ،كما يحدثنا أحد الغربيين ، علي محاور ثلاثة :
1- الاعتقاد بأن التقدم البشرى يمكن أن يقاس بمقاييس علمانية دنيوية . وأن المقاييس الخلقية العلمانية ، التي لا تتجاوز المصلحة البشرية الزمنية ، تكفي لتفسير تاريخ البشر وتنظيم شئونهم .
2- الاعتقاد بإمكانية الوصول إلي الحقيقة الموضوعية في دراسة التاريخ والمجتمع البشرى عن طريق العقل ، وأنه يمكن أن يصل العقل إلي مستوى الحياد فلا يميل مع هواه ونزعاته .
3- الاعتقاد بأن التقدم الاجتماعي يمكن أن يتم بواسطة وسائل تشريعية أو قضائية أو إدارية بشرية .. لا عن طريق الاعتقاد الروحي أو الدعوة الأخلاقية لتطهير القلوب أو تدخل القوى الغيبية …[4]
وهذه النظرة إلي الأخلاق تترك قوانين الإنسان الخلقية دون أى مقياس خارجي يمكن أن تقاس به . فالطبيعة البشرية ، بما فيها من شذوذ فردى وأهواء متقلبة واتجاه طاغ نحو توكيد ذاتها ، رفعت إلي منزلة قاض يصدر حكمه في قضايا هو فيها فريق . فالإنسانية التي تتركز حول الإنسان لا تعدو كونها إحياء لنظرية قديمة عفي عليها الزمن ، وهي نظرة السوفسطائي برتاغورس ، القائلة بأن الإنسان هو مقياس كل شئ ، ونتائج ذلك تشمل جميع ألوان النكبات في العصر الحديث . فالمذهب القائل بأن الإنسان مقياس لكل شئ ينشأ عنه ، علي سبيل المثال أن الاختلافات الخلقية إنما هي قضية ذوق ، وهو اعتقاد أصبح وبائيا في المجتمع الحديث .. ثم إذا لم يكن الكون تصميم خلقي أسمي من المصالح البشرية ، فإنه ينتج عن ذلك أن الإنسان وحده، وعن طريق ذاته فقط ، يعد طريق خلاصه . وبذلك تسلم الثقافة الليبرالية نفسها لنوع من المذاهب العقلية معرض للشطط . إنها لا تحسب حسابا للقوى التي تفوق العقل ، وتستطيع وحدها أن تسمو بالناس فوق ذواتهم . وليس باستطاعتها أن تيسر للناس عونا مصدره قوى أكبر من قوتهم ، ولا تنبئهم كيف يمكن لما فوق التعقل أن ينسكب في ذواتهم ، فيوحي إليهم ويشع النور في حياتهم ؟ وعلي هذا النحو يترك الناس عاجزين عن مكافحة القوة غير المتعقلة في نفوسهم ، ذلك لأن العقل البشرى ضعيف غير دافئ ، ودوما تتغلب عليه النوازع غير العاقلة ، وما لم يتح للناس نور ودفء أقوى من العقل ، يصارعون بهما قوة ما هو دون العقل ، فإن العقل نفسه مقضي عليه بالخذلان ."[5]
ومن هنا يعاني منهج التربية الاجتماعية الوضعي من عوارض تخرجه عن العلمية ، نتيجة التصدع الكبير الذى حدث في المنطلقات الفكرية الغربية بعد إزاحة القواعد الدينية وتعطيل فاعليتها .
وعلم الاجتماع ليس في حقيقتة إلا صياغة دينية لمعتوه فرنسي ، وملحد يهودى ، وشرذمة من الماركسيين واللادينين ، أرادوا له أن يكون دينا جديدا ، وأرادوا لأنفسهم أن يكونوا أنبياء ورسل هذا الدين الجديد ، ورغم ذلك فإنه لم يخرج عن كونه مجرد كلام عامي ، ورطانة غامضة ، أما النزعة العلمية التي يتمسك بها ، فقد كانت نزعة مزيفة باعتراف كبار المؤرخين الألمان ..
فالأساس التخلي عن أحكام ما فوق الطبيعة المتعلقة بالخلق والجنة والنار ، ويجتمع الناس علي قواعد الأخلاق الاجتماعية وليس علي أساس الدين والمعتقدات . الإنسان في علم الاجتماع هو ناتج الواقع يحدد له مصيره وينشئه ويحركه كيف يشاء ، ولهذا فإن عليه أن يخضع لقوى المجتمع ومعاييره . والإنسان في علم الاجتماع أيضا هو خالق الواقع كما أنه ناتج له في نفس الوقت . المجتمع يصنع الإنسان ، والإنسان بدوره يصنع المجتمع . .
والبناء الحالي لعلم الاجتماع يرجع بصورة أو بأخرى إلي الأفكار التي صاغها رواد مبكرون مثل باريتو الإيطالي ودوركايم الفرنسي وماكس فيبر الألماني و الأول كاثوليكي والثاني يهودى والثالث بروتستانتي ..
وقد فرضت مشكلة العلاقة بين العلم والدين نفسها علي الرواد الكبار الثلاثة . قال دوركايم : إن العلم يستطيع أن يفهم الدين ، وأن يفسر قيام معتقدات دينية جديدة ، . وقال ساخرا : لا تحفل بالدين0 ، لأن الرواسب لا تتغير ، وسوف تنشأ معتقدات جديدة دائما .
أما فيبر فقد كان يرى أن التناقض قائم بين مجتمع يقوم علي العقلانية وبين الحاجة إلي الاعتقاد والإيمان . يقول فيبر: إن الطبيعة كما يفسرها العلم وكما تعالجها التكنولوجيا ، ليس فيها متسع لسحر الدين وأساطيره القديمة . يجب أن ينسحب الإيمان ليعيش في عزلة مع الضمير ..
أما باريتو فقد كان مصرا علي أن القضايا التي يمكن التوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي هي وحدها العملية ، وكل القضايا الأخرى وخاصة الأخلاقية والميتافيزيقية ، ليس لها أى قيمة علمية..
وقد وجه العلماء الثلاثة النظر إلي علم الاجتماع كمفهوم لعلم الفعل الجمعي ، ورأوا أن الإنسان كمخلوق اجتماعي وديني هو خالق القيم والنظم ، وأن الدين لايمكن أن يكون أساس النظام الاجتماعي مرة أخرى.
هذا بالنسبة للرواد الكبار . أما العلماء المعاصرون فقد ساروا في نفس منهج هؤلاء الرواد .. فلا يخلو كتاب في علم الاجتماع في بلادنا من الإشارة إلي بارسونز والكتابة عنه، وهو الذى يرفض الدين بعنف . يقول روبرتسون في مقالته عنه : إن حديثنا عن الدين يعني العودة لموضوع رفض بارسونز الإيمان به بثبات ، وأنه بالرغم من عدم إيمانه بالدين فقد كتب فيه مالم يكتب أى عالم اجتماعي آخر ..
وعلماء الشرق ينقلون هذه الأفكار ، ويعرفون بأن دورهم هو دور النادل الذى يقدم الطعام دون أن تكون له أية مسؤولية عن طهوه . فهم لم يشاركوا في صياغة هذه النظريات التي تبنوها ويرددونها بشكل آلي، ويبررون أخذهم لهذه النظريات بأن الحضارة الإنسانية لا تتوقف عن المسير ، ونحن نعطي لها ونأخذ منها .[6]
" يقول ماك جي ، أستاذ الاجتماع بجامعة سنترال واشنطن :
إن العلم الاجتماعي الحديث يسرق إنسانيتنا من خلال تزييفه للقيم والدوافع الإنسانية واستبدالها بمنظورات يسميها علمية .. إنني غير مرتاح لاتجاه العلوم الاجتماعية عامة ، وعلم الاجتماع خاصة ، إن وجودنا كعلماء اجتماعيين يتوقف علي تزييفنا للقيم ولدوافع والأنظمة الاجتماعية ، ولكن إلي متي؟ "[7]
الأخلاق بين النسبية والثبات :
وكان من النتائج الخطيرة المترتبة علي سيادة المنهج الوضعي أنه عمل علي إحلال النسبية محل المطلق ، فلم يعد علم الاجتماع يبحث في الصيغ والأشكال والصور المطلقة للنظم ، واعتبر هذا البحث من سمات المنهج اللاهوتي الذى يؤمن بوجود أشكال وأقوال محددة للنظم الاجتماعية ، بينما اعتقد علماء الاجتماع أن الواقع الاجتماعي يخضع لتغير دائم ، وأن الحقائق الاجتماعية تبعا لذلك حقائق نسبية غير ثابتة وغير قادرة ، تتجدد حسب تجدد أحوال المجتمعات وأعراف الناس وتقاليدهم ، ومن ثم تأتي في نظرهم ضرورة النظرة النسبية إلي النظم الاجتماعية والتحرر من النظرة المطلقة التي تحدد ثوابت للأخلاق .
أمام هذا التحول الجديد لم يعد من الممكن أن نتحدث عن وجود نموذج مثالي يجب أن نتطلع إليه ونعمل علي صياغة سلوكنا الاجتماعي وفق أهدافه ومقرراته . فالنظرة النسبية تقتضي منا أن نثبت لكل مجتمع مثله وقيمه الخاصة ، وليس هناك مثال مستقل خارج الظروف الزمانية والمكانية لكل مجتمع ، وبالتالي فليست هناك صورة واحدة لمفهوم الخير والشر والحسن والقبح ، فالقيم الأخلاقية والدينية كلها قيم نسبية ومتطورة ، وتأخذ شرعيتها فقط من الوسط البيئي والاجتماعي ، الذى توجد فيه . وكل مجتمع يضع لنفسه مثالا حول الإنسان ، وما ينبغي أن يكون عليه ، سواء من وجهة النظر العقلية أو المادية أو الأخلاقية .[8]
صحيح أن خط العلم التجريبي دائما صاعد ، وأن البيئة المادية متغيرة ومتطورة ، إلا أن الملاحظ أن الإنسان بتكوينه الحيوى من غرائز وأشواق لم يتغير علي مدى الزمان . وما العلم التجريبي والبيئة المادية والاجتماعية إلا معمل لتجربته في الحياة وابتلاء في نوعية عمله . ومن ثم فإن التكوين النفسي للإنسان، الذى يتميز بعدم تغيره ، لا يتحرك حول محور صاعد دائما كالعلم التجريبي ، وإنما يتحرك حول محور ثابت بين منطقتين يسلك أحدهما : منطقة الفجور إن أذعن لغرائزه واتبع هواه وشيطانه ، ومنطقة التقوى إن استجاب للحق واستقام علي هداه .
