تفسير من أنوار القرآن الكريم

تقليص

عن الكاتب

تقليص

يوسف كمال محمد مسلم اكتشف المزيد حول يوسف كمال محمد
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 14 (0 أعضاء و 14 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • يوسف كمال محمد
    1- عضو جديد
    • 2 فبر, 2014
    • 66
    • عمل حر
    • مسلم

    #16
    وتصديقا للرب.. انفتح له ذلك الباب ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، رقص الفكرمنه طرباً، وشكرا لله استغراباً وعجباً، وشاط لعظمة ذلك جنانه، فرسخ من غير مرية إيمانه، ورأى أن المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف بديعة الرصف عالية الأمر عظيمة القدر، مباعدة لمعانى الكلام على أنها منها أخذت. فسبحان من أنزله وأحكمه وفصله وغطاه وجلاه وبينه غاية البيان وأخفاه.
    وبذلك أيضاً يوقف على الحق من معانى آيات حار فيها المفسرون لتضييع هذا الباب من غيرارتياب، فينكشف لك غامض معناه.
    وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأن كل سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى أدعى فى تلك السورة، استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذى سيقت له فى السورة السابقة، ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم،والإيجاز والتطويل، مع أنه لا يخالف شىء من ذلك أصل المعنى الذى تكونت به القصة، وعلى قدر غموض تلك المناسبات يكون وضوحها بعد انكشافها.
    ولا تظن أيها الناظر لكتابى هذا أن المناسبات كانت كذلك قبل الكشف لقناعها والرفع لمستورها، فرب آية أقمت فى تأملها شهورا.. ومن أراد تصديق ذلك فليتأمل شيئا من الآيات قبل أن ينظر ما قلته، ثم لينظره يظهر له مقدار ما تعبت، وما حصل لى من قبل الله من العون،([1]).

    إعجاز القرآن
    وهنا تتجلي معجزة أخرى من معجزات القرآن الكريم أنه نزل منجما حسب النوازل ، ثم كان ترتيب سور القرآن علي ماهو عليه في مصحفنا توقيفا عن النبي صلي الله عليه وسلم ، في العرض الأخير . وقد ذكر أبو بكر الأنبارى في كتاب الردّ:" أن الله تعالي أنزل القرآن جملة إلي سماء الدنيا ، ثم فرق علي النبي صلي الله عليه وسلم في عشرين سنة, وكانت السورة تنزل في أمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر يسأل ، ويوقف جبريل رسول الله صلي الله عليه وسلم علي موضع السورة والآية ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، فكله عن محمد خاتم النبيين ، عليه السلام عن رب العالمين، فمن أخّر سورة مقدمة أو قدّم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات ، وغيّر الحروف والكلمات ، ولاحجة علي أهل الحق في تقديم البقرة علي الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: " ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن "


    [1] البقاعى: نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور، ج1 ص 5- 9 دار الكتب العلمية 1995م.

    تعليق

    • يوسف كمال محمد
      1- عضو جديد
      • 2 فبر, 2014
      • 66
      • عمل حر
      • مسلم

      #17
      . وكان جبريل عليه السلام يقفه علي مكان الآيات ." [1]
      يقول القرطبي:" قال أبو بكر: فمن عمل علي ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور علي منازلها بمكة والمدينة ، لم يدر أين تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها ، ويضطر إلي تأخير الآية في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلي رأس الأربعين ، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ، ورد علي محمد صلي الله عليه وسلم ماحكاه عن ربه تعالي." [2]
      يقول الدكتور عبد الله دراز: " أما العرب الذين تحداهم القرآن بسورة منه فلقد علمت لو أنهم وجدوا في نظم سورة منها مطمعا لطامع، أو مغمزا لغامز ، لكان لهم معه شأن غير شأنهم ، وهم هم .
      وأما البلغاء من بعدهم فما زلنا نسمعهم يضربون الأمثال في جودة السبك وإحكام السرد بهذا القرآن حيث ينتقل من فن إلي فن.
      وأما أنت فأقبل بنفسك علي تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأى يد وضع بنيانه ، وعلي أى عين صنع نظامه؟ حتي كان كما وصفه الله﴿ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الزمر آية 28
      اعمد إلي سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معني واحد ، وما أكثرها في القرآن ، فهي جمهرته - وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة ، ثم ارجع البصر كرتين : كيف بدئت ؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت ؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت ؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطأ أولاها لأخراها ؟..
      وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ماتعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتي، ولسوف تحسب أن السبع الطوال من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة ، حتي يحدثك التاريخ أنها كلها أوجلها قد نزلت نجوما . أو لتقولن إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق، فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائما علي قواعده فلما أريد نقله بصورته إلي غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضا ، فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وكذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة .
      أجل ، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة ، يحسبها الجاهل أضغاثا من المثاني ، حشيت حشوا ، وأوزاعا من المباني جمعت عفوا ، فإذا هي - لو تدبرت - بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية علي أساس وأصول ، وأقيم علي كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة


      [1] تفسير القرطبي ج 1 ص 52

      [2] تفسير القرطبي ج 1 ص 54

      تعليق

      • يوسف كمال محمد
        1- عضو جديد
        • 2 فبر, 2014
        • 66
        • عمل حر
        • مسلم

        #18
        منها فروع تقصر أو تطول ، فلا نزال نتنقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة . لاتحس بشئ من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولابشئ من الانفصال في الخروج من طريق إلي طريق ، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة ، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحام ؛ كل ذلك بغير تكلف ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها ، وإنما هو حسن السياقة ، ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه . يريك المنفصل متصلا ، والمختلف مؤتلفا ...
        أى تدبير محكم، وأى تقدير مبرم ، وأى علم محيط لايضل ولاينسي ، ولايتردد ولايتمكث ، كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها ، وهداها في إبان تشتيتها إلي ماقدره لها، حتي صيغ منها ذلك العقد النظيم ، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟ ...
        أليس ذلك وحده آية بينة علي أن هذ النظم القرآني ليس من وضع بشر، وإنما هو من صنع العليم الخبير ؟
        فتالله لو أن السورة رتبت بعد تمام نزولها ، لكان جمع اشتاتها علي هذه الصورة معجزة فكيف وكل نجم منها - كسائر النجوم في سائر السور - كان يوضع في رتبته من فور نزوله ، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله . وهكذا كان مالم ينزل منها معروف الرتبة محدد الموقع قبل أن ينزل ...
        لعمرى لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات ، وفي أساليب ترتيبه معجزات ، وفي نبراته الصادقة معجزات ، وفي تشريعاته الخالدة معجزات ، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ، لعمرى إنه في ترتيب آيِهِ علي هذا الوجه لهو معجزة المعجزات ."[1]
        وهنا تظهر معجزة أخري من معجزات القرآن حين نتدبر القرآن ممثلة في الوحدة الموضوعية للسورة رغم تباين أوقات النزول .

