تفسير من أنوار القرآن الكريم

تقليص

عن الكاتب

تقليص

يوسف كمال محمد مسلم اكتشف المزيد حول يوسف كمال محمد
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 19 (0 أعضاء و 19 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • يوسف كمال محمد
    1- عضو جديد
    • 2 فبر, 2014
    • 66
    • عمل حر
    • مسلم

    #31
    عبرة التاريخ .
    تبدأ السورة بمقدمة تبين للناس أن طريق الهداية للإسلام سبيله القرآن ، الذى يوقن قارؤه من إعجازه أنه من عند الله . أنزله الله رحمة بالمؤمنين يبين له حقائق الغيب التي لايطيق إدراكها لمحدودية علمه وقدرته .
    وتبين السورة الدليل علي الحق بآيتين بسطهما الله أمام عقول البشر :
    1- آية كتاب الله المنظور ، التي يراها الإنسان في خلق السماوات والأرض ومابينهما ، وفي عبر التاريخ الإنساني.
    والتحدى قائم فيها أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له .
    2- آية كتاب الله المقروء ، وهو القرآن ، ويتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله إن كانوا صادقين.
    وللبشر أن يختاروا بين طريقين : طريق الهدى الذى يسير فيه المتقون ، وطريق الضلال الذى يسير فيه الكافرون والمنافقون . وعلي أساس هذا الاختيار يتحدد الحساب والجزاء في اليوم الآخر ، إما نعيم وإما عذاب .
    ثم تأخذ السورة بأيدينا في رحلة التاريخ ، فتبدأ منذ النشأة الإنسانية بخلق آدم وقصته مع إبليس ، لتركز علي أسباب عصيانه وغواية إبليس له بشهوة الملك والخلود ، فأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها . وتلقي من ربه كلمات فتاب عليه ، هداية من الله. ثم كانت إرادة الله أن يهبط إلي الأرض ، فإذا اتبع هو وذريته هدى الله فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون .
    و يقول القرطبي :" لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم علي الجميع بالمعصية ، فبين الرب تعالي أن فيهم من يفسد ومن لايفسد ، فقال تطييبا لقلوبهم :إني أعلم 0. وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء ، وكشف لهم عن مكنون علمه ."[1]
    وعلم الله آدم الأسماء كلها ، قال ابن عباس وقتاده ومجاهد: علمه اسم كل شئ من جميع المخلوقات ، دقيقها وجليلها ... وقال أكثر العلماء : علمه تعالي منافع كل شئ ولما يصلح .[2]وعن طريق هذه الأسماء يستطيع-وهو يتفكر في خلق السماوات والأرض، يتخاطب ويتفاهم-أن يدرك سر وجوده وغاية حياته ، وأن يعمر ويكتشف،وأن يغير ويختار.وبدونها لايمكن لإنسان أن يخرج عن بدائيته،ولاأن يتدبر ماحوله.
    ثم إن هذا الإنسان - الذى خلق من قبضة من طين ونفخة من روح الله - يصل إلي القمة حين يستعلي علي غريزته ويكيف شهوته وفق غاية وجوده ، وعندئذ يفوق - باقتحامه الصعاب وبلزومه الطاعات - كل مخلوق من حوله . لذا حين علمت الملائكة حكمة الله من خلق الإنسان استغفرت له، ودعت الله أن يقيه السيئات.
    وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، يقول الجصاص : " وكانت تحيتهم السجود ، وليس يمتنع أن يكون ذلك السجود عبادة لله تعالي وتكرمة وتحية لآدم عليه السلام، وكذلك سجد إخوة يوسف عليهم السلام ، وأهله له، وذلك لأن العبادة لاتجوز لغير الله تعالي ، والتحية والتكرمة جائزتان لمن يستحق ضربا من التعظيم .... فأخبر إبليس أن امتناعه عن السجود لأجل ماكان من تفضيل الله تكرمته بأمره إياه بالسجود له ."[3]
    وكان حقد إبليس علي آدم شديدا ، فوهب نفسه يضل بني آدم ويوسوس لهم، وخصوصا في نداء الحاجات المادية وإلحاحها . وكان في ذلك ابتلاء لبني آدم واختبار لهم يتحدد علي أساسه أن يكون اصطفاء الله لهم : مقربين يناجيهم ويناجونه، أو فشلهم فيكونون وقودا للنار مع الحجارة التي لاتعقل ، والحثالة من الكافرين .
    وكان طريق الشيطان إلي آدم عن طريق إلهاب رغبته في الخلود والملك، ومنها حرضه علي معصية الله فأكل من الشجرة التي أمره الله ألا يقربها . وعصي آدم ربه فغوى . ثم تلقي كلمات من ربه فاعتر ف بظلمه واستغفر فتاب عليه ربه وهدى .
    فوله تعالي: فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه،
    " الله عز وجل ثناؤه لقن آدم كلمات ، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن ، وتاب بقلبه وعمله بهن إلي الله من خطيئته ، معترفا بذنبه ، متنصلا إلي ربه من خطيئته ، نادما علي ماسلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه ، وندمه علي سالف الذنب منه...
    قوله:فإما يأتينكم منكم هدى ، تأويلها : فإما يأتينكم يامعشر من أهبط إلي الأرض من سمائي ، وهو آدم وزوجه وإبليس .. بيان من أمرى وطاعتي، ورشاد سبيلي وديني ، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون ، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إلي معصية وخلاف لأمرى وطاعتي، يعرفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب عليه من تاب إليه من ذنوبه ، والرحيم لمن أناب إليه ، كما وصف نفسه بقوله: ( إنه هو التواب الرحيم ) . "[4]
    فهي حكمة الله أن يهبط بنوا آدم إلي الأرض ، ليختاروا بين الكفر والإيمان ، وبين الشرك والإسلام ، بين الاتباع والطاعة ، والمعصية والفساد ، بعد أن بين لهم الله الحق بالوحي وهداهم إليه . ثم يكون بعد ذلك الحساب ونتيجته الجزاء من الثواب أو العقاب .
    وكان محل الابتلاء هو الدنيا، خلق الله للإنسان فيها من النعم مالا يحصي ولايعد ، وسخرها له وسيلة يؤدى بها رسالته ، لاغاية ينتهي إليها أمله. هذا التسخير كان من أجل الإنسان ، يتمتع به إذا أطاع الله ، ولكنه إذا صارت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ، يهيم بها في قلبه ، يعبدها من دون الله ، تعس وانتكس .



    [1]القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، ج1 ص 235

    [2]ابن عطية ، المحرر الوجيز ، ج 1 ض 234

    [3]الجصاص، أحكام القرآن ، ج1 ص31-32

    [4] الطبرى ، جامع البيان ، ج3 ص 283-285

    تعليق

    • يوسف كمال محمد
      1- عضو جديد
      • 2 فبر, 2014
      • 66
      • عمل حر
      • مسلم

      #32
      قص الله علينا سلوك بني اسرائيل مع أنبيائهم عبرة وعظة . حتي نتدبر من تاريخهم مايعصمنا من انحرافاتهم وعصيانهم لأنبيائهم وجدالهم وقسوة قلوبهم، فنتجنب نقمة الله وننعم برحمته .
      يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
      "لتتبعن سنن الذين من قبلكم ، شبرا بشبر ، أو ذراعا بذراع ، حتي لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟"[1]
      العهد الذى أخذه الله علي بني إسرائيل
      وقد بدأ هذا المقطع مناديا بني إسرائيل بأحب أسمائهم وأشرف أنسابهم مذكرا لهم بنعم الله عليهم ، يبني علي ذلك دعوتهم إلي الوفاء بعهدهم ، ويرغبهم ويرهبهم .
      لقد كان القاسم المشترك الأعظم في دعوة الرسل:
      1- الإيمان بالله وحده .
      2- الإيمان باليوم الآخر .
      3- العمل الصالح .

      وثانيها : تعديد النعم علي بني إسرائيل وما من الله تعالي به علي أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل ، كالإنجاء من آل فرعون بعدما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكا ، وتمكينه لهم في الأرض وفرقه البحر وإهلاكه عدوهم ، وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة ، والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلي الله جهرة ، ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام ، فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة .
      وثالثها : إخبار النبي عليه السلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم وببلوغهم في ذلك مالم يبلغه أحد من الأمم قبلهم وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسي عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة ، فدل ذلك علي بلادتهم ، ثم لما أمروا بدخول الباب سجدا وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا ، ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى ثم امتنعوا عن قبول التوراة بعد إيمانهم بموسي وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتي رفع فوقهم الجبل ، ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا ، ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسي عليه السلام بقولهم أتتخذنا هزوا ثم لما شاهدوا إحياء الموتي ازدادوا قسوة ، فكأن الله تعالي يقول : إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ، ومعاملاتهم مع نبيهم الذى أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه ، فغير بديع ما يعامل به أخلاقهم محمدا عليه السلام ، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ماترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق .
      يقول ابن تيمية :
      " اشتملت سورة البقرة علي تقرير أصول العلم وقواعد الدين ، فالله تعالي افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين ، فوصف حال أهل الهدى ثم الكافرين ثم المنافقين . فهذه جمل خبرية .
      ثم ذكر الجمل الطلبية ، فدعا الناس إلي عبادته وحده ثم ذكر الدلائل علي ذلك من فرض الأرض وبناء السماء وإنزال الماء وإخراج الثمار رزقا للعباد ، ثم قرر الرسالة وذكر الوعد والوعيد ، ثم ذكر مبدأ النبوة والهدى ، وما بثه في العالم من الخلق والأمر ، ثم ذكر تعليم آدم الأسماء وإسجاد الملا ئكة له لما شرفه من العلم ، فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلي الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، فقص جنس دعوة الأنبياء .
      ثم انتقل إلي خطاب بني إسرائيل وقصة موسي معهم ، وضمن ذلك تقرير نبوته إذ هو قرين محمد ، فذكر آدم الذى هو أول ، وموسي الذى هو نظيره ، وموسي قتل نفسا فغفر له ، وآدم أكل الشجرة فتاب عليه . "[2]
      ثم تصل السورة الأمة المسلمة بتاريخها المشرق ، منذ إبراهيم عليه السلام، بعد أن أتم الكلمات التي ابتلاه الله بها ، ودعوته أن يجعل من ذريته أمة مسلمة يريها مناسكها ويتوب عليها ويبعث فيها رسولا يتلو عليهم آياته ويطهرهم ويزكيهم ، ثم دعا الله لها في حياتها الأمن والرزق لمن آمن بالله واليوم الاخر. وهما اللذان يشغلان حيزا هاما في مشكلات كل عصر. فأجابه الله مبينا سننه في تحقيق ذلك للمؤمنين. أما من كفر فيمتعه قليلا ثم يأخذه أخذا عزيزا.

      الأساس العقيدى

      إن عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر تجعل الحياة والمال والمتاع علي يد الإنسان حيث الإيثار لافي قلبه حيث الأثرة. في وسط بين مادية أنانية جشعة وبين رهبانية منعزلة ضعيفة سلبية .
      وهذه العقيدة تحدد الانتماء لها بالإسلام ، ولاينال عهد الله الظالمين ولوكانوا من صلب الأنبياء.
      ومن ثم بدأت السورة بعقيدة التوحيد ونفي الشرك . يقول تعالي : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
      " إن التوحيد هو المقصود بالذات وعنه تنشأ جميع العبادات ، فلما قال تعالي : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ، أتبعه بقوله : الَّذِي خَلَقَكُمْ ، بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة ، فلما قام الدليل قال : فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً، إعلاما بأنه لا شريك له في العبادة ، كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق ."[3]
      وفي وسط السورة يقول تعالي : وإلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ ولَوْ يَرَى الَذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ (165)
      " اشتملت هذه الآية علي جميع ما يجب اعتقاده عن الله سبحانه وتعالي ، وهو خمسة أشياء:
      أ- إثباته سبحانه وتعالي لتقع به مفارقة التعطيل.
      ب- وحدانيته لتقع به البراءة من الشرك . وإلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ
      ج- إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض لتقع به البراءة من التشبيه لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ
      د- إثبات أن وجود كل ما سواه كان بإبداعه واختراعه إياه لتقع به البراءة من قول من يقول بالعلة والمعلوم وهذا من قوله : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
      - أنه مدبر ما أبدع ومصرفه علي ما يشاء لتقع به البراءة من قول من قال بالطبائع أو تدبير الكواكب .. "[4]
      وفي أواخر السورة يقول تعالي : اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ (255) لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

      من أوجه الإعجاز في هذه الآية الكريمة أنها جمعت في عشر جمل مستقلة أصول صفات الألوهية والتمجيد لله الواحد الأحد . ونطقت بأنه سبحانه وتعالي متفرد في ألوهيته ، موجد لغيره ، منزه عن كل نقص ، ومبرأ عن القصور والغفلة . ليس كمثله شئ ، واجب الوجود بذاته ، كان من الأزل ولا شئ معه ، وهو الآن في كل آن علي ما عليه كان . فهو فوق المكان وفوق الزمان . تعالي سبحانه عن أن يكون متحيزا حتي يحتاج إلي مكان ، أو أن يكون متغيرا حتي يحتاج إلي زمان .
      وآية الكرسي عندما تقرر وحدانية الحي القيوم علي هذا النحو الجامع المانع ، إنما تدعو إلي تحرير العقول والقلوب من الشرك بالله وتؤكد الكفر بالطاغوت ، وتحث علي تخليصها من أوهام الزيغ والضلال ، وتدل بما لا يدع مجالا للشك علي أن كل شئ في هذا الوجود يسير وفق منهج إلهي محدد طبقا لمشيئة العليم القدير الحي القيوم .



      [1] صحيح الجامع الصغير للسيوطي، تحقيق الألباني ج2 ص 903 المكتب الإسلامي 1406هـ

      [2] ابن تيمية ، التفسير الكبير ج 3 ص 5-7 دار الكتب العلمية 1408هـ

      [3] البقاعي ، نظم الدرر ج 1ص 191،192

      [4] نفس المصدر ج1 ص 299

      تعليق

      • يوسف كمال محمد
        1- عضو جديد
        • 2 فبر, 2014
        • 66
        • عمل حر
        • مسلم

        #33

        موضوع السورة:
        تظهر وسطية الإسلام في العبادات ، فالصلاة لا تستغرق غير ساعة من النهار ، والصيام مرة كل عام ، والحج مرة في العمر ، والزكاة نسبة قليلة من المال كل سنة .
        والإسلام وسط بين الرهبانية التي تستغرق العمر في الشعائر ، والمادية التي لا تلتفت إلي حق الله .
        والشريعةوالشعيرة حزمة واحدة كلها عبادة . لذا نجد أحكام القبلة والصلاة في سورة البقرة تحضن بالحض علي الصبر علي ابتلاء الخوف والجو ع ونقص الأموال والأنفس والثمرات عند انقضاض أعداء الله علي حملة الإيمان .
        ونجد أحكام الصيام تحضن الحض علي الأكل الحلال من طيبات الرزق وتجنب الحرام من الخبائث كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به .
        وتحضن فريضة الصيام أحكام القصاص والوصية .
        وتحضن أحكام الحج الأمر بدفع الظلم وتجنب العدوان .
        كما تبين السورة كيف أن الشريعة الوسط في أحكام الأسرة والمجتمع تحقق بوسطيتها الوحدة والتراحم .
        ففي أحكام الأسرة تنظيم لأحكام الزواج والخطبة والنكاح ، دون إفراط أو تفريط . ثم تبين حكم الطلاق ، فهو أبغض الحلال عند الله فلا تطلق إباحته ، ولكن إذا تعذرت العشرة وتركت المرأة كالمعلقة جاز . فهو الوسط بين الإباحة المطلقة والتحريم المانع .
        و من خلال ذلك تحدد حقوق المرأة من المهر والنفقة والعدة ، وتحقق حقوق الرضع في الرعاية والإنفاق .
        وبين ثنيات هذا التنظيم يحرم تعاطي الخمر ولعب الميسر ، رعاية للمال من الضياع ، وللعقل من الذهاب ، ويغلق باب العداوة والبغضاء التي تتسبب عنهما .
        ثم تبين السورة في ختامها تكافل المجتمع من خلال فريضة الزكاة التي هي وسط بين أخذ المال كله ، وترك حق الفقير جملة . وتحريم الربا سدا لباب الاستغلال ، وبيان أحكام الدين من الكتابة والإشهاد سدا لباب النزاع .
        فهي شريعة الوسط بين إباحة الكسب الطيب لأفراد المجتمع ، وتحريم الاستغلال
        وأكل مال الناس بالباطل .
        وتشيع بين جنبات السورة أخلاقيات البر بين جنبات المجتمع ، من هذه الأخلاق:
        أ- الوفاء بالعهد .
        ب- الصبر في البأساء والضراء وحين البأس .
        ج – إيتاء المال ذوى القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب .
        د- الدخول في السلم كافة .
        ﻫ – الطهارة وتحرى الطيبات واجتناب الخبائث .
        وتنظم العلاقات بين العباد علي أساس العدل ،شريعة للأمة تبين الكسب الطيب من عمل صالح وضرب في الأرض ، وانفاق طيب علي النفس والفقير والجهاد ، في تحفيز لهذا الإنفاق وتربية للنفوس علي البذل والعطاء. وتدين الكسب الخبيث وبالتحديد الربا والرشوة ، والإنفاق الخبيث وبالتحديد الخمر والميسر .
        شريعة للأسرة تحدد حقوق المرأة المالية وحقوق الأولاد والنفقة عليهم والمسؤولية عن إعالتهم .
        شريعة ممثلة في جهاد يدفع الفساد ، وسمع وطاعة يمنع الاختلاف ، وتكافل يحررها من الحقد والغل.
        ويمكن رسم خطوط عريضة للنظام الاجتماعي والاقتصادى الإسلامي فيما يلي:-
        1- الرزق الطيب :
        · إباحة الطيبات من الرزق أكلا وشرابا .
        · تحريم أعيان الخبائث من المأكل ميتا ودما ولحم خنزير وما أهل لغير الله به ، وشراب الخمر .
        2- تنظيم العلاقات الأسرية من الخطبة والزواج والمباشرة الجنسية العفيفة .
        تنظيم النفقة والرضاعة والطلاق حتي لايضار أو يظلم ضعيف .
        3- دفع الظلم والعدوان بالجهاد.
        4- البـــــــــــــر:
        * الإنفاق في سبيل الله سرا وجهرا ، ليلاونهارا ، جهادا وتكافلا ، دون من ولا أذى .
        * فريضة الزكاة حق معلوم للسائل والمحروم
        * صدقة التطوع والنذر .
        * الوصية .
        * حق في المال غير الزكاة .
        5- الكسب الطيب .
        * حفظ المال .
        * تحريم أكل المال بالباطل من ناحية المكاسب ، ومنه الميسر والربا.
        ثم احتوى المقطع الأخير من موكب الأمة الواحدة عن طبيعة هذه الوحدة ، في قوله تعالي: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، بتبيان أن الناس ما كانوا ليقتتلوا لولا اختلافهم ، وتفرقهم بين مؤمن وكافر ، وهذا من حكمة الله يفعل مايريد . ومن خلال هذه الحقيقة بين الحق تبارك وتعالي :مبدأ لاإكراه في الدين ، والنظام الاقتصادى للأمة المسلمة القائم علي الإنفاق في سبيل الله ، وتحريم الربا ، وتوثيق المعاملات ، وحفظ المال،مما يحقق التآلف بين المجتمع ، وتنحسر به سبل النزاع والخلاف .
        وختمت السورة بموقف محمد صلي الله عليه وسلم وأمته من التنزيل الذى يمسك هذه الوحدة . في قوله تعالي: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ.

        المناسبة :
        وصف الأمة المسلمة بالوسط ، نراه جليا بين ثنايا السورة ، حيث يهديها الله للصراط المستقيم في حياتها دون إفراط أو تفريط . ويترتب علي طاعة الله واتباع أوامره أن ينحسر الاختلاف وينتشر البر فتتماسك الأمة وتأخذ طابعها كما أراد الله أمة واحدة . وشريعة الوسط تتجه بالامة إلي الخير كغاية لعلاقاتها جهادا وإنفاقا وآصرة . فهي وسط في هديها وواحدة في رباطها وخيرة في وجهتها .[1]
        و" مناسبة البقرة للفاتحة أنه تعالي لما أخبر أن عباده المخلصين سألوا في الفاتحة هداية الصراط المستقيم الذى هو غير طريق الهالكين أرشدهم في أول التي تليها إلي أن الهدى المسؤول إنما هو في هذا الكتاب ، وبين لهم صفات الفريقين الممنوحين بالهداية حثا علي التخلق بها ، والممنوعين منها زجرا عن قربها …"

        وتصنف الفاتحة الناس ثلاثة أصناف : منعم عليهم ، ومغضوب عليهم ، وضالين . وتصنف سورة البقرة الناس إلي : مؤمنين وكافرين ومنافقين .
        وتجمع بينها وبين سورة آل عمران حروف الم . يقول ابن قيم الجوزية في كتاب الفرائد : الحروف الثلاثة جمعت المخارج الثلاثية : الحلق واللسان والشفتان ، علي ترتيبها . وذلك إشارة إلي البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والوسط الذى هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي . وفي ذلك تنبيه علي أن هذا الكتاب الذى ركب من هذه الحروف التي لا تعدو المخارج الثلاثة التي بها يخاطب جميع الأمم جامع لما يصلحكم من أحوال بدء الخلق وإعادته وما بين ذلك ، وكل سورة افتتحت بهذه الحروف ذكرت فيها الأحوال الثلاثة .."[2]

        خاتمة

        لقد احتوى المطلع الأول من صفة الأمة المسلمة كأمة واحدة على موكب النبيين الكريم، ومعه متطلب الوحدة من الكتاب المنزل بالحق ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فى قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً)، ثم بداية التفرق والصراعات باختلاف الذين أوتوه بعدما جاءتهم البينات بغيا بينهم، وبقيت أمة على الحق لايضرهم من ضل. وفى طيات هذه الحقيقة ربى الله تعالى الأمة المسلمة، التى تبقى لها وحدتها بطاعة الله- على دفع الفساد وتكافل ا لأسرة، والسمع والطاعة والنصرة والثبات والصبر.
        ثم احتوى المقطع الثانى من موكب الأمة الواحدة، فى قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، بتبيان أن الناس ما كانوا ليقتتلوا لولا اختلافهم، وتفرقهم بين مؤمن وكافر، وهذا من حكمة الله يفعل مايريد. ومن خلال هذه الحقيقة بين الحق تبارك وتعالى: مبدأ " لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ"
        ، والنظام الاقتصادى للأمة المسلمة القائم على ا لإنفاق فى سبيل الله، وتحريم ا لربا، وتوثيق المعاملات، وحفظ المال.

        [1] أوضحنا هذه الحقيقة عن طريق دراسة موضوعية للقرآن تتبعنا فيها حقيقة الأمة في الكتاب والسنة ، وذلك في كتابنا : مستقبل الحضارة ، دار الوفا سنة 1408هـ طبعة ثانية وهنا نترك القرآن الكريم عن طريق موضوع السورة يعلمنا هذه الحقائق .

        [2] البقاعي ، نظم الدرر ج12 ص 22، 31، 40

        تعليق

        • يوسف كمال محمد
          1- عضو جديد
          • 2 فبر, 2014
          • 66
          • عمل حر
          • مسلم

          #34
          وختمت السورة بموقف محمد صلي الله عليه وسلم وأمته من التنزيل الذى يمسك هذه الوحدة. فى قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ).
          وبينما قالت اليهود: (سَمِعْنَا وعَصَيْنَا ) ، قالت الأمة المسلمة: (سَمِعْنَا وأَطَعْنَا)، وبينما عتى اليهود عما نهوا عنه، وبطروا نعم الله، وجادلوا أنبياءهم كما بينت قصة البقرة، فوضع الإصر والأغلال عليهم، هتفت الأمة المسلمة من أعماقها: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ).
          وقد بدأ الله تعالى السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقهم ينفقون، وبين فى آخر السورة أن الذين مدحهم فى أول السورة هم أمة محمد صلي الله عليه وسلم، فقال: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) وهذا هو المراد بقوله فى أول السورة: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ثم قال ههنا: (وقَالُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا)، وهو المراد بقوله: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، ثم قال ههنا: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ ) ، وهو المراد بقوله فى أول السورة: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم فى قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) إلى آخر ا لسورة، وهو المراد بقوله فى أول السورة: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ). فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها [1].
          فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها- كسائر النجوم فى سائر السور- كان يوضع فى رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله؟ وهكذا كان مالم ينزل منها معروف الرتبة محدد الموقع قبل أن ينزل. ثم كيف وقد اختصت من بين السور المنجمة بأنها حددت مواقع نجومها لاقبل نزولها بعام أو بعض عام، بل بتسعة أعوام؟ لعمرى لئن كانت للقرآن فى بلاغة تعبيره معجزات، وفى أساليب تبويبه معجزات، وفى نبراته الصادقة معجزات، وفى تشريعاته الخالدة معجزات، وفى كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات، لعمرى إنه فى ترتيب آيه على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات[2] .



          [1] الرازى، مفاتيح الغيب، ج 7 ص 111.