فنفس الإنسان عرضة للهبوط والارتقاء والزلل والاستقامة . وتعتمد النفس علي شئ آخر غير كم ودرجة الظروف المادية ، والحكم علي الإنسان إنما يكون بنوعية تعامله مع الحياة لا بالدرجة التي تغيرت بها . والاستقامة الأخلاقية هي التي تدفع الإنسان إلي أن يسلك سبيل الخير لاسبيل الشر ، وسبيل الهدى لاسبيل الضلال، وسبيل الحق لا سبيل الباطل ، وسبيل العدل لا سبيل الظلم ، وسبيل الأمانة لا سبيل الخيانة ، وهذه هي مفردات العمل الصالح في كتاب الله وسنة رسوله.
ومن هنا نجد في القرآن الكريم ثباتا في العقائد القاطعة كالتوحيد وإرسال الرسل وإنزال الكتب وختم النبوات بمحمد صلي الله عليه وسلم والبعث بعد الموت والجزاء علي الأعمال في الدار الآخرة . ونراه أيضا في الأحكام العملية التشريعية ذات الطبيعة الثابتة ينظمها بأوامر ثابتة غير متغيرة كالميراث والحدود . وفي القيم الاجتماعية التي لا تتغير كالعفة والإحسان والعدل .
القيم الإسلامية
إن الأخلاق ماهي إلا منهج حياة تتصل بالماضي والمستقبل ، وترتبط بحركة الكون كله ، والإنسان محدود العلم والطاقة ، لا يستطيع أن يحدد منهجا ثابتا للأخلاق يلائم الناس جميعا في زمان معين وفي كل زمان ، علي مدى العصور والأيام . والإسلام وحده هو الذى يقدر أن يضع حدا لهذا التخبط . فالإسلام وضع قواعد ثابتة لا تتغير ، لأنها من عند الله الحكيم الذى يهدى إلي ما يسعد البشر ، والعليم بما يحيط بالإنسان من زمان ومكان .
فالله وحده هو القادر علي ذلك . ومن ثم لا بد أن تتحدد الأخلاق بسنة الله التي أمر بها الإنسان ، في وسط لا إفراط فيه ولا تفريط ولا غلو ولاتقصير . يقول ابن قيم الجوزية :
" للأخلاق حد متي جاوزته صارت عدوانا ، ومتي قصرت عنه كانت نقصا ومهانة ، فللغضب حد هو الشجاعة المحمودة ، والأنفة من الرذائل والنقائص ، وهذا كمال إذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار ، وإن نقص عنه جبن ولن يأنف من الرذائل . وللحرص حد هو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها ، فمتي نقصت عن ذلك كان مهانة وإضاعة ، ومتي زاد عليه كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه . وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيره ، متي تعدت ذلك صار بغيا وظلما ، يتمني معه زوال النعمة عن المحسود ، ويحرص علي إيذائه ، ومتي نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس ."[9]
ومن ثم كان القرآن كتاب هداية أصلا ، وخطابه موجه لهذه النفس البشرية ، وقيم القرآن ثابتة لا تتغير ، وهي موجهة للنفس البشرية الثابتة التي لاتتغير .
والأخلاق الفاضلة عنصر رئيس في بقاء الأمم ونهوضها ، وهي تؤثر علي مسيرة المجتمعات سلبا وإيجابا ، فالأخلاق الفاضلة تشيع في المجتمعات الرحمة والترابط ، والأخلاق السيئة تحيل المجتمعات إلي صراع وفساد .
وهي لهذا متممة للشريعة ، تفلح بها النفس البشرية ، وتتماسك بها المجتمعات الإنسانية . ويتحقق بها فاعلية الأحكام ، ومن ثم كانت سنة كونية شرعية ، تراها في رسالات الرسل علي مدى التاريخ الإنساني تمثل مكانا هاما في دعوتهم وسياستهم .
والتقوى هي معين الأخلاق الفاضلة تمدها فترى غضة طرية في حياة المؤمنين ، والتقوى تتحقق بمعرفة الله تعالي ، واليقين باليوم الاخر.
والمنهج الإسلامي عامر بمكارم الأخلاق . يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق .[10]
فهو صلي الله عليه وسلم ، كان خلقه القرآن ، لأن الله تعالي اصطفاه ورباه علي الخلق العظيم ، ليكون نبراسا تقتبس منه الإنسانية وتتأسي بهذه الأسوة الحسنة .
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن .[11]
ويقول صلي الله عليه وسلم "
أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون .[12]
أسلوب القرآن في التربية
وللقرآن أسلوبه في عرض القيم الأخلاقية . فهو يقدمها بطريق مباشر عن طريق الأمر والنهي ، والحض والمنع والإنذار والتبشير ، أو يقدمها بطريق غير مباشر عن طريق الأمثال وأحداث التاريخ ، أو عن طريق الارتباط بين السنن الكونية والسنن الاجتماعية .
ويذكر القرآن أمثلة من الظواهر الاجتماعية كظاهرة التقليد والترف والظلم والاستبداد في الحكم والإجرام وعبادة الأوثان والكواكب وتقديس الحيوان وعبادة الأزواج من الملائكة والجن ووأد البنات واحتقار المرأة وتطفيف الكيل والميزان واستغلال المستغلين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، وظهور الطبقية وامتيازاتها في المجتمع كطبقة رجال الدين من الأحبار والرهبان .. والحوادث الاقتصادية كتطفيف الكيل والميزان .. والانحرافات الخلقية كقوم لوط .. والنظم السياسية كحكم الشورى في مملكة بلقيس .. وحكم فرعون الاستبدادى وعلوه في الأرض وإفساده ..
وكما يشير القرآن الكريم إلي ارتباط حوادث الطبيعة بعضها ببعض ارتباطا مطردا منتظما ، إذ يدل علي تتابع حادثين ، سابقة ولاحقة ، تتابعا مطردا باستمرار كنزول المطر ونمو النبات ، يشير كذلك إلي ارتباط الحوادث الاجتماعية مثل هذا الارتباط المطرد .. فيتكرر في القرآن مثلا حصول الهلاك بعد ظهور الظلم .. وارتباط الترف بظاهرة الفسق والتصدى للحق .وارتباط الطاعة بالنصر والهزيمة بالعصيان . هذا الارتباط يدل علي القوانين الاجتماعية أو سنن الله في المجتمع والإنسان ، إذ ليس القانون الاجتماعي إلا الترابط المطرد بطريقة ما بين ظاهرتين.. ويذكر القرآن أن لله سننا في الأمم والجماعات ويدعو إلي السيرإليها والتفكر فيها .. [13]
ويربط القرآن دائما بين رحلة الدنيا وهدف الآخرة ، ويشير القرآن إلي أن البشر إذا اقتصروا في تطلعهم وهدفهم إلي الحياة الدنيا وحدها فإن النتيجة هي الصراع بين الكتل البشرية حول المال والإفساد في الأرض ، ولكن إذا ابتغيت الآخرة حين أخذ النصيب من الدنيا كان ذلك الاحسان الإصلاح في الأ رض كما في قصة قارون.
وينبه القرآن إلي أن المجتمع الإنساني في حالة حركة دائبة ، ولتغيره عوامل وأسباب .. ويستعمل القرآن عن تبدل الأحوال لفظ القرن والقرون .. والذنوب آفات وأمراض اجتماعية جعلها الله سببا وعاملا في هلاكهم .. فكم أهلك الله من قرية بطرت معيشتها . والإيمان والتقوى يؤدى إلي الرخاء والبركة . وكم تمكنت قرون بطاعتها الله وقيامها بالخلافة عنه . ومن ثم يتحدد القانون الإلهي : إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.
[1] الهيثمي ، مجمع الزوائد ج7 ص 161 ، رواه الطبرانى وفيه ليث بن أبى سلمة وقد ضعفه جماعة ويعتبر بحديثه وبقيمة رجاله رجال الصحيح .
. ضعيف الجامع الصغير الألباني ج1 [2].
[3] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 469 -471
[4] تشارل فرانكل ، أزمة الإنسان الحديث ص 54 مكتبة الحياة ، مؤسسة فرانكلين 1959م
[5] تشارل فرانكل ، أزمة الإنسان الحديث ص 63 مكتبة الحياة ، مؤسسة فرانكلين 1959م
[6] د. احمد إبراهيم خضر ، علماء الاجتماع ، وموقفهم من الإسلام ص 7-20المنتدى الإسلام لندن 1993م
[7] Chsrles Magchee, Spiritual Values and Sociology , The American Sociological R. 1954, pp 57-76
المصدر السابق ص 293
[8] محمد محمد امزيان ، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ، 123، 124-353 المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1991م
[9] ابن القيم ، مدارج السالكين ، ج2 ص 124
[10] الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1 ص 464
[11] الألباني ، الجامع الصغير ج1 ص 81
[12] الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 2 ص 414
[13] محمد المبارك ، نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع ص 30-33 المسلم المعاصر عدد 12 ديسمبر 1977متعليق
-
الموضوع المشترك لسور الر:
"نلاحظ علي هذه السور التي تبدأ بالحروف الر أنها جاءت متتابعة ، وأنه تأتـي بعد الفواتح عبارة "تلك آيات الكتاب"أو كلمة "كتاب" وهكذا بالتبادل ، مع تغير فيما يأتي بعد ذلك . فتكون : تلك آيات الكتاب الحكيم في يونس ، و كتاب أحكمت آياته في هود ، وتلك آيات الكتاب المبين في يوسف وكتاب أنزلناه إليك. في إبراهيم ، وتلك آيات الكتاب وقرآن مبين في الحجر . ويشير هذا إلي نوع من الارتباط بين السور ."[1]
وسور هذه المجموعة اغلبها مكية و القرآن المكي يتميز بتأصيله للعقيدة في نفوس الناس ، وهنا يتحدث بالتفصل ولايشير إلي الشريعة إلا علي سبيل الإجمال .