        وصدق الله العظيم : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء : 82]




        [1]د. محمد عبد الله دراز ، النبأ العظيم ، مطابع السعادة 1389هـ ص148-209

        تعليق

        • يوسف كمال محمد
          1- عضو جديد
          • 2 فبر, 2014
          • 66
          • عمل حر
          • مسلم

          #19
          منهج البحث
          سبق أن بينا أنه في عصرنا هذا نجد أن منهج المعرفة ومنطلق الرؤى الفكرية ينجذب بشدة إلي مصادر من المعرفة تحجبها عن القرآن ، منها :
          1- الغزو الفكرى الغربي الذى يرفض الغيب ويعلي من شأن العقل، وغلبة عقلية الهزيمة التي تعتبر الغرب مصدرا صحيحا للمعرفة ، ولاتستطيع أن تفرق بين إنجازات التقدم في المجال المادى وآفات التخلف في المجال النفسي والروحي .
          2- عقلية التقليد التي تعودت أن تعرف القرآن همهمات تتلي في الميتم والمفرح ، والتوسل والتبرك. ولايتحرك تعاملنا مع القرآن إلا من متطلبات الواقع . أى أننا نبحث هما من هموم العصر ، أو يشدنا إنجاز من إنجازاته ، أو يقلقنا آفة من آفاته . ثم نحمل القرآن عليه أو نعتبره في أحسن الأحوال مرجعا نستفتيه عند الحاجة . أما التلقي منه لإخراج خير أمة وتحقيق أعظم رسالة ،فهذا غائب تماما .
          3- أننا نتعامل مع القرآن آية آية بشكل مجزءا لايتصل بالكل في السورة . وهذا يفقدنا الكثير من الإدراك . فعندما تأخذ جزء من كل تجد نفسك بعيدا عن إدراك الحكمة والجمال والعكس حين ترى الصورة متكاملة منسجمة .
          كما أن القرآن الكريم يوجه إشعاعاته النورانية لكل عصر من زوايا مختلفة ، تسقط هدايته علي كل مكان وكل زمان ، حسب اختلاف موقعه وتوالي تتابعه . وعلم المناسبة يسعفنا كثيرا في إدراك هذا البعد والتفاعل معه في دقة وصواب ، دون جمود أو تفلت .
          وحتي نرفع عن العقل المسلم في تدبره للقرآن كل هذا الركام من ضغوط الواقع والغزو الفكرى والتقليد ، نحتاج إلي إدراك لهذه المعوقات ، ونحتاج لذلك إلي منطلقات جديدة في الفهم ، تدرك ابتداء خصائص المنهج القرآني وموضوعاته وأهدافه .
          ومن الناس من يعترض علي هذا المنحي في تدبر القرآن ، فيرى أن البحث عن موضوع السورة يؤدى إلي تباين الأقوال وتشتتها ، لاعتمادها علي منهج غير منضبط . ويدللون علي ذلك بمحاولات معاصرة لتقديم الموضوع ، تباينت فيها رؤى الدارسين ، ويحتجون بذلك أنه لو كانت للرؤيا الموضوعية أصل لكان هناك حد أدني من اللقاء بينهم .[1]
          وحتي نبين خطأ هذا الرأى، نؤكد ضرورة اتباع منهج محدد للبحث عن موضوعات السور يعتمد علي المسلمات الآتية :-
          1-لما كان من المستحيل بيان حقائق الغيب كأسماء الله وتفاصيل الآخرة ،لأن ذلك من المتشابه الذى لايعلم تأويله إلا الله ، ومن ثم نأخذها في موضوع هذه الدراسة كما هي دون تأويل أو تشبيه ، ولأنها لحمة القرآن وسداه يصعب تتبع الموضوع عن طريق تدبرها .



          [1] د. رجب بيومي ، التفسير الموضوعي للقرآن ، مجلة التضامن الإسلامي ص 30-38 .

          تعليق

          • يوسف كمال محمد
            1- عضو جديد
            • 2 فبر, 2014
            • 66
            • عمل حر
            • مسلم

            #20
            -كذلك فإن الموضوعات التفصيلية كالزواج والطلاق والصلاة والزكاة والتقوى والإحسان لاتنفرد سورة بكل منها ، شأن الكتب المتخصصة ، وإنما تتوزع علي سور القرآن في شكل يتكامل علي مستوى القرآن كله لا علي مستوى سورة واحدة ، لحكمة أرادها الله في أن تعبركل سورة عن القرآن كله ، فتصبح زادا متكاملا في كل يوم ، وصلة تصل المؤمن بربه وآخرته .
            ومن ثم فإن تتبع هذه الموضوعات كمؤشر لوحدة السورة لايقودونا إلي فهم موضوع السورة . وإن كنا نوقن أن كل سورة لها خصائصها الذاتية أيضا في علوم الغيب ومناهج التربية ، ولكن إدراك ذلك عميق عمق التعرف علي حقائق الغيب وجوانب النفس .
            3- من الممكن أن نعرف موضوع السورة بتتبع الأمر و النهي في السورة ، فنجد في سورة النور يظهر موضوع العفة في سياق التوجيهات علي سبيل المثال .
            4- ويقدم لنا تكرار اللفظ الواح في السورة مؤشرا آخر لتحديد موضوعها .. كما نجد ذلك في تكرار لفظي الولاء والبراء في سورتي الأنفال والتوبة .
            5- كما يرشد العقل في التعرف علي وموضوع السور ة تتبع الصلة بين السورة والتي قبلها والتي بعدها ، وموقعها في مجموعة السور التي تتجاور معها .
            وباستخدام هذه المؤ شرات تتحقق دقة كبير ة في معرفة الموضوع ، وتتسع دار ة الاتفاق بين الباحثين . وبدون هذه المؤشرات تتباين الآر اء وتتعدد التفسيرات .
            6- وللتأكد من صحة معرفة الموضوع يقارن تتابع شرح الموضوع مع تتابع الآيات في السورة وفق العرض الأخير بالمصحف . فإذا تباين الشرح مع تتابع الآيات يعاد النظر مرة أخرى في الكشف عن الموضوع .
            إن نطاق هذا المبحث محدد في تحديد موضوع السورة بمعرفة الصلة والروابط العضوية بين الآيات في السورة ، وبين السور بعضها البعض ، لذلك فإن الموضوع لايتعرض بشكل أصلي للمباحث اللغوية ولا للأحكام الشرعية ولا للحقائق التاريخية . فهو ليس دراسة في الفقه ، وليس عرضا لإعجاز القرآن في هذه المناحي. وهذا الميدان الجهد فيه كبير ، والمراجع متوفرة ، والخلاف فيه قليل ، ولكنه لايتصل بشكل مباشر بموضوع المناسبة .
            ولاننكر أن العصر يحتل فيه العقل مكانا هاما في الاقتناع والمبادرة . ومن ثم كان خطاب العقل ضروريا في الدعوة إلي الله ، خصوصا في العالم الغربي ، وهذا ما أكده القرآن الكريم بدعوته إلي التفكر بعقلانية في خلق السماوات والأرض ، وفي تدبر انسجام ووحدة آيات وسور القرآن الكريم ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . وعلم المناسبة يقدم الكثير في هذا المجال ، ويقدم معه الزاد الروحي الذى يشقي الغرب بفقدانه ولايهتدى إلي طريق يشفيه من شقوته وخسرانه .
            ونلاحظ أهمية علم المناسبة في ترجمة القرآن الكريم إل اللغات المختلفة . فالكلمة الواحدة لها مرادفات عدة ، تتلاءم كل واحدة منها مع مناسبة خاصة بها . واكتشاف موضوع السورة يساعد المترجم كثيرا في التعبير عن مراميها ، بعكس ما لوتعامل مع كل آية وحدها بعيدة عن صلتها بغيرها في السورة . وبلاشك تعجز ترجمة القرآن إلي لغة أخرى عن نقل إعجازه البياني واللغوى الذى يؤثر في جوانب النفس ، فلا أقل من أن يبقي إعجازه الموضوعي والعقلي ، وعلم المناسبة يقدم لنا الكثير في هذا الخصوص ، ويساعدنا في اقتراب الترجمة ما أمكن من فهم القرآن ، وذلك مانفتقده كثيرا في الترجمات المعاصرة .
            وننبه أنه ليس الهدف من البحث مايسمي مجازا بالتفسير الموضوعي ، وهو جمع توجيهات القرآن في موضوع بعينه كالعدل والحلم أو الزواج والطلاق أو الزكاة والربا، بجمع الآيات الواردة فيها علي صعيد واحد ، ثم دراستها وتبويبها . فهذا خارج نطاق البحث . وكما يحدث عند عدم وجود منهجية في إدراك موضوع السورة من اضطراب البحث في علم المناسبة ، فإنه يحدث أيضا حين يحشد باحث آيات كثيرة في موضوع صغير ، وعلم الله أن آية واحدة تقيم نظاما متكاملا .
            وحتي لايساء الفهم ، فإننا هنا نبدأ من أمر دعا إليه علماء المسلمين قديما وحديثا بإلحاح ، وهو علم المناسبة . فلسنا بذلك ابتداء نبحث في مجال من اجتهادنا وإنما عن أمر أقره وباركه علماء المسلمين .
            كما أننا لانتعرض للتفسير مباشرة ، فعند شرح الآية ننقل حرفيا من عمد المفسرين مافسروا به القرآن الكريم ، فإنه من العته أن نترك جانبا جهد قرون طوال من علماء أفذاذ في الدرس والتحصيل ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن علم التفسير يحتاج إلي مؤهلات عالية من معرفة أسباب النزول وعلوم اللغة وأحكام الشريعة ، لاندعيها لأنفسنا .
            وأذكر الباحثين أنه لم يكن غريبا أن نشاهد في كتب الفقه والتفسير اتفاق النقول حتي في اللفظ والأسلوب، دون الالتزام بالمرجعية في شكلها الحديث ، ولم تظهر أى حساسيات لأن الهدف الأعظم كان خدمة هذا الدين ورد الكسب العلمي إلي الله . ولكننا التزمنا بمنهج العصر فرددنا كل قول لصاحبه ،يرى ذلك القارئ في هامش البحث حيث يرد كل تفسير لصاحبه ، ومعذرة حيث لم يذكر اسم المفسر قبل النص حرصا علي أن يستمر تتابع الفهم دون توقف .ويمكن ، إن شاء الله ، إن سلم العرض وحاز القبول ، أن يعرض الموضوع بأسلوب واحد مبسط للقارئ العادى .
            وهذا يعني أننا اخترنا من علوم التفسير مايناسب موضوع السورة ومناسبة الأيات ، وابتعدنا عن المناقشات التاريخية والخلافات الفقهية ، لأنها وإن كانت لازمة كزاد للمحققين والمجتهدين ، فهي ليست ضرورية لنا في هذه المرحلة من فتح مغاليق القلوب علي أنوار القرآن الكريم .
            وهذه الدراسة تأخذ هذا الطريق ، بعد عمر طويل من البحث ، وفي مداومةخريف العمر ، وذلك بعد يقين لاشك فيه ، أن الفلاح لن يكون إلا بالتلقي الكامل والطاعة والاتباع للقرآن الكريم . وأولي الخطوات الضرورية أن نترك القرآن وحده يحدد لنا الصراط المستقيم ، فنتلقي من سوره حسب ترتيبها معالم الحق والهدى كما أراد الله ، ونحكم من بعد ذلك علي واقعنا وعصرنا من منطق القرآن وترشيده.
            وكاتب هذا البحث يعرف حدوده وإمكاناته ، ولهذا يعتذر لقارئه ابتداء عن عجزه عن توصيل التأثير البلاغي والبياني إلي القارئ ، وعزاؤه أن القارئ إذا وصل إلي القرآن بعقله ، فإنه لايلبث أن ينفعل بأسلوب القرآن ، ومن أقدر من القرآن علي ذلك .
            وحرصت لذلك ألا يسبق رأيي مقصد السورة وأهدافها ، فأسلمت عقلي لها تصيغه حيث شاءت ، وحرصت ألا يتجاوز انفعالي وصياغتي بعض مايريده القرآن من خطاب العقل ، وحسبي أن أساعد في الوصول إلي مشارف أفق القرآن . أما خطاب القرآن لكل جوانب النفس البشرية ، بكل مايهمها زمانا ومكانا ، فهذا لايطيقه إلا الله تعالي .
            والبحث سيركز علي الكشف عن معجزتين للقرآن الكريم :
            1- معجزة التناسق بين السور ، والتناسق بين موضوع السورة وآياتها .
            2- إسقاط أنوار موضوع السورة علي مشكلات العصر ، حيث تبين معجزة الإسلام في منهج الحياة .
            ولا يتيسر فهم هدق البحث إلا لمن داوم علي قراءة القرآن وبذل الجهد في تدبره .