          [2] محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، ص 208، 209

          تعليق

          • أميرة الظل
            0- عضو حديث
            • 10 فبر, 2014
            • 1
            • طالبة
            • مسلمة

            #35
            بارك الله فيك

            ما شاء الله مجهود رائه و أكثررر

            تعليق

            • يوسف كمال محمد
              1- عضو جديد
              • 2 فبر, 2014
              • 66
              • عمل حر
              • مسلم

              #36
              خير أمة
              كما تخرجها سورة آل عمران

              بينت سورة البقرة أساسين من أسس البنيان الذى تقوم عليه الأمة المسلمة، فهى أمة وسط فى شريعتها، وأمة واحدة فى صلاتها. وتكمل هنا سورة آل عمران الأساس الثالث من أسس هذا البنيان، وهو الخيرية، التى تحدد وجهة الأمة المسلمة كخير أمة أخرجت للناس.
              وبينما كان القصص المناسب للتشريع والصلات فى تكوين الأمة
              المسلمة والأمة الوسط هو قصص بنى إسرائيل، حيث يبين موقفهم من الشريعة التى أنزلت فى التوراة، فإن القصص المناسب للخيرية هو قصص أنصار عيسى ابن مريم، الذى حدد مهمته فى بعث الروح فى بنى إسرائيل، بعد أن جمدوا على النصوص وحرفوها، ليحررهم من الأنانية والعدوان وقسوة القلوب. فلم يأت لينقض التوراة ولكن ليتمها. وفى خلقه البر والإحسان إلى الغير وإن أساء، ولم يكن جبارا شقيا. وكانت رسالته عليه السلام مبنية على السماحة والعفو والحب والمسارعة فى الخيرات.
              وبينما أشارت سورة البقرة إلى الخيرية وصفا لسلوكيات الوسطية فى بنيان الأمة الحضارى، فبينت أن ما أراده الله هو الخير، فقال تعالى: وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) [البقرة: 216] وقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 156]، لأن الله وحده الذى خلق السماوات والأرض والدنيا والآخرة والغيب والشهادة، فهو وحده الذى وسع المكان والزمان والعلم. فإذا اختار لنا فقد هدانا إلى الصراط المستقيم، حيث الهدى والحق علما، والصواب والرحمة عملا، يقول تعالى: ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة: 197]، ويقول: ومَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ [البقرة: 110]، ويقول: وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) [البقرة: 197]، وإذا وسد لغيره تعالى هذا الأمر لكان الضلال والباطل علما والبغى والعذاب عملا.
              ونجد سورة آل عمران عامرة بحقائق هذه الخيرية:
              فتحدد فى مطلع السورة أن الخيرية بيد الله علما وتشريعا. وأن رضوان الله فى الجنة هو الخير الأقصى، وأن الحساب والجزاء يكون على أساس عمل الخير أو عمل السوء.
              يقول تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ورِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) [آل عمران: 15].
              * بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) [آل عمران: 26].
              * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ومَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30].
              وفى وسط السورة يبين الله تعالى مهام هذه الخيرية، فى تكليف الأمر بالقسط فى
              المجتمع أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر. يقول تعالى:
              * ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ [آل عمران: 104].
              * ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم [آل عمران: 110].
              * كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ (110) [آل عمران: 110].
              * ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) [آل عمران: 115].
              وفى آخر السورة يبين الله تعالى الصعوبات التى تتعرض لها الأمة عند القيام بهذه المهمة، وبشرها الله بما يلى:
              * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) [آل عمران: 150].
              * ولَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) [آل عمران: 157].
              والمحصلة النهائية لهذه المعركة هى:
              * ولا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ [آل عمران: 178].
              * ولا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم [آل عمران: 180]
              * ومَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)[آل عمران: 198].

              الخيرية

              كلمة الخير كلمة عامة فى جميع البلدان والأزمان، وهى يقصد بها السلوك المحقق للمثل العليا، ويرى أرسطو والفلسفة الإغريقية عامة أن موضوع البحث الفلسفى يتناول كل ما تتضمنه فكرة الخير الأقصى.
              ووصف السلوك بالخيرية يراد به نزوعه إلى تحقيق غاية أو مثل أعلى، ولفظ
              الخيرGOOD فى الإنجليزية يتصل باللفظ الألمانىGut، عادة ما يطلق على كل ما يحقق هدفاً، فالخير هو القيمة العليا التى تجمع إليها القيم جميعاً.
              ويقصد بالخير الأخلاق لأن الأخلاق هى أهم الوسائل التى تصل إلى الخير.
              يقول مفكر غربى: "إن الغالبية العظمى من الرجال والنساء يعبرون الحياة فى الأوقات العادية دون أن يأخذوا ظروفهم الشخصية، وظروف العالم كله، بإعتبارها وحدة يتأملونها أو ينقدونها، فهم يجدون أنفسهم وقد ولدوا فى موضع معين من المجتمع، ويقبلون ما يجئ به يومهم دون مجهود فى التفكير أكثر مما يتطلبه منهم الحاضر، وهم يسعون وراء إشباع حاجات وقتية بطريقة تكاد تكون غريزية، مثلهم فى ذلك مثل دواب الحقول، دون تبصر أو إعمال للفكر فى أن ظروفهم كلها يمكن أن تتغير إذا بذلوا مجهودا كافيا، وهناك نسبة معينة منهم يقودهم الطموح الشخصى إلى أن يبذلوا من مجهود الذهن والإرادة القدر الضرورى ليضعهـم فى مصاف الأحسن حظا من أعضاء المجتمع، ولكن قليلاً منهم يهتمون اهتماماً جدياً بكفالة ما حصلوا عليه لأنفسهم من مزايا للجميع، إنها لقلة نادرة استثنائية من الناس أولئك الذين يكنون للجنس البشرى كله ذلك الحب الذى يجعلهم لا يستطيعون أن يتحملوا الشرور والشقاء الذى تعانيه الغالبية، بصرف النظر عن علاقته بحياتهم الخاصة، وتسعى هذه القلة عن طريق الفكر أولاً ثم العمل، يدفعها الألم الناشئ عن مشاركتها للآخرين فى آلامهم إلى إيجاد طريق للخلاص " ([1]).
              ويقول آخر: " إن الناس غالبا ما يتعثرون فى تضييق الدائرة بالدوران حول ذاتهم فحسب، والتاريخ ملئ بالشواهد على أن النفس لديها شهية جشعة تتمدد كلما أجبتها وتطلب المزيد، ومحاولة إشباعها دون التحكم فيها منبع الألم المتزايد أكثر من الابتهاج، وهذا يوقع فى فخ العبودية والذل، ولقد عرفنا عدداً قليلاً من الناس هربوا من هذه العبودية فحققوا السعادة لحياتهم، وذلك بأن ركزوا اهتماماتهم لخارج الذات، فامتلأت حياتهم بالمعانى النبيلة والاهتمامات الخيرة، إن الحياة لا تنتهى بالموت ولكنها تضيع فى خدمة الذات والانشغال بها عن المثل العليا والأغراض السامية، والحياة تكون مثيرة وذات قيمة حقاً ومشبعة حينما يتجاوز هدف الإنسان ذاته إلى خدمة الآخرين، وهنا يجد نفسه. والحكومات لم يحترم دورها إلا حين تحولت من هوى السلطة إلى آفاق خدمة المجتمع، وبدون تقدير دقيق لهذا الأمر يتصور أن هذه الصيحات شاذة أو متخلفة، والبعض يشك فيها ويستبعدها ويرفضها على أنها لغو، ولكن العقلاء ذوى الفكر المنظم والرؤية البعيدة يجدون تفسيراً لحافز خدمة الغير، فلانسل يرى أن الطبيعة البشرية، لو تركت، لحكمها قانون حفظ النفس، الذى يجعلها تنكب بأنانية على خدمة الذات فحسب، وكان ذلك سبباً فى فشل كثير من الناس وإخفاقهم.

              وهناك ثلاثة متطلبات لتحقيق هذه الخيرية:
              1- التحرر من جواذب الذات كمحور رئيسى لحياة الإنسان.
              2- الاستعداد لتحمل كافة التضحيات اللازمة للقيام بهذا الهدف.
              3- تربية النفس على القيم الأخلاقية والاستقامة بحيث تصبح تلقائية.
              وبلا شك تكون مأساة حين تقتصر دنيا الأعمال على النفع الشخصى وتخلو من قيم الإيثار ونفع الغير، وليس معنى هذا إهمال الذات والتخلى عن التعمير والإبداع، بل إن ذلك هو طريق نفع الغير وتنمية المجتمع والتقدم بالحياة، إن الإنسان الذى يجمع بين خدمة الذات وخدمة الناس يستحق التقدير، لأنه لا يحدث تغييرا صغيرا، بل يحدث تغييرا جذريا، وهنا يحقق الإنسان أحسن استثمار لحياته، ولا يقضيه فى أمور ****ة لا أثر لها. وفى خطبة تحدث فيها ماهونى لطلبة مدرسة الأعمال بجامعة هارفارد بهذا الخصوص، فقال: إذا ذهبت إلى الآخرة للقاء خالقك وقدمت كشفا عن أعمالك فإنك تقول: ما فعلته هو أننى حققت معدلا للنمو كبيراً فى عملى بالشركة، هذه مؤهلات لا تزن شيئا، إذا قورنت بالأعمال الواجبة عليك للغير، والتى تثقل ميزانك " ([2]).
              ولكننا يجب أن ننبه إلى محظور يلغى من أثر هذه النزعة الأخلاقية، حتى وإن كان صاحبها صادقا، فما هو الهدف من ذلك؟ هل هو إشباع دوافع الفخر والسمو على الغير فحسب؟ إن كان الأمر كذلك فهو هوى فى النفس يجعلنا ندور حول عبادة الذات، إن الفلسفة النفعية العملية المعاصرةPragmatism قد جعلت كل ما يشبع هوى النفس هو الحق، فأصبحت الفتاة التى تفقد عذريتها ناضجة والتى تحافظ على عفافها معقدة، وتصور نيتشه الفيلسوف الألمانى أن الإحسان للضعفاء مصادمة لقانون البقاء للأصلح، يحكم على تطور البشرية بالضعف !
              لقد ضربت فى هذا العصر العلمانية الغربية والاشتراكية الماركسية القيم
              وثوابت الأخلاق فى مقتل، وعاش العصر واقع سيادة المنفعة واللذة، وتطويع الأخلاق لهذا الهوى والضلال. وبدأ ذلك حين استبعد الدين من المجتمع، وظهر لهذا التيار فلاسفته كما هى العادة. فدارون ادعى، على غير أساس، أن الإنسان ترقى من الحيوان، ليقرب من العقل الإنسانى خلقا بدون خالق يرجع إليه فى تحديد ثوابت القيم والأخلاق. ودوركايم الذى استبدل إرادة الله بإرادة المجتمع، فجعل للمجتمع حق تحديد النظام الأخلاقى على أساس الرغبات والمنافع، وفرويد الذى فسر السلوك البشرى على أساس الجنس كمحرك للأخلاق والقيم، ثم زاد اليهودى ماركس البلاء باعتباره القيم الأخلاقية انعكاسا للقيم المادية التى تحدد للمجتمع سلوكه وتطلعاته.
              وكان التمرد على القيم الأخلاقية، باسم الحتمية والتطور، مفرخا للموقف التشاؤمى الذ ى انتهت إليه الفلسفة الوجودية، فانهارت بها جميع القيم والأخلاق.
              " ونجم عن ذلك أن تركت قوانين الإنسان الخلقية دون أى مقياس خارجى يمكن أن تقاس به، فالطبيعة البشرية- بما فيها من شذوذ فردى وعواطف داخلية واتجاه طاغ نحو توكيد ذاتها- هذه الطبيعة البشرية رفعت إلى منزلة قاض يصدر حكمه فى قضايا هو فيها فريق. فالإنسانية التى تتركز حول الإنسان لاتعدو كونها إحياء لنظرية قديمة عفا عليها الزمن، وهى نظرية السوفسطائى برتاغورس القائلة بأن الإنسان هو مقياس كل شئ. ونتائج ذلك تشمل جميع ألوان النكبات فى العصر الحديث. فالمذهب القائل بأن الإنسان مقياس لكل شئ ينشأ عنه على سبيل المثال أن الاختلافات الخلقية إنما هى قضية ذوق، وهو اعتقاد أصبح وبائيا فى المجتمع الحديث... ثم إذا لم يكن للكون تصميم خلقى أسمى من المصالح البشرية، فإنه ينتج عن ذلك أن الإنسان وحده، وعن طريق ذاته فقط، يعد طريق خلاصه.
              وبذلك تسلم الثقافة العلمانية نفسها لنوع من المذاهب العقلية معرض للشطط. إنها لاتحسب حسابا للقوى التى تفوق العقل وتستطيع وحدها أن تسمو بالناس فوق ذواتهم، وليس باستطاعتها أن تيسر للناس عونا مصدره قوى أكبر من قوتهم، ولاتنبئهم كيف يمكن لما فوق التعقل أن ينسكب فى ذواتهم، فيوحى إليهم ويشع النور فى حياتهم. وعلى هذا النحو يترك الناس عاجزين عن مكافحة القوة غير المتعقلة فى نفوسهم، ذلك بأن العقل البشرى ضعيف غير دافئ، ودوما تتغلب عليه النوازع غير العاقلة، ومالم يتح للناس نور ودفء أقوى من العقل يصارعون بهما قوة ماهو دون العقل، فإن العقل نفسه مقضى عليه بالخذ لان " ([3]).
              ويتجه الإنسان فى الغرب نتيجة لذلك نحو الجنون واليأس والانتحار، يتفنن فى إرهاق البنيان المادى للإنسان والنسيج المكون للأسرة، ويطفئ شعلة الروح فيه بالتمرغ فى أوحال الشهوة والرذيلة، ويتنافس فى تطوير أدوات الهلاك، ويمزق لحمة الأ سرة والمجتمع، ويقضى على ينابيع الرحمة والصلة، ويقض مضاجع الدنيا بالصراع والحروب والاستغلال والظلم.
              يقول الأسقف وليم لورنس: " ينتاب شعبنا نوع من الارتياب فى أثر الترف المادى فى السلوك الأخلاقى. إننا نجعل من النذر التى قصمت الترف الكبير، ونتساءل ما إذا كان الترف المادى يجنح فى المدى الطويل إلى تحلل الأخلاق؟ ويؤكد لنا التاريخ هذا الارتياب، وتجئ هذه الرؤى من زوال عظمة سادوم وعمورية وبابل وروما والبندقية، ومن سقوط أمم عظيمة أيضا. ولنتساءل عما إذا كانت إنجلترا وهى فى عز ثروتها وسلطانها. قد بدأت الآن تزرع ما سوف تحصده الزوابع فى المستقبل.
              وإذا كان تعليلنا المستمد من التاريخ والتجربة والإنجيل صحيحا، فنحن كشعب مسيحى نكون قد ألقينا الإنجيل واعتنقنا الطقوس الوثنية، واتجهنا إلى انهيار يتضاءل أمامه سقوط روما " ([4]).
              والنزوع نحو الخير فطرة إنسانية. يقول الأستاذ فلوجل: " لقد أثبت البحث وجود عنصر يترتب عليه أن يكون أحد الأفراد على العموم أميل إلى الاتساق وأيقظ ضميرا وأكثر مثابرة وأحرص على المبادئ من فرد آخر يغلب عليه أن تجرفه النزوات العابرة والميول العارضة والحماسات الموقوتة... وأسفر التحليل التفصيلى عن إضفاء تفسير خلقى على هذا العمل الذى هو أشبه بعملية التحكم العمد منه بالتصرف التلقائى للنزعة الكريمة أو الطيبة... وقد أيدت الطرق الموضوعية فيما بعد.. من اختبارات الحياة الواقعية على أنواع مختلفة من الخير مثل الصدق ويقظة الضمير والتعاون والمروءة والمثابرة والامتناع عن الإغراء والتسامح والتضحية بالنفس وضبط النفس، على عدد ضخم من الأطفال الأمريكيين، وأسفر عن عودة ظهور عنصر هام هو عنصر التناسق أو الاتساق الذى يلعب دورا فى كل صور الخير فيما يبدو.. مما أوضح وجود شئ شبيه بفكرة الناس عن الضمير" ([5]).
              ومن هنا نرى الحكمة فى أسلوب التربية الإسلامية الموجهة أولا إلى ضمير
              الإنسان ونعرف صدق هذا التحليل من توجيه رسول الله (ص) حيث يقول: "البر حسن الخلق والإثم ماحاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس "([6]).
              والتشريع الوضعى مسؤول بلا شك عن إنهيار المجتمع الغربى، ولكن ضعف الوازع الخلقى عليه مسؤولية كذلك. إن القانون لايستطيع أبدا أن يعمل وحده مالم يكن له رصيد من الأخلاق والدافع الذاتى، ولن يستطيع القانون مهما زادت مواده أن يسد الثغرات مادامت النفوس مريضة والضمير معطلا.
              ولكن الضمير مجرد نزوع، ولابد أن تعتمد الأخلاق على مصدر عليم بالسماوات والأرض، والغيب والشهادة، لتحديد ثوابتها، فلا تترك للإنسان يعصف بها بظنونه وأهوائه. والقرآن الكريم خير منهاج للإنسانية يحدد لها الأخلاق الوسطى التى تسعد حياتها وتسعد المجتمع.
              يقول ابن القيم: " للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا، ومتى قصرت عنه كانت نقصا وإهانة. فللغضب حد هو الشجاعة المحمودة، والأنفة من الرذائل والنقائص، وهذا كمال إذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار، وإن نقص عنه جبن ولن يأنف من الرذائل. وللحرص حد وهو الكفاية فى أمور الدنيا، وحصول البلاغ منها، فمتى نقص عن ذلك كان مهانة وإضاعة، ومتى زاد عليه كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه وللحسد حد وهو المنافسة فى طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيره، فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما ويتمنى معه زوال النعمة عن المحسود، ويحرص على إيذائه، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس " ([7]).
              وفى سورة آل عمران تحديد لوجهة الخيرية فى هذه الأمة، وتحديد لثوابت أخلاقياتها. وهى مع كل القرآن الكريم تربية للنفس عن طريق الأمر والنهى والوعد والوعيد والقصص، يتلى آناء الليل وأطراف النهار دافعا النفس إلى أحسن الأخلاق وأعلاها.
              والذى يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخلق بالقرآن لايهمه نتيجة هذا التخلق فى الدنيا. فهو يعنى بالتقيد به فى جميع الأحوال، سواء أكانت نتيجته ظاهرة فى هذه الدنيا حسنة أو سيئة، وسواء أكان نصيبه من ذلك فوزا أو خسرانا. لأن قلبه معلق برضوان الله وثواب الآخرة. ومن هنا ترسى قواعد خير أمة أخرجت للناس وتتحدد معالمها، كما تتحدث عنها سورة آل عمران.

              موضوع السورة

              يخرج الله سبحانه وتعالى بسورة آل عمران من الأمة المسلمة خير أمة عرفها
              الناس ، ومن ثم تدور السورة على محاور أربع:

              المحور الأول: الأساس العقيدى -مصدر المعرفة:

              * يبين الله تعالى أن الوحى الممثل فى كتاب الله مصدر المعرفة فى أمور الغيب، وفى منهاج الحياة يعتمد عليه الإنسان فى تلمس الهداية مع العقل والحس.

              * يبين الله تعالى أن الوحى فيه آيات محكمات وفيه آيات متشابهات، والمتشابه لا يطيق الإنسان معرفته بمدركاته المحدودة، ومن ثم يسلم به الراسخون فى العلم، أما الذين فى قلوبهم زيغ فيثيرون به الفتن.
              * إن اتباع الوحى والإيمان بالمتشابه، أساس الدين الذى هو الإسلام، ومن الناس من يبغى غيره دينا فيثير الاختلاف والنزاع والحروب والشقاء للبشر.
              ومن خلال ذلك يحدد الإسلام قاعدة الخيرية فى العقيدة:
              1- الله وحده بيده الخير، لأنه وحده على كل شئ قدير.
              2- الخير الأقصى هو فى الآخرة فى الجنة ورضوان الله.

              المحور الثانى: عبرة التاريخ :

              * يصطفى الله تعالى من البشر رسولا يوحى إليه، بيانآ للناس عن المبدأ والمعاد والمنهاج، ليحموا البشر من الاختلاف وتأويل آيات الله ابتغاء الفتنة.
              * ثم يركز القرآن هنا على قصة عيسى- عليه السلام- ونشأته الطاهرة من ذرية طاهرة، وذلك ليبين أمرين:
              1- الرد على فرية البهود عن المسيح- عليه السلام- حين نسبوه إلى أب غير شرعى.
              2- الرد على فرية النصارى الذين جعلوا المسيح إلها من دون الله.

              وهنا ترد السورة على هذه الشبهات التى سببها النزاع على المتشابه الذىأمروا بالتسليم به :
              1- شبهة خلق عيسى- عليه السلام- ويرد عليها القرآن بأن الذى خلق آدم من غير أبوين قادر على خلق عيسى من غير أب.

              2- شبهة الانتماء إلى إبراهيم وادعاء أنه يهودى أو نصرانى، ويرد عليها القرآن بأن النسبة نسبة عقدية، وأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين.

              3- شبهات يثيرونها بإلباس الحق والباطل، ليبقى الناس فى متاهة واضطراب فيضلونهم بذلك، وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق وتأويل النصوص لإرضاء ذوى الجاه والسلطان.

              4- شبهة يتداولونها لاستحلال أموال الناس بدعوى أنهم أحباب الله، ويقولون على الله الكذب، ولا يجوز لمسلم بحال أن يعتدى على مال مسلم فحرمته كحرمة الدم ولا على مال الذمى بموجب الوفاء بالعهد، ولا على الكافر إلا إذا كان محارباً وكان يستحل ماله على سبيل المعاملة بالمثل.

              5- شبهة يثيرونها بتحريف كلام الله ولى ألسنتهم، وينسبون ذلك للدين ليبرروا انحرافات السادة ومراكز القوة، ويجعلون الملائكة والنبيين أربابا ليضلوا العامة ويبتزوا الأموال وينالوا الحظوة عند الطواغيت.

              6- شبهة يفرقون بها بين الرسل؛ يؤمنون بالبعض ويكفرون بالبعض، يشترون بذلك الثمن القليل من أعداء دين الله رغم معرفتهم بالحق، وقد أخذ على الجميع الميثاق من الله ليبينه للناس ولا يكتمونه.

              7- شبهة يثيرونها نتيجة أخذهم الشريعة عن غير الله، من ذلك ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فالتشريع خصيصة من خصائص الألوهية، وليس لبشر أن يشرع بغير ما أنزل الله، وإذا فعل ذلك فقد أشرك بالله مالم ينزل به سلطاناً.

              8- شبهة يثيرونها بعد أن تحول رسول الله (ص) بالقبلة من بيت المقدس إلى مكة، ويرد عليها القرآن بأن أول بيت وضع للناس ببكة، وكان أكبر مناسك ملة إبراهيم الحج إلى بيت الله الحرام.

              *ومن ثم يختم تعالى هذا الجزء بنداء لأهل الكتاب ليعدلوا عن كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيكفروا، وقد أكرمهم الله برسوله وكتابه ليعتصموا به فيهتدوا إلى الصراط المستقيم.

              المحور الثالث موضوع السورة -: الخيرية:

              تقوم أخلاقيات الأمة المسلمة كما يخرجها القرآن الكريم على أسس هى:
              1- التقوى التى تنجى من الفسوق والعصيان.
              2- الألفة التى تنجى من الفرقة والاختلاف.
              3- الأخوة التى تنجى من العداوة والخصام.