ومن ثم كانت الموضوعات الرئيسة في القرآن المكي هي:-
1- حقيقة الألوهية ، وإثبات التوحيد ونفي الشرك .
2- بيان أحوال اليوم الآخر. 3- دور الرسالة وصفاتها
4- حقائق الوحي وإعجازه. 5- تربية المجتمع المسلم علي قيم هذه القواعد الإيمانية .
وشجرة الر تشمل ذلك كله إلا ، أننا نلاحظ التركيز هنا علي حقيقة الرسالة والوحي .
ويجمع هذه الشجرة جامع مشترك هو مواجهة الظالمين وأتباعهم للمرسلين والمؤمنين بهم .
" يشهد لمراعاة الفواتح .. تقدم الحجر علي النحل لمناسبة ذوات (الراء) قبلها ، وتقدم آل عمران علي النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح ب(الم) وتوالي الطواسين ، الحواميم ، وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل ب (الم) . ولهذا قدمت السجدة علي الأحزاب التي هي أطول منها ."[2]
و المواجهة بين الرسل والظالمين تشغل السرد القرآني في شجرة الر. وبينما كانت مواجهة الظالمين في السبع الطوال تقوم علي أوامر تشريعية ، تحدد الحرب والسلام ، والهدنة والأمان ، فإن التربية علي المقاومة من داخل النفس تشغل سور الر ، فتغذى النفس بقيم العزة والصبر والثبات وتفويض الأمر لله تعالي.
والله تعالي يبين في هذه الشجرة مكر هؤلاء الظالمين بالمؤمنين ، ولانتابع هنا إلا ماورد فيه لفظ الظلم ظاهرا أما ماوجد ضمنا ، وماذكر من أوصافه استكبارا وعنادا وجبروتا وإجراما وطغيانا ، فهذا لايخفي علي من يتلو القرآن .
[1] أحمد رضوان ، مسائل في تأويل الأحاديث ص 11
[2] السيوطي ، تناسق الدرر في تناسب السور ص 57 دار الكتاب العربي1983تعليق
-
التوكل علي اللهكما تبينهمقدمة
سورة يونس
تتردد بين جنبات السورة أدلة تثبت أن الوحي حق ، وأن الله تعالي برحمته أرسل به الرسل لهداية العالمين إلي دار السلا م .
وفي هذا الوحي الشفاء من آفات الدنيا ، وتصل الإنسان بخالقه ورسالته في الأرض . فتربي النفس المؤمنة علي الولاية الكاملة لله تعالي والتفويض غير المشروط له والتوكل الكامل عليه . ، عقيدة وعملا ، باطنا وظاهرا . وعلي هذا فطر الله الإنسان ومن أجله خلق الكون والحياة .
وتقدم عبرة التاريخ من سير المرسلين في مواجهة ظلم الكافرين في حربهم لهذه العقيدة ، فتحكي قصة نوح مع قومه وتوكله علي الله في مواجهتهم ، وقصة موسي مع قومه ودعوته لهم بالتوكل علي الله في مواجهة جبرو ت فرعون .
وفي ختام السورة أمر الله تعالي بمفاصلة المشركين وإظهار التباين بين الإيمان والشرك ، وأوصي أولياء الله بما يلي :
1- الاستقامة علي أمر الله .
2- التوكل علي الله .
3- الرضا بالقضاء .
4- اتباع الوحي .
5- الصبر حتي يحكم الله .
الأساس العقيدى
إرسال الله لرسله رحمة منه بعباده . فالإنسان السوى الفطرة الصحيح العقل ، حين يتأمل الكون حوله يؤمن يقينا بخالقه ، وحين يتأمل النظام والحكمة فيه يؤمن بأنه خلق بالحق ، لالعبا ولاعبثا ، فيعرف الآخرة . وهذه قاعدة ضرورية لكل إيمان حق وعمل صالح، وبدونها يكون التقليد الغير واع أو العناد والصدود .
ولكن للعقل حدوده التي يعرفها الإنسان ويعلم أنه لايمكنه تجاوزها ، فمعرفة ذات الله والتعمق في معرفة تفاصيل المبدأ والمعاد ، لايمكنه في حدود قدراته الإدراكية أن يحيط بها . ومن رحمة الله به أن أرسل إليه الرسل يبينون له هذه الحقائق ، ويبلغوه برسالته ويهدونه منهاجه الذى يوصله إلي السلام والسلامة والحسني في الدنيا والآخرة . وأيد كل نبي فوق دليل الكون والعقل بالآية والمعجزة لكيلا يكون للناس علي الله حجة بعد الرسل . ومن هنا كان أمام كل بشر اليوم آيتان يقودانه إلي الإيمان بالله واليوم الآخر : آية الكون المشهود وآية القرآن المكتوب . ومن ثم كان ذلك التفصيل المستمر في سور القرآن لآية الوجود وآية الكتاب ، لتشرق علي النفوس السوية وتهدى العقول الذكية.
" فبعثة الأنبياء إلي الناس من الضروريات التي لابد لهم منها ، وذلك أن جل الناس يقصر عن معرفة منافعهم ومضارهم الأخروية جزئياتها وكلياتها ، وبعضهم وإن كان لهم سبيل إلي معرفة كليات ذلك علي سبيل الجملة ، فليس لهم سبيل إلي معرفة جزئياتها ، ولايمكن أن يعرفوا كيف يجب ، ولافي أى وقت يجب ، وكم يجب .
فلما كان كذلك من الله تعالي علي كافة عباده ، خاصهم وعامهم ، برسل بعثهم فيهم من أنفسهم ، يتلون عليه آياته ويزكونهم ويعلمونهم الكتاب والحكمة ، لكي إذا تمسكوا بذلك صلح معادهم ومعاشهم ، وسهل عليهم إدراكهم ، ولهذا أزاح الله تعالي علتهم ببعثة الأنبياء ..
ولكل نبي آيتان :-إحداهما : عقلية يعرفها أولو البصائر من الصديقين والشهداء والصالحين ومن يجرى مجراهم . والثانية : حسية يدركها أولو الأبصار من العامة .
فالأولي : مالهم من الأصول الزكية ، وصورهم المرضية ، وعلومهم الباهرة ، ودلائلهم المتقدمة عليهم والمستصحبة ، وأنوارهم الساطعة التي لاتخفي علي أولي البصائر ..
الثانية : هي المعجزة التي تدركها الحواس من الأنبياء ، وذلك يطلبه أحد رجلين ، إما ناقص عن معرفة الفرق بين الكلام الإلهي وبين الكلام البشرى ... فيحتاج إلي مايدركه بحسه ، لقصوره عن إدراك ذلك . وإما لناقص ، وهو مع نقصه معاند ، فيقصد بما يطلبه العناد.
فالله عز وجل أرسل إلي خلقه رسولان :
-أحدهما من الباطن وهو العقل .
والثاني : من الظاهر وهو الرسول .
ولاسبيل لأحد إلي الانتفاع بالرسول الظاهر مالم يتقدمه الانتفاع بالباطن ، فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر ، ولولاه لما كانت تلزم الحجة بقوله ، ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه علي العقل ، فأمره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها . فالعقل قائد والدين مدد ، ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيا ، ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرا ....."[1]
يبدأ الله تعالي السورة بتبيان حقيقة الرسالة ومهمتها ، وتبيان شبهة الكافرين في الوحي ، ويرد عليهم بأدلة التوحيد وأدلة المعاد :-
أ - أن القوم تعجبوا من تخصيص الله تعالي محمدا عليه الصلاة والسلام بالنبوة .
ب- أنهم كانوا يتبجحون باستعجال العذاب الذى أوعدهم به رسول الله صلي الله عليه وسلم .
ومن حكمة الله تعالي أن أرسل الرسل منذرين الكافرين لبغيهم ومكرهم بآيات الله ، وركونهم إلي الدنيا، وولائهم لغير الله ، بأن مصيرهم إلي النار بما كانوا يكسبون . ومبشرين للمؤمنين بولايتهم لله ، والتزامهم صالح الأعمال ، بنعيم الآخرة في دار السلام حامدين الله علي عطائه ورضوانه .
ج - "و الطريق إلي إثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام أمران :
(1)....ظهور المعجزة علي يده ، وكل من كان كذلك فهو رسول من عند الله حقا وصدقا .
وهذا الطريق مما ذكره الله تعالي في هذه السورة وقرره علي أحسن الوجوه ...
(2) أما الطريق الثاني فهو أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ماهو ؟ فكل من جاء ودعا الخلق إليه ، وحملهم عليه ، وكانت لنفسه قوة قوية في نقل الناس من الكفر إلي الإيمان ، ومن الاعتقاد الباطل إلي الاعتقاد الحق ، ومن الأعمال الداعية إلي الدنيا ، إلي الأعمال الداعية إلي الآخرة ، فهو النبي الحق الصادق المصدق .
ونفوس الخلق قد استولي عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا ، ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لاتحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح ، وحاصله يرجع إلي حرف واحد ، وهو أن كل ما قوّى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو العمل الصالح ، وكل ماكان الضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية .
وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلي إنسان كامل ، قوى النفس ، مشرق الروح ، علوى الطبيعة ، ويكون بحيث يقوى علي نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلي مقام الكمال ، وذلك هو النبي .
فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة : الناقصون ، والكاملون الذين لايقدرون علي تكميل الناقصين ، والقسم الثالث هو الكامل الذى يقدر علي تكميل الناقصين ، فالقسم الأول هو عامة الخلق ، والقسم الثاني هم الأولياء ، والقسم الثالث هم الأنبياء."[2]
يقول تعالي: الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(1)أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2)إِ
ويبين الله تعالي شبهات الكافرين عن الوحي، وهو القنطرة بين الرسالة والكتاب . من هذه الشبهات:
( أ )أنهم شرطوا لاستجابتهم من الرسول أن يأتي بغير هذا القرآن أو أن يبدله .