            تجمعات السور الكبرى
            يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتي ودينهم واحد .[1]
            ويلاحظ أن الشريعة تمثل بعدا كبيرا في رسالة موسي عليه السلام . والمسيح عيسي بن مريم عليه السلام جاء ليبعث الروح في معاملات الناس وأخلاقهم ، وكان جوهر دعوته إلي الصلة المباشرة بالله تعالي ، وكان مصدقا لما بين يديه من التوراة . ولهذا يقرأ إلي اليوم في إنجيل متي الإصحاح الخامس : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ماجئت لأنقض بل لأكمل فإني ، الحق أقول لكم ، إلي أن تزول السماوات والأرض لا يزول حرف أو نقطة واحدة من الناموس ، حتي يكون الكل.
            فرسالة المسيح عليه السلام مكملة لرسالة سيدنا موسي عليه السلام ، يقول السيوطي: " التوراة أصل والإنجيل فرع له .[2]
            ولكن المسيحين رغم اعترافهم بالتوراة ، وعدها من كتبهم المقدسة ، إلا أنها انفصلت في حياتهم نتيجة عداء اليهود . وبهذا لم يعد للنصارى بهذا الانفصال شريعة مفصلة تنظم الحياة . ثم حدث التحريف والتبديل ، ولذلك عندما نتحدث هنا عن التوراة والإنجيل إنما نتحدث عن وحي قبل تحرف وعن كتب قبل تبديل .


            [1] البخارى ج4 ص 166

            [2] السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن ج2 ص 192 المكتبة الثقافية 1973م

            تعليق

            • يوسف كمال محمد
              1- عضو جديد
              • 2 فبر, 2014
              • 66
              • عمل حر
              • مسلم

              #21

              يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
              أعطيت مكان التوراة السبع وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل .
              رواه أحمد والطبراني بنحوه . وفي رواية أخرى :
              أعطاني ربي السبع الطول مكان التوراة والمئين مكان الإنجيل وفضلت بالمفصل ..[1]
              وفي السبع الطوال تبينت لنا المقومات الأساسية للأمة ، وكانت الأحكام الشرعية تشغل مساحة كبيرة فيها .
              وفي المئين نجد منظومة أخلاقية اجتماعية ، يربي الله تعالي بها المجتمع المسلم علي القيم ، ويصيغ علاقاته علي أساس من المثل والأخلاق .
              ويعوزنا هنا في البدء قبل الدخول في تفصيل ذلك أن نقارن بين مبادئ الأخلاق الاجتماعية في الفكر الوضعي ومبادئها في الإسلام .
              *****************




              [1] في مجمع الزوائد للهيثمي : رواه الطبراني ، وفيه زيد بن أبي سلمة، وقد ضعفه جماعة ويعتبر بحديثه ، وبقية ورجاله رجال الصحيح . ج 6 ص 161
              وفي رواية أخرى :قال رسول الله صلي اله عيه وسلم : إن الله أعطاني السبع مكان التوراة وأعطاني الراءات إلي الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني مابين الطواسين إلي الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ماقرأهم نبي من قبلي . ضعيف الجامع الصغير الألباني ج1 .

              تعليق

              • يوسف كمال محمد
                1- عضو جديد
                • 2 فبر, 2014
                • 66
                • عمل حر
                • مسلم

                #22
                الثلث الأول من القرآن الكريم
                مقومات الأمة
                يقول تعالي:ولَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي والْقُرْآنَ العَظِيمَ (87) [الحجر : 87]
                عن ابن عباس قال : أوتي رسول الله صلي الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطول،وأوتي موسي عليه السلام ستا،فلما ألقي ألألواح رفعت ثنتان، وبقي أربع [1] "[2]
                وباستخدام المنهج السابق في تدبر القرآن يمكن أن نكشف عن المقومات الأساسية للأمة المسلمة التي تقوم عليها حضارتها .
                فقد احتوت سورة الفاتحة علي أمهات هذه المقومات.
                واهتمت سورة البقرة بتبيان الأساس الاجتماعي والاقتصادى للأمة و بينت سورة آل عمران الأساس الأخلاقي لها . في رباط واضح يجمع السورتين .
                بينما حددت سورة النساء حقوق الإنسان ،ونظمت سورة المائدة حقوق الجماعة وواجباتها ، في علاقة عضوية بين السورتين .
                بينما اهتمت سورة الأنعام بمنهج الدعوة مروراً بسنن نهضة الحضارات واندحارها ،اهتمت سورة الأعراف بقيم الدعاة مروراً ببيان مفاتيح تفسير التاريخ وقائع وغاية ، في تكامل واضح بين السورتين .
                بينما أخذت سورة الأنفال مهمة تحديد العلاقات الدولية للأمة المسلمة في مواجهة غيرها موضحة حقيقة الولاء ، أخذت سورة التوبة في تحديد هذه العلاقة في جانب البراء ، في تناسق واضح بين السورتين ، يحدد أسس العلاقات الدولية في الإسلام .
                وبهذا وضحت الصورة الحضارية للأمة المسلمة في مقوماتها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ، وعوامل قيام الحضارات واندحارها ومفاتيح تفسير التاريخ وفهمه ، وحقوق الفرد وحاجاته،وفي رسالته وسنن نهضته ، وفي علاقاته مع غيره حربا وسلاما.
                هذه الحقائق سنقوم بالكشف عنها في السبع المثاني ، حسب ترتيب القرآن الموحي من جبريل عليه السلام إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم .

                وباستخدام المنهج السابق في تدبر القرآن يمكن أن نكشف عن المقومات الأساسية للأمة المسلمة التي تقوم عليها حضارتها .
                فقد احتوت سورة الفاتحة علي أمهات هذه المقومات.
                واهتمت سورة البقرة بتبيان الأساس الاجتماعي والاقتصادى للأمة وبينت سورة آل عمران الأساس الأخلاقي لها . في رباط واضح يجمع السورتين .
                بينما حددت سورة النساء حقوق الإنسان ،ونظمت سورة المائدة حقوق الجماعة وواجباتها ، في علاقة عضوية بين السورتين .
                بينما اهتمت سورة الأنعام بمنهج الدعوة مروراً بسنن نهضة الحضارات واندحارها ،اهتمت سورة الأعراف بقيم الدعاة مروراً ببيان مفاتيح تفسير التاريخ وقائع وغاية ، في تكامل واضح بين السورتين .
                بينما أخذت سورة الأنفال مهمة تحديد العلاقات الدولية للأمة المسلمة في مواجهة غيرها موضحة حقيقة الولاء ، أخذت سورة التوبة في تحديد هذه العلاقة في جانب البراء ، في تناسق واضح بين السورتين ، يحدد أسس العلاقات الدولية في الإسلام .
                وبهذا وضحت الصورة الحضارية للأمة المسلمة في مقوماتها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ، وعوامل قيام الحضارات واندحارها ومفاتيح تفسير التاريخ وفهمه ، وحقوق الفرد وحاجاته،وفي رسالته وسنن نهضته ، وفي علاقاته مع غيره حربا وسلاما.
                هذه الحقائق سنقوم بالكشف عنها في السبع المثاني ، حسب ترتيب القرآن الموحي من جبريل عليه السلام إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم .
                ****************




                [1] صحيح سنن أبي داود ج 1 ص 273 ، ص 274 المكتب الإسلامي 1989 تحقيق الألباني

                [2] يقول القرطبي : اختلف العلماء في السبع المثاني:
                فقيل: الفاتحة ، قاله علي بن أبي طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو العالية والحسن وغيرهم، وروى عن النبي صلي الله عليه وسلم من وجوه ثابتة ، من حديث أبي بن كعب وأبي سعيد بن المعلي ...
                عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:
                " الحمد لله رب العالمين " أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني
                وقال ابن عباس: هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال والتوبة معا، إذ ليس بينهما التسمية . .. وسميت مثاني لأن العبر والأحكام والحدود ثنّيت فيها . ..
                وعن ابن عباس قال : أوتي رسول الله صلي الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطول،وأوتي موسي عليه السلام ستا،فلما ألقي ألألواح رفعت ثنتان، وبقي أربع صحيح سنن أبي داود ج 1 ص 273 ، ص 274 المكتب الإسلامي 1989 تحقيق الألباني
                وقيل : المثاني القرآن كله، قال الله تعالي: " كتابا متشابها مثاني " هذا قول الضحاك وطاوس وأبو مالك ، وقاله ابن عباس. وقيل له مثاني لأن الأنباء والقصص ثنّيت فيه.
                وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعديد نِعَم ، وأنباء قرون. قاله زياد بن أبي مريم . تفسير القرطبي، ج 5 ص 3670-3671 مطبعة الشعب

                تعليق

                • يوسف كمال محمد
                  1- عضو جديد
                  • 2 فبر, 2014
                  • 66
                  • عمل حر
                  • مسلم

                  #23
                  سورة الفاتحة

                  سورة الفاتحة أم القرآن ، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :
                  "لاصلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن "[1].
                  والفاتحة تشمل تحديدا للموضوعات العلوية التي أنعم الله بها علي الإنسان هدى ورحمة ، وهي الإيمان والعمل الصالح .
                  وفيها يتعلم الإنسان كيف يبدأ أموره باسم الله ، ويتجه إلي ربه بالحمد علي إنعامه ، ويدعو ربه أن يهديه إلي الصراط المستقيم.
                  فكانت سورة الفاتحة أماً للقرآن ، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها ، فالآيات الثلاثة الأولي شاملة لكل معني تضمنته الأسماء الحسني والصفات العلي ، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها .
                  والآيات الثلاث الأخرى قوله (اهدنا) شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله ، والتحيز إلى رحمته والانقطاع دون ذلك ، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه .
                  وكل ما يكون وصلة بين ذلك ، مما ظاهرهن من هذه ، من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق ، فمفصل من آية (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .

                  1-الإيمان :
                  وفيها يبين الله تعالي للإنسان مالا يطيق معرفته من حقائق الغيب بعد أن تيقن من وجودها في الآفاق وفي نفسه . وهما حقيقة الألوهية وحقيقة الدار الآخرة .
                  أ- حقيقة الألوهية :
                  بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
                  واسم الله يعني الجلال والجمال والحب والوله ، وإليه تنسب أسمائه تعالي الحسني . ويطلق علي المعبود الحق .
                  ولا يسمي ولا يوصف بالرحمن غير الله ، ويوصف بالرحيم غيره تعالي أحيانا . فالرحمة تشمل الكافر والمؤمن ، أقامت بعمومها كل ما شملته الربوبية من أفاضة النعم فوسعت على العباد الإستمتاع بالنعم الزائلة الموافقة لطباعهم وأمزجتهم ، فهى رحمة بالإباحة ، فعمت أولياء الله وأعدائه.أما فى الرحيم فخصص أولياءه بما ترضاه الإلهية من إدرار النعم ودفع النقم على الوجه المسعد خاصة ، الذي يطهرهم من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ، ومجهلة قلوبهم . فخصص بالنعم الباقية أولياءه
                  .[1]
                  ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (2)
                  وهنا يستفتح كتاب الله المقروء بالحمد لله ، كما بدأ الكون ، كتاب الله المنظور ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ﴾الأنعام آية 1 . كما بدأ أيضا كتاب الزمان بالحمد :﴿ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.سورة القصص آية 70
                  والرب هو خالق كل شئ ومليكه وصاحب السلطان علي كل شئ سواه . فهو سبحانه الذى يبدؤ الخلق ثم يعيده ، وهو سبحانه له الخلق والأمر ، فتبارك الله رب العالمين .
                  ب- حقيقة الآخرة :
                  ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾
                  لما تنزه رب العالمين عن العبث ، فكان البعث . فالآخرة هي الامتداد الحقيقي للدنيا. والدنيا دار ابتلاء ، أما الآخرة فدار الجزاء .
                  2-العمل الصالح :
                  لما كان هناك حكمة من الخلق وجزاء علي الحياة الدنيا، كان لابد من تكليف . والتكليف نوعان : شعيرة وشريعة .