              ومن هنا يقيم المسلم أساسه الأخلاقى على فتح آفاق الخير للمجتمع وإن لم يثب على ذلك دنيويا، وأن يأمر بالخير والمعروف حسبة لوجه الله، ويمنع كل منافذ الشر عنه وإن تسبب ذلك فى وقوع الأذى عليه.
              وعلى هذا الأساس يتحدد منهاج المسلم على قواعد:
              1- الإيمان.
              2- المسارعة فى الخيرات.
              3- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
              ومن خلال ذلك يقارن القرآن الكريم بين أمتين، أمة تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسارع فى الخيرات فيكون ذلك مناط فلاحهم، وأمة كافرة تخضع للهوى وتدعم الباطل وتتمادى فى العصيان، وتمد يد الأذى للصالحين من العباد، فلن يشفع لها أموالها ولا أولادها، ويكون ذلك طريقهم إلى الهلاك والذل والهوان.
              ومن هنا تتحدد أخلاقيات خير أمة وهى:
              1- لا تتخذ أهل الكفر بطانة من دون المؤمنين، وقد ظهرت البغضاء فى ظاهرهم وما تخفى صدورهم أكبر.
              2- التوكل على الله فيكون كل مرادهم مرضاة الله، موقنين أن نصرهم فى طاعته، وأن كيد الكافرين لن يضرهم شيئاً مع هذا التوكل، ومن ثم على الداعية أن يتجرد من كل ذاته حتى كراهية أعدائه والدعاء عليهم.
              3- اجتناب كل صور الربا فهو من أكبر الكبائر، وأقذر وسائل استغلال العباد.
              4- أن تجود أنفسهم بالإنفاق فى سبيل الله لينالوا مغفرته وجنته.
              5- التحلى بخلق الحلم فيكظمون غيظهم ويعفون عن الناس، ويستعلون على نزعات أنفسهم ولا يكون فى بالهم إلا هداية العباد وخيرهم.
              6- العفة، وسرعة التوبة من الفواحش والذنوب حتى يخرج الحق من قلوبهم على ألسنتهم، وتكلؤهم رحمة الله ورضاؤه فى دعوتهم وجهادهم.
              7- الصبر والثبات طريق النصر أبداً، والبعد عن الوهن والحزن طريق الهزيمة، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت الآخرة أحب للعبد من الدنيا، والموت فى حسه أقرب من الحياة.
              8- الطاعة لله ورسوله ولأولى الأمر من المؤمنين، وقد بينت السورة بتوضيح كبير أن سبب هزيمة المسلمين فى أحد كان معصية الله ورسوله، وذلك نتيجة أن الدنيا كبرت فى حسهم عن الآخرة، وطغى حس الحياة الدنيا على حقيقة الموت ولقاء الله.
              9- ثم تبين السورة أخلاقيات الإمامة والقيادة التى تضمن حسن سياسة العباد:
              أ- اللين، وترك الفظاظة وغلظة القلب.
              ب- العفو والمغفرة قبل الحساب والعقاب.
              ج- الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام لا يجوز لحاكم أن يتركها.
              د- التوكل على الله، والتخلى عن كل حول وقوة إلا حول الله وقوته، فلا يعتمد إلا على الله، ولا يتصور أنه ينصر بقوة أو عدد إلا بمدد الله.
              هـ- العفة فلا يمد عينه إلى ما متع الله به غيره، ولا يسمح لبطانته أن تختلس أو تتميز فى مال المسلمين والعطاء.
              و- أن يكون واجبه الأول اتخاذ كل سبيل لتزكية نفوس المسلمين، وتعليمهم كل ما يصلح دينهم.

              المحور الرابع : ماعند الله خير للأبرار
              وفي ختام السورة يلتقي موضوع الخيرية مع مطلع السورة في بيان حقيقة الألوهية .
              إن تربية الأمة المسلمة علي الخيرية تأهيل لها لتحمل أمانة الخلافة وشهادة الحق لدين الله ، وما يتبعها من صبر ومصابرة ومرابطة .
              إن الشيطان وجنده لا يريدون أن يعم هذا الخير ، ولا يستطيعون العيش إلا في مستنقع البغي والفساد . ومن ثم يحشدون الحشود ليطفئوا نور الله .
              وهنا في ختام السورة يبين الله تعالي الخير الأقصي ، وهو أن يكون جهاد الإنسان خالصا لا يراد به غير وجه الله ، ولا يقصد به إلا الدار الآخرة .
              وعلي أساس هذه القاعدة تحدد القيم وتبين المقاصد ,.
              يقول تعالي موضحا أساس هذه الخيرية : وسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (134) والَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ ولَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ونِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ (136)....
              وتظهر نتائجها في أخلاقيات الأمة الجهادية . يقول تعالي : وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (148)



              وسبب كل فشل ووراء كل مصيبة البعد عن هذه القاعدة . يقول تعالي:
              ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ولَقَدْ عَفَا عَنكُمْ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ (152)
              وتقوم علي هذه القاعدة تحديد معني الخير والشر الذى علي أساسه تقدر حقيقة الموت والحياة يقول تعالي:
              ولَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) ولَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)..
              ويعرف الله تعالي معني النصر والهزيمة فيقول :
              لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهَادُ (197) لَكِنِ الَذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ومَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)
              ويعرف معني النعيم والشقاء
              الَذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ واتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) ولا يَحْزُنكَ الَذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظاً فِي الآخِرَةِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
              ولا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
              ويحدد الله تعالي معالم الخير الأقصي في قوله تعاليه :
              لَكِنِ الَذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ومَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)
              ثم تبين السورة الحكمة من وراء هذا الابتلاء، فالله تعالى بحكمته يمحص النفوس ويميز الصفوف ويصطفى الشهداء، وبذلك يميز الله الخبيث من الطيب، .
              يقول تبارك وتعالي في تمحيص النفوس واصطفاء الشهداء :
              إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ (141)
              ويقول تبارك وتعالي في تممييز الصفوف :
              مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ ولَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وإن تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

              الخاتمة

              إن الخيركل الخير إنما هو فى رضاء الله والجنة...

              ففى أول السورة فى قوله تعالى:
              قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ورِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15).
              وفى آخر السورة:

              لَكِنِ الَذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ومَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)

              ومن هنا بدأت السورة بدعاء المؤمنين:
              رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ (8)

              وختمت السورة بدعائهم:

              رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ (194)

              ولقد بدأت السورة بإعلاء شأن أولى الألباب فى قوله تعالى: ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269).

              ختمت السورة بقوله تعالى: إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190)




              [1] برتراند رسل، سبيل الحرية، ص 13، مكتبة الإنجلو المصرية 1957م.


              [2] Charles A. Watson, Business Horizon Magazine, The Meaning of Service In Business, P.55 – 61 January, February 1992.

              [3] تشارلز فرانكل، أزمة الإنسان الحد يث، ص 56: 63، مكتبة الحياة، مؤسسة فرانكلين 959 1 م.

              [4] آرثر حونسون، الاقتصاد الأ مريكى، مقد مة تاريخية لمشاكل السبعينات، ص 47، 48، دار المعارف سنة 1981.

              [5] ج. كارل فلوجل، الإنسان والأخلاق والمجتمع، ترجمة عئمان نويه وآخرين، ص 31، دار الفكر العربى.

              [6] رواه مسلم، ج 2 ص 277 الحلبى.


              [7] ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 124، مكتبة السنة المحمدية.

              تعليق

              • يوسف كمال محمد
                1- عضو جديد
                • 2 فبر, 2014
                • 66
                • عمل حر
                • مسلم

                #37
                المشاركة الأصلية بواسطة أميرة الظل
                بارك الله فيك

                ما شاء الله مجهود رائه و أكثررر
                جزاكم الله خيرا

                تعليق

                • نصرة الإسلام
                  المشرفة العامة
                  على الأقسام الإسلامية

                  • 17 مار, 2008
                  • 14565
                  • عبادة الله
                  • مسلمة ولله الحمد

                  #38
                  شكر الله لكم الأخ الفاضل يوسف وأعانكم على مزيد من المشاركات الفعالة
                  فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
                  شرح السيرة النبوية للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيــــــــل.. أدلة وجود الله عز وجل ..هام لكل مسلم مُوَحِّد : 200 سؤال وجواب في العقيدة
                  مـــاذا فعلتَ قبل تسجيلك الدخـول للمنتدى ؟؟.. ضيْفتنــــــــــــــــــــــــــا المسيحية ، الحجاب والنقـاب ، حكـم إلـهي أخفاه عنكم القساوسة .. هـل نحتـاج الديـن لنكـون صالحيـن ؟؟
                  لمــاذا محمد هو آخر الرسل للإنس والجــن ؟؟ .. حوار شامل حول أسماء الله الحسنى هل هي صحيحة أم خطـأ أم غير مفهـومـــة؟!.. بمنـاسبة شهر رمضان ..للنساء فقط فقط فقط
                  إلى كـل مسيحـي : مـواقف ومشـاكل وحلـول .. الثـــــــــــــــــــــــــالوث وإلغــاء العقـــــــــــــــــــل .. عِلْـم الرّجــال عِند أمــة محمــد تحَـدٍّ مفتوح للمسيحيـــــة!.. الصلـوات التـي يجب على المرأة قضاؤهــا
                  أختي الحبيبة التي تريد خلع نقابها لأجل الامتحانات إسمعـي((هنا)) ... مشيئـــــــــــــــــــــة الله ومشيئـــــــــــــــــــــة العبد ... كتاب هام للأستاذ ياسر جبر : الرد المخرِس على زكريا بطرس
                  خدعوك فقالوا : حد الرجم وحشية وهمجية !...إنتبـه / خطـأ شائع يقع فيه المسلمون عند صلاة التراويـح...أفيقـوا / حقيقـة المؤامـرة هنـا أيها المُغَيَّبون الواهمون...هل يحق لكل مسلم "الاجتهاد" في النصوص؟
                  الغــــــزو التنصيـــــــــري على قناة فتافيت (Fatafeat) ... أشهر الفنانين يعترفون بأن الفن حرام و"فلوسه حرام" ... المنتقبة يتم التحرش بها! الغربيون لا يتحرشون ! زعموا .

                  أيهــا المتشكـــــــــــــــــــــــــــك أتحــــــــــــــــــــــــداك أن تقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرأ هذا الموضــــــــــوع ثم تشك بعدها في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
                  <<<مؤامرة في المزرعة السعيدة>>>.||..<<< تأمــــــــــــــــــــلات في آيـــــــــــــــــــــــــــــات >>>
                  ((( حازم أبو إسماعيل و"إخراج الناس من الظلمات إلى النور" )))

                  تعليق

                  • يوسف كمال محمد
                    1- عضو جديد
                    • 2 فبر, 2014
                    • 66
                    • عمل حر
                    • مسلم

                    #39
                    المشاركة الأصلية بواسطة نصرة الإسلام
                    شكر الله لكم الأخ الفاضل يوسف وأعانكم على مزيد من المشاركات الفعالة
                    جزاكم الله خيرا أختنا الفاضلة

                    تعليق

                    • يوسف كمال محمد
                      1- عضو جديد
                      • 2 فبر, 2014
                      • 66
                      • عمل حر
                      • مسلم

                      #40
                      بين سورة البقرة وسورة آل عمران

                      اهتمت سورة البقرة بتبيان الأسس الاجتماعية والاقتصادية الرئيسة للأمة المسلمة، ولهذا تردد لفظ الأمة على مداها مبينا أوصافها:
                      1- الإسلام: رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ .
                      2- الوحدة: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ .
                      3- الوسط: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ .
                      وقد بدئت السورة وعنوانها البقرة، بابتلاء بنى اسرائيل بذبح بقرة، ولوذبحوا أى بقرة لأجزأت، ولكن الله بعد سؤالهم أختار لهم الوسط عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ .
                      وفى آخر السورة بين هذه الوسطية فى العبادات فى قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى .
                      وسنت الأسس الاجتماعية والاقتصادية على هذه السنة الوسطية على مدى السورة لا إفراط ولا تفريط.
                      واهتمت سورة آل عمران بالأسس الأخلاقية للأمة المسلمة، فاقترن وصف الأمة بالخيرية، وعمرت جنباتها بكلمة الخير. يقول تعالى:
                      ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ .
                      كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ .
                      قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .
                      بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26).
                      يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً .
                      ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ (54).
                      ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115).
                      بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150).
                      ولَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157).
                      ولا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ .
                      ومَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198).

                      "يقول السيوطى: وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين وآل عمران مكملة لمقصوده، فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى. وأوجب الحج فى آل عمران، وأما فى البقرة فذكر أنه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه. وكان خطاب النصارى فى آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود فى البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها. والنبى (ص) لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى فى آخر الأمر" ([1]).

                      ويقول الرازى:

                      "ذكر الله فى سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد فى سورة آل عمران ثلاثة أنواع منها، تنبيهاً على أن العارف بعد صيرورته عارفا لابد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل يكمل له الاستغراق فى معرفة المدلول. فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ماذكرناه... ثم ختم تلك الآية فى البقرة بقوله تعالى: لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وختم هذه الآية فى آل عمران بقوله: لأُوْلِي الأَلْبَابِ ، لأن العقل له ظاهر وله لب، ففى أول الامر يكون عقلا، وفى كمال الحال يكون لبا " ([2]).
                      و تتشابه المبانى الأساسية للسورتين لوحدة الموضوع الذى تهدفان إليه، وهو إخراج الأمة المسلمة أمة وسطا تشهد على الناس بهدى الله، وكيانها كأمة واحدة لاستمساكها بالحق وبعدها عن الاختلاف، وغايتها كخير أمة تقوم على القيم والأخلاق.
                      ومن ثم كانت البداية واحدة:
                      الـم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1، 2].
                      الّـم(1) اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ [ آل عمران: 1، 3].


                      وكانت الخاتمة واحدة:
                      واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا [ البقرة: 286 ].
                      رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا [ آل عمرإن: 193].
                      وافتتحت سورة البقرة:
                      أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [ البقرة : 5].
                      وختمت سورة آل عمران:
                      واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آل عمران: 200 ] .
                      وفى الوسط:
                      قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسَى ومَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ البقرة: 136] .
                      قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ومَا أُنزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسَى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ آل عمران: 84 ].
                      وقد اهتمت سورة البقرة وسورة آل عمران بتوضيح مسالك أهل الكتاب: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ [ البقرة: 61 ]. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ [ آل عمران: 112].
                      وفى اختلافهم:
                      ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [ البقرة: 213 ].
                      ومَا اخْتَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [ آل عمران: 19] .
                      وفى بناء الكعبة:
                      وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ [البقرة : 127 ].
                      إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ [آل عمران : 96 ، 97 ].
                      وفى حكمة الابتلاء:
                      أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم [ البقرة: 214 ].
                      أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ آل عمران: 142].
                      وفى حقيقة الشهادة:
                      ولا تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ولَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [ البقرة: 154].
                      ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ آل عمران: 169].
                      وفى صفة الحنيفية:
                      وقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [البقرة: 135].
                      مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولا نَصْرَانِيّاً ولَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [ آل عمران: 67].
                      وفى مهمة الرسول:
                      كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُمْ ويُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ [البقرة: 151].
                      لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ [ آل عمران: 164].
                      وفى التفكر:
                      إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ البقرة: 164 ].
                      إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [ آل عمران: 190 ].
                      وتحدثت السورتان عن البر:
                      ولَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى [ البقرة: 189].
                      لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ آل عمران: 92].

                      وعن الحج:
                      وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ [البقرة : 127].
                      إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [ آل عمران: 96 ].
                      وبين دفتى السورتين تتحدد مسيرة الفلاح، حيث تخرج الأمة الوسط فى منهاجها والأمة واحدة فى ترابطها، وخير أمة أخرجت للناس فى غاياتها.
                      وهنا نبه الله تعالى فى سورة البقرة وهو فى سياق إرسائه لقواعد الأمة التشريعية على أهمية القواعد الأخلاقية، بينما نبه الله تعالى فى سورة آل عمران وهو فى سياق إرسائه لقواعد الأمة الأخلاقية على أهمية القواعد التشريعية.
                      ومن هنا ابتدأت سورة البقرة بقوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
                      وختمت سورة آل عمران بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .




                      [1] السيوطى، الإتقان فى علوم القرآن، ج 3 ص 332، 333.

                      [2] الرازى، مفاتيح الغيب، ج 9 ص 115.

                      تعليق

                      • يوسف كمال محمد
                        1- عضو جديد
                        • 2 فبر, 2014
                        • 66
                        • عمل حر
                        • مسلم

                        #41
                        حقوق الإنسان وواجباته
                        كما تقررها سورة النساء
                        مقدمة
                        ظهر فى العصر الحديث دعاوى وإعلانات عن حقوق الإنسان، مثل وثيقة الماجناكارتا عام1215 م وإعلان استقلال الولايات المتحدة عام 1789 م والإعلان الفرنسى لحقوق الإنسان عام 1789 م .وكلها إعلانات وطنية- تصدرها كل دولة- لادولية تخص الناس جميعا.
                        وكل هذه الإعلانات تقوم على اعتبار أن حرية الإنسان المطلقة دون قيد هى الأصل، وأن الإنسان تنازل عن بعض حرياته للمجتمع الذى يتولى مسؤولية الحماية والتنظيم.
                        ثم صدر الإعلان العالمى لحقوق الإنسان من الجميعة العامة للام المتحدة فى سنة 1948م. هذا الإعلان الأخير، كان اتجاها للخروج من دائرة الوطن فى هذا الشأن إلى دائرة العالمية. ثم أفرغت مبادئ الإعلان فى التعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذى اعتمد بقرار الأمم المتحدة سنة 1966م وعرض للتصديق والانضمام إليه من جانب الدول الأعضاء. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الجمعية العامة للأم المتحدة وأجهزتها ولجانها المتخصصة عن صياغة العديد من الإعلانات الأخرى التي تحدد حقا معينا، كالإعلان الخاص بحق الشعوب فى تقرير مصيرها، والإعلانات الخاصة بمنع التمييز، وحقوق المرأة وحقوق الطفل، وتحريم الرق والعبودية والسخرة، وحقوق الإنسان فى العدل وحقوق الأقليات. وساهمت الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، كل فى مجاله، فى إصدار إعلانات عالمية أخرى كحرية الإعلام والثقافة الجنسية واللاجئين وجرائم الحرب... ويتفاوت عدد الدول المصدقة على هذه الإعلانات
                        ونظرا لأنه لا يمكن الفصل بين نظم المجتمعات ومفاهيمها وعقائدها لأنها فى الحقيقة تنبثق عنها، فإنه لايمكن الفصل بين دعاوى حقوق الإنسان فى عصرنا والعقيدة التى قام عليها المجتمع الغربى الحديث. فقد انبثقت كل هذه الحقوق من الفلسفة التى قام عليها المجتمع الغربى. فالمجتمع الغربى يقيم نظام حياته على الفلسفة العلمانية Secularism وهى مشتقة من الكلمة اللاتينية Seaculum ومعناها الدنيوية فى مواجهتها للدين، الذى كانت تمثله الكنيسة. والهدف من الحياة عندها هو البحث عن اللذة وتمجيد القوة، ورؤيتها تقوم على أساس نسبية المعرفة وفق هذه الأهداف، فلا يوجد ثوابت ولا مطلق في القيم والمعارف والغايات. وفى عالمها كل شئ مباح؟ نرى ذلك فى الإباحة الجنسية، والتفلت من القيود الأسرية، وتعدد وسائل التسلية، وتنوع أنواع السلع والشهوات. وهى وإن كانت لاتنكر الدين إلا أنها تزيحه من التأثير على واقع الحياة، وتؤمن أنه بإمكان الإنسان وحده معرفة حقائق الكون والحياة، فتنكر الرجوع إلى الغيب كمصدر للمعرفة اللانهائية، وتعطى الإنسان وحده حق التشريع لنظامه الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، وتحدد أخلاقياته وقيمه من واقع مصالحه ورغباته.
                        ومن ثم كان التركيز على مفهوم الحقوق والحريات الفردية فى الفكر والسلوك والاقتصاد والعلاقات. وكانت الديموقراطية- تبعا لذلك- هى أساس الحقوق السياسية، والسوق الحر هو قانون الاقتصاد، والمذهب النفعى Pragmatism هو محور السلوك الاجتماعى والأخلاقى. وبهذا سقط الإنسان صريع المذاهب العدمية كالوجودية من الناحية الفكرية، وصريع الإباحية فى علاقاته الاجتماعية، ليعانى تمزق الأسرة وتفشى أمراض الجنس والأمراض النفسية، وصريع الاغترار بالقوة فى العلاقات السياسية فتصبح الغاية تبرر الوسيلة، فيقوم بالاجتياح العسكرى لإذلال الشعوب، والضغوط المميتة لإملاء الشروط، ولتعانى المجتمعات من مشاكل صراعات اللون والجنس والدين.
                        والذى يدل على ارتباط هذه الدعاوى بعقيدة المجتمع، أنه بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت الأفكار الاشتراكية التى ركزت على الحقوق الاقتصادية على حساب الحقوق السياسية، ذلك لأن عقيدتها رفضت الدين واعتبرته أفيونا للشعوب، واعتبرت أن الدنيا هى الحقيقة الوحيدة، فأعلت من شأن المادة ممثلة فى أدوات الإنتاج وأعطت لها خاصية التطور عن طريق ماسموه بالتناقض والصراع. ومن ثم اعتبرت حق الملكية سرقة، وحرية العبادة تخلفا وقيم الأسرة استغلالا، وبررت الدكتاتورية باسم مصالح الطبقة العاملة. ومن ثم كان لها رؤيتها الخاصة لتلك الحقوق، ومقاييسها الخاصة فى التطور.
                        وبعد سقوط النظام العالمى الثنائى القطبية وانفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم، دخل مفهوم حقوق الإنسان مرحلة جديدة غريبة. فكلنا يعرف أن حقوق الإنسان استخدمت من قبل الغرب كسلاح تشهيرى إبان الحرب الباردة. وهى تهدر اليوم لحساب مصالح الغرب. ومن ثم فمفهوم حقوق الإنسان السائد نتاج تطور سياسى فى الفكر الغربى الاستعمارى على وجه التحديد، ولم يشترك فى صياغته وتحديد أبعاده ووضع ضماناته ممثلون غير الغرب. ولهذا كثيرا ما لايخدم هذا الإعلان ولايتلاءم مع بقية شعوب العالم لاختلاف الخلفيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية.
                        ومن ثم يمكن إيجاز سلبيات هذه الإعلانات فيما يلى:
                        1- الازدواجية والإنتقائية والكيل بمكيالين، ولعل ماحدث فى قضية فلسطين أكبر دليل.
                        2- استغلال هذه الشعارات كأسلوب للضغط السياسى فى العلاقات الدولية لإخضاع الدول تحت مسمى إرادة المجتمع الدولى ممثلا فى مجلس الأمن الذى يديره الغرب بزعامة أمريكا.
                        3- غلبة جماعات الضغط السياسى والاقتصادى فى كل دولة على حدة، وفى شركات الاحتكار المتعددة الجنسيات على المستوى الدولى، واستغلال ذلك فى التلاعب بهذه الحقوق.
                        4- وضع الحق كشعار، وفى الصياغة القانونية من المرونة مايكفي لإهداره والعمل بخلافه.
                        5- اتساع مفهوم الحقوق وتشعبه حتى زاحم القوانين الداخلية والدولية، دون مراعاة للحدود الفاصلة ولا للأولويات والترتيب.
                        والحقيقة أنه كما يقول ديورانت:" لايوجد مثال يعتمد عليه، فى التاريخ السابق لعصرنا، لمجتمع نجح فى المحافظة على الحياة الأخلاقية دون مساعدة الدين ([1]).
                        نشرت جريدة الهيرالد تريبيون في 28 يناير سنة 1998 وثيقة عن اجتماع مجلس العمل المتبادل Interactive Council في مؤتمر السابقين، الذي عقد في مدينة هامبورج الألمانية في مطلع نفس العام. ومنهم رؤساء لألمانيا وفرنسا وأمريكا.
                        وبالطبع فإن الرؤساء السابقين، وقد ارتفع عنهم أضواء السلطة وضغوط جماعات المصالح، لم يكن غريبا أن يصدر عنهم مشروع بعنوان "إعلان مسئوليات الإنسان". وذلك في نفس السنة التي قامت فيها الاحتفالات بإعلانات حقوق الإنسان.
                        يقول هؤلاء الزعماء السابقين في هذه الوثيقة:-
                        1- إن التركيز المبالغ فيه علي الحقوق يمكن أن يؤدى إلي صراعات لانهاية لها.
                        2- ومن هنا لابد أن تستكمل ببيان مسئوليات الإنسان، بناء علي القاعدة الذهبية: حب للغير ما تحب لنفسك، ولا ترض للغير ما لا ترضاه لنفسك. وهذا كفيل بالقضاء علي ازدواجية المعايير.
                        3- وضع قواعد وحدود لحرية الملكية فلا تستغل بقوتها وتظلم بسطوتها، ووضع قواعد : حدود لحرية التعبير.



                        [1] Will & Arier Ddurant, The Lessons of History ,p.50 , N.Y. Simon & Shuster, 1968.