فقد كان الكفاريواجهون حملة القرآن علي عقائدهم المهلهلة ، وجاهليتهم المتناقضة ، بأن يكذبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم في نبوته ، والوحي إليه من ربه ، ويزعمون أنه ساحر . وأن يطلبوا منه أن يأتيهم بخارقة تدل علي أن أوحي إليه ...
وما أشبه الليلة بالبارحة ، فإن محاولات الصهونيين والصليبيين لتغيير المناهج حتي لا تكشف انحرافاتهم ، وحتي لا تتيقظ الأمة علي مؤامراتهم ، قائم إلي اليوم بمكر شيطاني .
ويرد عليهم بحجة دامغة، حيث الرسول كما يعرفونه لم يتلق علما ولادرسا طيلة عمره معهم ، فكيف يتسني له أن يأتي بهذا العلم وهذه الحكمة في تفصيل وصدق لاريب فيه ؟
(ب)أنهم طلبوا لإثبات الرسالة خارقة كونية تشهد بالرسالة .، فتبين السورة أن معجزة الإسلام الخالدة في كل زمان هي كتابه المجيد . ويتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله إن كانوا صادقين .
يقول تعالي: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(16)فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ(17)
ويتحدى الخلق مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله ، فالمعجزة القرآنية لاتخفي علي عاقل . إنه معجزة فيما أنبأ به من الغيب وتحقق . ومعجزة في العلوم الدنيوية في إشاراته العلمية التي صدقها العلم الحديث بعد أربعة عشرة قرنا من البحث والدرس . ومعجزة الأسلوب العلمي الذى يحض علي حرية البحث وفرضية التدبر والبعد عن الخرافة والتقليد . وهو معجزة في علومه الدينية حيث يقدم للناس في تكامل ودقة حقائق الغيب التي لايطيق إدراكها الناس بمداخل معارفهم المحدودة . وهو معجزة في مناهجه وتشريعه حيث قدم للبشرية نظاما للحياة واقعيا في مثاليته ومثاليا في واقعيته ، تشهد بمعجزته مشاكل المدنية المعاصرة التي تترنح بين الإفراط والتفريط.
إن تكذيب الكافرين لهذه المعجزة تعبير عن الجهل والعجز ، وهو علامة علي أنهم قد عطلوا أدوات المعرفة التي حباهم الله بها من سمع وبصر ، وعلي من يحترم العلم والمعرفة إلا أن يتبرأ من هذا التبجح والعناد والجهل والعقوق .
والنتيجة المحتمة لهذا هي العذاب ، سواء كان ذلك العذاب في الدنيا أو في الآحرة . ميعاده يحدده الله تعالي وحده ، وذلك لظلم الكافرين وتعطيلهم مداركهم وتغبيهم عن غاية وجودهم ، فهو الجزاء القسط الذى يستحقونه.
يقول تعالي: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(36)وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(37)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(38)بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم ْفَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
(مامن نبي من الأنبياء إلا أعطي مامثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذى أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.)[3]
يقول تعالي: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(53)وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(54)أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(55)هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(56) يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)
وهكذا أكد القرآن أنه حق في أكثر من عشرين موضعا في السورة ، ليبين أن أى شك في ذلك إنما هو بسبب نقص في الإدراك العقلي أو زيغ نحو هوي النفس .
يقول تعالي : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(94)وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(95)إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ(96)وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ(97)
موضوع السورة
تهتم السورة ابتداء بتعليم المؤمنين حقائق الغيب وحكمة الله فيه ، وبالأخص فيما يصيب الإنسان من الضر والخير ويرتكز الدرس هنا علي تفهيم المسلم بحقيقة الدنيا
.. فالإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء ، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء ، فإذا مسه الضر أقبل علي التضرع والد عاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا ، مجتهدا في الدعاء طالبا من الله تعالي إزالة تلك المحنة ، وتبديلها بالنعمة والمنحة ، فإذا كشف تعالي عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر ، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام ، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالي لكشف ضره ، وذلك يدل علي ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه .
إنما ذكر الله تعالي ذلك تنبيها علي أن هذه الطريقة مذمومة ، بل الواجب علي الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء ، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية ، حتي يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة .
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء.)[4]
ولقد أمر الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم أن يفهمهم أنه لايقدر علي جلب نفع ولادفع ضرر وماشاء الله من ذلك كان .
" وفي ذلك أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه ... الاستغاثة برسول الله صلي الله عليه وسلم عند نزول النوازل التي لايقدر علي دفعها إلا الله سبحانه . وكذلك من صار يطلب من الرسول صلي الله عليه وآله وسلم مالايقدر علي تحصيله إلا الله سبحانه. فإن هذا مقام رب العالمين الذى خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ورزقهم وأحياهم ويميتهم . فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ماهو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب لرب الأرباب القادر علي كل شئ الخالق الرازق المعطي المانع؟ وحسبك بما في ذلك موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده : لاأملك لنفسي ضرا ولانفعا .
يقول تعالي: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(49 )
يقول تعالي: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ(106)وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)
إن الله سبحانه وتعالي هو النافع الضار ، فإن أنزل ضرا لم يستطع أحد أن يكشفه كائنا من كان ، وإن أراد خيرا لم يستطع أحد أن يدفعه عنه ويحول بينه كائنا من كان ... فذلك فضل الله يتفضل به علي من يشاء من عباده ... وخصص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر .[5]
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر وكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ).[6]
" ورجح تعالي جانب الخير علي جانب الشر في ثلاثة أوجه :
1- أنه تعالي لما ذكر إمساس الضر بين أنه لاكاشف له إلا هو ، وذلك يدل علي أنه تعالي يزيل المضار ، لأن الاستثناء من النفي إثبات . ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لاراد لفضله ، وذلك يدل علي أن الخير مطلوب بالذات ، وأن الشر مطلوب بالعرض ، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث القدسي:(سبقت رحمتي غضبي ).
2- أنه تعالي قال في صفة الخير :يصيب به من يشاء ، وذلك يدل علي أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب.
3- أنه تعالي قال:وهو الغفور الرحيم ،وهذا أيضا يدل علي قوة جانب الرحمة .
وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالي بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع ، وأنه لاموجد سواه ولامعبود إلا إياه ، ثم نبه علي أن الخير مراد بالذات والشر مراد بالعرض ."[7]
ثم ترشدهم إلي أن بلوغ الرشد لا يتحقق إلا بالتوكل علي الله .
الولاية لله :
يبين الله تعالي مواصفات أولياء الله . فشرط الولاية الإيمان والتقوى ، وهو بالإيمان اليقيني بالله وحده وبالثواب والعقاب في الآخرة ، ثم العمل الصالح باتباع أوامر الله والانتهاء عما نهي عنه في كتابه العزيز علي لسان رسوله الأمين . والذى فيه الموعظة والشفاء والهدى والرحمة . ومن هذا شأنه لاخوف عليهم ولاهم يحزنون ولهم البشرى يقينا في الدنيا والاخرة ، هذا هو الرشد والفلاح والفوز العظيم .
يقول تعالي: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(65)
" فقوله تعالي: آمنوا إشارة إلي كمال حال القوة النظرية وقوله تعالي:وكانوا يتقون ، إشارة إلي كمال حال القوة العملية .
ومعني آخر ، وهو أن يحمل الإيمان علي مجموع الاعتقاد والعمل ، ثم نصف الولي بأنه كان متقيا في الكل.
أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلي من أن يحيط به عقل البشر ، فالتصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال ، فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصرا علي ذلك المقدار الذى عرفه ووصفه به ، وإذا عبد الله تعالي فهو يقدس الله تعالي عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار . فثبت أنه أبدا يكون في مقام الخوف والتقوى ..."[8]
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في الحديث القدسي : (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدى بشئ أحب إلي مما افترضت عليه ، ومايزال عبدى يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددى عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته .)[9]
وقال صلي الله عليه وسلم حين سأله أبو الدرداء عن آية :لهم البشرى في الحياة الدنيا،: ماسألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت ، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ."[10]
وعلي طرفي الولاية إفراط وتفريط زنيمين مذمومين ، طرف الشرك بالله في عالم الشهادة بالتحريم والتحليل في أرزاق الله مالم ينزل به سلطانا ، مذكرا بأن الذى له الحق في ذلك هو الذى له مافي السماوات والأرض ، والذى لايغيب عن علمه شئ في السماوات والأرض صغر أم كبر , ومن يحيي ويميت وإليه المصير ، وبين كيف يقابل العبيد فضل الله عليهم بالافتراء الكاذب عليه .
يقول تعالي: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ(59)وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ(60)
وفي الطرف الآخر يندد تعالي بالشرك به في عالم الغيب ونسبة الشركاء زورا إليه وادعاء الولد دون برهان له ، وكل من يفترى هذا الافتراء لايفلح ويلقي سوء المصير، وإن نال المتعة ال****ة في دنياه ، لأن نهايته إلي العذاب الشديد ، مقدما هذه العظة بحقيقة ملكه الشامل لمن في السماوات ومن في الأرض ، وفي محضن آياته في جعل الليل سكنا والنهار معاشا ، لعل في هذا الدليل ماتتفتح به العقول المغلقة والنفوس المطموسة.
يقول تعالي: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(68)قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ(69)مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)
" واعلم أنه تعالي لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد لله تعالي قول باطل ، ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل علي صحة قوله ، فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء علي الله ونسبة لما لايليق به إليه . فبين أن من هذا حاله لايفلح البتة ...
التوكل علي الله :
تأخذ السورة بعد ذلك في تجلية خصيصة هامة من خصائص الولاية لله ، وهي التوكل عليه. والتوكل هو اعتماد القلب علي الله ، وحسن الظن به ، والاستسلام لقضائه ، والرضا بقدره ، بعد اتخاذ الأسباب وبذل الطاقة . فمن توكل علي الله قبل الفعل ، ومن قام بالفعل صوابا ، ومن رضي بما قضي الله بعد الفعل ، فهو من أولياء الله . وذلك عكس الكافرين الذين إذا مسهم الخير طغوا وإذا مسهم الشر يئسوا ، ولايقدرون الله حق قدره فيستعجلون عذابه ويستهينون بوعيده .