                  أ- الشعيرة (العبادات) :
                  ﴿ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾
                  وهنا يحدد الله للإنسان كيف يعبده في شعائر تسمو بروحه وتشفيها ، فلا يتركها فيعصي الله وتشقي روحه، ولايغلو فيها فيبتدع مالم ينزل الله به سلطانا .
                  وشرطها الإخلاص ونبذ الشركاء فلا يقصد بها غير وجه الله ، فقدم إياك علي نعبد .
                  فلابد للعمل ليكون صالحا أن يكون خالصا وصوابا .
                  ب- الشريعة :
                  ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6)﴾
                  وهو نظام الحياة الذى شرعه الله للبشر ، هدى منه ورحمة .
                  ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾
                  وهي صحبة الذين أطاعوا الله ورسوله فيما أمر وانتهوا عما نهي : ﴿ ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69)﴾ . النساء آية 69
                  ﴿ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ الذين عرفوا الحق وجحدوه .
                  وقد وصف الله تعالي اليهود بقوله :﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والْخَنَازِيرَ وعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)﴾ . سورة المائدة 60
                  ﴿ وَلا الضَّالِّينَ ﴾ الذين بعدوا عن الحق فتشتتوا في السبل .
                  وقد وصف الله تعالي النصارى بقوله :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)﴾ . سورة المائدة 77
                  عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول :
                  ” قال الله عزو جل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدى شطرين ، فنصفها لي ونصفها لعبدى ، ولعبدى ماسأل ".
                  قال : فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( اقرؤوا : يقول العبد:
                  ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ فيقول الله عز وجل : حمدني عبدى ، ولعبدى ماسأل. فيقول:
                  ﴿ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ ﴾ فيقول : أثني علي عبدى ، ولعبدى ماسأل ، يقول:
                  ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ فيقول الله : مجدني عبدى ، فهذا لي . وهذه الآية بيني وبين عبدى نصفين ،
                  يقول العبد:
                  ﴿ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يعني فهذه بيني وبين عبدى ، ولعبدى ماسأل .
                  يقول العبد:
                  ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)﴾ فهذا لعبدى ، ولعبدى ماسأل)[1].



                  [1]صحيح مسلم ج1 ص 167، 168
                  31 البقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآى والسور ، ج 1 ص 22 ،28 ،29 ،291- دار الكتب العلمية 1995 .
                  [1]الألباني ، صحيح سنن ابن ماجة ، ج2 ص 315

                  تعليق

                  • يوسف كمال محمد
                    1- عضو جديد
                    • 2 فبر, 2014
                    • 66
                    • عمل حر
                    • مسلم

                    #24
                    سورة البقرة
                    أمة وسط
                    تعتبر سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم ، وتحوى بين جنباتها الأسس الرئيسة للنظام الاجتماعي والاقتصادي للأمة المسلمة.
                    وتصف سورة البقرة الأمة المسلمة بصفة كلية هي أنها أمة مسلمة لله ، ثم تبين خصائص هذه الأمة في منهاجها وتماسكها وغايتها ، فهي أمة وسط وأمة واحدة وخير أمة أخرجت للناس.
                    يقول الأستاذ العقاد عن الأستاذ شارل دارون وهو غير صاحب نظرية التطور فى كتابه The Next Million Years "أن العقائد لها خاصية أخرى أقوم وأجدر بالالتفات إليها وذلك أنها تكفل الدوام للخطط الاجتماعية زمنا أطول من الذى تتكفل به أية فكرة عقلية، وفى التاريخ حالات عديدة تصدى فيها نخبة من الساسة المستنيرين لوضع سياسة يتوخون فيها المصلحة العامة ويقفون حياتهم فى إنجازها، وماهو إلا أن ينقضى جيلهم حتى يعقبهم ساسة آخرون ينقضونها إيثارا لطريقة غيرها من طرق المصلحة الإنسانية، فلا يطول أجل الخطة القائمة على العقل أكثر من جيل واحد، وهو أمد قصير جدا لا يكفى للتغلب على عقبات المصادفة " .([1])
                    والأمة المسلمة تمتد مع البشرية منذ استخلف الله الإنسان في الأرض . فالمؤمنون من أتباع الأنبياء جميعا سموا المسلمين عبر التاريخ .
                    يقول تعالي: وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (127) رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)( البقرة 127-129)

                    أمة وسط
                    لقد فشل الفلاسفة فى إيجاد خط معتدل تسير عليه الإنسانية على مدى الأجيال، فتصوروا أن الحركة الإنسانية تسير كلها فى هذه الذبذبات، ومن ثم كانت فلسفة التناقض هى الحق المطلق عند الشيوعيين وهى أصل الحركة. فالحقيقة عندهم لا تظهر كاملة إلا إذا مرت فى نقيضها. وسبب ذلك أن رسم منهج الحركة الأمثل للإنسان والمجتمع يلزمه معرفة ثاقبة محيطة بالوجود كله؟ لأن الإنسان يتأثر بظواهر البيئة المحيطة به فى ترابط متشابك، ويلزمه معرفة كاملة بالزمان لأن الحاضر متصل بالماضى، وهو نواة المستقبل. وذلك كله لن يتوافر لفرد أوجماعة أوجيل أو أجيال, لهذا حتى نهتدى إلى أحسن طريق أمام سبل شتى ممتدة أمام الاختيار فى كل أمر أن نستمد العلم من رب الوجود والتاريخ خالق السماوات والأرض والدنيا والآخرة.


                    ([1])عقائد المفكرين فى القرن العشرين . العقاد ص 191 دار الكتاب العربى طبعة ثانية 1969 .

                    تعليق

                    • يوسف كمال محمد
                      1- عضو جديد
                      • 2 فبر, 2014
                      • 66
                      • عمل حر
                      • مسلم

                      #25
                      معنى الوسط
                      في معنى الوسط أقوال:
                      أحدها: أن الوسط هو العدل...
                      الثانى: أن الوسط من كل شئ خياره.
                      الثالث: أن الرجل إذا قال: فلان أوسطنا نسبا فالمعنى أنه أكثر فضلا وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة.
                      الرابع: يجوز أن يكون وسطا على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في الأشياء ، لأنهم لم يغالوا كما غالت النصارى فجعلوا ابنا وإلها، ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب) ([1]).
                      وفي قوله تعالى : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً ([2]) . قال (صلي الله علية وسلم) في معناها عدلا([3])
                      والوحى أنزله الله للإنسانية ليحدد لها معالم سيرها على توالى العصور واختلاف الزمان. وهو سبحانه وتعالى بكل شىء عليم وبعباده رؤوف رحيم. ولهذا لايتعرض هذا التشريع لما يتعرض له نتاج العقل الإنسانى نتيجة لظهور الظروف المتجددة على الدوام. والسر فى خلود التوجيه الإلهى فى الحياة طبيعة الوسط التى أشار إليها القرآن صفة للأمة المسلمة عند تطبيق شريعة الله لأن عنده يكون التوازن والعدل. وهو الفطرة أو النظام المناسب لطاقات الإنسان وتناسقه مع الوجود.
                      والوسط الذى نقصده ليس أوصافا أخلاقية؟ كوسط أرسطو، فهناك فضائل ليست وسطية كالصدق الذى يقابله الكذب، أما الوسطية فى الإسلام فهى حدود لمنهج الحركة فى طريق مستقيم إلى هدف، بعيد عن انحرافات فى سبل شتى تؤدى للضلال.
                      وإدراك حقيقة الوسط هنا فطرية ولهذا نجد إدراكها قديما فى الفكر البشرى على مدى الزمان. قال أرسطو: "إن الوسط بالنسبة إلى شىء هو النقطة التى على بعدين متساويين من كلا الطرفين والتى هى واحدة بعينها فى كل الأحوال. ([4])



                      [1] الرازى، التفسير الكبير، ج 4 ص 124.

                      ([2])سورة البقرة . آية 143 .

                      ([3])صحيح سنن الترمذى ج3 ص 22 .

                      ([4])علم الأخلاق . أرسطو ـج1 ص 245 ـ247 دار الكتب المصرية 1343 .