                        تعليق

                        • يوسف كمال محمد
                          1- عضو جديد
                          • 2 فبر, 2014
                          • 66
                          • عمل حر
                          • مسلم

                          #42
                          الحقوق والواجبات: في الإسلام

                          والمنهج الإسلامى وحده هو القادر أن ينقذ البشرية من هذا الانتحار،وأن يستجيب لصرخات المستضعفين فى كل مكان، وأن ينشر العدل والرحمة فى كل الدنيا، حين تتسع معه رؤية العالمين من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن حدود الأرض إلى آفاق السماوات، ومن صغر عالم الشهادة إلى امتداد عالم الغيب. إن الإنسان صاحب العقيدة يتولد داخله حافز لايهدأ حتى يشيع الخير حوله، وحتى يرد الظالم عن ظلمه، وحتى لايسمع صوت مستغيث أو ملهوف أو مظلوم. وذلك حين تستقيم الجماعة على شرع الله، وتقيم أمورها على الشورى، و تؤسس مجتمعها على العدل، وتعمر نفوسها بالرحمة، لهذا لا تضيع الحقوق ولا يشقى الانسان.
                          وتعاليم القرآن تحقق حرية الإنسان عقيدته ورأيه، وتصونهما بكافة الضمانات، وتفتح للتعبير كافة القنوات.
                          ولقد حصن الإسلام من أربعة عشر قرنا هذه الحقوق بالواجبات كما يلى:
                          1- أن افتقاد حقوق الإنسان الغربية لهذا البعد حول هذه الحقوق إلى حقوق للأقوياء على حساب الضعفاء، لذا كان الاهتمام الإسلامى فى إرساء الحقوق على وصف الضعفاء.
                          2- أن الحقوق الغربية لافتقادها للواجبات تحولت إلى شعارات يتستر بها للاستغلال، فعلى المستوى المحلى، تحول حق الحرية على المستوى الاقتصادى إلى حرية الرأسمالية فى الاحتكار والربا والغصب، وتحول حق الحرية الجنسية إلى تدمير الفرد صحيا ونفسيا، وتدمير الأسرة كوحدة متماسكة بقيمها يبنى عليها المجتمع السوى. كما تحول حق الحرية على المستوى العالمى إلى حرية الأقوياء فى استعمار الشعوب ونهبها، بل استخدم كسلاح حربى لتدمير المعارضين أوالذين يعترضون على إجرام الدول القوية وإهدارها لحقوق الشعوب.
                          3- أن الحقوق إذا لم يصاحبها واجبات أصبحت عبءاً على الأمة. فبمقدار ماتتسع الواجبات تتسع الحقوق، خذ مثلا حق الرعاية المعاشية وتحرير أفراد المجتمع من الفقر والعوز، إن لم يصاحبه فروض فى أموال الأغنياء لتحولت القضية إلى مسخ كما هو موجود تحت مسمى التأمينات والضمان الاجتماعى فى الغرب.
                          وابتداء نقول، إن سرد تاريخ حقوق الإنسان عن العالم الغربي، وإهدار لغيره من الحضارات، مغالطة واستهانة بعقول الناس. فالأمر بالعدل والإحسان والرعاية الاجتماعية والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي فطرة في ضمير البشرية منذ وجد إنسان علي ظهر الأرض. توالت برعايتها وتنميتها وإيقاظها مواكب الرسل والأنبياء غبر الزمان.
                          وحسبنا هنا أن نذكر واقعة تدحض افتراء أدعياء البحث النزيه في الغرب. فقد روي ابن اسحاق: اجتمعت قبائل في دار عبد الله بن جدعان، فتعاقدوا وتعاهدوا علي ألا يكون بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتي ترد عليه مظلمته. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل.
                          وفي هذا الحلف قال رسول الله (ص): (شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيين، فما يسرني أن لي حمر النعم وإني أنكثه) ([1]).
                          ويكفينا أن نشير إلي ملامح هذا البيان الإلهي عن حقوق الإنسان. فالإنسان في القرآن مخلوق مكرم سخر له كل ما في السماوات والأرض، وتكريمه عام لكل جنس ولون وليس بالمال أو الجاه أو الدم. وهذا هو دستور المساواة التي افتتحت به سورة النساء.
                          يقول رسول الله (ص) في حجة الوداع: (أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي علي أعجمي ولا لعجمي علي عربي فضل إلا بالتقوى) ([2]).
                          عن أبى سعيد الخدرى، قال: جاء أعرابى إلى النبى صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه. فاشتد عليه، حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتنى، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدرى من تكلم؟ قال : إني أطلب حقي . فقال النبي صلي الله عليه وسلم :هلا مع صاحب الحق كنتم ؟ ثم أرسل إلي خولة بنت قيس فقال لها : إن كان عندك تمر فأقرضينا حتي يأتينا تمرنا فنقضيك . فقالت: نعم بأبي أنت يارسول الله . قال : فأقرضته ، فقضي الأعرابي وأطعمه فقال: أوفيت . أوفي الله لك . فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أولئك خيار الناس ، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف حقه غير متعتع . [3]
                          وحسبنا أن نبين هنا أن علماء المسلمين قبل أن يعرف الغرب هذه الحقوق بقرون كثيرة قد رتبوا هذه الحقوق واعتبروها ضرورية وطبيعية فى خمس؛ هى حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
                          ثم حددوا الواجبات الضرورية لكفالتها لكل إنسان فى الأمة.
                          يقول الشاطبى: " تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها فى الخلق، وهذه المقاصد لاتعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثانى أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها فى قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة.... ومجموع الضرورات خمس، وهى حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة فى كل ملة.. وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدى فى الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. فإذا لم تراع، دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة.. وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التى تأنفها العقول الراجحات ([4]).

                          الحقوق والواجبات من سورة النساء
                          وفى القرآن المبين سورة عظيمة اهتمت اهتماما بالغا بحقوق الإنسان، حددتها ورتبتها وصانتها فى ترتيب معجز وفى عرض مبين يبين عالم السورة وموضوعها المترابط.
                          بدأت السورة- وهى ثانى أطول سور القرآن- هذا البيان بنداء للبشر كافة يذكرهم بأن ربهم واحد، وأنهم خرجوا من رحم نفس الأم، فهم إخوة خلقوا من نفس واحدة، ومن هذا الواقع يهيب بهم أن يتقوا الله- الذى لاملجأ لهم سواه- فى عباده، وأن يراعوا صلة الرحم التى تصلهم بالتعاطف والتراحم. يقول تعالى:
                          يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) [ النساء: 1 ].
                          وتختم السورة بنداء عام للإنسانية، بعد أن قامت الحجة والبرهـان، وظهر النور وبان،أن يؤمنوا بالله ويعتصموا به حتى تشيع الرحمة بين جنبات الإنسانية، وينعم العباد بفضل الله.
                          يقول تعالي : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وأَنزَلْنَا إلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174) فَأَمَّا الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وفَضْلٍ ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (175) [ النساء: 174، 175 ].
                          واعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف، وذلك لأنه تعالى أمر الناس فى أول هذه السورة بالتعاطف على الأولاد والنساء والأيتام، والرأفة بهم وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، وبهذا المعنى ختمت السورة، وهو قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ ... وأنه تعالى جعل هذا المقطع مطلعا لسورتين فى القرآن: إحداهما؟ هذه السورة وهى السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن، والثانية: سورة الحج. وهى أيضا السورة الرابعة من النصف الثانى من القرآن. ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى فى هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله، وعلل الأمر بالتقوى فى سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد، وهو قوله: إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [ الحج: 1 ] فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ([5]).
                          ووصف تعالى ذكره نفسه بأنه الموحد، بخلق جميع الأنام من شخص واحد، معرفا عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجب وجوب حق الأخ على أخيه، لاجتماعهم فى النسب إلى أب واحد وأم واحدة. وأن الذى يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض، وإن بعد التلاقى فى النسب، فيردون إلى النسب الجامع بينهم، فيلزمهم مثل الذى يلزمهم من ذلك فى النسب الأدنى. وعاطفا بذلك بعضهم على بعض، ليتناصفوا ولا يتظالموا، وليبذل القوى من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له.. عن ابن عباس: تساءلون به: تعاطفون به... اتقوا الله فى الأرحام فصلوها ([6]).
                          يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                          (من سره أن يبسط له فى رزقه أو ينسأ له فى أثره فليصل رحمه) ([7]).
                          وقال: (الصدقة على غير ذى الرحم صدقة، وعلى ذى الرحم اثنتان: صدقة وصلة).

                          الأساس العقيدى
                          إن الإنسان محدود العمر محدود العلم محدود القدرة ، لذلك لايمكنه أن يدرك المنهج الصواب الذى يتحرك به في تيار الحياة ، شاهد علي ذلك تخبطه بين إفراط وتفريط وغلو وتقصير في قوانينه التي لاتستقر علي حال . فهو حاضر يتصل بالماضي ويتجه للمستقبل ، ولايحيط بذلك إلا الله . وهو يتأثر بالكون وحركته التي تتشابك فيها الآثار والمؤثرات ، ولايعلم مافي السماوات والأرض إلا الله . ولهذا أرسل الله له الرسل بالوحي تبيانا لما لايطيق معرفته ، من حقيقة المبدأ والمعاد ، والغيب والشهادة ، والخلق والأمر .
                          فضلا عن أن الإنسان ضعيف أمام هواه فإذا شرع انحاز ومال ، إلي نفسه ، وإلي أهله وإلي قومه ، يدرى أم لايدرى . وهذا مانشاهده في أهل الحكم وجماعات الضغط في كل مكان وزمان . لذلك كان تحقيق العدل مناطه التلقي من عليم حكيم يهدى إلي الحق وإلي طريق مستقيم .
                          ويقسم الله تعالي أنهم لايصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط :
                          أولها قوله تعالي: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ،(سورة البقرة ايه 65 )وهذا مما يدل علي أن من لم يرض بحكم الرسول لايكون مؤمنا .
                          واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لاسبيل إلي معرفة الله تعالي إلا بإرشاد النبي المعصوم قال:لأن قوله : لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (سورة البقرة ايه 65 ) بأنهم لايحصل لهم الإيمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل مااختلفوا فيه .
                          الشرط الثاني: قوله : ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ( سورة البقرة ايه 65 )، أى لاتضيق صدورهم من أقضيتك . واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب ، فبين في هذه الآية أنه لابد من حصول الرضا به في القلب. واعلم أن ميل القلب ونفرته شئ خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك ، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذى يحكم به الرسول هو الحق والصدق.
                          الشرط الثالث : قوله تعالي ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (سورة البقرة ايه 65 )، واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله علي سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول ، فبين تعالي أنه كما لابد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر. فقوله : ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ (سورة البقرة ايه 65 ) المراد به الانقياد في الباطن . وقوله : ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (سورة البقرة ايه 65 )، المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم . "[8]

                          عبرة التاريخ
                          تقص السورة علينا بعض نواحي انحرافات أهل الكتاب التي تمثل عدوانا علي حقوق الإنسان ، فتبين انحرافات اليهود وضلا لاتهم :
                          1- أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه .. .. . وفي كيفية التحريف وجوه :
                          أ-كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر ..
                          ب - إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة ، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلي معني باطل بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم . [9]
                          2- شهادة الباطل :فحين سألت قريش أحد اليهود فقالت : أنت سيدنا وسيد قومك ، إنا قوم ننحر الكوماء- الناقة العظيمة السنام- ونقرى الضيف ، ونصل الرحم ، ونسقي الحجيج ، ونعبد آلهتنا التي وجدنا آباءنا يعبدون ، وهذا الصنبور المنبتر من قومه ، قد قطع الرحم ، فمن أهدى ، نحن أو هو؟ فقال : أنتم أهدى منه ، وأقوم دينا . "[10]
                          وكان عجيبا أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله - صلي الله عليه وسلم - ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود . إنه موقفهم دائما من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل. إنهم ذوو أطماع لاتنتهي ، وذوو أهواء لاتعتدل،وذوو أحقاد لاتزول !
                          3- التحايل علي الشريعة : ، وهؤلاء كانوا بأيلة من ساحل البحر ، فأمروا بالسكون عن كل شغل في يوم السبت فلم يفعلوا ، بل اصطادوا وتصرفوا .ويقاس علي الحيتان وفي سائر الأعمال .
                          4- نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وهي أفعال ضد ما أمروا به ، وذلك أن الميثاق الذى رفع الطور من أجله نقضوه .. فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلي انتهاك أعظم حرمة وهي قتل الأنبياء . .
                          وقالوا قلوبنا غلف ، أى أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلي علم سوى ماعندنا ، فكذبوا الأنبياء ...وأنه تعالي طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها ..
                          5- قولهم علي مريم بهتانا عظيما ، بنسبتها إلي الزنا لأنه ظهر عند ولادة عيسي عليه السلام من الكرامات والمعجزات ، مادل علي براءتها من كل عيب ..
                          ثم إنهم إدعوا قتل المسيح عيسي بن مريم رسول الله وماقتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، لأن وهذا يدل علي أنهم كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك ، فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم ."[11]
                          6- أكل أموال الناس بالباطل : إن أنواع الذنوب محصورة في نوعين : الظلم للخلق ، والإعراض عن الدين الحق ، أما ظلم الخلق ، فإليه الإشارة بقوله تعالي: وبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (سورة البقرة ايه160) ، ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص علي طلب المال ، فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه ، وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله : وأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ً( سورة البقرة ايه161 ).
                          يقول تعالي: ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44)
                          وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا(45)مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَاوَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا(46)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(47)إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49)انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا(50)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلًا(51)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا(52)
                          واستثني الله تعالي من هؤلاء الراسخون في العلم منهم والمؤمنون حيث يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر ، أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما يقول تعالي : لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ والْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ والْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (سورة البقرة أيه 162 ) .
                          ثم تصحح السورة عقائد أهل التثليث من النصارى ، وهذا ما أخذت تبينه بعض الدوائر العلمية المعاصرة .تقول دائرة المعارف الأمريكية: " لقد بدأت عقيدة التوحيد - كحركة لاهوتية - بداية مبكرة جدا في التاريخ . وفي حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين.
                          لقد عاش الموحدون المسيحيون عبر القرون منذ جاء المسيح عليه السلام وحتي اليوم ، وهم يؤمنون بالإله الواحد الأحد ربا ، وبالمسيح عليه السلام إنسانا نبيا ورسولا ، ولا يخلطون بين الله سبحانه وتعالي والمسيح عليه السلام ، علي أى صورة من الصور . لقد كانت مسيحية التوحيد - كما قال الكاردينال دانيلو - سائدة خلال القرن الأول في القدس وفلسطين حيث عاش بقية الحواريين وأتباع المسيح عليه السلام ، مثل بطرس ويوحنا ويعقوب . وكانت سائدة في أماكن أخرى وجد فيها بولس مقاومات عنيفة لمسيحيته الصليبية مثل : أنطاكية ، وغلاطية ، وكونثوس ، وكولوسي ، وروما . ولقد أمكن اقتفاء آثارهم حتي القرن الرابع بالمشرق وخاصة في فلسطين والجزيرة العربية ، وما وراء الأردن وسوريا ومابين النهرين .
                          وإذا كانت عقيدة التثليث قد اقتحمت المسيحية مؤخرا ، وأخذت صيغة رسمية في القرن الرابع الميلادى ، فما كانت تمثل إلا فكر الأقلية ، الذى لا يمكن فرضه إلا بسلطان الامبراطور الوثني قسطنطين . ....
                          إن نظرة سريعة علي ملحمة الصراع في القرن الرابع بين محاولات إنقاذ بقايا التوحيد في تعاليم المسيح عليه السلام ، الذى حمل لواءه آريوس ، ولم يكن هو أول القائلين به ، ضد فكرة التثليث التي قال بها اسكند واثناسيوس ، لترينا حقيقة القول الذى نقلناه آنفا عن دائرة المعارف الأمريكية من أن أغلب المسيحيين لم يقبلوا التثليث . [12]
                          يقول تعالي:" يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ إنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ ولَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وكَفَى بِاللَّهِ وكِيلاً (171)



                          [1] الألبانى، تحقيق مشكاة المصابيح للتبريزى ج1 ص 406 وقال صحيح.

                          [2] قال الحاكم، حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبى فى التلخيص صحيح وقال الشيخ شعيب الأ رناؤوط: إسناده صحيح.


                          [3] الألباني ، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص 55

                          [4] الشاطبى الموافقات ج 2 ص 4، 6.

                          [5] الرازى مفاتيح الغيب ج 9 ص 128، 129.

                          [6] الطبرى، جامع البيان ج 3 ص 565، 569.

                          [7] رواه مسلم ج 2 ص 422، الألبانى، تحقيق مشكاة المصابيح للتبريزى ج 1 ص 406.

                          [8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 10 ص 131، 132

                          [9] الرازى ، مفاتيح الغيب ج10 ص 94-96

                          [10] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج4 ص 99-100

                          [11] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص77 الي 78

                          [12] أحمد عبد الوهاب ، القرآن لايشهد لتوراة اليهود ، المركز الإسلامي العام لدعاة التوحيد والسنة ، مسجد العزيز بالله 1419هـ ص2 13-133 ,

                          تعليق

                          • يوسف كمال محمد
                            1- عضو جديد
                            • 2 فبر, 2014
                            • 66
                            • عمل حر
                            • مسلم

                            #43
                            موضوع السورة

                            ونستطيع أن نلخص حقوق الإنسان وواجباته التي بينتها السورة فيما يلي:-
                            **حقوق الضعفاء من يتامي وسفهاء:
                            تبدأ السورة بحق الضعفاء علي المجتمع، سواء كانوا من اليتامي أو السفهاء .. ويضع التشريعات التي تحميهم.
                            فقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال. فأرست السورة قواعد إعطائهم حقهم في الميراث. وكان ذلك تحريرا للنساء من طغيان الرجال وتحقيق استقلالهم المادى والمعنوي.
                            وقد كانوا في الجاهلية يأكلون حقوق هؤلاء الضعاف في الميراث ومهور النساء ، بل وذلك أيضا فيما يسمي الحضارة المعاصرة حين تقصر بعض الدول الميراث علي حامل اللقب . وتتوسع السورة في هذا الحق من الورثة حتي أولي القربي واليتامي والمساكين . ويذكر القرآن أن ترك الذرية الضعاف أمر قد يحدث لكل أحد ، لهذا كان القسط معهم أمر يعود علي الجميع بالأمان والكفاية .
                            يقول تعالي: وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ إنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2)
                            ويقول تعالي : ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (5) وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ولا تَأْكُلُوهَا إسْرَافاً وبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا ومَن كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
                            والمراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان واليتامي وكل من كان موصوفا بهذه الصفة .
                            وسبب ذلك أن المال قوام المعايش ، ليس لصاحبه فقط ، وإنما للمجتمع بأسره . فبالمال يقوم الإعمار ، والإعمار يفتح مجال الأعمال والارتزاق . فإذا ترك لتصرف السفيه ، لم يضع صاحبه فقط ، وإنما ضاعت فئات من المجتمع تعمل فيه وترتزق من ورائه .
                            **واجب أداء الأمانات

                            فهناك صلة عضوية بين سورتى النساء والمائدة. فى سورة النساء يقول تعالى: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) [ النساء: 58، 59

                            قال العلماء: نزلت الآية فى ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية: فى الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولى الأمر الفاعلين لذلك فى قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله. فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. فإن تنازعوا فى شىء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله (ص) ، وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم، كما أمر الله ورسوله. قال تعالى فى سورة المائدة: وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ .
                            وقد أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات .، أو من باب الدنيا والمعاملات . ومن أجل الأعمال الصالحة الأمانة . ومعاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد أو مع نفسه ، ولابد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة .
                            أما رعاية الأمانة مع الرب ، فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات ، وهذا بحر لاساحل له . قال ابن مسعود : الأمانة في كل شئ لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم . وقال ابن عمر ، إنه تعالي خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها . واعلم أن هذا باب واسع ، فأمانة اللسان أن لايستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لايستعملها في النظر إلي الحرام ، وأمانة السمع أن لايستعمله في سماع الملاهي والمناهي ، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها ، وكذا القول في جميع الأعضاء.
                            وأما القسم الثاني : وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع ، ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن ، ويدخل فيه أن لايفشي علي الناس عيوبهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لايحملوهم علي التعصبات الباطلة ، بل يرشدونهم إلي اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد صلي الله عليه وسلم ، ونهيهم عن قولهم للكفار:إن ماأنتم عليه أفضل من دين محمد صلي الله عليه وسلم ، ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلي عثمان بن طلحة ، ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها ، وفي أن لاتلحق بالزوج ولدا يولد من غيره ، وفي إخبارها عن انقضاء عدتها .
                            وأما القسم الثالث: وهو أمانة الإنسان مع نفسه فهو أن لايختار لنفسه إلا ماهو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا ، وأن لايقدم بسبب الشهوة والغضب علي مايضره في الآخرة ، ولهذا قال عليه الصلاة السلام ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ). فقوله : يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ،يدخل فيه الكل...
                            ومن هذه الأمانات رعاية حقوق السفهاء من الأوصياء علي مالهم . يقول تعالي: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا(5)
                            " واعلم أنه تعالي لما نهي عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء:
                            1- قوله: وَارْزُقُوهُمْ، ومعناه : وأنفقوا عليهم ، ومعني الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم . يقال : فلان رزق عياله أى أجرى عليهم ، وإنما قال :فيها ، ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لامن أصول الأموال .
                            2- وَاكْسُوهُمْ، والمراد ظاهر
                            3- وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، واعلم أنه تعالي إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فإنه يزيد السفيه سفها ونقصانا."[1]
                            والفوائد الثلاث الذى أخذت من هذا التفسير لأهميتها هي:
                            1- الإرشاد بالمحافظة علي رأس المال واقتصار الإنفاق علي الدخل .
                            2- أن رأس المال وإن كان ملكية خاصة إلا أن للجماعة حق الانتفاع منه ، لذا لزم المحافظة عليه ، ومن ثم نسب إلي الجماعة في هذا الشأن قيدا علي الملكية الخاصة في حالة السفه.
                            3- معاملة الضعفاء بالمعروف وفعلا ،حتي لايتأزموا نفسيا ، بل يكون ذلك دافعا لنضجهم وراحتهم نفسيا .
                            قوله تعالي : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا*
                            فشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين :
                            1- بلوغ النكاح : المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام ,,,
                            2- إيناس الرشد: .. أصل الإيناس في اللغة الإبصار .. وهو أن يعلم أنه صلح لماله حتي لا يقع منه إسراف ، ولا يكون بحيث يقدر الغير علي خديعته .
                            والوصي لما تكفل بإصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا علي الساعي في أخذ الصدقات وجمعها ، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم ..
                            والأمر بالشهادة عند دفع الأموال إليهم ، بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي ، لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال إليه إلا عند حضور الشاهد ،صار ذلك مانعا له من الظلم والبخس والنقصان."[2]
                            **حقوق المرأة