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:
لو أنكم تتوكلون علي الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خمصا وتروح بطانا .[11]
وقال صلي الله عليه وسلم :
من قال – يعني إذا خرج من بيته – بسم الله توكلت علي الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له كفيت ووقيت ، وتنحي عنه الشيطان .[12]
وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يدعو قائلا :
"اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، اللهم إني أعوذ بعزتك ، لا إله إلا أنت ، أن تضلني ، أنت الحي الذى لايموت ، والجن والإنس يموتون ".[13]
التوكل عمل القلب ، وليس قول اللسان أو عمل الجوارح .. وهو حالة مركبة من مجموعة أمور لايتم التوكل إلا بها وهي :
1- معرفة بالرب وصفاته ، من قدرته ، وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلي علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته .
2- إثبات الأسباب والمسببات ، فمن نفاها فتوكله مدخول .. ونفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة ، لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه ..
3- رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل ، فحقيقة التوكل توحيد القلب ، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول..
4- اعتماد القلب علي الله وسكونه إليه ، بحيث لا يبقي في اضطراب من تشويش الأسباب ، والسكون إليها ..
5- حسن الظن بالله عز وجل .
6- استسلام القلب لله وترك منازعات نفسه وإرادتها معه تعالي ..
7- التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته ، وهو إلقاء أموره كلها إلي الله ، وإنزالها به طلبا واختيارا ، لا كرها واضطرارا ..
وكثير ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص . فيشتبه التفويض بالإضاعة ، فيضيع العبد حظه ، ظنا منه أن ذلك تفويض وتوكل ، وإنما هو تضييع لاتفويض ، فالتضييع في حق الله ، والتفويض في حقك .
ومنه اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز ، والفرق بينهما : أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ووثق بالله في طلوع ثمرته ، وتنميتها وتزكيتها ، كغارس الشجرة ، وباذر الأرض ، والمغتر العاجز : قد فرط فيما أمر به ، وزعم واثق بالله ، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود ..
والتوكل من أعم المقامات تعلقا بالأسماء الحسني . فإن له تعلقا خاصا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات . فلو تعلق باسم الغفار والعفو الرءوف والرحيم ، وتعلق باسم الفتاح والوهاب والرزاق ، والمعطي والمحسن ، وتعلق باسم المعز والمذل والحافظ والرافع والمانع من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه وخفضهم ومنعهم أسباب النصر . وتعلق بأسماء القدرة والإرادة ، وله تعلق عام بجميع الأسماء الحسني ، ولهذا فسره من فسره من الأئمة بأنه المعرفة بالله . وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد يصح له مقام التوكل ،وكلما كان بالله أعرف كان في توكله عليه أقوى .[14]
عبرة التاريخ
يحكي الله تعالي لنا قصة نوح عليه السلام حين يصل إلي الذروة في التوكل . فقد واجه عتاة قومه متحديا أن يجمعوا كل قوتهم ، وأن يستعينوا بما يزعمون من شركائهم ، وأن يجهروا دون تردد بشرهم ، وأن لاينتظروا في تهديدهم . وكانت سنة الله في غرقهم ، ونجاة المؤمنين وخلافتهم لما في الأرض جميعا . وهكذا فعل الله بالقرون من بعدهم حين كذبوا رسلهم.
يقول تعالي: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ(71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(72)فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ(73)ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ(74)
" لما أصر قوم نوح عليه السلام علي الكفر والجحد ، عجل الله هلاكهم بالغرق فذكر الله تعالي قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار ، وداعية إلي مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة ...
ولبث نوح عليه السلام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، لكنهم كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة .. ومن ألف طريقة في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعي إلي خلافها ، ويذكر له ركاكتها ، فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية ، فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة علي فساد ذلك المذهب كانت النفرة أشد ...
فقال لهم نوح عليه السلام :
* أجمعوا كل ماتقدرون عليه من الأسباب .
* ثم لم يقتصر علي ذلك بل أمرهم أن يضموا إلي أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب منهم .
* ثم لم يقتصر علي ذلك بل أراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة .
* ثم لم يقتصر علي ذلك بل دعاهم أن يوجهوا كل ما يزعموه من شرور إليه .
* ثم ضم إلي ذلك خامسا أن عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إنظار ...
ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل علي الله ، وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لايصل إليه ، ومكرهم لاينفذ فيه . "[15]
" ثم بين لهم أن كل ما أتي به إليهم من إلإعذار والإنذار وتبليغ الشريعة عن الله ، ليس هو لطمع دنيوى ، ولالغرض خسيس ... فما ثوابي في النصح والتذكير إلا عليه سبحانه ، فهو يثيبني آمنتم أو توليتم .... فقد أمرت أن أكون من المنقادين لحكم الله ، الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه ، لايأخذون عليها أجرا ، ولايطمعون في عاجل ..
واستمروا علي تكذيب نوح عليه السلام وأصروا علي ذلك ... فأنجاه الله ومن معه علي الفلك وجعلهم خلفاء يسكنون الأرض التي كانت للكافرين ... وأغرق تعالي الكفار المعاندين لنوح بالطوفان . ...
ثم بعث الله من بعد نوح رسلا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ، فجاءوا بالمعجزات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبي .. فما آمنوا بل استمروا علي الكفر وأصروا عليه ... واستمروا علي تكذيبهم السابق علي بعث الرسول إليهم .. .. وهكذا يطبع الله علي قلوب المتجاوزين للحد ."[16]
ويظهر التوكل واضحا علي موسي عليه السلام حين واجه فرعون دون أن يتلبث ، ونصح به قومه حين توعدهم فرعون بالعذاب . فأعلنوا توكلهم علي الله ، وتوجهوا إليه بالدعاء ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين وأن ينجيهم من القوم الكافرين ، ثم جعلوا بيوتهم قبلة يقيمون فيها الصلاة ويشتغلون بالدعاء .
يقول تعالي : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(75)فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ(76)قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(80)فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81)وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(82)فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ(83)
وقد عللوا عدم قبولهم دعوة موسي بأمرين :
1- التمسك بالتقليد للآباء .
2-الحرص علي الرياسة الدنيوية لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة . لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات ."[17]
" ويخبر تعالي أنه لم يؤمن بموسي عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات ، إلا قليل من قوم فرعون من الذرية ، وهم الشباب ، علي وجل وخوف منه ومن ملإيه أن يردوهم إلي ماكانوا عليه من الكفر ، لأن فرعون ، لعنه الله ، كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتو . وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديدا ... منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرة خازنه والسحرة أيضا فإنهم معدودون في قوم فرعون... والمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسي عليه السلام واستبشروا به ، وقد كانوا يعرفون وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة . وأن الله تعالي سينقذهم به من أسر فرعون ، ويظهرهم عليه . ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر ، فلم يجد عنه شيئا .."[18]
قوله تعالي: وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ(84)فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85)وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(87 )
" إن الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو إشارة إلي الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالي وإظهار الخضوع وترك التمرد . وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وأن ماسواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه.
وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلي الله تعالي، ويحصل في القلب نور التوكل علي الله ، فهذه الآية من لطائف الأسرار ، والتوكل علي الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلي الله تعالي والاعتماد في كل الأحوال علي الله تعالي .
واعلم أن من توكل علي الله في كل المهمات كفاه الله تعالي كل الملمات ..."[19]
ثم لما فعل بنو إسرائيل ذلك اشتغلوا بالدعاء ، فطلبوا من الله تعالي شيئين :-
1- ألا تجعلنا موضع عذاب لهم ، ببركة إيمانهم بالله .
2- النجاة من القوم الكافرين برحمة الله .
والتبوء : اتخذا المباءة أى المنزل كالتوطن : اتخاذ الوطن .
" وهذه التجربة التي يعرضها الله علي العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ، ليست خاصة ببني إسرائيل ، فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم طاردين في المجتمع الجاهلي ، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت ، وفسد الناس ، وأنتنت البيئة ، وكذلك كان الحال علي عهد فرعون في هذه الفترة ، وهنا يرشدهم الله إلي أمور :
* اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها ، ماأمكن في ذلك ، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة علي نفسها ، لتطهرها وتزكيها . وتدربها وتتظمها . حتي يأتي وعد الله لها .
* اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد ، تحسّ فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي ، وتزاول فيها عبادتها لربها علي نهج صحيح ، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور ..
الاستقامة
قوله تعالي : وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ(88)قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(89)
وقوله تعالي : فاستقيما ، ، يعني فاستقيما علي الدعوة والرسالة ، والزيادة في إلزام الحجة ، فقد لبث نوح ألف سنة إلا قليلا ، فلا تستعجلا ... ولاتتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متي كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، فربما أجاب الله تعالي دعاء إنسان في مطلوبه ، إلا أنه لم يوصله إليه في وقته المقدر ، والاستعجال لايصدر إلا من الجهال ، وهذا كما قال لنوح عليه السلام :إني أعظك أن تكون من الجاهلين ،هود:46
والله تعالي أمر رسولة بالاستقامة في الدين والثبات فيه ، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال ، وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء ، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها ، وحنيفا حال من الدين أو من الوجه ، أى مائلا عن كل دين من الأديان إلي دين الإسلام . ثم أمر الله تعالي بالإيمان ونهي عن الشرك وعن دعوة غير الله علي أى حال من الأحوال مالاينفعك ولايضرك بشئ من النفع والضر إن دعوته ، .. وهو لايفعله عاقل ... والعدول عن دعاء القادر إلي دعاء غير القادر ظلم للنفس ..والمقصود من هذا الخطاب التعريض بغيره صلي الله عليه وسلم .