                      تعليق

                      • يوسف كمال محمد
                        1- عضو جديد
                        • 2 فبر, 2014
                        • 66
                        • عمل حر
                        • مسلم

                        #26
                        أما بالإضافة إلى الإنسان فالوسط هو الذى لا يعاب لا بالإفراط ولا بالتفريط. وكل إنسان عالم وعاقل يجهد نفسه فى إجتناب الإفراط من كل نوع سواء كان بالأكثر أم بالأقل، ولايطلب إلا الوسط القيم أو يفضله على الطرفين.
                        وحقيقة الوسط الذى توجده شريعة الله ليس هو أنصاف الحلول وليس هو نقطة بين طرفين كما صور أرسطو،. إنما من معانيه الحسن والفضل والاعتدال والقصد والحكمة. إنه صراط الله المستقيم أى الإسلام محدد بمعالم ومتجه إلى غاية. حدوده أوامر الله التى تحقق الوسط، إن خرج عليها وقع فى محارم الله وانفلت عن الصراط المستقيم إلى السبل الشتى التى لاحدود لها ولاغاية تصل إليها. هذا الوسط يتحقق عنده التوازن، لاطغيان ولاخسران ، يقول تعالي: والسَّمَاءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ المِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ (8) وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ (9).([1]) فهو موزون لاطغيان ولا خسران وهو القسط أى العدل يقول تعالي: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.([2]) وهذا الصراط ليس حدا ضيقا إنه مدى متسع يصلح للضعيف والقوى ويناسب الواقعى والمثالى، لا إفراط ولاتفريط ولاطغيان ولاخسران ولاغلو ولاتقصير، والإسراف والتقتير والوكس والشطط كما تعبر ألفاظ الكتاب والسنة هى بالتحديد محارم الله يقول تعالي: قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ.([3]) والفحش هو مازاد عن الحد قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ .([4])
                        عن مجاهد "قصد السبيل" أى المقتصد منها بين الغلو والتقصير وذلك يفيد أن الجائر هو الغالى. أوالمقصر، وكلاهما من أوصاف البدع([5])
                        هذه خلاصة موجزة جدا لوسطية الإسلام فى الاجتماع والسياسة والاقتصاد..
                        والمناقشة المقارنة تمتع قلب الإنسان وعقله لأن الله تعالى شرع هذا النظام الوسط متناسقا مع فطرة الكون وفطرة الإنسان.
                        ونحب أن ننبه هنا إلى الإفراط والتفريط وهما يمثلان الإنحراف عن الوسط ليست هى النقائض ؛ لأن النقائض كما تدعيها الماركسية ظواهر مادية وحتمية تنتهى إلى ظهور مركب آخر يبدأ معه النفى من جديد، إلا أن الحقيقة كما عرضنا تثبت أن الاختلاف بين الأشياء والأحياء الغرض منه التزاوج والتكامل وليس الصراع بين الناس إلا استثناء من الأصل، ونرى لذلك أن ظواهر الإفراط والتفريط هى عوارض قصور العقل الإنسانى عن أن يرسم للإنسان الحركة المنسجمة مع فطرته ومع الناس ومع الكون. وهى لذلك يسهل تجنبها بإتباع صراط الله المستقيم الذى هدى إليه الله. وتصل الأمة بذلك إلى أعلى قمة للرشد الإنسانى وتكون شهادة حق على غيرها من الأمم التى تتخبط كالذى يتخبطه الشيطان من المس.
                        فالوسطية هى الصفة التى تكون عليها الأمة المسلمة نتيجة تطبيق سنة الحركة للإنسان والأمة كما أراد الله، وهى التى تتناسق مع الفطرة كما خلقها الله، وكما أن القوانين الطبيعية هى سنة الحركة للنجوم والكواكب، كلاهما سنن الله الخالدة التى يستقيم عليها الوجود إن اتبعها ويتحطم وينهار إن بعد عنها.
                        وهى إذن منهج الله الذى يسلم له من فى السماوات والأرض، ولهذا كانت الوسطية محور الحركة فى التشريع والأخلاق، وكل صور النشاط الإنسانى والتى نلمسها فى حدود القرآن وأوامره ونواهيه. مثلا الغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبرىء، وإن قصرت عنه كانت تغافلاً،ودياثة، وللتواضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة، وإن قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر، وللعزة حد اذا جاوزته كان كبرا وخلقا مذموما، وإن قصرت عنه انحرفت إلى الذل والمهانة.


                        ([1])سورة الرحمن . آية 7-9 .

                        ([2])سورة الحديد . آية 25 .

                        ([3])سورة الأعراف . آية 33 .

                        ([4])سورة الأعراف . آية 28ـ29 .

                        ([5])الإعتصام : للشاطبى ج1 ص 59 دار الفكر بدون .

                        تعليق

                        • يوسف كمال محمد
                          1- عضو جديد
                          • 2 فبر, 2014
                          • 66
                          • عمل حر
                          • مسلم

                          #27
                          يقول ابن قيم الجوزية" وضابط هذا كله العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفى الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة، بل لاتقوم مصلحة البدن إلا به، فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل جاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا، وإن انحرفت إلى أحدها كانت نقصا وأثمرت نقصا".([1])
                          ويقول (وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط فالجافى عنه والغإلى فيه، كالوادى بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين. فكما أن الجافى عن الأمر مضيع له فالغالى فيه: مضيع له، هذا بتقصير عن الحد وهذا بتجاوزه الحد). ([2])


                          وصدق الله العظيم إذ يقول : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ومَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاَّ عَلَى الَذِينَ هَدَى اللَّهُ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وإنَّ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)([3]).




                          ([1])الفوائد ـ ابن القيم الجوزية . ص 149 ، 140 مكتبة النهضة العلمية ـ السعودية ـ مكة المكرمة .

                          ([2])مدارج السالكين ـ ابن القيم الجوزية . ص 496 ج2 مطبعة السنة المحمدية سنة 1956 .
                          ([3])سورة البقرة . آية 143ـ144 .

                          تعليق

                          • يوسف كمال محمد
                            1- عضو جديد
                            • 2 فبر, 2014
                            • 66
                            • عمل حر
                            • مسلم

                            #28
                            الحرية والتكليف" نماذج وسيطة "
                            الدارس للتاريخ الإنسانى يجد أنه فى حركته يسير من النقيض إلى النقيض فى إفراط أو تفريط كالذى يتخبطه الشيطان من المس. هذا التخبط واضح وضوحا تاما فى كل نواحى الحياة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. والأصل فى هذا البلاء اعتماد الناس على عقولهم فى رسم منهاج الحياة. فلا يكون فكرهم إلا ظنا ولايكون اتجاههم إلا هوى ومَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ ([1])
                            ونعرض هنا لبعض هذه النماذج المقارنة :
                            ا- الوسط الإجتماعى:
                            هذا الضعف الإنسانى يظهر على أتم إفراطه وتفريطه فى المسألة الاجتماعية. (ففريق مال إلى جانب الأخلاق والروحانية، وغلا فيه إلى أن جعل العلاقة الجنسية بين الصنفين فى ذاتها شيئا يعاب ويزدرى. وهذا الانحراف عن القصد تجده فى ديانة (بوذا) والنصرانية وفى بعض الديانات الهندكية. ومن تأثيره مايوجد فى جزء كبير من هذا العالم من اعتقاد العلاقة الجنسية بذاتها إثم، سواء كانت فى دائرة الزواج أو خارجها. فماذا كانت نتيجته؟. كانت النتيجة أن جعلت حياة الرهبنة المنعزلة غير المتمدينة غاية الأخلاق ومقصود التربية النفسية..
                            وفريق على عكس ذلك، راعى للإنسان دواعيه الجسدية، وغلا فيها غلوا جعله يتعدى مقتضيات الطبع الحيوانى فضلا عن الطبع الإنسانى، وقد اتضح هذا الإفراط فى الأسلوب الغربي وضوحا لايمكن معه ستر، مهما حاول المحاولون. فالزنى ليس بجريمة فى قانونه، وإنما الجريمة هى ما كان معه إكراه أو تدخل فى حق شرعى لشخص آخر.. فانحرف بذلك عن فطرته الإنسانية فاسترسل فى العلاقة الجنسية المطلقة كالتى تكون فى الحيوانات، ولا يمكن أن تكون أساسا لتمدنه.
                            وفى تقدير الأسرة نجد قوما نظموها بقيود وحدود جعلت فردا من أفرادها كالأسير المغلول ولم يراعوا الموازنة بين الحقوق والواجبات. ومن أمثلة ذلك نظام الأسرة الهندكية الذي لاحرية فيه للمرأة فى إرادتها أو عملها ولاحق لها فى التمدن والمعاش.
                            ولكن هذا النظام بما حط وصغر من شأن النصف الكامل من جماعة الإنسان قد أقام فى سبيل نهوضه وارتقائه عقبة جسيمة ومفسدة هائلة، عاد الهنادك بأنفسهم يحسون بسوء عواقبها ومضارها.