                            ويلخص معالم شخصية المرأة القول الجامع لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، وهو يقرر أصل المساواة بين الرجل والمرأة مع قدر من الاختصاص في بعض المجالات : "إنما النساء شقائق الرجال" [3] ودور المرأة في الأسرة هو المهمة الأساسية الأولي ، وهذا لا ينفي أن لها مهام أخرى في المجتمع .وإن نمو الوعي الاجتماعي والتعاون الوثيق بين الزوجين عاملان ضروريان للتنسيق بين المهمة الأولي للمرأة وبين غيرها من المهام التي قد تفرضها مصلحة المجتمع المسلم ليمضي في طريق النهوض والتقدم .[4]
                            وقد كفل الإسلام للمرأة كافة حقوقها ، ومنع عنها الظلم والاستغلال ، وأعطاها الكرامة والحرية . وأمر بمعاشرتها بالمعروف ، وجعل للزواج قدسية ، فلاينفض لمجرد عابر من كراهية أو غضب . إلا أن ذلك كله يحجب لو ارتكبت الفاحشة المبينة .
                            كان أهل الجاهلية لايورثون النساء والأطفال ، ويقولون لايرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة ، فبين تعالي أن الإرث غير مختص بالرجال ، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء ، وأنه سبحانه وتعالي يحرم عليهم تلك العادة الجائرة .
                            وكانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة ، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلي إبلك فتنفج مالك أى تعظمه .. والمعني: أى آتوهن مهورهن ، فإنها نحلة أى شريعة ودين ومذهب ، وماهو دين ومذهب فهو فريضة ... وقيل نحلة أى عطية وهبة ... وقيل : عن طيب نفس ، فأمر الله بإعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة.
                            يقول تعالي : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
                            ويقول تعالي : وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً (4)
                            ولا يحل لكم أيها الذين آمنوا، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لتذهبوا ببعض ماآتيتموهن من صدقاتكم ، إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهم لكم - مبينة ظاهرة ، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ماآتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به ....
                            يقول نعالي : يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
                            وقد كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقي ثوبه علي المرأة وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله . فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق ، إلا الصداق الأول الذى أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا .
                            فهذا المال حقها، فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق ، وهو ظلم ، إلي أخذ المال وهو ظلم آخر ، فلاشك أن التوسل بظلم إلي ظلم آخر يكون إثما مبينا.
                            . وقد بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه ، إن هذا لا يليق البتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم ".[5]
                            ويعتبر القرآن المعاشرة الجنسية ميثاقا غليظا ، يجب احترامه والمحافظة عليه .
                            يقول تعالي: وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً (20) وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (21)
                            نهي الله تعالي عن نكاح مافوق الأربع ، حذارا من أموال اليتامي أن يتلفها أولياؤهم ، وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما، مال علي مال يتيمه الذى في حجره فأنفقه أو تزوج به . فنهوا عن ذلك ، وقيل لهم . إن أنتم خفتم علي أموال أيتامكم أن تنفقوها ، فلا تعدلوا فيها ، من أجل حاجتكم إليها، لما يلزمكم من مؤن نسائكم ، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء علي أربع ، وإن خفتم أيضا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم ، فاقتصروا علي الواحدة ...
                            وقال آخرون : .. أن القوم كانوا يتحوبون في أموال اليتامي أن لا يعدلوا فيها ، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن ، فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامي ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن . ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلي الأربع ، ولا تزيدوا علي ذلك . وإن خفتتم أن لا تعدلوا أيضا في الزيادة عن الواحدة ، فلا تنكحوا إلا مالا تخافون أن تجوروا فيهن ."[6]
                            يقول تعالي: وإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
                            ومن تكريم الإسلام للمرأة أن منع الزواج من المحارم . والزواج من المحارم كان منكرا في كل زمان عند ذوى الفطر السليمة ممقوتا عندهم .
                            1- إن الزواج بين الأقارب يضوى الذرية ، ويضعفها مع امتداد الزمن ، لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية . علي العكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة ، تضاف استعداداتها الممتازة ، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها.
                            2- أو يقال : إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وكذلك نظائرهن من الرضاعة . وأمهات النساء، بنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف ، واحترام وتوقير ، فلا تتعرض لما قد يحدث في الحياة الزوجية من خلافات تؤدى إلي الطلاق والانفصال ، مع رواسب هذا الانفصال ، فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام .
                            3- أو يقال: إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور ، والأخت مع الأخت ، وأم الزوجة وزوجة الأب ، لايراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها . فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها ، والبنت والأخت كذلك ، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها ، أو أختها التي تتصل بها أو أمها ، وهي أمها . وكذلك الأب الذى يشعر أن ابنه قد يخلفه علي زوجته ، والابن الذى يشعر أن أباه الراحل أو المطلق ، غريم له ، لأنه سبقه علي زوجته . ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب .
                            4- أو يقال: إن علاقة الزواج جعلت لتوسيع نطاق الأسرة ، ومدها إلي ماوراء رابطة القرابة . ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين ، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة . ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته ، حتي ليكاد أن يفلت من رباط القرابة ."[7]
                            يقول تعالي : ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ومَقْتاً وسَاءَ سَبِيلاً (22)
                            وقد كان الإسلام تحريرا شاملا للإنسان من صور الظلم الذى يطبع الجاهلية في كل عصر ، حيث يحكم منطق القوة وأسلوب الاستكبار. ومن مفردات هذا التحرير تحرير الضعاف من النساء والولدان ، فأعطاهم حقهم في الميراث وحق المرأة في اختيار زوجها وحقها في مهرها ... وشرع طريق الإصلاح سبيلا لحماية الأسرة وأسلوبا لتماسكها وإشاعة السلام بين أفردها .
                            ومن أركان تماسك الأسرة وإحصانها قوامة الرجل . واعلم أن فضل الرجال علي النساء حاصل من وجوه كثيرة ، بعضها صفات حقيقية ، وبعضها أحكام شرعية .
                            أما الصفات الحقيقية فاعلم أن لفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلي أمرين : إلي العلم وإلي القدرة . ولاشك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر ، ولاشك أن قدرتهم علي الأعمال الشاقة أكمل ، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال علي النساء في العقل والحزم والقوة ، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي ، وأن منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والآذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق ، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه ، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث ، وفي تحمل الدية في القتل الخطأ ، وفي القسامة والولاية وفي النكاح والطلاق والرجعة وعدد الزواج ، وإليهم الانتساب . فكل ذلك يدل علي فضل الرجال علي النساء .
                            والسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة : قوله تعالي : وبما أنفقوا من أموالهم ، يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها . ثم إنه تعالي قسم النساء قسمين ، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله .
                            والنشوز هو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف ، وأصله من قولهم نشز الشئ إذا ارتفع ..
                            قال الشافعي رضي الله عنه : أما الوعظ فإنه يقول لها : اتقي الله فإن لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه ، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ، ونحو هذا . ولايضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية . فإن أصرت علي ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه عن كلامها ... ولايزيد في هجره الكلام ثلاثا، وأيضا فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق عليها فتترك النشوز ، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران ، فكان ذلك دليلا علي كمال نشوزها . وفيهم من حمل ذلك علي الهجران في المباشرة ، لأن إضافة ذلك إلي المضاجع يفيد ذلك . ثم عند هذه الهجرة إن بقيت علي النشوز ضربها ... والضرب مباح وتركه أفضل ...
                            وينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده ، ولا يضرب بالسياط ولا بالعصا ، وبالجملة فالتخفيف مراعي في هذا الباب علي أبلغ الوجوه..."[8]
                            " عن عطاء قال : قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح ؟ قال: السواك وشبهه ، يضربها به ... عن الحسن قال: ضربا غير مبرح غير مؤثر."[9]
                            "ثم قال تعالي: فَإنْ أَطَعْنَكُمْ،أى إذا رجعن عن النشوز إلي الطاعة عند التأديب فلاتبغوا عليهن سبيلا،أى لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقا علي سبيل العنت والإيذاء إن الله كان عليا كبيرا، ... المقصود منه تهديد الأزواج علي ظلم النسوان . والمعني أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم ، فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم ."[10]
                            يقول تعالي (والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) ومَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنكُمْ وأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25)
                            " وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء ، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها ، وماكان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها ، وجعل دلالة الكتاب علي هذا الحكم إفتاء من الكتاب . "[11]
                            ففي مطلع السورة اعتني بحقوق الزوجة وحماية الأسرة حين يكون النشوز من قبل المرأة ، وهنا في آخر السورة يكون القسط والإصلاح بين الزوجين حين يكون النشوز من جانب الزوج ، فلحماية الأسرة حتي لا تتفرق لا حرج علي المرأة أن تسترضي زوجها لتصلحه ، والقلوب بيد الله ، فالحب لايمكن العدل فيه ، ولكن الشارع الحكيم يضع حدا أدني للعدل في النفقة والمعاملة حتي لا يجور الزوج فتصبح الزوجة معلقة . أما إذا أغلقت القلوب فلا فائدة من بقاء الزوجية لأنه لن يكون وراء ذلك إلا الشقاق والضرر. ويتخلل ذلك كله الحض علي التقوى والإحسان والإصلاح .
                            يقول تعالي:
                            ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ومَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) وإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصُّلْحُ خَيْرٌ وأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وإن تُحْسِنُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وإن تُصْلِحُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129) وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

                            **واجب العفة
                            الإسلام يعلن حق كل إنسان في الحياة الطاهرة، وحقه في أن يحمي أهله وأسرته من وباء الفاحشة، ويحافظ علي كرامة الإنسان ولا يهدرها. وهنا يصطدم البيان القرآني بالإعلان الغربي الذي يعطي الحرية الجنسية إلي آخر المدى .وقد رأينا ما ترتب علي ذلك من دمار الإنسان، وانحلال الأسرة وتفسخ المجتمع ، مما يأباه كل عاقل كريم النفس يصون المروءة ويحترم الإنسان.
                            ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في المدنية الإغريقية والرومانية والفارسية ، وتدمير قوم لوط قديما ، فالعالم الغربي اليوم الذى يدعي أنه متحضر لا يأخذ العبرة من ذلك . ، وقد أخذت تتهاوى علي الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية ، الأمر الذى يفزع العقلاء هناك ، وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - أنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر .
                            ويفتح باب التوبة واسعا ، ويشدد العقوبة ردعا لكل من ينحرف . ذلك لأن من حق كل إنسان أن يعيش في وسط عفيف يأمن فيه علي عرضه وماله . ولذلك ركزت السورة علي إعلاء شأن فضائل العفة والطهارة والإحصان والتبشيع من جرائم الفاحشة والسفاح واتخاذ العشيقات .
                            يقول تعالي: واللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) والَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإن تَابَا وأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً (16) إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18)
                            ويحض المسلمين علي الزواج حماية لهم ، ويرشح لهم المحصنات ويحذرهم من السفاح واتخاذ الأخدان . يقول تعالي:
                            والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

                            **حق الملكية

                            حق الملكية، يعتبر من أهم حوافز للتعمير والابتكار، دوافع النهوض والتنمية. يحمي هذا الحق الإسلام ويصونه ، فيجرم كل ألوان أكل المال بالباطل .. وشرط الملكية التي تصان كونها ملكية نظيفة منزهة عن الربا والاحتكار ، كما يحدث في المجتمعات الغربية المتوحشة، وفي نفس الوقت يحميها من المصادرة كما حدث في المجتمعات الاشتراكية المنتكسة.
                            والله تعالي نهي عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتل النفس ، وأمر بما سهل ترك هذه المنهيات ، وهو أن يرضي كل أحد بما قسم الله له ، فإنه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد ، وإذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس ، فأما إذا رضي بما قدره الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال.
                            وأخذ المال بالباطل وقتل النفس من أعمال الجوارح ،يقول تعالي يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّّهِ يَسِيراً (30) إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ونُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31) ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ واسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) فأمر أولا بتركها ليصير الظاهر طاهرا عن الفعال القبيحة ، وهو الشريعة . ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب ، علي سبيل الحسد ، ليصير الباطن طاهرا عن الأخلاق الذميمة ، والإنسان من داخله حين يرى النعمة علي غيره من شعورين :
                            1- أن يتمني زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان .
                            2- أن لايتمني ذلك ، بل يتمني حصول مثلها له .
                            أما الأول فهو الحسد المذموم ، لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه : الإحسان إلي عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم ، فمن تمني زوال ذلك فكأنه اعترض علي الله تعالي فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين ، وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان فيكون هذا اعتراضا علي الله وقدحا في حكمته ، وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ، ويزيل عن قلبه نور الإيمان ، وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين ، فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا،فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة ويقلب كل ذلك إلي أضدادها . فلهذا السبب نهي الله عباده عنه ."[12]
                            وقيل في سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث ، فذكر تعالي في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال علي النساء في الميراث ، لأن الرجال قوامون علي النساء . فإنهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منها بالآخر ، أمر الله الرجال أن يدفعوا إليهن المهر ، ويجروا عليهن النفقة ، فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر ، فكأنه لافضل البتة ..

                            **واجب التكافل المعاشي:
                            وفي نفس الوقت الذى يحمي فيه هذه الملكية الخاصة ، ويحصنها بأن تكون خالية من أكل المال بالباطل ، يضع عليها واجب رعاية المحتاجين .
                            فالإسلام يكفل لكل فرد فيه حد أدني مبني علي الحق، فلا يجوع إنسان ولا يعري. ويجعل ذلك واجب علي الأسرة في حقوق ذوي القربي، وواجب علي المجتمع في حق الزكاة. وهذا التكافل لليوم موضع حيرة في الغرب، فقطاع الإعانات الاجتماعية يتقلص تحت ضغط اليمين الرأسمالي الذي يتفلت من الضرائب ويسعي لإزاحتها من القانون. وتخرج تقاليع من الغرب، تحت عنوان الطريق الثالث، تبشر بالرفاهية للجميع، وكل همها كسب أصوات الغالبية التي يسخرها الرأسماليون، وليس عندهم إلا تهويمات وشعارات فارغة.
                            يقول تعالي : واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً وبِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْجَارِ ذِي القُرْبَى والْجَارِ الجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ ،، ينبه الحق تبارك وتعالي هنا إلي حقوق الوالدين ، "ثم تتسع المرحمة إلي ذوى القربي ثم يمتد الإحسان إلي اليتامي والمساكين والجار القريب والصاحب في الطريق ، ثم ابن السبيل المنقطع عن أهله وماله ثم الرقيق .
                            واعلم أنه تعالي قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع : أحدها في هذه الآية . وثانيها : قوله : وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً، الإسراء آية 23. وثالثها : قوله :أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ (14) لقمان آية 14 . وكفي بهذا دلالة علي تعظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما . ومما يدل علي وجوب البر إليهما قوله تعالي: فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) الإسراء آية 23 . وقال:( ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ) العنكبوت آية 8 . وقال في الوالدين الكافرين : وإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً .
                            قوله تعالي: وبذى القربي ،أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة.
                            وقوله تعالي الْيَتَامَى ، واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: أحدهما: الصغر ، والثاني عدم المنفق .
                            وقوله تعالي والْمَسَاكِينِ ، الإحسان إلي المسكين إما بالإجمال إليه أو بالرد الجميل . كما قال تعالي : وأما السائل فلا تنهر .الضحي : 10
                            وقوله تعالي والْجَارِ ذِي القُرْبَى والْجَارِ الجُنُبِ: الجار ذى القربي هو الذى قرب جواره ، والجار الجنب هو الذى بعد جواره...
                            والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: هو الذى صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفره ,إما جارا ملاصقا وإما شريكا في تعلم أو حرفة وإما قاعدا إلي جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك ، من أدني صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن ترعي ذلك الحق ."[13]
                            وقوله تعالي وابْنِ السَّبِيلِ، وهو المسافر الذى انقطع عن بلده ، وقيل : الضيف .
                            وما ملكت أيمانكم ، واعلم أن الإحسان إلي المماليك طاعة عظيمة .. وهو من وجوه:
                            1- ألا يكلفهم فوق طاقتهم .
                            2- ألا يغلظ لهم في القول .
                            3- أن يسد حاجتهم .
                            ولما ذكر تعالي في الآية أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظا من الميراث ، وعلم تعالي أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث ، وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة ، فإن تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم ، فلا جرم أمر الله تعالي أن يدفع شئ عند القسمة حتي يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة ....وقدم اليتامي علي المساكين لأن ضعف اليتامي أكثر وحاجتهم أشد . فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر ... والمراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا ."[14]
                            يقول تعالي : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا(8)

                            **حقوق الأقليات

                            من أهم الواجبات التي فرضها الله علي الأمة المسلمة هو واجب تحرير المستضعفين من بأس المستكبرين .
                            يقول تعالي:
                            وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75)الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76)
                            إن الله تعالي خلق السماوات والأرض اختبارا للإنسان عن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وإذا وضعت القيود واستخدم الإرغام وساد الاستبداد ، ضاق نطاق الحرية التي يتمتع بها الإنسان . فالحرية شرط للحساب والجزاء . وبها يختار الله المقربين والأبرار ممن أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصديقين والصالحين .
                            ومن هنا كانت قاعدة عدم الإكراه في الدين ، وتحرير البشر من بأس الطغاة والمستكبرين ، واجب علي المسلمين .
                            ولما كان المستكبرين لا يتنازلون عن ظلمهم بالوعظ والحدة ، وإنما يبطشون بكل من يعارضهم ، فرض الله علي المسلمين مقاومتهم وتحرير العباد من بأسهم ، وبالطبع فإن ذلك يتكلف تضحيات بالأموال والأنفس ، مما يقتضي درجة عالية من الإيمان بالله والدار الآخرة . فالقتال هنا قتال في سبيل الله ، في مواجهة جيش الطغاة الذى يقاتل في سبيل الطاغوت .
                            وفي نفس الوقت يضع واجبا علي المستضعفين أ ن يخرجوا من الأرض الظالم أهلها فرارا بدينهم .
                            يقول تعالي : إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وسَاءَتْ مَصِيراً (97) إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللَّهُ عَفُواً غَفُوراً (99) " أى ظالميها بترك الهجرة ، ... وقول الملائكة : فيم كنتم ؟ تقرير وتوبيخ ، وقول هؤلاء:كنا مستضعفين في الأرض ، اعتذار غير صحيح ، إذ كانوا يستطيعون الحيل ، ويهتدون السبيل ، ثم وقفتهم الملائكة علي ذنبهم بقولهم : ألم تكن أرض الله واسعة؟ والأرض في قول هؤلاء هي أرض مكة خاصة ، وأرض الله هي الأرض بالإطلاق . والمراد:فتهاجروا فيها ، إلي موضع الأمن . وهذه المقالة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء ، وهي دالة علي أنهم ماتوا مسلمين ، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شئ من هذا . وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ماواقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ولاحتمال ردته . وتوعدهم الله تعالي بأن مأواهم جهنم ، ثم استثني منهم من كان استضعافه علي حقيقة : من زمنة الرجال وضعفة النساء والولدان ... ثم رجي الله تعالي هؤلاء بالعفو عنهم ، وعسي من الله واجبة ، كما أنها دالة علي ثقل الأمر المعفو عنه . قال الحسن : عسي من الله واجبة . قال غيره : هي بمنزلة الوعد ، إذ ليس يخبر بعسي عن شك ولا توقع . وهذا يرجع إلي الوجوب ."[15]

                            **واجب القتال
                            الإسلام لا يعرف قتالا إلا في سبيل تحرير المستضعفين ، لايعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة ، ولايعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي . إنه لا يقاتل للاستيلاء علي الأرض ، ولا للاستيلاء علي السكان ، لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات ، والأسواق للمنتجات ، أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات . إنه لا يقاتل لمجد شخص ، ولا لمجد بيت ، ولا لمجد طبقة ، ولا لمجد دولة ، ولا لمجد أمة ، ولا لمجد جنس ، إنما يقاتل في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله في الأرض ، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة ، ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج وعدله المطلق بين الناس ، مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها ، في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله يقصد إعلاء كلمة الله .. من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة ، ولهم حينئذ فضل من الله عظيم في كلتا الحالتين : سواء من يقتل في سبيل الله ومن يغلب في سبيل الله أيضا ."[16]
                            قوله تعالي : ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ الَذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ ولِياً واجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75)
                            فالجهاد واجب ، ومعناه أنه لاعذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلي ما بلغ في الضعف ، فهذا حث شديد علي القتال ، وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا ، وهو مافي القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدى الكفرة ، لأن هذا الجمع إلي الجهاد يجرى مجرى فكاك الأسير ...
                            والمراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلي المدينة ، وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا . قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان ...
                            إنما ذكر الله الولدان مبالغة في شرح ظلمهم ، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين ، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ، ومبغضة لهم بمكانهم ، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا ..."[17]
                            وينبه الله المسلمين إلي ما يمكن أن يحدث من خلل في صفهم من ضعاف الإيمان الذين يرفعون أصواتهم ولكن عزائمهم خائرة ، فلم تشرق نور الآخرة في قلوبهم ، ولم تتأكد حقيقة حتمية الموت في نفوسهم ، ولهذا يستمسكون بدنياهم ويتشبثون بحياتهم .
                            وشأن هؤلاء أن :
                            1- يتباطؤوا عن الجهاد ، فإذا انتصر المسلمون ندموا علي فوات الغنيمة ، وإن انهزم المسلمون فرحوا بالنجاة من المصيبة .
                            2- غلبة الجبن عليهم فيخافون الناس كخشية الله أو أشد خشية .
                            3- أنهم يظهرون الطاعة للجماعة في الظاهر ، ويضمرون العصيان في خلواتهم.
                            4- لضعف عزائمهم يذيعون الإشاعات دون تثبت أو تمحيص سواء كانت إشاعات أمن أو خوف ، وهو مايسبب بلبلة في جماهير الناس .
                            ومن هنا نبه الله المسلمين في أول السياق أن لا ينفرد مجاهد في مسيرته ، وإنما يسير مع جماعة أو ينفروا جميعا .
                            وفي وسط السياق يهيب الله بالمؤمنين أن ينفروا لتحرير المستضعفين من العباد ، وأن يستجيبوا لاستغاثة الرجال والنساء والولدان بالنصرة من الظالمين والخروج من ظلم الطغاة .
                            وفي آخر السياق يؤكد الله علي رسوله بأن يقوم بواجب التحرير حتي ولو وحده ، وأن يحرض المؤمنين علي هذا الواجب ، حتي ينقشع بأس الجبارين .

                            **حق الحياة
                            كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه، وحتي الكافر لا يجوز قتاله إن أعطي الذمة أو الأمان أو العهد، وحتي العدو لا يجوز قتله قبل التبين والإعذار. ويحذر الله المسلمين أن يستهينوا بالدماء، حتي وهم في حالة حرب مع الأعداء. ويضع العقوبة المانعة علي من يتخطي هذه الحدود. ولا يجوز الاقتراب من هذا الحق إلا فى حالات استثنائية تتصل بحقوق الآخرين أو بحقوق أساسية للمجتمع.
                            وحفظ النفس من المقاصد الأساسية للشريعة . فحق الحياة حق مصون لكل فرد ، فهو أمانة استودعها الله عبده ليقوم بالرسالة التي أرادها الله في الأرض . ومن ثم كان سلب هذا الحق مصادمة لسنن الله والاعتداء عليه جريمة تستحق أقسي العقوبات .
                            ومن هنا يحيط الإسلام النفس الإنسانية بالحصانة ، فإن الدماء أحق ما احتيط له ، إذ الأصل صيانتها في أهبها-جلدها- ، فلا تباح إلا بأمر بين لا إشكال فيه."[18]
                            قال صلي الله عليه وسلم: " ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا . ألا وإن أحرم الشهور شهركم هذا . ألا وإن أحرم البلد بلدكم هذا ، ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا . ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم . قال: الله اشهد ." وقال صلي الله عليه وسلم " كل المسلم علي المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ." كما قال صلي الله عليه وسلم " المؤمن من أمنه الناس علي أموالهم وأنفسهم ، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب ." [19]
                            ويقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: " قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا" [20]
                            وفي ميدان المعركة المحايدون ، نبه الله المسلمين أن يكفوا عنهم إذا اعتزلوا القتال وأعلنوا السلام .
                            فإذا رغب إنسان في السلام مع المسلمين واعتزل من يقاتلهم ، أمنه الإسلام علي نفسه وحفظ حياته . فالإسلام يصون دم المنتسب إلي أهل الأمان ، ولايجوز استباحة دم من لجأ إلي من بينه وبين المسلمين عهد ، فالموادعة جائزة بين أهل الحرب وأهل الإسلام. [21]
                            أما إذا كانوا يناورون ويتذبذبون ويتقلبون في الفتنة فليس لهم حرمة . ولايتخذ المؤمنون منهم وليا ولا نصيرا. يقول تعالي : إلاَّ الَذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ ويَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (91)
                            هذا " في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى . فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض ، مهما اختلفت الديار، وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتي الديار ، فلا قتل ولا قتال . لا قتل إلا في حد أو قصاص . فإنه لايوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق مابين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة ، ومن ثم لا يقتل المسلم أبدا . وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة . اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ . "[22]
                            **واجب التبين

                            لما شرع القتال لتحرير المستضعفين ، وضع الإسلام الضوابط التي تحمي من القتل الخطأ والقتل العمد لسبب غير أسباب التحرير .
                            ويقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
                            جمع المفسرون علي أن هذه الآيه إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف ."[23]
                            يحذر الله المسلمين أن يستهينوا بالدماء حتي وهم في حالة حرب مع الأعداء . فهناك المستضعفون الذين غلبوا علي أمرهم ، كما كان المسلمون في مكة من قبل أن يمن الله عليهم بالعزة والمكنة. فإذا نطق الرجل في دار الحرب بالشهادتين أصبح معصوم الدم يمتنع قتله ويجرم من تسول له نفسه ارتكاب هذا الخطأ .
                            وفي كفارة القتل الخطأ ذكر تعالي " ثلاث كفارات : كفارة قتل المسلم في دار الإسلام ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد . ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد ، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذى هو كالضد لقتل الخطأ
                            يقول تعالي : ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَئاً ومَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) ويقول تعالي :ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)
                            عن أسامة بن زيد : " بعثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلا فقال: لاإله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلي الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أقال لاإله إلا الله وقتلته ؟ قال: قلت : يارسول الله إنما قالها خوفا من السلاح . قال: أفلا شققت عن قلبه حتي تعلم أقالها أم لا ؟ فمازال يكررها علي حتي تمنيت أني أسلمت يومئذ ."[24]

                            **حق المحاكمة العادلة
                            إذا ساد المجتمع الظلم ، وغلبت المصالح الشخصية علي القيم ، والأنانية علي الخير، عاش الناس في غابة لا يأمنون علي أنفسهم ولا علي أموالهم وأولادهم . حيث تصبح العدالة شعارا حقيقته الظلم ، معبرة فقط عن حقوق الأقوياء والأغنياء وأصحاب السلطان . فتضيع بذلك حقوق الناس ، ويتهم الأبرياء ، وتستباح الأعراض ، وينكل بدعاة المعروف سجنا وتعذيبا ، وقتلا وتشريدا ، ويوصمون بكل قبيح ، ويحشد شهود الزور وقضاة الجور لكبتهم واستباحة دمائهم وأعراضهم . وهنا ينمو النفاق ويترعرع لتبرير الظلم وفلسفة الاستبداد ودعم مصالح المستغلين . وتنمو بطانة منتفعة تصفق وتزين للباطل ، وتحرض وتشوه الحق ، ليلقي إليها الفتات و تستعلي علي العباد بقوة الظالمين .
                            ونستطيع أن نقدم لهذا بتتبع توجيهات هذا المقطع في التلخيص التالي :
                            1- ينبه الله سبحانه وتعالي ابتداء إلي أنه نزل إلينا الكتاب بالحق ، رحمة منه ، ليحكم بين الناس بالعدل ، وفي ذلك وحده الضمان لتحقيق العدل بين العباد .
                            2- لهذا كان من أعظم الآثام رمي الأبرياء بما اكتسب الظالمون من الخطايا والآثام .
                            3- وكان من البهتان والإثم العظيم الدفاع عن أهل الباطل والجدال عن الخائنين الذين ارتكبوا هذه الآثام .
                            4- وهؤلاء الناس أنهم لا يتعاملون في وضوح وصراحة ، بل يبيتون في مؤامرة هذه المظالم ، يستخفون في ذلك من الناس ، ولايستخفون من الله ، وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضي من القول.
                            5- التذكير بفضل الله علي رسوله والمؤمنين بتحريرهم من هذه الضلالات بإنزال الكتاب والحكمة وتعليم المؤمنين بهذه الفضائل ، ولولا ذلك لاستطاع هؤلاء الخائنين الآثمين أن يضلوهم عن طريق العدل والإنصاف .
                            6- يبين الله طبيعة المجتمع المسلم في مناجاته ، فهي مناجاة في الحض علي الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس .
                            7- ويبين خصائصه وشروط قبوله ، أن يكون خالصا لوجه الله تعالي حبا فيه وطمعا في ثواب الآخرة . بعد أن يكون صوابا في طاعته لما أنزل الله . وهذا هو ضمان القسط دون تزييفه وضمان القصد دون تحريفه . وهذا هو الإسلام لوجه الله والإحسان في الأعمال . وهذه هي حقيقة الدين القيم .
                            ... اتفق أكثر المفسرين علي أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق ... سرق درعا فلما طلبت الدرع منه رمي واحدا من اليهود بتلك السرقة ، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودى ، جاء قومه إلي النبي صلي الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم علي هذا المقصود ، وأن يلحق هذه الخيانة باليهودى . فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك ، فنزلت الآية .. [25]
                            وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة علي السفوح الهابطة ، في جميع الأمم علي مدار الزمان ، فيراها هنالك في السفوح ، ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخورا متردية ، هنا وهناك ، من الدهاء ، والمراء ، والسياسة ، والكياس والبراعة والمهارة ومصلحة الدولة ومصلحة الوطن ومصلح الجماعة ، إلي آخر الأسماء والعنوانات ."[26]
                            يقول تعالي: إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكِيلاً (109)