يقول تعالي: قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104)وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105 )
المناسبة
ولقد بينت سورتي الأنفال والتوبة حقائق الولاء والبراء الشرعية في علاقة الجماعة المسلمة بغيرها من الجماعات في حالتي السلم والحرب ، وفي حالتي الهدنة والنبذ ، في مسار منهج السبع الطوال الذى يؤسس قواعد الأمة المسلمة .
وهنا يربي القرآن الكريم الأمة المسلمة علي هذه القيم ، فيرسخ حقيقة الولاء لله في القلوب ، فتنهض الطليعة المؤمنة علي معرفة ربها وهي تواجه الفراعين الظالمين
" وسورة يونس أولي المئين .. ولما تضمنت سورة براءة قوله تعالي : إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وقوله : عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ،إلي آخر سورة براءة ، إلي ما تخلل أثناء هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صلي الله عليه وسلم بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ، ووصفه بالرأفة والرحمة ، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهور دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته ، إلي غير هذا من نعم الله سبحانه عليه ، كان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ، ومثيرا لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عليه السلام ، قال تعالي: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ، إلي قوله : لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ، ثم قال : إنَّ اللَّهُ رَبَّكُمُ ، فبين انفراده تعالي بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير ، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر علي وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه ، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، كذلك قوله : مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْحَقِّ ، وكل هذا بيّن الالتحام وجليل الالتئام بين السورتين."[20]
وقد ختمت سورة براءة بذكر الرسول صلي الله عليه وسلم ، في قوله تعالي : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128) وبدأت سورة يونس بقوله تعالي: الّـر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ (1)أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وبَشِّرِ الَذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الكَافِرُونَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ . وفي أواخر سورة التوبة توضيح لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن ، يقول تعالي : وإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَاناً فَأَمَّا الَذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وهُمْ كَافِرُونَ (125) . وفي أوائل هذه السورة بيان لما يقوله الكفار في القرآن ، يقول تعالي: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)
وفي سورة التوبة ذم للمنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)... وفي هذه السورة ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوى ثم يعود ، يقول تعالي : ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وأيضا في الأولي براءة الرسول صلي الله عليه وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم علي أتم وجه ، وفي هذه براءته صلي الله عليه وسلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها علي وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل ..."[21]
[1] الأصفهاني ، الذريعة إلي مكارم الشريعة ص 205-209
[2] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 386
[3] رواه البخارى ج6 ص 224
[4] رواه الترمذى ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 1078
[5] الشوكاني ، فتح القدير ج 2 ص 477-478
[6] رواه مسلم ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 737
[7] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 16 ص460-461
[8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 400
[9] البخارى ، ج8 ص 130
[10] صحيح سنن الترمذى ج2 ص 61
[11] الألباني ، صحيح سنن الترمذى ج2 ص 274
[12] الألباني ، صحيح سنن الترمذى ج3 ص 151
[13] البخارى ج13 حديث 7442 ومسلم ج1 حديث 199
[14] ابن القيم ، مدارج السالكين ج2 ص 110-121
[15] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 416-417
[16] الشوكاني ، فتح القدير ج 2 ص463
[17] الشوكاني ، فتح القدير ج 2 ص 465
[18] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ج2 ص 662
ابن عطية ، المحرر الوجيز ج7 ص 199
[19] الرازى ، مفاتيح الغيب ج16 ص 425
[20] البقاعي ، نظم الدرر ج ص 411-413
[21] الألوسي ، روح المعاني ج 6 ص 55تعليق
-
الاستقامة
(لا ذل ولا طغيان )
كما تبينه
سورة هود
مقدمة
تبدأ السورة ببيان أن آيات القرآن الكريم أحكمت من لدن حكيم ، وفصلت من لدن خبير، عالم بكيفيات الأمور ."[1]
ثم عرضت موضوعها العلوى وهو : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ،مشتمل علي المنع عن عبادة غير الله ، وعلي الترغيب في عبادة الله تعالي.
والاستغفار طلب من الله لإزالة مالا ينبغي ، والتوبة سعي من الإنسان في إزالة مالا ينبغي . فقدم الاستغفار ليدل علي أن المرء يجب أن لا يطلب الشئ إلا من مولاه ، فإنه هو الذى يقدر علي تحصيله ، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلي دفع المكروه ، والاستعانة بفضل الله تعالي مقدمة علي الاستعانة بسعي النفس .
ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين ، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة ، أما المنافع الدنيوية ، فهي المراد من قوله تعالي: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وهذا يدل علي أن المقبل علي عبادة الله والمشتغل بها يبقي في الدنيا منتظم الحال مرفه البال ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ،المراد منه السعادات الأخروية ."[2]
" وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلي أن الله لم يوقع التكليف إلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق ، لأن الفضل في الأصل ما فضل عن الإنسان من كريم الشمائل ، وما كان كذلك فهو في الذروة من الإحكام ، لأنه منع الفعل من الفساد والحكيم من الحكمة وهي العلم بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقض ، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح ، وقد أشارت الآية إلي أن الاستغفار والتوبة سبب السعة .. وأن الإعراض سبب الضيق .. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، إشارة إلي ثواب الآخرة ، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة . "[3]
واستخفاء الكفار أمر عجيب ، فالله تعالي عالم بجميع المعلومات ، فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالي، فلولم يكن عالما بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات ...
ولما أثبت تعالي بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات ، أثبت بخلق السماوات والأرض كونه تعالي قادرا علي كل المقدورات .
وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل علي كمال علم الله وعلي كمال قدرته..
واعلم أنه تعالي لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم ، فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر ، لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب، وتخصيص المسئ بالعقاب ، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة ."[4]
يقول تعالي :الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ(2)وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ(3)إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( 4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(5)وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(6)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )
الأساس العقيدى
ظل الكفار علي انحرافهم في طلب الخوارق ، وأكد القرآن أن معجزة هذه الرسالة هي القرآن ، متحديا لهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات .
" الافتراء أخص من الكذب ، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر وجاء بأمر عظيم منكر .
ووقع التحدى في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة من مثله دون تقييد ، فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه ونظمه ووعده ووعيده ، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم :عارضوا القدر منه بعشرة في التقدير والغرض واحد . واجعلوه مفترى، لا يبقي لكم إلا نظمه ، فهذه غاية التوسعة ، وليس المعني عارضوا عشر سور بعشر ، لأن هذه إنما كانت تجئ معارضة سورة بسورة مفتراة ولا يبالي عن تقديم نزول هذه علي هذه . ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب ، ولايزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون علي المماثلة التامة. وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم : افتراه، فكلفوا نحو ما قالوا ."[5]
يقول تعالي: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(12)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(14)
"الله عز وجل لما أمر نبيه صلي الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه ، وبأن لا قدرة لغيره سبحانه علي شئ أصلا ، وهيجهم علي الثبات علي الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالي عن المعارضة ، وتبين أنهم ليسوا علي شئ أصلا اقتضي الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم علي شئ في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم علي المطالب الدنيوية ، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ."[6]
يقول تعالي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)
" اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة :
1- دلالة البينات العقلية علي صحته .
2- شهادة القرآن بصحته .
3- شهادة التوراة بصحته ...
ولايستوى من كان علي بينة من ربه ومن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس له في الآخرة إلا النار ...
والذى وصفه الله تعالي بأنه علي بينة من ربه هو محمد صلي الله عليه وسلم . والبينة هو القرآن . والمراد بقوله تعالي:ويتلوه،هو التلاوة بمعني القراءة . والشاهد جبريل عليه السلام ، والمعني : أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن علي محمد صلي الله عليه وسلم ...
واعلم أنه تعالي وصف كتاب موسي عليه السلام بكونه إماما ورحمة ، ومعني كونه إماما أنه كان مقتدى العالمين وإماما لهم ، يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع . وأما كونه رحمة فلأنه يهدى إلي الحق في الدنيا والدين ، وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب . ..
ثم قال تعالي: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، والمعني : أن الذين وصفهم الله بأنهم علي بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون .
واعلم أن المطالب علي قسمين :
منها مايعلم صحتها بالبديهة .
ومنها مايحتاج في تحصيل العلم بها إلي طلب واجتهاد . وهذا القسم الثاني علي قسمين :
لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل ،
وإما الاستفادة من الوحي والإلهام .
فهذان الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات ، فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق .
ثم إن من أنبياء الله تعالي كثرة ، فإذا توافقت كلمات الأنبياء علي صحته ، وكان البرهان اليقيني قائما علي صحته ، فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلي حيث لايمكن الزيادة ...
والمراد بمن يكفر من الأحزاب أصناف الكفار ، فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس ..فالنار موعده ...
ولما ظهر الحق ظهورا في الغاية ، فكن أنت متابعا له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أولم يؤمنوا .."[7]
يقول تعالي.أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ(17)
عبرة التاريخ
كما قامت سورة الأنعام بشرح الأساس النظرى وتلتها سورة الأعراف بعرض التجارب العملية في التاريخ الإنساني ، نجد أن سورة يونس تحتوى علي جانب من القصص مجمل ، إشارة إلي قصة نوح ، وإشارة إلي الرسل من بعده ، وشئ من التفصيل في قصة موسي ، ,إشارة مجملة إلي قصة يونس .
ففي سورة "هود استعراض لحركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشرى كله ، من لدن نوح عليه السلام إلي عهد محمد عليه الصلاة والسلام . وتقرير أنها قامت علي حقائق أساسية واحدة : هي الدينونة لله وحده بلا شريك ، والعبودية له وحده بلا منازع ، والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم علي مدار التاريخ . مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء ، وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة ، وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال ، هي مناط هذا الابتلاء ....
وقد بدأت السورة ببيان الحكمة من خلق السماوات والأرض ليبلو الناس أيهم أحسن عملا .
ومنهج الحياة لا يستقيم إلا إذا قام علي قاعدة :ألا تعبدوا إلا الله . وهذه الحقيقة هي دعوة الرسل جميعا علي مدار السورة .