                            ([1])سورة النجم .آية 28-30 .

                            تعليق

                            • يوسف كمال محمد
                              1- عضو جديد
                              • 2 فبر, 2014
                              • 66
                              • عمل حر
                              • مسلم

                              #29

                              وجماعة أخرى قاموا لرفع مكانة المرأة ومنحها الحرية فى الإرادة والعمل فتغالوا فى ذلك إلى أن أفسدوا نظام الأسرة، فعادت الزوجة حرة مختارة والبنت مطلقة العنان والابن مخلى له فى الرهان، والعائلة كالقطيع الشارد لا راع يذود ولاحظيرة تؤوى "([1])
                              والإسلام يقيم هذه العلاقة التي هي ضرورية لتكوين الأسرة واستمرار النوع الإنساني علي العفة والزواج ، وتبادل الحقوق والواجبات .
                              يقول ربنا تبارك وتعالي في سورة البقرة: ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِراً إلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفاً ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
                              فإذا انتقلنا إلى مسألة الطلاق نجد التردد بين هذين الطرفين من إفراط وتفريط، فالمسيحيون قيدوا الطلاق ومنعوه منعا باتا، والشيوعية أباحت الطلاق دون قيد أو شرط.
                              وكانت النتيجة أن رأينا هذا العنت ينعكس بشدة على الصورة الاجتماعية
                              فى الطرف الأول حيث المنع تصبح معه الحياة الزوجية جحيما لايطاق وتنتشر الآفات الخلقية حتى أصبح من المعتاد أن يكون للزوج خليلة وللزوجة خليل.
                              وفى الطرف الآخر شاهدنا كيف أصبحت الحياة الزوجية ألعوبة فتناقص عدد السكان فى روسيا وانتشرت الأمراض السرية وحالات الإجهاض، وتحلل المجتمع حتى اضطر الروس إلى تقييد الطلاق بصورة كالكاثوليكية وأشد.
                              وفى هذا العالم المتخبط بين الإفراط والتفريط يوجد منهج واحد مراعى فيه كل نواحى الفطرة الإنسانية لأنه مستند على المعرفة التفصيلية للوجود والتاريخ. هذا المنهج الوسط بكل معانى الوسط من تناسق وتوازن واعتدال هو وحده الذى يستطيع أن يصلح حال الناس ويحقق لهم الخير.
                              جعل الإسلام للمرأة حق اختيار زوجها وخول لها الحق فى طلب الخلع والفسخ والتفريق، وأمر الرجل بالتزام السماحة والمعاملة الحسنة فى استعماله السلطة التى خولها له على المرأة وسوى بينهما فى القوانين المدنية والجنائية تماما.
                              وتظهر وسطية الإسلام فى مسألة الطلاق، فالإسلام لايمنع الطلاق ولكنه يعتبره أبغض الحلال. ويضع لذلك القواعد لإصلاح الحياة الزوجية من تحسين الأخلاق إلى تحديد الحقوق والواجبات والدعوة إلى الصلح والتراضى وإعطاء مهلة بعد الافتراق حتى نضيع حمية الغضب ، يقول تعالي في سورة البقرة: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهن ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهن أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهن إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وبُعُولَتُهن أَحَقُّ بِرَدِّهن فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاحاً ولَهن مِثْلُ الَذِي عَلَيْهن بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهن دَرَجَةٌ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ ([2]).


                              2- الوسط السياسى:-
                              ونموذج من النظام السياسى نجد فيه التاريخ الإنسانى يتخبط بين الطرفين الإفراط والتفريط.
                              فمثلا كان يصور لها أن الحرية مطلقة دون حدود وقيود. وتدرك الإنسانية فى النهاية بعد تجربة مرة أن إطلاق الحرية قد أدى إلى الاحتكار وأدى إلى أن المال والحكم صار دولة بين الأغنياء وأن مصالح المجتمع تسخر فى سبيل مصلحة فئة قليلة وإذا دافعت عن مصلحة المجتمع رفع فى وجهك شعار الحرية، فلم تصبح الحرية إلاحرية الفئة الغنية فى استغلال الجماهير التى تستذلها الحاجة، وتدافع الطبقة الغنية عن مصالحها بشدة فيتعقد الموقف الاجتماعى بصورة تؤدى إلى الثورة.
                              وهنا تظهر للعقل الإنسانى نواة فلسفة أخرى للحركة مستمدة من رد فعل عنيف للإفراط فى الحرية. إنه يدعو إلى الدكتاتورية باسم مصلحة الجماهير. الدكتاتورية التى تقضى على الطبقة الغنية وتنهض بالجماهير لتحررها من ذل الحاجة ويندفع العقل الإنسانى بحماس فى سبيل تحقيق هذه الفكرة الجديدة فكرة الدكتاتورية. ولايدرك الأخطار التى تحيق به من تفريطه فى الحرية ولا يتصور كيف يكون حالة حين تكبت حريته، وينطلق الصولجان إلى فئة أخرى تستغله ولاينفع هنا تذكير، لأنه لايتذكر إلا بعد أن تصيبه ضربات معجزة يحس معها بوطأة التفريط فى هذا المبدأ. وهذا شأن العقل الإنسانى دائما إذا ترك لنفسه ينتقل من النقيض إلى النقيض كالذى يتخبطه الشيطان من المس، وكما يقول جون ستيوات مل: "نجد أن التطرف فى العقل البشرى قاعدة مطردة والتوسط شىء نادر، ولذلك فإن جميع الثورات الفكرية تنحصر عادة فى ظهور جانب من الصواب على أثر أفول جانب آخر منه ".
                              لقد سجلت الديمقراطية أكبر فشل لها فى دول الغرب فالديمقراطية هناك تقوم على أساس النظام النيابى. والنظام النيابى يقوم على أساس حزبى، كل حزب يسعى إلى إسقاط الحزب الآخر حتى يصل إلى الحكم. ومن ثم يهاجم الحزب المعارض كل مايعمله الحزب الحاكم سواء كان صالحا أو طالحا، فتتعثر مصالح الأمة أمام عقبات الجدل والتنازع والخصام وسوء القصد، وتصبح الأمور غير مستقرة لأن النزاع المستمر والمؤامرات التى لا تنفض تؤدى إلى إسقاط الحكومات وصعوبة استقرارها فتنتهى إلى فوضى الحكم وصعوبة السيطرة السياسية وضعف التنمية الاقتصادية.


                              ([1])الحجاب أبو الأعلى المودودى . ص 201-203 دار الفكر بدون .

                              ([2])سورة البقرة .آية 226-229 .