                            **واجب الحكم بين الناس بالعدل
                            وهنا كان النداء الإلهي للبشر ، يربيهم علي قيم العدل ، ويحفزهم علي شهادة الحق ، ويهديهم إلي نجوى الخير ، وينشأهم علي الأمر بالمعروف ، ويحررهم من كل خوف إلا من الله ، ومن كل رغبة إلا نعيم الآخرة .
                            وجماع ذلك كله أنه من الحقوق الأساسية للإنسان أن يكون آمنا في مجتمعه ناعما بالعدل في الحكم ، والقسط في المعاملات مادام مستقيما علي نظامه ومطيعا لشريعته محافظا علي حقوق الآخرين .
                            والقرآن يرسي حق الإنسان ، الذى يحميه من كل ظلم ، بشريعته التي يخضع لها الحاكم قبل المحكوم والقوى قبل الضعيف والغني قبل الفقير ، لاتحيز ولاجور ، بل قسط وشهادة لله ولو علي أعز شيء وهو النفس ، ولو علي أقرب إنسان والدا أو قريبا . محذرا من اتباع الهوى للعدول عن طريق الحق لأن الله خبير بكل خلجات النفس ، وذلك مقتضي الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر .
                            ولقد" تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال تعالي:وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي، وأمرهم بالإشهاد عند دفع أموال اليتامي إليهم، وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله ، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه علي الذب عنه بالكذب والشهادة علي اليهودى بالباطل ، ثم إنه تعالي أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة ، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده أن يكونوا قائمين بالقسط ، شاهدين لله علي كل أحد ، بل وعلي أنفسهم ، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ماجرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف .
                            يقول تعالي:
                            " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
                            اعلم أن الأمانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق إليه فهذا هو الأمانة ، والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب لإنسان علي غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلي من له ذلك الحق، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره ، لاجرم أنه تعالي ذكر الأمر بالأمانة أولا، ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق ، فما أحسن هذا الترتيب ، لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط ...
                            قوله تعالي : إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)، أى نعم شئ يعظكم به ذاك ، وهو المأمور من أداء الامانات والحكم بالعدل ."[27]

                            **حق حرية التعبير:
                            تؤصل السورة حرية الإنسان في الاعتقاد والتفكير والاختيار، ويعتبر ذلك من ضرورات الإنسان كضرورة الأكل والشراب.
                            وقد كفل القرآن حرية التعبير ، لأنه ابتداء مجتمع الشورى ألزمهم الله بها ، ومجتمع النصيحة فهي أمانة في عنق كل مسلم ، وهو مجتمع الاستمساك بالحق ولو كلف صاحبه مالا يطيق .
                            وهو مجتمع حرية العقيدة حيث من أصوله لا إكراه في الدين ، ومن عنده شك في ذلك فليسأل اليهود الذين لم يسلموا من اضطهاد أحد في العالم القديم والحديث إلا المسلمين ، وليسأل النصارى الذين يعيشون إلي يومنا هذا في مجتمعنا مصانة حقوقهم ، وليسأل عن مصير المسلمين في الأندلس وعن قصتهم اليوم في البوسنة .
                            إن من أصول الإسلام ألا يفرض علي أهل الكتاب ما يخالف عقيدتهم ، ولكن إذا كان تحريم الربا موجود عند كل دين ، وإذا كان فرض الصدقة للفقير وستر العورة مفروض عند الجميع ، فما معني إنكار ذلك علي الإسلام ؟ وإذا كانت الغالبية تضع أساس شرائعها بما يتفق ومبادئها في كل دولة فلماذا ينكر علي المسلمين ذلك ؟
                            والناظر للتاريخ الإسلامي بإنصاف يحد أن تنوع الآراء كان هو القاعدة . ونظرة إلي المدارس الفقهية واحترام الفقهاء للخلاف في الرأى ، مدى ما يتمتع به المسلمين من حرية في التعبير . ولكن كان ذلك في ظل ضوابط تضمن أن يكون الخلاف خلاف تنوع ، يثرى الحضارة ، لاخلاف تضاد يقوض أساسها ويؤدى إلي فشلها بالنزاع .
                            والحقيقة التي لا ننكرها أنه علي المستوى السياسي لم تستمر الخلافة الراشدة إلا فترة قصيرة نسبيا, وكان من مقوماتها اختيار الخليفة وبيعته ، وفرض الشورى والإلزام بها ، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل جوانب الحياة ومنها الحكم .
                            ولم تعرف البشرية حقوق الإنسان إلا منذ قريب ، وكان يسود الدنيا استبداد ممثل في ملوك جبابرة علي مستوى الدولة ، وأمراء مستبدون علي مستوى المقاطعات ، ووجدوا في أوروبا من رجال الدين من يمد لهم في طغيانهم ، حتي كان ذلك سببا في نفور أوروبا من الدين جملة وقيام العلمانية التي ترفض القيم ، وما سبب ذلك من مشاكل ومخاطر يعانيها العصر .
                            ومن ثم كان اهتمام السورة الكبير في نوع الحديث الذى يقال والرأى الذى يبدى . فوصف المؤمنون بأنهم :لا يكتمون الله حديثا . ووصف الكافرين بأنهم : لا يكادون يفقهون حديثا . وكان الخلق الحق في القول مأخوذ من صفات الله تعالي: ومن أصدق من الله حديثا .
                            وكانت الكلمة لذلك أمانة . فنبه علي المؤمنين في الصلاة أن يكونوا واعين : حتي تعلموا ما تقولون . بينما كانت من صفات الكافرين : يحرفون الكلم عن مواضعه .. ليا بألسنتهم وطعنا في الدين . وكان توجيه القرآن إلي الرسول الكريم في معاملة المسيئين :وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا.
                            ولقد حدثتنا سورة النساء عن مواصفات حرية التعبير التي تحقق احترام الذات لأفراد الأمة ، وتثرى رؤيتها بالتناصح والتشاور ، وتوفر كافة الرؤى الباعثة علي التقدم والازدهار . من ذلك :
                            1- أن تكون بالمعروف . وقد عمرت السورة بتأكيد هذه الخصيصة ، فعند الوصية بالضعاف من الأمة يكرر القرآن النصيحة للمسلمين بأن يقولوا لهم قولا معروفا.
                            وقد رأينا في شروط المناجاة ، التي أمر الله بها عباده ، حفاظا علي أواصر الود ، وإشاعة لروح التعاطف بين الجماعة ، أن تكون هذه المناجاة قوامها الأمر بالمعروف ، قال تعالي : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114).
                            و لا خير فيما يتناجي فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير . ثم إنه تعالي ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والإصلاح بين الناس . وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة ، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، أما إيصال الخير : فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله :إلا من أمر بصدقة . وإما أن يكون من الخيرات الروحانية ، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف وإليه الإشارة بقوله:أو معروف ، وإما إزالة الضرر فإنها الإشارة بقوله : أو إصلاح بين الناس ، فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية ..
                            وهذه الأقسام الثلاثة من الطاعات ،وإن كانت في غاية الشرف والجلالة، إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذ أتي بها لوجه الله وابتغاء مرضاته ، فأما إذا أتي بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد ."[28]لإنسان إنما ينتفع بها إذ أتي
                            2- أن يكون القول سديدا . والسديد المصيب للحق المتصف بالصواب القائم علي العدل [29] . وفي هذا تحرير للمجتمع من فئة المضللين التي تزيف الحقائق وتبرر المظالم وتخدع الناس خصوصا الضعاف منهم . و ذلك مما يوصي الله تعالي به من نوع الكلمة التي يخاطب بها اليتيم فيقول : ولْيَخْشَ الَذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)."
                            3- أن يكون القول بليغا . وهذا خصيصة في خطاب المخالف في الرأى الذى يناور به ويظهر غير مايبدى ، فحين إعراض قوم عن الحق مع ادعائهم الإيمان يكون القول مقنعا مؤسسا علي منطق مقبول للرد علي هذا التبييت مع ما يحمله من الزجر والردع .[30]
                            وذلك من قوله تعالي :" أُوْلَئِكَ الَذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
                            وتعاليم القرآن تحقق حرية الإنسان عقيدته ورأيه ، وتصونهما بكافة الضمانات ، وتفتح للتعبير كافة القنوات .
                            يقول تعالي: إن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُواً قَدِيراً (149) . " اعلم أن معاقد الخيرات علي كثرتها محصورة في أمرين : صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق . والذى يتعلق بالخلق محصور في قسمين : إيصال نفع إليهم ، ودفع ضرر عنهم .
                            فقوله: إن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ،إشارة إلي إيصال النفع إليهم ، أو تعفو ،إشارة إلي دفع الضرر عنهم . فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر ."[31]
                            " فَإنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُواً قَدِيراً، يقول: لم يزل ذا عفو عن خلقه ، يصفح عمن عصاه وخالف أمره ، ذا قدرة علي الانتقام منه . فاعفوا أنتم أيضا ، أيها الناس، عمن أتي إليكم ظلما ، ولا تجهروا له بالسوء من القول ، وإن قدرتم علي الإساءة إليه ، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته علي عقابكم ، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره ."[32] ولكن الإسلام كما هي عادته يضع هذا الحق في وسطه الفاضل ، فيقابله بالواجب الذى يصونه عن الإفراط كما حماه من التفريط . إنه يشترط أن يكون إبداء الرأى خيرا ، فالله لا يحب الجهر بالسوء إلا لمن ظلم . فليس علي سبيل المثال إشارة الفاحشة رأي ، ولا سب المخالف رأى ، ولا إشاعة الهزيمة رأى .

                            **واجب عفة القول

                            ولكن الإسلام كما هي عادته يضع هذا الحق في وسطه الفاضل، فيقابله بالواجب الذي يصونه عن الظن السيء، والقذف الظالم، واقتحام الخصوصيات. إنه يشترط أن يكون إبداء الرأي خيرا.يقول تعالي : لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَن ظُلِمَ وكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148). ويعاقب الذي يتهم الناس بالباطل، ويشوه سمعة الأبرياء. فالظن السوء يؤدي إلي الصراع، والهمة الباطلة تؤدي إلي البوار. وقد رأينا من ذلك ما أقلق ذوي الضمائر الحرة والنفوس العفيفة من تشهير ورمي بالأقذار في الغرب بالحق والباطل، في الصحافة السوداء والإعلام القمئ، مما يؤدي إلي؟ إشاعة الفاحشة في المجتمع، ويقلق مضاجع الأبرياء ويعتدي علي الحرمات، ويعتبرون ذلك قمة الحضارة والتقدم.يقول تعالي ومَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً (110) ومَن يَكْسِبْ إثْماً فَإنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً (112)
                            ولقد بينت السورة محاذير يجب اجتنابها ، ولا يمكن ادعاء حرية الرأى فيها ، منها تجريم إذاعة الشائعات وترويجها دون تثبت ، يضر بالأمن القومي للأمة ضررا بليغا ، ويثير الفتن والخلافات ، ويؤدى إلي الصراعات والعداوات . وقد كان السبب في هذا التحريم " جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم ، أفشوه وهم يظنون أنه لاشيء عليهم في ذلك ... والأولي ترك الإذاعة للأخبار حتي يكون النبي صلي الله عليه وسلم هو الذى يذيعها أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك... لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشي وما ينبغي أن يكتم ... وقيل أن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين علي المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة ."[33]
                            وفي ذلك قال الله تعالي: وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً (83) .
                            ولقد اهتم هذا المقطع بتعرية صنف من الناس يعتبر عدوا لحرية التعبير ، ألا وهم المنافقون .
                            ولعل أخطر مايئد حرية التعبير هو النفاق . والنفاق خصلة الضعفاء الذين يظهرون غير مايبطنون ، فتنطق ألسنتهم بما ليس في قلوبهم ، ومن هنا نرى ركونهم إلي الظالمين ، وغمطهم الحق ، وتسللهم بالتخريب والتشكيك . وهم لذلك أعداء حرية التعبير . يزيفون الحقائق ، ويهدرون القيم ، ويحيدون عن الاستقامة ، ويمالئون الباطل .يقول تعالي : إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وهُوَ خَادِعُهُمْ وإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ ولا إلَى هَؤُلاءِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
                            " قال ابن عباس : رخص للمظلوم أن يدعو علي من ظلمه ، وإن صبر وغفر كان أفضل له، وصفة دعائه علي الظالم أن يقول: اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي منه ، اللهم حل بيني وبينه.
                            ...وإذا كان الرجل مجاهرا بالظلم دعا عليه جهرا ، ولم يكن له عرض محترم ، ولابدن محترم ، ولامال محترم ."[34]يقول تعالي لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَن ظُلِمَ وكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)



                            [1]الرازى ، مفاتيح الغيب ج 9 ص149-150

                            [2] الرازى ، مفاتيح الغيب ، ج9 ص152-155

                            [3] رواه أبو داود ، الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج1ص461

                            [4][4] عبد الحليم أبو شقة ، تحرير المرأة في عصر الرسالة .ج1 ص 45، 46 دار القلم سنة 1995

                            [5] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 10 ص 14،13

                            [6] الطبرى ، جامع البيان ج 3 ص 573-577

                            [7] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج 1 ص608- 609 عن د.علي عبد الواحد وافي ، الأسرة والمجتمع ص 26-56 والعقاد ، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ..

                            [8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج 10 ص 68 -73

                            [9] الطبرى ، جامع البيان ج4 ص 71

                            [10] الرازى ، مفاتيح الغيب ج10 ص 74

                            [11] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص 50

                            [12] الرازى ، مفاتيح الغيب ج10 ص 65، 66

                            [13] الرازى ، مفاتيح الغيب ج10 ص77، 78

                            [14] الرازى ، مفاتيح الغيب ج9 ص 158- 159

                            [15] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج4 ص 193، 194

                            [16] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج2 ص705-707

                            [17] الرازى ، مفاتيح الغيب ج10 ص 145-146

                            [18]القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج3 ص 1899

                            [19] الألباني ، صحيح سنن ابن ماجه ج2 ص 348، 349

                            [20] الألباني، صحيح الجامع الصغير ج2 ص804

                            [21]القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ج3 ص 1875

                            [22] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج2 ص 732، 736

                            [23] الرازى ، مفاتيح الغيب ج10 ص 189-190

                            [24] صحيح مسلم ج1 ص 54

                            [25] الرازى ، مفاتيح الغيب ، ج11 ص 26

                            [26] سيد قطب ج 2 ص 751-753

                            [27] الرازى مفاتيح الغيب ، ج10 ص 111-114

                            [28] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص 33-34

                            [29] ابن عطية ، المحرر الوجيز ، ج3 ص 509


                            [30] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج4 ص119

                            [31] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص 73

                            [32] الطبرى ، جامع البيان ج4 ص 343

                            [33] الشوكاني ، فتح القدير ج1 ص 491

                            [34] ابن العربي ، أحكام القرآن ج1 ص 513

                            تعليق

                            • كنز العلوم
                              مشرف اللجنة العلمية والتواصل

                              • 6 ديس, 2010
                              • 1624
                              • طبيب
                              • مسلم

                              #44
                              اخي الكريم / يوسف

                              عمل كبير وجهد ملحوظ وفوائد جليلة

                              وبيان وايضاحات تروي الغليل

                              استمر اخي الكريم .... فكلما ابحرنا في القران .... ابحر بنا

                              وكلما تعمقنا فيه ... كشف لنا عن اللؤلؤ المكنون

                              حقا .... لا تنقضي عجائبه !

                              بارك الله فيكم اخي الكريم

                              ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل : 125]

                              تعليق

                              • يوسف كمال محمد
                                1- عضو جديد
                                • 2 فبر, 2014
                                • 66
                                • عمل حر
                                • مسلم

                                #45
                                **حقوق الأمة وواجباتها
                                من سورة المائدة

                                تتواكب الطيبات من الحلال مع أمن المجتمع وسلامه، ويتواكب مع الحرام العدوان وفقدان الأمان، ومن ثم تنبه السورة إلى وجود صلة قوية بين طهارة المطعم والمشرب والنكاح والجسم والروح، وسلوك الإنسان اجتماعيا، فإن كان مأكل الإنسان من الحلال الطيب تحقق السلام والبر، وإن حرص على الطهارة بنكاح المحصنات العفيفات صلحت الحياة وطابت، وإذا حرص على طهارة الجسم والروح بالوضوء والصلاة انتهى عن الفحشاء والمنكر والبغى. وإن تناول الخبائث وأكل السحت، ظهرت العداوة والبغضاء. فالخمر والقمار يوقع العداوة والبغضاء، ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وكذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والسفاح واتخاذ الأخدان يدمر الحياة ويشقيها، وإذا حرم الإنسان من الوضوء والصلاة أسنت النفس وقست القلوب. ويحقق الإسلام هذا الواقع بصوت الضمير العام بالتقوى وسوط السلطان القائم على الزجر والردع.

                                الحدود والحقوق:
                                يجب أن نعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لاقيام للدين ولا للدنيا إلا به، فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالإجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض. ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبى (صلي الله علية وسلم ): " إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم " ([1]).. فأوجب (ص) تأمير الواحد فى الاجتماع القليل العارض فى السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولايتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لاتتم إلا بالقوة والإمارة... " ([2]).
                                وإن كان العالم الغربى اليوم يفخر بأنه مجتمع سيادة القانون، فإن الإسلام سبقهم بقرون فى تأكيد هذا المبدأ عنده تحت مسمى سيادة الشريعة. ولكن الفرق بين الغرب والإسلام أن القانون عندهم من وضع الإنسان، وهو ما يجعله مثقلا بقصور الإدراك الإنسانى. حيث لايعرف إلا القليل عن خبايا النفس الإنسانية. كما لا يعرف الكثير عن المؤثرات المهولة التى لا يستطيع قياسها فى الكون والحياة، والتى تؤثر بالتالى على الإنسان والمجتمعات. لهذا كانت قوانينه تتغير بإستمرار ويظهر قصورها بعد وقت قصير، وتثقل بالتالى بالتعديلات والاستثناءات. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإنسان ضعيف أمام الهوى الذى يجعله يتحيز عند التشريع لنفسه أو لقومه أو لمصلحته. ولهذا تعانى الديمقراطيات الغربية، باعتراف الجميع، من استغلال مراكز القوى لأجهزة الحكم ومجالس التشريع، سواء كان بضغط المال من أرباب الأعمال أو بضغط القوة من جماعات الضغط، التى تستخدم حتى الاغتيال لتحقيق مصالحها. وهذه حقيقة لاينكرها اليوم أحد، إلا إذا كان غبيا أو متغابيا.
                                ولا يختلف المجتمع العلمانى الغربى المعاصر عن مجتمع الكنيسة فى العصر الوسيط فى ذلك. والفرق بين الاثنين أن الغرب يرد التشريع الوضعى عنده لمجالسه النيابية، والكنيسة كانت تشرع بهواها، تحل وتحرم بغير ما أنزل الله، وإن ادعت أنه من عند الله. فالحكومة الإسلامية ليست حكومة تشرع بهواها بدعوى السلطة الدينية أو الحكومة الإلهية، وإنما هى أمينة على تطبيق حكم الله ونائبة عن الأمة فى تحقيق مصالحها، ويجرى عليها حكم الله مثلها مثل كل المسلمين.
                                وحسب المجتمعات ما أصابها من مآسى لفقدانها ثوابت العدل الإلهى والطهارة الربانية،مما نراه فى فساد الحكام وطغيان الدول، ومما نشاهده من انهيار الأخلاق واندحار القيم. فافتقد الأمن الجماعى وضاعت العافية والطهارة.
                                ومن هنا يتميز الإسلام، حيث له ثوابت لا تتغير ولا تتعرض لعجز البشر أو تعصف بها أهواؤهم. هذه الثوابت التشريعية والأخلاقية التى لا تتغير مع تغير المجتمعات زمانا ومكانا، يمضى حكمها على الحاكم والمحكوم سواء. فضلا عن أن الإسلام يستقل التشريع فيه عن الدولة، فليس القانون تعبيرا عن إرادتها حيث الفصل العضوى بين الهيئة التى تتولى التشريع وبين الهيئات السياسية والنيابية، ويحكى لنا التاريخ الموثق كيف كان الرجل العادى يستطيع أن يقاضى رجل الدولة، ويقف أمام القاضى دون خوف أن يستغل سلطانه فى تعطيل سيادة التشريع. كما لا يجرؤ أحد فى ظل دولة إسلامية أن يأتى بتشريع يخالف حكم الله أو يعطله أو ينحرف به عن مراده، ولا يطيق أن يأمر الناس بمعصية الله دون أن يخالفوه أو أن يخرجوا عليه.
                                يقول رسول الله (صلي الله علية وسلم ): " السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة " ([3]).
                                هذه الثوابت التشريعية ليست أحكاما من سلطات ديكتاتورية، وليست أحكاما من مجالس كنسية، وليست أحكاما من مجالس شعبية. ولقد فشل أساطين القانون الدستورى المعاصرين فى تحقيقه. فلم يفلحوا فى استنباط مبادئ عامة تلتزم السلطة التى تصدر القوانين الوضعية بحدودها ولاتتخطاها، وإنما يعرف العالم اليوم فقط الازدواجية فى المعايير وفق مصالح جماعات الضغط أو طواغيت الحكام والدول. وقد رأينا ذلك بوضوح فى تحديد معايير حقوق الإنسان فى مقدمة سورة النساء.
                                والهدف من تحديد واجبات الجماعة قبل الأفراد وحقوقها عليهم، هو إقامة مجتمع مسلم لله، يسوده السلام والطهارة، ويتعاون أفراده على البر والتقوى، ويتناهون عن الإثم والعدوان، وهنا تتحقق النعمة ويسود الرضوان. وإذا ما تعدى المجتمع هذه الحدود تفشت الفتنة وعم الخسران حيث لا يتعاون الناس إلا على الإثم والعدوان.
                                وهذا هو مفترق الطرق بين مجتمعين، مجتمع البر والتقوى الذى يجعل القوامة لله فلا يحكم إلا بما أنزل الله ولا يوالى إلا المؤمنين، ومجتمع الإثم والعدوان الذى يشرع له البشر، فيتفشى فيه حكم الجاهلية وموالاة الكافرين.
                                ومن هنا تبين سورة المائدة الحلال فى الطعام والشراب والنكاح، ضمانا لطهارة المجتمع وتحقيقا للسلام والأمان بين جنباته. وتضع العقوبات على المخالفات سواء كانت كفارات أم حدودا، تحقيقا لمقاصد الشارع فى حفظ النفس والعقل والعرض والدين والمال.
                                وحتى لا يعتدى أحد على مال غيره أو نفسه أو عرضه شرعت الحدود لمعاقبة الحرابة أو السرقة أو القتل أو الزنا، والكفارات لمعاقبة المعاصى كالحنث فى الأيمان وقتل الصيد للمحرم واعتبر الله ذلك عقدا وميثاقا على الإنسان أن يوفيه.
                                والحكم بين الناس يكون فى الحدود والحقوق، وهما قسمان:
                                فالقسم الأول: الحدود والحقوق التى ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين،
                                أو نوع منهم. وكلهم محتاج إليها. وتسمى حدود الله، وحقوق الله: مثل حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم. ومثل الحكم فى الأموال السلطانية، والوقوف والوصايا التى ليست لمعين. فهذه من أمور الولايات ولهذا قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: لابد للناس من إمارة: برة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفىء. وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحد، وكذلك تقام الشهادة فيه من غير دعوى أحد.
                                وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس، إنما هو لتعطيل الحد بمال أو جاه. وهذا من أكبر الأسباب التى هى فساد أهل البوادى والقرى والأمصار.. وهى سبب سقوط حرمة المتولى، وسقوط قدره من القلوب، وانحلال أمره، فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد، ضعفت نفسه أن يقيم حدا آخر، وصار من جنس اليهود الملعونين..
                                وهذا القسم الذى ذكرناه من الحكم فى حدود الله وحقوقه مقصوده الأكبر هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر..
                                وأما المعاصى التى ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذى يأكل مالا يحل كالدم والميتة أو يخون الأمانة أو يغش فى المعاملة أو يرتشى فى حكمه أو يلبى داعى الجاهلية.. إلى غير ذلك من أنواع المحرمات: فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتبهيلا وتأديبا بقدر مايراه الوالى...
                                القسم الثانى: الحدود والحقوق التى لآدمى معين، فمنها النفوس.. والقصاص فى الجراح والقصاص فى الأعراض.. وإذا كانت الفرية ونحوها لا قصاص فيها، ففيها العقوبة..
                                ومن الحقوق الإيضاع، فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله تعالى به.. وأما الأموال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله..
                                ولاغنى لولى الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه (ص).. وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك.. وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم مايجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك... وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغى أن يستخرج كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأى الآراء كانت أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل بها ([4]).
                                والسورة على أساس هذه القاعدة تقيم المجتمع المسلم على الطهارة فى المطعم والمشرب والإحصان فى النكاح ويتناهى عن المنكر. بينما يتعاطى المجتمع الكافر الخبائث والسحت ، ويتعود قومه على الفحشاء، ولايتناهون عن منكر فعلوه.