ووعد من الله للمؤمنين بالمتاع الحسن في الدنيا وإيتاء كل ذى فضل فضله في الآخرة ، وعمرت قصص الأنبياء بعد ذلك بذكر هذا الكرم الإلهي ، داعيا الله تعالي عباده أن يقيموا حضارتهم علي الاستغفار والتوبة لا علي البطر والطغيان ، فالاستغفار يؤدى إلي البركة والذنوب تؤدى إلي العذاب . يقول تعالي :
وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وإن تَوَلَّوْا فَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
ودعوة هود إلي قومه: ويَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)
وحرص الرسل دائما علي أن يعرضوا دعوتهم حسبة لوجه الله ، لا من أجل مال أو أجر من الناس . وأن يتبرأوا من كل حول وقوة إلا لاحول و لا قوة إلا بالله ، فليس للنسب أو الرهط أى تأثير في عرض حقائق الدعوة .
وتحكي لنا السورة شرك الأكابر بالله وطغيانهم علي العباد وتقديم طاعة الأكابر والآباء علي طاعة الله ، وتقديمهم الركون علي الرهط ، ولا يعنيهم الركون إلي الله . يقول تعالي :
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وإنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ...
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ
وتقديم الرهط والقوم والملأ علي الاستماع إلي الحق والفئ إلي العدل .
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(27)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ومَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ واتَّخَذْتُمُوهُ ورَاءَكُمْ ظِهْرِياً إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ومَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ (98)
نرى معني الركون إلي الله والتحرر من تبعية الظالمين في قصة نوح عليه السلام . فقد اتهمه الأكابر أنه لم يتبعه إلا الضعفاء والفقراء والعامة . وهذا جهل بغاية الوجود ، ومعايير تقويم البشر علي أساس من رسالتهم التي من أجلها خلقهم الله . ثم نرى جهل ابن نوح عليه السلام حين تصور أنه سيعتصم بالجبل ليحميه من الماء ، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم . ثم يعظ الله تعالي نوح حين تشفع لابنه ألا يكون من الجاهلين ،فاستغفر الله وطلب رحمته حتي لا يكون من الخاسرين .
ونراه في قوم لوط وقد بغي قومه حتي ارتكبوا الفاحشة التي يأباها الطاهرون ، وتشذ عن سنن الله في خلقه ، حتي استغاث لوط يطلب الحماية والقوة والركن الشديد . فكانت الإجابة من العلي القدير نجاة للمؤمنين وهلاك للباغين .
وهود يدعو قومه إلي توحيد الله ، ويذكرهم بما أفاء الله عليهم من استعمار الأرض ليستغفروه ويتوبوا إليه . فما كان جواب قومه إلا طغيان علي الحق واستكبار عن الهدى ، وماكان من هود إلا أن توكل علي الله الذى يأخذ بناصية العباد . والنتيجة نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين .
وصالح يدعو قومه إلي توحيد الله ، ويذكرهم بما أفاء عليهم ويعدهم بالخيرات وزيادة القوة والتمكين ، فما كان منهم إلا الطغيان وما كان من صالح ومن آمن معه إلا الركون إلي الله ، فكان عاقبة الكافرين الدمار ونجي الله المؤمنين برحمته .
وشعيب يدعو قومه إلي توحيد الله ، وذكرهم بما أفاء الله عليهم من خيره . وحذرهم من الطغيان ونصحهم بالعدل في إعطاء الحقوق والتحذير من بخس الناس أشياءهم ، فما كان جواب قومه إلا الطغيان ، وقالوا في صلف أنه ليس فيهم بعزيز ، ولولا ركونه إلي رهطه لرجموه . ففاصلهم فيما يعملون ، وكانت سنة الله الماضية في عذاب الكافرين ونجاة المؤمنين.
وتختم السورة بطغيان فرعون ، وإهلاك قومه لاتباعهم أمره غير الرشيد ، وركونهم إلي طغيانه الزائل ، فكانت عليهم اللعنة في الدنيا والآخرة .
وفي نهاية كل قصة بيان عن المصير المفزع للمعاندين ، يقول تعالي :
وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44)
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِّثَمُودَ (68)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ(60)
قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(82)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83)
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102)
والله تعالي لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ... ولهذا قال الفقهاء : إن حقوق الله تعالي مبناها علي المسامحة والمساهلة ، وحقوق العباد مبناها علي الضيق والحرج ... وهذا تأويل أهل السنة ، والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكي الله تعالي عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق .
والآية تدل علي أن الاختلاف في الدين لا يحصل لمن خصه الله برحمته . وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار ، فلم يبق إلا أن يقال : تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة ."[8]
ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة مؤمنة لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة ، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك ، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل ., وجاءت الإشارة إلي الاختلاف والرحمة ، فرجع ضمير خلقهم للصنفين . فذلك عائد علي الرحمة التي تضمنها قوله : إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وإلي الاختلاف الذى في قوله : وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.[9]"[10]
يقول تعالي: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)
موضوع السورة
ترسي السورة قيمة تربوية تحقق للأمة عزتها ، وللبشر حريته . فهي تأمر بالاستقامة علي أمر الله .
ففي مطلع السورة يصف تعالي حال الظالمين الذين افتروا علي الله الكذب فيقول: الَذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَهَا عِوَجاً وهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
وفي وسط السورة يقول تعالي علي لسان هود عليه السلام: إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)
وفي آخر السورة يأمر الله تعالي المؤمنين بقوله : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ومَن تَابَ مَعَكَ ولا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)
في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله عنه قال: قلت : يارسول الله ، قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا غيرك . قال: (قل آمنت بالله ثم استقم) [11]. ..
ومعني الطغيان أن يجاوز المقدار . قال ابن عباس يريد : تواضعوا لله تعالي ولا تتكبروا علي أحد ، وقيل : ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله . ..
قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شئ من تلك الأبواب .. وعاقبة الذى يفعل ذلك النار .. ولايجد له وليا ولا نصيرا يخلصه من عذاب الله ."[12]
فالاستقامة هي لزوم المنهج المستقيم ، وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط ، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق ، فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلي الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين ، والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك . وقد قالوا : إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يحصل ميل إلي أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلي الله تعالي ونفي الحول والقوة بالكلية ... . "[13]
والاستقامة في سورة هود تقوم علي دعامتين وذلك في مواجهة الظالمين:
1- نبذ الذل .
2- نبذ الطغيان .
فعلي الحكام التنزه عن الطغيان علي العباد ، وعلى المحكومين ألا يركنوا إلي الظالمين فيصيبهم الذل والعذاب .فالاستقامة وسط بين الذل والطغيان.
وما أحسن ماكتبه بعض الناصحين للزهرى حين خالط السلاطين وهو : عافانا الله تعالي وإياك ، أبا بكر ، من الفتن . فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالي ويرحمك . أصبحت شيخا كبيرا وأثقلتك نعم الله تعالي ، بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلي الله تعالي عليه وسلم ،وليس كذلك أخذ الله تعالي الميثاق علي العلماء. .. واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ، ولم يترك باطلا ، حين أدناك . اتخذوك قطبا تدور عليك رحي باطلهم ، وجسرا يعبرون عليك إلي بلائهم ، وسلما يصعدون فيك إلي ضلالهم . يدخلون الشك بك علي العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك ، فما يؤمنك من الله... فإنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فأدى دينك فقد دخله سقم ، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفي علي الله من شئ في الأرض ولا في السماء والسلام. .."[14]
ويأمر الله المؤمنين أن يستعينوا علي مقاومة الطاغين :-
1- المداومة علي الصلاة ، حيث الحسنات يذهبن السيئات .
2- والصبر علي أمر الله وعلي ظلم الطغاة ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .
3- مفاصلة الكافرين في الأعمال ، وإنذارهم بسوء المصير .
4- تذكر مصائر المعاندين والاتعاظ بمصائرهم ، مما يثبت أفئدتهم .
5- القيام بواجبات العبودية لله ، والتوكل عليه .
فلما أمر سبحانه بالإستقامة أردفه بالأمر بالصلاة ، وذلك يدل علي أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة .
" جاء رجل النبي صلي الله عليه وسلم فقال : إني عالجت امرأة في أقصي المدينة ، وإني أصبت منها مادون أن أمسها ، وأنا هذا ، فاقض في ما شئت . فقال له عمر: لقد سترك الله ، لو سترت علي نفسك ، فلم يرد عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا ، فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلي الله عليه وسلم رجلا فدعاه ، فتلا عليه :( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ )، فقال رجل من القوم : هذه له خاصة ؟ قال: بل للناس كافة .)[15]
" وليس في النهار من الصلوات إلا الظهر والعصر ، وباقيها في الليل ، فزلف الليل ثلاث : في ابتدائه ، وهي المغرب ، وفي اعتدال فحمته ، وهي المساء ، وعند انتهائه وهي الصبح . وأما طرفا النهار فهما الدلوك والزوال وهو طرفه الأول ، والدلوك الغروب ، هو طرفه الثاني ."[16]
فلما كان العلم حاصلا بما سبق من الحكم من أن الآدمي محل العجز والتقصير ، أتبع ذلك بأعلي مكفر لما يوجبه العجز ويقضي به الفتور والوهن من الصغائر ، وأعمه وأجلبه للاستقامة . وذلك يدل علي أنها بعد الإيمان أفضل العبادات .. والطاعات كلها ، الصلاة وغيرها ، المبنية علي أساس الإيمان يذهبن السيئات ، أى الصغائر ، وأما الكبائر التي يعبر عنها بالفواحش ونحوه فقد تقدم في قصة شعيب عليه السلام عند قوله : ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ،أنه لايكفرها إلا التوبة ، لما فيها من الإشعار بالتهاون بالدين ، واجتنابها لا يكفر إلا إذا كان عن نية صالحة ، كما أفهمه صيغة الافتعال من قوله :إن تجتنبوا ..
ولما تم هذا علي هذا الوجه الأعلي ، والترتيب الأولي ، قال تعالي مادحا له ليعرف مقداره فيلزم : ذلك ، أى ذكر عظيم لِلذَّاكِرِينَ، أى لمن فيه أهلية الذكر والانتباه به بحضور القلب وصفاء الفكر ونفوذ الفهم .
ولما كان الصبر لله علي المكاره أعلي الطاعة ، أتبع ذلك قوله : وَاصْبِرْ، أى ليكن منك صبر علي الطاعات وعن المعاصي ، ولا تترك إنذارهم بما أمرت به ، مهما كان ولا تخفهم ، فإن العاقبة لك إذا فعلت ، ولما كان مقام الصبر صعبا ، والاستقامة علي المحمود منه خاصة خطرا ، وكانت النفس لما لها من الجوع في كثير من الأحوال كالمنكر، أكد قوله : فَإِنَّ الصبر هو الإحسان كل الإحسان ، وإن الله أى المحيط بصفات الكمال لَا يُضِيعُ أى بوجه من الوجوه أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أى العريقين في وصف الإحسان ، بحيث إنهم يعبدون الله كأنهم يرونه . فلذلك يهون عليهم الصبر ، وذلك لأن الطاعة كلفة فلا تكون إلا بالصبر ، وما عداها فهو هوى النفس ، لا صبر فيه ، فالدين كله صبر ، كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات .[17]
وفي ختام السورة يأمر الله تعالي المؤمنين بالنهي عن الفساد في الأرض فيقول تعال: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116)
" بين الله تعالي أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الإستئصال لسببين :-
1- أنه ماكان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ...وقوله تعالي: أُولُو بَقِيَّةٍ، أولو فضل وخير ، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ..
2- الترف ، والترفة : النعمة ، والمترف الذى أبطرته النعمة وسعة المعيشة . وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات ، أى لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واتبعوا طلب الشهوات واللذائد ، واشتغلوا بتحصيل الرياسات ...."[18]
ويأمرهم بمفاصلة الكافرين ، وإنذارهم بالعذاب ، فيقول تعالي: ( وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ(121)وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ(122)
" يقول تعالي آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه علي وجه التهديد ، اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ، أى علي طريقتكم ومنهجكم ، إِنَّا عَامِلُونَ، أى علي طريقتنا ومنهجنا . وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ، أى فستعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون . وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلي ، والله عزيز حكيم.
ويعظهم بحسن العبادة والتوكل عليه ، فهو سبحانه عليم بما يعملون . يقول تعالي : وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)
يخبر تعالي أنه عالم غيب السموات والأرض ، وأنه إليه المرجع والمآب ، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب ، فله الخلق والأمر ، فأمر تعالي بعبادته والتوكل ، فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه .؟[19]
المناسبة
" لما ختمت السورة التي قبلها بالحث علي اتباع الكتاب ولزومه والصبر علي ما يتعقب ذلك من مرائر الصبر المؤدية إلي مفاوز الخير اعتمادا علي المتصف بالجلال والكبرياء والكمال . ابتدئت هذه بوصفه بما يرغب فيه ، فقال بعد الإشارة إلي إعادة القرع بالتحدى .. كِتَابٌ ، أى عظيم جامع لكل خير ، ثم وصفه بقوله : أُحْكِمَتْ، بناه للمفعول بيانا لأن إحكامه أمر قد فرغ منه علي أيسر وجه عنه سبحانه وأتقن إتقانا لا مزيد عليه ، آيَاتُهُ، أى أتقنت إتقانا لا نقص معه .. ثُمَّ فُصِّلَتْ: أى جعلت لها ، مع كونها مفصلة إلي حلال وحرام وقصص وأمثال ، فواصل ونهايات ، تكون بها مفارقة لما بعدها وما قبلها ، يفهم منه علوم جمة ومعارف مهمة وإشارات إلي أحوال عالية ، وموارد عذبة صافية ، ومقامات من كل علة شافية ، كما تفصل القلائد بالفوائد ."[20]
"وفي سورة يونس كان الكفار يستعجلون نزول العذاب ، فذكر تعالي قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ، ثم في العاقبة ظهر ...
وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش ، فذكر الله تعالي هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار علي الإيذاء والإيحاش كان حاصلا في زمان نوح ، إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر ...
ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خاليا من الفائدة .. فالقصة الواحدة ينتفع بها في عديد من الوجوه ."[21]
ومن ثم فصلت سورة هود في قصص المرسلين ، فيما عدا قصة موسي مع فرعون ، فقد أوجزتها ، حيث فصلتها في سورة يونس .
"ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا مجملة ، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها مالم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف علي طولها ولا سورة نوح التي أفردت لقصته ، فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة ، وبسطا له . ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك . فإن قوله تعالي هنا : الّـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ، نظير قوله تعالي هناك : تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الحكيم . بل إن مطلع هذه وختام تلك فيه شدة ارتباط أيضا ، حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي ، وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك ."[22]
[1] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 465-467
[2] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 469 - 471
[3] البقاعي ، نظم الدرر ج3 ص 500
[4] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص473-478
[5] ابن عطية المحرر الوجيز ج7 ص 250-251
[6] الألوسي ، روح المعاني ج6 ص 227
[7] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 493-497
[8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 633-635
[9] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج7 ص 424-425
[10] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 642-643
[11] رواه مسلم ، صحيح الجامع الصغير ج2 ص 810
[12] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 629-630
[13] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 629-630
[14] الألوسي ، روح المعاني ج7 ص 347-348
[15] الألباني ، صحيح سنن الترمذى ج3 ص 62
[16] ابن العربي ، أحكام القرآن ج3 ص 1068
[17] البخارى حديث 526 البقاعي ، نظم الدرر ج 3ص586 -587
[18] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 633-635
ا[19]بن كثير ، تفسير القرآن العظيم ج2 ص 720
[20] البقاعي ، نظم الدرر ، ج3 ص 498-499
[21] الرازى ، مفاتيح الغيب ج8 ص 548
[22] الألوسي ، روح المعاني ج6 ص 189تعليق
-
بين سورتي يونس وهود
بعد أن انتهينا بحمد الله من السبع الطوال التي هي بديل التوراة كما بين رسول الله صلي الله عليه وسلم . نشرع بفضل الله ورحمته في المائين التي هي بديل الإنجيل ، والتوراة في أصلها تشريع ونظام ، والإنجيل تربية وتهذيب للنفوس .
بينما اهتمت سورة الأنفال والتوبة بالولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين من الناحية السياسية ، نجد أن سورتي يونس وهود تهتم بالولاء لله وعدم الركون للظالمين من الناحية العقيدية.
ومن ثم شرع الله تعالي للأمة المسلمة أحكام الولاء والبراء مع الكافرين قي سورتي الأنفال والتوبة ، وفي سورة يونس وهود يربي المؤمنين سلوكيا ونفسيا علي الولاية لله وعدم الركون للظالمين.
ويصاحب التربية علي الولاية لله في سورة يونس تعميق معني التوكل علي الله ، الذى نراه يتردد كثيرا بين جنبات السورة ، ويصاحبها الدعوة للاستقامة علي أمر الله . بينما يصاحب التربية علي عدم الركون للظالمين تعميق معني عدم الركون للظالمين ، الذى يتردد كثيرا بين جنبات السورة ، ويصاحبها أيضا الدعوة إلي التوكل علي الله .
فمن جانب الولاء نجد في سورة يونس:
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(68)
في سورة هود:
عن نوح : وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ(29)
وعن هود : يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ(51)
وعن صالح : قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَءَاتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ(63)
وعن شعيبب : وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)
من ناحية البراء نجد في سورة يونس :
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(41)
قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104)
في سورة هود :
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ(121)وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
في كلا الحالتين يواجه المؤمنين الطغاة والمستكبرين ، ففي سورة يونس :
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(23)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90)
فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(11)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(65)
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ(83)
في سورة هود، قالت قوم هود لنبيهم :
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(27)
وقال قوم شعيب لنبيهم : وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(91)
وفي وصف الكافرين : فلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116)
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(59)
في سورة يونس دعوة للاستقامة :
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(89)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105)
في سورة هود:
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
النهي عن الفساد نجده في سورة يونس :
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ(40).
وفي سورة هود:
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(85)
في سورة يونس دعوة للاستعانة علي ذلك بالصبر وبالصلاة :
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(109)
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(87)
في سورة هود :
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(11)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(115)
فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114)
لما كان الولاء لله تتضح صورته العظمي في التوكل ، نجد في سورة يونس شرح لحقيقة التوكل :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ(71)
وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ(84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85)وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)
قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(108)
في سورة هود :عن هود عليه السلام :
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)
وعن شعيب عليه السلام : وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)
وتبين كلا السورتين أن الناس أصلا أمة واحدة ولكن اختلفوا ، والناجون هم المؤمنون مهما كان عددهم ، والهالكون هم الكافرون سنة ماضية . ففي سورة يونس:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(98)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)
في سورة هود :
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116 ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)
تعليق
مواضيع ذات صلة
تقليص
المواضيع | إحصائيات | آخر مشاركة | ||
---|---|---|---|---|
ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 14 أكت, 2024, 04:59 ص
|
ردود 0
29 مشاهدات
0 ردود الفعل
|
آخر مشاركة
بواسطة الفقير لله 3
|
||
تفسير جديد للحروف المقطعه في القرآن (اجتهاد في التأويل بأدلة من الأحاديث النبويه ) موضوع للمناقشة
بواسطة الفقير لله 3
ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 3 أكت, 2024, 11:34 م
|
رد 1
19 مشاهدات
0 ردود الفعل
|
آخر مشاركة
بواسطة الفقير لله 3
|
||
ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 02:37 م
|
رد 1
26 مشاهدات
0 ردود الفعل
|
آخر مشاركة
بواسطة الفقير لله 3
|
||
ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 12:04 م
|
ردود 0
19 مشاهدات
0 ردود الفعل
|
آخر مشاركة
بواسطة الفقير لله 3
|
||
•• وَقَفات مع تدبّر سُورَة (مَريم): الجُزء [01]: مَتن السّورة. ← يتبع بإذن الله تعالى.
بواسطة مُسلِمَة
ابتدأ بواسطة مُسلِمَة, 5 يون, 2024, 04:11 ص
|
ردود 0
63 مشاهدات
0 ردود الفعل
|
آخر مشاركة
بواسطة مُسلِمَة
|
تعليق