                                الأساس العقيدى

                                تبين السورة أن تحقيق الأمن والسلام في المجتمع يتوقف علي تمسكه بتعاطي الحلال من الطيبات في الأكل والشراب ، والمحصنات في الزواج والنكاح . والضمان الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو التزام حكم الله في تحديد الحلال والحرام . وواضح في السورة أن هذا التحديد يترتب عليه التزام من الحكام بإشاعة الحلال الطيب ، واجتثاث الحرام الخبيث من المجتمع . ومن هنا تتحدد حقوق الدولة علي الناس في التعاون علي البر والتقوى والتزام بالسمع والطاعة ، وتتحدد واجباتها في إشاعة الطهارة والطيبات وتحريم الخبائث ، ثم إقامة الحدود والكفارات والقصاص .
                                ولقد كان الأساس العقيدى في سورة النساء يبين أن التحاكم إلي شرع الله حد بين الكفر والإيمان ، فحدد بذلك مسؤولية المحكومين . وفي هذه السورة بيان بأن الحكم بما أنزل الله حد بين الكفر والإيمان ، فحدد بذلك مسؤولية الحاكمين .
                                وقد رحم الله عباده بأن أنزل إليهم كتباً فيها منهج الهدي، وختم الوحي بالقرآن الكريم الذي انزل علي خاتم المرسلين، ليحكم بين الناس فيم اختلفوا فيه.
                                إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ، وهو يصدق مابين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ، ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن علي كل ماسبقه وإليه تنتهي شرعة الله التي ارتضاها لعباده إلي يوم الدين ، فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ، وما نسخه فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة ....
                                يقول تعالي : وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ "وهذا خطاب من الله تعالي ذكره لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم : أنزلنا الكتاب الذى أنزلناه إليك ، مصدقا للكتب قبله ، وشهيدا عليها أنها حق من عند الله ، أمينا عليها ، حافظا لها .
                                وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب ... أمينا وشاهدا علي الكتب التي خلت قبله .
                                قوله تعالي: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ،... وهذا أمر من الله تعالي ذكره لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم ، أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل بكتابه الذى أنزله إليه ، وهو القرآن الذى خصه بشريعته ... فإني أنزلت إليك القرآن مصدقا في ذلك مابين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه رقيبا ، يقضي علي ما قبله من سائر الكتب قبله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود، الذين يقولون :إن أوتيم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم ، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله ، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله ، فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا ، عن الذى جاءك من عند الله من الحق ، وهو كتاب الله الذى أنزله إليك . يقول له : اعمل بكتابي الذى أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترت الحكم عليه ، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم ، وإيثارا لها علي الحق الذى أنزلت إليك في كتابي ."[5]
                                قوله تعالي: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً، "يقول سبيلا وسنة ، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة . ويحل الله فيها مايشاء ويحرم مايشاء ليعلم من يطيعه ومن يعصيه . والدين الذى لا يقبل الله غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذى جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام . وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناها: لكل جعلنا القرآن منكم ، أيتها الأمة ، شرعة ومنهاجا ، أى هو لكم كلكم تقتدون به . وحذف الضمير المنصوب في قوله :لكل جعلنا منكم، أى جعلنا : يعني القرآن ، شرعة ومنهاجا ، أى سبيلا إلي المقاصد الصحيحة ، وسنة أى طريقا ومسلكا واضحا بينا ."0[6]
                                قوله تعالي: ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
                                " يقول تعالي ذكره: ولو شاء ربكم لجعل شرائعكم واحدة ، ولم يجعل لكل أمة شريعة ومنهاجا ، غير شرائع الأمم الأخرى ومناهجهم ، فكنتم تكونون أمة واحدة لاتختلف شرائعكم ومناهجكم ، ولكنه تعالي ذكره يعلم ذلك ، فخالف بين شرائعكم ليختبركم ، فيعرف المطيع منكم من العاصي ، والعامل بما أمره في الكتاب الذى أنزله إلي نبيه صلي الله عليه وسلم من المخالف .... فبادروا أيها الناس ، إلي الصالحات من الأعمال والقرب إلي ربكم ، بإدمان العمل بما في كتابكم الذى أنزله إلي نبيكم ، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء ، ليتبين المحسن منكم من المسئ ، فيجازى جميعكم علي عمله جزاءه عند مصيركم إليه ، فإن إليه مصيركم جميعا ، فيخبر كل فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الأخرى ، فيفصل بينهم بفصل القضاء ، وتبين المحق مجازاته إياه بجناته ، من المسئ بعقابه إياه في النار . فيتبين حينئذ كل حزب عيانا ، المحق منهم من المبطل . "[7]

                                عبرة التاريخ

                                تبين السورة العبر ة من تاريخ أهل الكتاب : فاليهود نقضوا ما أخذه الله عليهم من ميثاق علي الحكم بما أنزل الله . ثم تفصل ما ترتب علي ذلك من انحرافات وفساد وعدوان .
                                لذلك حرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ، فكانت الخيانة طبعهم إلا القليل منهم ، وأشارت السورة إلي حادث تغييرهم لحكم رجم الزاني رعاية لكبرائهم .
                                فيصفهم تعالي بقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ (42) وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
                                والنصارى أيضا نقضوا ميثاقهم ونسوا حظا مما ذكروا به ، فكانت النتيجة أن عاشوا في صراع ملئ بالعداوة والبغضاء. والتاريخ القديم والحديث شاهد علي قسوة قلوب اليهود والصراع بين طوائف المسيحيين . وكان من أشد ألوان التحريف ونقض الميثاق أن قالوا بألوهية المسيح عليه السلام ، وزعموا أنهم أبناء الله وأحبائه حتي يستبيحوا لأنفسهم المعصية .
                                يقول تعالي: * ومِنَ الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) والسورة تحدثنا عن عصيان اليهود رسلهم والخروج عن أمرهم ، يقول تعالي علي لسان موسي عليه السلام : يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ولا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُونَ (22)
                                ومن غرائب الأمور أن اليهود قالوا ما يقوله علماء الاقتصاد الغربيين اليوم أن الموارد في الكون شحيحة ، وحقيقة الأمر أن نعم الله كثيرة ، ولكن الانحراف عن حكم الله يحول النعمة إلي نقمة ، والهدى إلي فتنة ،تعم فيها العداوة والبغضاء ، ولاتطفأ نار حرب حتي توقد أخرى.
                                يقول تعالي: وقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ولَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وكُفْراً وأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً واللَّهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ (64) ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا واتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ولأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) ولَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) وهكذا كان تاريخ أهل الكتاب يدور بين التفريط في حق الله ، والغلو في الدين ، فضلوا الطريق وأضلوا العباد .
                                ونقضوا ميثاق البر والتقوى فحقت عليهم اللعنة علي لسان أنبيائهم داود وعيسي ابن مريم لما فعلوه من :
                                1- عصيان وعدوان .
                                2- لم يتناهوا عن المنكر الذى استشرى فعله .
                                3- تولي الكافرين من دون المؤمنين ، ولو كانوا مؤمنين ماتخذوا أعداء الله أولياء.

                                ويقول تعالي: لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)


                                موضوع السورة

                                تبدأ السورة بتحديد ميثاق البر والتقوى وهو عقد اتفاق على إقامة مجتمع يسوده السلام والطهارة، ويتعاون على البر والتقوى ويتناهى عن الإثم والعدوان.

                                العقد والميثاق

                                يقول تعالي :( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
                                " والعقد هو وصل الشئ بالشئ علي سبيل الاستيثاق والإحكام ، والعهد إلزام ، والعقد التزام علي سبيل الإحكام . ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالي بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله ، وكان من جملة أحكامه أنه يجب علي جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالي في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه ، فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان .... يعني ياأيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله ، أوفوا بتلك العقود ."[8]
                                "واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلا أنها محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة علي خلق الله ، فقوله :كونوا قوامين لله ،إشارة إلي النوع الأول وهو التعظيم لأمر الله، ومعني القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل مايلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية . وقوله:شهداء بالقسط، إشارة إلي الشفقة علي خلق الله ، يقول لاتحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك ، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك .
                                ثم قال تعالي: ولايجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا ، أى لا يحملنكم بغض قوم علي أن لاتعدلوا ، وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم ، والآية عامة ،والمعني : لا يحملنكم بغض قوم علي أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم ، بل اعدلوا فيهم وإن أساءوا إليكم ، وأحسنوا إليهم وإن بالغوا في إيحاشكم ، فهذا خطاب عام ، ومعناه أمر الله تعالي جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا علي سبيل العدل والإنصاف ، وترك الميل والظلم والاعتساف
                                ثم قال تعالي:اعدلوا هو أقرب للتقوى ، فنهاهم أولا عن أن يحملهم البغضاء علي ترك العدل ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا ، ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله:هو أقرب للتقوى ،... وفيه تنبيه علي وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله تعالي، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.."[9]


                                تحقيق السلام والرخاء

                                أول عقد يبينه الله في مطلع السورة هو عقد الأمان . فالله يهدى بكتابه من اتبع رضوانه سبل السلام ، ومن
                                هنا يربي القرآن الإنسان علي مراعاة الحرمات ، في المكان والزمان ، في قلب الأمة المسلمة ومعقد قبلتها ، في البيت الحرام .فالبيت حرم ، والأشهر الحرم ، فلا يجوز له الصيد وهو محرم ، ولا يحل له الهدى والقلائد حتي تبلغ محلها ، وأن يراعي توفير أقصي حد من الأمان للقاصدين إلي الحج يبتغون فضلا من الله ورضوانا .
                                إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ، كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم ، منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى ، وأن يروعها العدوان . إنه السلام المطلق يرفرف علي هذا البيت ، استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف علي الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشرى حلاوته وطمأنينته وأمنه ، ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها علي مدار العام ، وفي كل مكان ."[10]
                                يقول تعالي : جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ والشَّهْرَ الحَرَامَ والْهَدْيَ والْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ وأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ومَا تَكْتُمُونَ (99)
                                وتضيق الحياة والظلم والعدوان قرين الشرك والجاهلية . والحياة الطيبة تتحقق بالإيمان والخضوع لحكم الله.
                                يقول تعالي: ولَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
                                " واعلم أنه تعالي لما بالغ في ذم أهل الكتاب وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا ، أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين :
                                1- رفع العقاب.
                                2- إيصال الثواب .
                                .. واعلم أنه تعالي لما بين في الآية الأولي أنهم لو أقاموا حكم الله لفازوا بسعادات الآخرة ، بين في هذه الآية أيضا أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها ....
                                .. ثم قال تعالي: منهم أمة مقتصدة، معني الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير ، وأصله القصد ، وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصدا له علي الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب ، أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيرا ، تارة يذهب يمينا وأخرى يسارا ، فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدى إلي الغرض . ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان :
                                1- أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام من اليهود والنجاشي من النصارى . فهم علي القصد من دينهم ، وعلي المنهج المستقيم منه . ولم يميلوا إلي طرفي الإفراط والتفريط.
                                2- المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ، ولايكون فيهم عناد شديد ولاغلظة كاملة ... وكثير منهم ماأسوأ عملهم ، فمنهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا ينجع فيهم القول ."[11]
                                والخلاصة أنه في ظل حكم الله وطاعته تقوم الحضارة الصالحة علي أسس العمل الصالح إعمارا واستمتاعا. وفي ظله يتحقق الإنتاج الرشيد بتحريم أكل السحت والإثم والعدوان والإفساد في الأرض ، ويتحقق الإشباع الرشيد بالطيبات من الرزق وبالمحصنات من النساء . وبإقامة الحدود ومنع الظلم والعدوان . فيسود الدنيا الرخاء ، وينعم الناس بالأمن .
                                حق التعاون علي البر والتقوى

                                نلحظ اليوم أن أى حكومة أو خطة لا يتيسر لها النجاح مالم يكن هناك تجاوب من الأمة معها . فإحساس الرأى العام بالانتماء والمسؤولية له جانب عظيم من الأهمية في تحقيق أهداف الأمة
                                يتحدد حق الحكام علي الرعية حين يقومون بالحكم بما أنزل الله لتحقيق الأمن والسلام في ربوع البلاد أن تتعاون الرعية علي البر والتقوى ، وأن تلتزم بالسمع والطاعة .
                                يقول تعالي: وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ (2) "يعني جل ثناؤه : وليعن بعضكم ، أيها المؤمنون ، بعضا ، علي البر ، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به . والتقوى ، وهو اتقاء ماأمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه . .. ولايعن بعضكم بعضا علي الإثم : يعني علي ترك ما أمركم الله بفعله ، والعدوان : يقول: ولا علي أن تتجاوزوا ما حد الله لكم في دينكم وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم ... واحذروا الله ، أيها المؤمنون ، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حده فيما حد لكم ، وخالفتم أمره فيما أمركم به ، أو نهيه فيما نهاكم عنه ، فتستوجبوا عقابه ، وتستحقوا أليم عذابه . ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره : إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من خلقه ، لأنها نار لا يطفأ حرها ، ولا يخمد جمرها ، ولا يسكن لهبها ، نعوذ بالله منها من عمل يقربنا منها "[12]

                                حق السمع والطاعة
                                يقول تعالي : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ، واتقوا الله ، إن الله عليم بذات الصدور
                                فبينما قال اليهود لموسي عليه السلام سمعنا وعصينا ، وعصوه حين أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة ، فإن سيمات المسلمين تتضح في قولهم سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
                                اعلم أنه تعالي لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد ، وذلك من وجهين :
                                1- كثرة نعمة الله عليهم ... ومعلوم أن كثرة النعم توجب علي المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه ..ولم يقل نعم الله عليكم ، لأنه ليس المقصود منه التأمل في أعداد نعم الله ، بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنس جنس لايقدر غير الله عليه ، فمن الذى يقدر علي إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات ، والإيصال إلي جميع الخيرات في الدنيا والآخر، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله ... فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات ....
                                2- السبب الثاني من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف الله تعالي: هو الميثاق الذى أوثقهم به ... ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق ... فالله يعلم بذلك وكفي به مجازيا ..

                                واجب إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
                                تتواكب الطيبات من الحلال مع أمن المجتمع وسلامه، ويتواكب مع الحرام العدوان وفقدان الأمان، ومن ثم تنبه السورة إلى وجود صلة قوية بين طهارة المطعم والمشرب والنكاح والجسم والروح، وسلوك الإنسان اجتماعيا، فإن كان مأكل الإنسان من الحلال الطيب تحقق السلام والبر، وإن حرص على الطهارة بنكاح المحصنات العفيفات صلحت الحياة وطابت، وإذا حرص على طهارة الجسم والروح بالوضوء والصلاة انتهى عن الفحشاء والمنكر والبغى. وإن تناول الخبائث وأكل السحت، ظهرت العداوة والبغضاء. فالخمر والقمار يوقع العداوة والبغضاء، ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وكذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والسفاح واتخاذ الأخدان يدمر الحياة ويشقيها، وإذا حرم الإنسان من الوضوء والصلاة أسنت النفس وقست القلوب. ويحقق الإسلام هذا الواقع بصوت الضمير العام بالتقوى وسوط السلطان القائم على الزجر والردع.
                                فعند تأسيس قواعد الأمن والسلام ، يؤسس الله تعالي قواعد الطهارة والطيبات ، طهارة الظاهر في أمور الطعام والشراب والزواج والنكاح ، وطهارة الباطن في نية العبادة لله في كل طعام وشراب ، وتحريم ما أهل به لغير الله ،وماذبح للأوثان ، وما نجم عن الميسر كالاستقسام بالأزلام .وطهارة الظاهر والباطن في الوضوء والاغتسال ، فإن لم يتيسر الماء فالتيمم بالصعيد الطيب .
                                يقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (87) وكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً واتَّقُوا اللَّهَ الَذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
                                "روى أنه صلي الله عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه في بيت عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير ، فعزموا علي أن يرفضوا الدنيا ويحرموا علي أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل ، وأن لايناموا علي الفرش ، ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض .
                                عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلي الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا : أين نحن من النبي وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا ، وقال آخر : وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا .. أما والله إني لأ***كم لله وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ."[13]
                                وهنا يشجب الرهبانية وتحريم الطيبات ، وفي نفس الوقت يبيح تعالي الصيد ماعدا صيد البر للمحرم ، وفي شجب تحريم مالم ينزل الله به سلطانا من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام ، حيث التحريم عدوان علي سلطان الله .
                                والخبائث تفسد النفس وتهدم المجتمع، وتهدد السلام والأمن الاجتماعى. وفى مطلع السورة ذكر الله الحلال من الأنعام، فحرم الميتة والدم ولحم الخنزير فى الجانب الحسى، وحرم ما ذبح لغير الله فى الجانب المعنوى. ثم ذكر الحلال في النكاح من المسلمات ومن أهل الكتاب، وفى نهاية السورة ذكر الحلال من صيد البر والبحر وتحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وبين ما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء فى صفوف المؤمنين والصد عن ذكر الله. كما حرم صيد البر للمحرم والهدى والقلائد، التى ما أنزل الله بها من سلطان.
                                يقول تعالي : قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ والطَّيِّبُ ولَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
                                وفي مطلع السورة كان البيان القرآني بالحل المطلق للطيبات التي لم يحرمها الله . وفي آخر السورة النهي المطلق عن تحريم أى من هذه الطيبات التي أحلها الله.
                                وبينما كان البدء نهي عن حل شعائر الله والشهر الحرام والهدى والقلائد ولا آمين البيت الحرام ، كان الختام في مشيئة الله أن يجعل البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد .
                                والبدء كان بشارة المؤمنين بكمال النعمة وتمام الإسلام ويأس الكافرين من دين الإسلام ، كان الختام ببشارة أنه لن يضر الضالون المؤمنين إذا اهتدوا .

                                واجب إقامة الحدود

                                الحدود : الحواجز ، والحد: المنع .
                                فالحدود هي العقوبات المقدرة التي تكون الجريمة فيها اعتداء علي حقوق الله تعالي أى حقوق المجتمع ، ويكون فيها انتهاك لحمي الفضيلة ، التي أوجب الشارع الإسلامي حمايتها ...
                                " إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق ، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة علي مقصود الشرع ، و مقصود الشرع من الخلق خمسة : هو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم . فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ، ودفعها مصلحة . وهذه الأصول حفظها واقع في مرتبة الضرورة فهي أقوى المراتب في المصالح . ومثاله قضاء الشارع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلي بدعته ، فإن هذا يفوت علي الخلق دينهم . وقضاؤه بإيجاب القصاص ، إذ به حفظ النفوس . وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف . ,إيجاب حد الزني إذ به حفظ الأنساب . وإيجاب زجر النصاب والسراق إذ به حفظ الأموال التي بها معايش الناس وهم مضطرون إليها . وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل ، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق . ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزني والسرقة وشرب السكر ."[14]
                                عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه كنا في مجلس عند النبي صلي الله عليه وسلم فقال: بايعوني علي أن لاتشركوا بالله شيئا ولاتسرقوا ولاتزنوا ... فمن وفي منكم فأجره علي الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.[15]
                                وحتي يحمي القرآن هذه الحقوق ويضمن احترام الواجبات شرعت العقوبات لمن يتجاوز الحد ، وكلف الحاكم بإقامة هذه الحدود . فشرع القصاص في القتل ، وعقوبة الحرابة وعقوبة السرقة في هذا المقطع ، أما حد الاعتداء علي الأعراض بالزنا أو القذف فأشير إليه في المقطع التالي في كتمان اليهود لحكم الرجم في التوراة وأجل التفصيل إلي مناسبة تتصل بقيم الأخلاق في علاقات المسلمين في سورة النور .وأشير إلي حد الردة في المقطع التالي وربط بمفهوم الولاية لغير الله ، وأشير إلي حد السكر بعده .
                                وحدود الله التي تقيمها الدولة بسلطانها هي الملجأ الأخير لتحيق دولة الطهارة والأمان ، إذا لم تسعف التربية علي رعاية حقوق الله واليوم الآخر في نفس يسول لها الشيطان الإثم والعدوان .
                                ومن هذه الحدود ما يحقق الأمن علي النفس والمال وهي : حد الحرابة وحد السرقة وحد الردة ، ومنها ما يضمن تحقيق الطهارة وهي : حد الزنا وحد الخمر .
                                إن المسلمين حين أقاموا هذه الحدود كونوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمن الإنسان فيها علي دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله . وكانت المساواة قائمة لا فضل لشريف علي وضيع ولا لغني علي فقير ولا قريب علي بعيد ، الكل أمام شرع الله سواء .
                                ويوم أن فرطت الأمة في حدود الله ، أصبح الطعن في الدين من الملحدين ثقافة وفكرا ، وأصبح الإجرام متفشيا ومتزايدا ، وسرق الشريف قبل الفقير فاختلس أموال الدولة وتاجر في ضروراتها ، ولا يمر وقت إلا ونسمع عن اغتصاب وهتك عرض وما خفي كان أعظم ، وأصبح الزنا أمرا عاديا تحت شعار حرية المرأة ومساواتها بالرجل . أما تهديد أمن المجتمع قتلا ونهبا فلا تخلو منه دولة من الدول . كل ذلك نتيجة الجرى وراء حكم الجاهلية باسم المدنية والحضارة ، دون اعتبار لما أصابهم من أمراض مستعصية وأسرة مفككة وتناقص في النسل وضياع للمثل ملأ المجتمع بالمرضي النفسيين والمجانين ، وضياع للصحة والموارد بالسكر والإدمان.
                                والإسلام يعتمد في محاربة الجريمة علي سوط السلطان ، ولكنه في الدرجة الأولي يعتمد علي صوت الضمير . وحدود الله التي تقيمها الدولة بسلطانها هي الملجأ الأخير لتحيق دولة الطهارة والأمان ، إذا لم تسعف التربية علي رعاية حقوق الله واليوم الآخر في نفس يسول لها الشيطان الإثم والعدوان .
                                وقد ذكر بالسورة حدودا وحددت عقوبتها وحدودا أخرى أشارت إليها ، وحددت السنة عقوبتها . وهذه الحدود التي ذكرت هي :

                                1- حد الحرابة :
                                أجمع جمهور الفقهاء علي أن جرائم الحرابة هي سلب الأموال وقتل الأنفس ، فهما جريمتا الحرابة يرتكبونهما مجتمعتين أو منفردتين ، متعاونين علي الإثم والعدوان ...والفرق بين القتل هنا ، والقتل قصاصا أن هذا حد لا يحتاج إلي دعوى ، ولا يقبل العفو . كما أن الفرق بين السلب هنا والسرقة أن السرقة تكون في خفاء ، وهذا يكون جهرا ، وأن السرقة هنالك توجب قطع يد واحدة ، وهذا يوجب قطع الأيدى والأرجل من خلاف .
                                يقول تعالي: إنَّمَا جَزَاءُ الَذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
                                " قال مالك: المحارب الذى يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان . ويظهر الفساد في الأرض
                                وإن لم يقتل أحدا ، إذا ظهر عليه يقتل ، وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي .. [16]
                                قوله تعالي: إلاَّ الَذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) " إن التوبة في أصل معناه الديني تتضمن حقائق ثلاث :
                                1- الندم علي الذنب .
                                2- إنهاؤه وعدم الاستمرار عليه .
                                3- العزم علي ألا يعود إليه.

                                وفسر الفقهاء التوبة بالظاهر المادى ، من غير تعرض للباطن النفسي ، والظاهر المادى يتكون من عنصرين :
                                1- أن يستسلموا ويقدموا الطاعة وهم قادرون علي الاستمرار في إثمهم ، فإنه لا محل للتوبة إلا إذ1كانت قبل القدرة عليهم .
                                2- أن يؤمنوا الناس ويتركوا المكان الذى يباشرون فيه الجريمة .
                                والتوبة تكون في حالين :
                                1- أن يتوبوا قبل أن يرتكبوا أى جريمة غير مجرد الحرابة ، فلم يقتلوا ولم يسلبوا مالا ، ولم يزنوا ، ولم يشربوا خمرا ، أو يقيموا أماكن لها ، بل عادوا إلي الحق قبل أن تسلط عليهم سيوفه . وهؤلاء لاعقوبة، لأنهم قد عدلوا عن الجريمة ولم يتموها ، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شئ.
                                2- أن يتوبوا بعد أن ارتكبوا جرائم ، وهذا فيه تفصيل ، فإن كان ما ارتكبوه يوجب قصاصا إذا ارتكب منفردا من غير حرابة لجرائم القتل وقطع الأطراف ، فإن القصاص لا يسقط إذا طلبه ولي الدم إلا أن يعفوا. وإذا ارتكبوا ما يوجب حدا وهو السرقة ، فالأكثرون علي أن حد السرقة يسقط . ولكن يجب رد المال ، لأن رد المال من حقوق العباد ، والتوبة لا تسقط حقوق العباد ."[17]

                                2- حد السرقة :
                                يقول تعالي:
                                والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصْلَحَ فَإنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
                                وقد ثبت حد السرقة بالكتاب والسنة والإجماع .
                                ويشترط في إجراء حد السرقة :
                                1- النصاب لقوله صلي الله عليه وسلم :( تقطع يد السارق في ربع دينار وصاعدا)
                                2- الحرز : وهو المكان الذى يحفظ فيه فالقطع فيه بعد الإخراج ، أو الحافظ الذى يكون عند ماله والقطع فيه بمجرد الأخذ.
                                3- المكلف : وهو العاقل البالغ .لقوله صلي الله عليه وسلم :( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتي يستيقظ وعن الصبي حتي يشب وعن المعتوه حتي يعقل .)[18]
                                ولا يكون قطع إلا فيما يتفق الفقهاء علي وجوب القطع فيه صيانة للناس من التشويه ما أمكن ، وللبعد عن شبهة اختلاف المذاهب ، ولكي يكون مستحقا للقطع استحقاقا لا مجال للريب فيه قط ، ولو كان خلاف في موضوع السرقة - ولو بقول مرجوح – لا نرى وجوب القطع ، لأنه إذا كان عدم القطع قد وسعه صاحب هذا الرأى ، فإنه يسعنا ماوسعه .
                                ولو أننا أحصينا من يستحق القطع في أمر اتفق عليه الفقهاء ، لوجدنا يدا واحدة تقطع في عشرة آلاف يد سارقة ، أو آخذة للمال بغير حق .
                                وإننا لو أحصينا السرقات التي يقتل في سببها الأبرياء ، لوجدنا النسبة بين السارقين واحدا في كل مائة . فهل يشفق القانونيون والاجتماعيون علي يد خائنة في عشرة آلاف من المغتصبين والسارقين ، ولايشفقون علي الأبرياء الذين تغتال نفوسهم من السارقين في سبيل سرقتهم؟ إن هذا منطق غريب ، ولكن الذى أدى إليه أن العقول شاه إدراكها بالمنطق الأوروبي ، فبعدت عن منطق الإسلام الصحيح الذى يحمي مكارم الأخلاق .
                                " إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام - علي اختلاف عقائدهم – ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية .
                                و" من تاب من السرقة فندم علي مامضي ، وأقلع في المستأنف ، ، وأصلح أيضا في سائر أعماله ، وارتفع إلي فوق، فإن الله يتوب عليه ، ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالي ، وهو في المشيئة مرجو له الوعد ، وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه....."[19]

                                3- حد الزنا :
                                هذا الحد اكتفي فيه في هذه السورة ، حين ذم اليهود لتحايلهم علي شرع الله في حد الرجم رعاية لوجهائهم الذين انتشر فيهم هذا الداء ، وترك تفصيل الحد مع حد القذف للحديث المفصل عنه في سورة النور.
                                ثبتت عقوبة الرجم بالأحاديث الصحيحة علي الزاني المحصن أوالزانية المحصنة ، وشروط الإحصان الحرية والبلوغ والعقل والدخول في زواج صحيح .
                                عن البراء بن عازب قال مر علي النبي صلي الله عليه وسلم بيهودى محمما مجلودا فدعاهم صلي الله عليه وسلم فقال : هكذا تجدون حد الزني في كتابكم ؟ قالوا : نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذى أنزل التوراة علي موسي ، أهكذا تجدون حد الزني في كتابكم ؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجده الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . قلنا تعالوا فلنجتمع علي شئ نقيمه ، علي الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم . فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : الله إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم .
                                فأنزل الله تعالي:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ..إلي قوله: إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ) . وتثبت جريمة الزنا بأمرين :
                                · شهادة أربعة رجال عدول برؤية الجاني متلبسا تلبسا كاملا بجريمة الزنا.

                                · الاقرار بشرط أن يكون بالغا عاقلا ، ولا يشترط الإسلام .."[20]

                                4- حد الردة

                                قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
                                الإسلام لا يكره الناس علي الدخول فيه ، ولكنه لا يرضي أن يكون الدين الحق ملعبة في يد
                                البعض يعتنقه اليوم ، ويرجع عنه فيما بعد . وقديما لجأ بعض أهل الديانات الأخرى كاليهود إلي مكيدة خبيثة ، فقد كانوا يأمرون أتباعهم أن يؤمنوا بالنبي صلي الله عليه وسلم في أول النهار والرجوع عنه في آخره ، كي يقول من لا يعلم : مارجع هؤلاء عن الإسلام بعد الدخول فيه إلا لأمر ظهر لهم وخفي علينا .
                                ثم إن كثيرا من الدول المعاصرة المتحضرة تعتبر الخارج عن الجماعة أو الطاعن في نظام الدولة الاجتماعي أو السياسي مستحق لأشد العقاب من نفي أو سجن ، بل وإعدام .وتعتبره خائنا لوطنه .
                                والمرتد عن الإسلام بغير حجة وبينة إنما هو خارج عن الجماعة الإسلامية ، ومعوق عن الإيمان ، وساع بالفساد في الأرض ، ومقوض لوحدة المسلمين ، ومشكك في دينهم الحق ، الذى يقوم عليه نظامهم العقدى والسلوكي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي ... وكل واحد من هذه المفاسد كافية في الحكم عليه بالقتل ، وإراحة المجتمع منه ، فما بالك بهذه كلها .
                                ولو أن رجلا في دولة ، حتي الدولة العلمانية ، خرج علي نظام الدولة ودستورها واستهزأ به ، وانضم إلي أعدائها ووالاهم ، كنتاج طبيعي لحالة الفصام بينه وبين قومه ، مما يهدد الأمن القومي للمجتمع ويكشف عوراته ويفشي أسراره ، فإنه يتهم بالخيانة العظمي ولا يكون له جزاء إلا الموت .فلماذا يرضون لأنفسهم هذا وينكرون علي الإسلام ؟ [21]
                                والمرتد هو من خرج عن الإسلام بعد أن كان فيه ، وسمي مرتدا لأنه ارتد إلي الوراء حيث الضلال بعد الهداية والرشد ، ولا يوجد أحد ذاق بشاشة الإسلام وخرج منه ، وإن خرج فذلك دليل أنه لم يكن من المهتدين بهدى الإسلام.
                                "والإيمان بالقلب والإسلام مظهره ، فمن خرج عن الإيمان ، فلا بد من مظاهر تدل علي ذلك ، ولابد أن تكون هذه المظاهر قاطعة في الدلالة علي الخروج عن الإسلام ، لأن العقوبة التي تترتب عليه شديدة قاسية .
                                ولذلك اتفق العلماء علي أنه لا يفتي بردة مسلم إذا فعل فعلا أو قال قولا يحتمل الكفر ويحتمل غيره . بل روى عن الإمام مالك : أنه قال إذا تكلم المسلم بكلمة تحتمل الكفر من مائة وجه ، وتحتمل الإيمان من وجه فإنه لا يحكم بالكفر . وقد قالوا : إن من المظاهر الدالة علي الكفر قطعا مايأتي:-
                                1- سب النبي صلي الله عليه وسلم ، فإن الله تعالي أمرنا بأن نصلي عليه ونسلم ، فقال: صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
                                2- إنكار المحرمات الثابتة بدليل قطعي لا شبهة فيه ، كمن ينكر تحريم أكل الخنزير وتحريم شرب الخمر التي لا خلاف بين المسلمين في أنها خمر .
                                3- إنكار معلوم من الدين بالضرورة ، كإنكار الصلوات الخمس ، أو إنكار عدد ركعاتها .
                                5- جحود الفرائض التي ثبتت بدليل قطعي كالزكاة والصوم والصلاة والحج .
                                وفي الخلاصة : لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما ، بمعصية أو رأى ، إلا أن يجحد معلوما من الدين بالضرورة أو يعمل عملا لا يحتمل تأويلا إلا الكفر .
                                وحد الردة ثابت بالأحاديث النبوية . قال صلي الله عليه وسلم :
                                ( من بدل دينه فاقتلوه) .[22] وقال:
                                (لايحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة .)[23]
                                وقد ثبت أن أبا بكر الصديق قاتل المرتدين ، وقتل منهم من قتل، وقد وافقه كل الصحابة وعاونوه في القتال ، فكان ذلك إجماعا .
                                " وقد قرر جمهور الفقهاء أن المرتد يستتاب قبل العقوبة ، سواء أكان ذكرا أم كان أنثي . والحجة أنه ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه أمر بالاستتابة ...

                                5 - حد السكر

                                يقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ والْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91).
                                يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
                                * كل شراب أسكر فهو حرام .
                                * من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة
                                * من أشراط الساعة أن يظهر الجهل ، ويقل العلم ، ويظهر الزنا ، وتشرب الخمر ، ويقل الرجال ، ويكثر النساء ، حتي يكون لخمسين امرأة قيمهن رجل واحد .
                                * لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولايشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن .[24]
                                * ماأسكر كثيره فقليله حرام .[25]
                                " في اشتقاق لفظ الخمر وجهان :
                                1- سميت خمرا لأنها خامرت العقل ، أى خالطته فسترته .
                                2- تركت فاختمرت ، أى تغير ريحها .
                                والميسر هو قمارهم في الجزور ، والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر .
                                ولقد أجمع المسلمون علي تحريم شراب الخمر ، وأجمعوا علي وجوب الحد علي شاربها سواء شرب قليلا أم كثيرا .
                                * أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين . قال: وفعله أبو بكر ، ولما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال: ماترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أرى أن تجعلها كأخف الحدود ، قال: فجلد عمر ثمانين .[26]
                                القصاص

                                يقول تعالي: وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
                                من العلماء من يعتبر القصاص من الحدود ، رغم أن القصاص عند جمهور العلماء من حقوق العباد يجوز لولي الدم أن يتنازل عنه ، حيث لا يشترطون في الحد إلا كونه عقوبة مقدرة من الشارع سواء أكانت الجناية تتعلق بحقوق العباد أم بحقوق الله.
                                القصاص في أصل معناه اللغوى : المساواة بإطلاق ومعناه في اصطلاح الفقهاء: المساواة بين الجريمة والعقوبة ، وهو عقوبة مقدرة ثبتت بالقرآن والسنة .
                                وقد بين الله تعالي أن القصاص شريعة النبيين أجمعين ، وهنا في هذه السورة ذكر سبحانه بيان ماجاء في التوراة من أحكام القصاص . " والله تعالي كتب فرضا علي بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه . ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلي الله عليه وسلم وأحكامه. ومضي عليه إجماع الناس . .. وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزز بعضهم علي بعض ، وكون بني النضير علي الضِّعف في الدية من بني قريظة ، أو علي ألا يقاد بينهم. بل يقنع بالدية . ففضحه الله بهذه الآية ، وأعلم أنهم خالفوا كتابهم."[27]
                                فالجزاء من جنس العمل ، وبذلك تتحقق العدالة . ولا يصح أن تكون العقوبة أقل من الجريمة ، لأن ذلك يكون رأفة بالجاني ، والرأفة به ظلم . وبذلك تكون العقوبة رادعة مانعة ، لأن المجرم إذا علم أنه إن قتل يقتل أحجم ،ولا يكون كذلك إذا ظن أنه يفلت بأى وجه من الوجوه . وأى إهمال لحق المجني عليه وأهله يشيع جرائم الثأر والانتقام دون ضابط مما يؤدى إلي الفوضي وانتشار الظلم .
                                " ومن المقررات الشرعية أنه لا يطل دم في الإسلام ، فلا تذهب جريمة قتل من غير عقوبة ، أو بالأحرى من غير أن يقتص من الجاني أو تعوض أسرة المجني عليه . فالدية أمر ثابت مقرر لورثة كل من يقتل ولا يمكن القصاص من القاتل ، إما لعدم توافر شروط القصاص ، وإما لعدم معرفة الجاني . والدية تجب علي الجاني أو عصبته فإن عجزا فبيت المال ... فالدولة مسؤولة عن تقصير آحادها ، ولأنه لا يطل دم في الإسلام يقرر فقه القرآن والسنة أنه لا يصح أن يقال : إن الجناية تقيد ضد مجهول ، أو تحفظ لعدم معرفة الجاني ، فيذهب الدم هدرا ..
                                إن علي قاضي الحسبة أو والي الحسبة أن يتحروا ويبحثوا حتي يصلوا ، وإن عجزوا كانت القسامة ، وهي علي أظهر الأقوال في الفقه الإسلامي : أن يحلف خمسون من أهل القرية التي حدث فيها القتل ، أو أهل الحي الذى كان فيه ، أنهم ماقتلوه ولا يعرفون له قاتلا ، فيحلف كل واحد علي ذلك ، ويشترط أن يكونوا عدولا . وإنه غالبا بعد حلف هذه الأيمان المغلظة أن يعرف القاتل ، فإنه لا يحدث غالبا قتل في قرية أو حي إلا إذا كان القاتل معلوما لبعضهم ... فإن حلف أولئك الذين طلبت إليهم هذه الأيمان ، كان لابد من الدية . إما أن تفرض علي أهل القرية ، وإما أن تفرض علي الدولة في بيت مال المسلمين ، وإن هذا يدل علي ثلاثة أمور:
                                1- التعاون بين المسلمين في إظهار المجرمين ، وحماية الآمنين ، فالتعاون كما هو مطلوب لجلب المنفعة ، هو مطلوب أيضا لدفع المضرة ، وحماية الدماء.
                                2- احترام دم الإنسان سواء أكان مسلما أم غير مسلم ، فإنه لا يذهب دم شخص مستظل براية الإسلام هدرا قط .
                                3- أنه يشير إلي مسئولية الدولة عن الدماء والأمن ، وأنها إن قصرت في حماية الآمنين حتي تعرضوا للقتل كان عليها أن تتعرف وتتحرى وتبحث ، فإن لم يمكن المعرفة لم تلق عنها التبعة ، بل تتحمل الدية كفاء مالها من حقوق ، لأنه لا يقتل إلا بتقصير من الدولة فعليها تبعة التقصير بدفع الدية ، ولو كان المقتول ذميا .

                                الكفارات

                                ونوع آخر من العقوبات فرضها الله علي ارتكاب الحرام ، وهي الكفارات .
                                يقول تعالي :
                                لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
                                قوله تعالي: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ )
                                قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولي أن قوما من الصحابة حرموا علي أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا علي ذلك ، فلما نهاهم الله تعالي عنها قالوا : يارسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية ."[28]
                                قوله تعالي: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89).
                                " ذكر الله عز وجل في الكتاب الخلال الثلاث مخيرا فيها ، وعقب عند عدمها بالصيام . فالخلة الأولي هي الإطعام ، وبدأ بها لأنها كانت الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة فيها علي الخلق ، وعدم شبعههم . ولا خلاف في أن كفارة اليمين علي التخيير . وإنما اختلفوا في الأفضل من خلالها . وعندى أنها تكون بحسب الحال، فإن علمت محتاجا فالإطعام أفضل ، لأنك إذا أعتقت لم ترفع حاجتهم وزدت محتاجا حادى عشر إليهم ، وكذلك الكسوة تليه ، ولما علم الله غلبة الحاجة بدأ بها بالمهم المقدم . ..
                                وأجمعت الأمة علي أكلة اليوم وسطا في كفارة اليمين وشبعا في غيرها ... واتفقوا علي أن الوسط هنا هو المنزلة بين الطرفين ."[29]
                                وفي كفارة الصيد للمحرم يقول تعالي : يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنتُمْ حُرُمٌ ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ومَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95)
                                " اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام ، ووجه النظم أنه تعالي كما قال :لاتحرموا طيبات ماأحل الله لكم ، ثم استثني الخمر والميسر عن ذلك ، فكذلك استثني هذا النوع من الصيد عن المحللات ، وبين دخولهم في المحرمات ....
                                وقد ابتلي الله المسلمين بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتي كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم ، فيقدرون علي أخذها بالأيدى ، وصيدها بالرماح ، وما رأوا مثل ذلك قط ، فنهاهم الله عنها ابتلاء..."[30]
                                " إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم . القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة وبناء السلوك ، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم .
                                والله خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال، وهو ثقيل علي الطبع ، وهو الجزاء بالمثل والإطعام ، والثالث : يوجب إيلام البدن وهو الصوم . وذلك أيضا ثقيل علي الطبع ، والمعني :أنه تعالي أوجب علي قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل علي الطبع حتي يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام ."[31]




                                الشهادة بالقسط
                                يقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ولا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ومَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ (108)
                                فكما كان التنبيه علي ضرورة القيام لله بتنفيذ أحكامه كان التنبيه علي الشهادة بالقسط في أول السورة في قوله تعالي : يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) .
                                و السورة هنا تبين مواصفات الشهادة :
                                * اثنان ذوا عدل منكم ، " ولابد أن تستمر صلاحية الشاهدين والمقر إلي وقت تنفيذ الحد ... والشهادة تشترط الأهلية لأدائها إلي وقت التنفيذ، فإن فسقوا أو حدوا في قذف قبل التنفيذ بطلت شهادتهم ."[32]
                                *ولو حدث شك يقسمان بالله علي عدالة شهادتها وبراءتهما من الإثم بوصفين :
                                1- لايشتريا بها ثمنا ولو كان ذا قربي. 2- ولايكتما الشهادة .
                                *والذى يشكك في هذه الشهادة بغير وجه حق فهو من المعتدين .
                                *وينبه الله تعالي أن في هذه التحوطات ضماناً :
                                1- لإيتاء الشهادة علي وجهها 2- خوف الشاهدين من أن ترد شهادتهما .
                                " وقد وردت كلمة شهيد في كتاب الله تعالي بأنواع مختلفة :
                                *منها قوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، معناه أحضروا.
                                * ومنها قوله : شهد الله أنه لاإله إلا هو ، قضي.
                                * قوله تعالي: والملائكة يشهدون ،يعني يقرون .
                                * ومنها قوله : شهد شاهد من أهلها ، بمعني حكم .
                                * ومنها قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات إنه لمن الصادقين ، بمعني حلف .
                                تلك شهادات الناس في محاكمات الدنيا وما فيها من محاذير، أما الشهادة في محاكمة الآخرة فلا يملك أحد إلا أن يقول إلا الحق .
                                ختمت السورة بشهادة عيسى على النصارى الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، تبرأ أن يقول ما ليس له بحق، وأنه ما قال إلا ما أمر الله بتوحيده وتنزيهه عن الشريك، وأن مسئولية شهادته تنحصر حينما كان معهم، وأنه حين توفى كان الله تعالى رقيباً عليهم وهوعلى كل شىء شهيد.

                                يقول تعالي: وإذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

                                المناسبة
                                فى سورة النساء يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)وفي سورة المائدة يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) . قال الإمام أبو حيان فى نهره: إن التى جاءت فى سورة النساء جاءت فى معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدأ فيها بالقسط الذى هو العدل والسواء، من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة.
                                وهنا- فى سورة المائدة- جاءت فى معرض ترك العداوات والإحن، فبدئ فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين، ثم أردفت بالشهادة بالعدل.
                                فالتى فى معرض المحبة والمحاباة بدئ فيها بما هو آكد وهو القسط، والتى فى معرض العداوة والشنآن بدئ فيها بالقيام لله.
                                فناسب كل معرض ما جىء به إليها" ([33]).
                                يقول الألوسى:
                                (ووجه اعتلاقها بسورة النساء- على ما ذكره الجلال السيوطى عليه الرحمة، أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة. وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان، والضمنى عقد الوصية والوديعة والكفالة والعارية والإجارة، وغير ذلك الداخل فى عموم قوله تعالى: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ، فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التى فرغ من ذكرها فى السورة التى تمت، وإن كان فى هذه السورة أيضاً عقود، ووجه أيضاً تقديم النساء وتأخير المائدة، بأن أول تلك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، وفيها الخطاب بذلك فى مواضع، وهو أشبه بتنزيل المكى، وأول هذه: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ، وفيها الخطاب بذلك فى مواضع، وهو أشبه بخطاب المدنى. وتقديم العام وشبه المكى أنسب.
                                ثم إن هاتين السورتين فى التلازم والاتحاد نظير البقرة، وآل عمران، فتانك اتحدا فى تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان قى تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة فى صفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة، واشتملت على الأحكام من المبدأ والمنتهى) ([34]).
                                ويقول السيوطى:
                                وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التى بين الناس وهى نوعان: مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصهر. ولهذا افتتحت بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ ثم قال: واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ ، فانظر هذه المناسبة العجيبة فى الافتتاح وبراعة الاستهلال حين تضمنت الآية المفتتح بها ما أكثر السورة فى أحكامه من نكاح النساء ومحرماته والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم خلق زوجه ثم بث منهما رجالا كثيرا ونساء فى غاية الكثرة. وأما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل وما أخذ على الأمة وبها ثم الدين. فهى سورة التكميل لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذى هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذى هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذى هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذى هو من تمام عبادة الله تعالى. ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد (ص) كالوضوء والتيمم والحكم بالقرآن على كل دين. وبهذا أكثر من لفظ الإكمال والتمام. وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملاً ([35]).
                                وكما هدفت سورة النساء إلى وضع التنظيمات التى تكفل تحقيق مقاصد الشريعة فى حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، فإن سورة المائدة شرعت العقوبات التى تحمى بها هذه المقاصد.



                                [1] صحيح الجامع الصغيرج ا، ص 148.

                                [2] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 28، ص 390.

                                [3] رواه البخارى ومسلم، صحيح الجامع الصغير، ج ا، ص 688.

                                [4] ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج 28 ص 372، 382، 386، 387.

                                [5]الطبرى ، جامع البيان ج4 ص606-609

                                [6] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ج2 ص 588 دار الفكر ، طبعة ثانية 1389هـ

                                [7] الطبرى ، جامع البيان ج4 ص 612 -613

                                [8] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص966

                                [9] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص142، 143

                                [10] سيد قطب ، في ظلال القرآن ج2 ص 868

                                [11] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص 39-41

                                [12] الطبرى ، جامع البيان ج4 ص 405-407

                                [13] البخارى ج3ص 237

                                [14] الغزالي ، المستصفي ج1دار الكتب العلمية سنه 1322 ص 287 ,288

                                [15] صحيح البخارى ج8 ص198

                                [16] ابن العربي ، أحكام القرآن ج1 ص596-598

                                [17] أبوزهرة ، نظرة إلي العقوبة في الإسلام ص 217، 218

                                [18]الألباني ، صحيح الجامع الصغير ج 1 ص 659 رواه الترمذى

                                [19] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج4 ص 439

                                [20] أبو شهبة ، الحدود في الإسلام ص 143 الي 145

                                [21] محمد محمد أبو شهبة ، الحدود في الإسلام ص322-325

                                [22] رواه البخارى وأبوداود ، صحيح الجامع الصغير للسيوطي ، تحقيق الألباني ج2 ص1054

                                [23] متفق عليه ، نفس المصدر ج2 ص 1265

                                [24] البخارى ج7 ص 136،135

                                [25] الألباني ، صحيح سنن النسائي ج3 ص1137

                                [26]صحيح مسلم ج2 ص 56

                                [27] ابن عطية ، المحرر الوجيز ج 4 ص 461-462

                                [28] الرازى ، مفاتيح الغيب ج11 ص 59-62

                                [29] ابن العربي ، أحكام القرآن ج2 ص 649-650

                                [30] الرازى ، مفاتيح الغيب ج12 ص 72،71

                                [31] الرازى ، مفاتيح الغيب ، ج12 ص 73-80

                                [32] أبو زهرة نظرة إلي العقوبة في الإسلام ، ص242

                                [33] البقاعى، نظم الدرر فى تناسب الآى والسور ج 2 ص 407.

                                [34] الألوسى، ج3 ص 221، 222.

                                [35] السيوطى، الأتقان فى علوم القرآن ج 3 ص 332، 333 المكتبة العصرية 988 1 م.

                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 14 أكت, 2024, 04:59 ص
                                ردود 0
                                29 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 3 أكت, 2024, 11:34 م
                                رد 1
                                19 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 02:37 م
                                رد 1
                                26 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 12:04 م
                                ردود 0
                                19 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة مُسلِمَة, 5 يون, 2024, 04:11 ص
                                ردود 0
                                63 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة مُسلِمَة
                                بواسطة مُسلِمَة
                                يعمل...