                              تعليق

                              • يوسف كمال محمد
                                1- عضو جديد
                                • 2 فبر, 2014
                                • 66
                                • عمل حر
                                • مسلم

                                #30
                                ومن جهة أخرى نجد أن هذا النظام الحزبى يضر ضررا بالغا بمصلحة الأمة، لأن النائب يبحث له عن مؤيدين لينجح، وحينما ينجح لا يخدم غير مؤيديه بل يضطهد معارضيه، ثم إنه جريا وراء مصالح مؤيديه يتصل بالوزير المختص ليقضى المصالح المشروعة، وغير المشروعة وهذا يؤدى إلى القضاء على قدرته على نقد ذلك الوزير الذى خدمه، وهكذا تتعطل الرقابة الدستورية، وفى النظام الحزبى يتجه النواب إلى تأييد المشروعات الأكثر شعبية لا الأكثر صلاحية، ولايعنيهم الفائدة الحقيقية التى تعود على المجتمع منها، وإنما يعنيهم اهتمامهم بإرضاء الناخبين، وهكذا يجانبون الحقيقة والخير إذا تعارضت مع رغبات الناخبين، لأنهم يعلمون أن بقاءهم مرتبط بخداع الناخبين وتملقهم، والجماهير تتحرك بعواطفها ولا تتوفر لها الدراسة الكاملة للقضايا مما يجعل احتمال خطئها فى التقدير كبير. وفى هذا النظام الحزبى تعتمد الأحزاب على إثارة الجماهير لمصلحتها. والجماهير عاطفية بطبيعتها ولا يتيسر لها الوقت للدراسة الموضوعية للمشاكل التى تحيط بها، وهى حين تندفع لا تتوقف فليس عندها فرق بين الهدم والبناء أو الحب والكره، وإنما تحركها الإثارات وتؤثر فيها الدعايات وتكرار الشعارات وتأكيدها، إنها تفكر بغريزتها لا بعقلها، بهذا كان تفكيرها بدائيا للغاية، وهذا هو الذى يعطى رجال الأحزاب المجال لتضليلها تحت ستار المصلحة العامة، ولعل ماعرفناه عن فضيحة ووترجيت وإيران جيت مايثبت صورية الديموقراطية.
                                وأخيرا فإن الديمقراطية السياسية الحديثة اقتصرت على الحرية السياسية فحسب . ولم تحرر الفرد اقتصاديا فماذا كانت النتيجة؟ أضحت الأموال دولة بين الأغنياء وصار الطريق مفتوحا أمام الأغنياء للسيطرة على الحكم، والجماهير مشدودة إلى المادة التى تحتاجها للضرورة، وبالمال استطاعوا شراء الأصوات وإفساد الذمم، وبقيت الحرية السياسية مظهرا خادعا يخفى وراءه أسوأ ألوان العبودية.
                                وفساد الديمقراطية هذا أدى إلى ظهور نقيضها وهى الدكتاتورية. فتحت وطأة الفوضى التى سببتها الديمقراطية وتعطل المشاريع الاقتصادية وانتشار الفقر وسوء التغذية برزت الديكتاتورية لقدرتها على حسم المشاكل. إن الديكتاتورية تستطيع إنقاذ المواطنين فى لحظة بينما كانت تتعطل السنين فى مناقشات. كما أنها تنفذ مايحلو لها دون تقيد برأى إلا أن هذه الديكتاتورية تصبح خطرا للغاية، لأن سيطرتها التامة تؤدى إلى الطغيان. ثم إن تعطل الشورى يؤدى إلى سقطات حادة تهز الأمة من أعماقها. حقا إن الديكتاتورية تبنى بسرعة، ولكنها تهدم بنفس السرعة . ولما كان السلطان المطلق طغيانا مطلقا فإنه يؤدى إلى الكبت والظلم والضغط الذى يقتل فى الناس القدرة الخلاقة وفقدان الإحساس بالمسئولية والخنوع. ولعل تجربة روسيا الستالينية وألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية أبلغ دليل.
                                هذا هو التاريخ المعاصر يقص الفشل فى النظام السياسى، فإفراطه فى الحريات الديمقراطية أدى إلى إفساد الحكم. وتفريط فيها بالديكتاتورية أدى إلى الإرهاق والذل والخراب. إن النظام الديمقراطى أساسه الشورى حقا ؛ ولكن فساد التطبيق وضعف المبادىء الأساسية المنظمة لها وخضوعها لأهواء البشر انتهى إلى تسليط المحكومين على الحاكمين وتضليل الحاكمين للمحكومين. وبينما النظام الديكتاتورى يقوم على الطاعة المطلقة من المحكومين للحاكمين فإن قصور العقل الإنسانى وغروره انتهى بتسليط الحاكمين على المحكومين، واندفاع دون روية للعواقب والاستبداد دون رحمة بالناس.
                                وتختلف الشورى عن الديموقراطية من عدة أوجه :
                                1- أن الشورى في الديموقراطية لا يشترط في ممثليها علي مستوى الدولة أى شرط . ولهذا نجد أن الممثلين أحيانا كثيرة ما يكونون تحت المستوى المطلوب . أما في الإسلام فأهل الحل والعقد يشترط لهم العلماء صفة العلم أى الخبرة ، وصفة العدل ، أى الأخلاق الطيبة . وكما قيل فإن الديموقراطية تحكم الجماهير في الحكام ، وأن الدكتاتورية تحكم الحكام في الجماهير ، أما الشورى فهي التي تحكم الحق في الجميع ، ولاتخشي في الله لومة لائم.

                                2- أن المنتخبين ديموقراطيا يعطي لهم الحق في سن التشريعات والقوانين حسب ما يهوون . أما في الشورى فإنها مقيدة بالشريعة لا تتخطاها . فإذا ورد في واقعة نص قطعي فهو الحكم النهائي ، وإذا ورد فيها نص ظني كان الإفتاء فيه موكولا للفقهاء . وبقية التشريعات يتقيد فيها أهل الشورى بمقاصد الشريعة المنضبطة بالقواعد الفقهية . وهذا أعظم ضمان لتحرير الجماعة من طغيان السلاطين الذين يوجهون التشريع حسب هواهم ، ومن طغيان أصحاب المال الذين يوجهونه إلي مصالحهم . أما ما يتصل بأمور الدنيا التي سكت عنها النص فأهل الشورى يقطعون بالرأى الذى يصوبه تحليهم بالعلم والعدل .
                                3- أن التمثيل الديموقراطي يحتاج اليوم إلي نفقات باهظة تنفق علي الحملات الانتخابية لا يطيقها إلا الماليون فيما يسمي جماعات الضغط ، أو أصحاب السلطان . ومن ثم يكون الممثلين متحيزين للسلطة ولأصحاب الأموال أو السلطان . وهذا من خطورته أن تتجه القوانين لصالحهما علي حساب الجماعة ، وأن يوسد الأمر إلي غير أهله .
                                أما في الإسلام فشرط العلم والعدل يحصر الممثلين في الكفاءات والمتقين ، ويحقق للجماعة الخير الذى تبغيه والرأى الذى يصلحها .
                                وهذا العيب الأخير أشد ما يفتك بالشورى في العصر . فاشتراط إنفاق أموال ضخمة علي الحصول علي هذا المكان ، يؤدى في النهاية إلي تحكم أصحاب الأموال في المجالس التشريعية وتوجيهها لمصلحتهم ، واختراقهم للمؤسسة السياسية وتسخيرها لمطالبهم .
                                يقول ربنا تبارك وتعالي في سورة البقرة :ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (1)

                                3 - الوسط الإقتصادى:

                                ونموذج سريع من النظام الاقتصادى المقارن: نلاحظ كيف تتردد الإنسانية حين تتبع مدركاتها الذاتية بين الإفراط والتفريط، وما يترتب عليه من شقاء وضلال لمجتمعاتهم. فمذهب الحرية الذى ساد العالم فى فترة مداها قرن ونصف قرن تقريبا بدأ فى الناحية الاقتصادية بكتاب "آدم سميث" " ثروة الأمم 1776م"، وتقوم فلسفة هذه المدرسة على أن الإنسان وهو يحقق كسبه الخاص إنما يحقق مصلحة المجموع، وهو مدفوع إلى ذلك بيد خفية لتحقيق غاية أخرى لايقصدها. فاهتمام الفرد بمصلحته الخاصة غالبا ما ينتهى لمصلحة المجتمع أكثر مما قصد الفرد ذلك، والسرور والألم هما الأهداف القصوى من حساب التفاضل فى الإقتصاد والوصول إلى السرور كما يقول "جيفونز" هو مشكلة الاقتصاد. وقوانين الاقتصاد الخالدة هى قوانين السوق التى يمكن الكشف عنها بالتحليل لنظرية القيمة من الأسعار والدخول.. ولم تعن هذه المدرسة بفكرة العدالة الاجتماعية كثيرا لأن قوانين التوزيع بناء على فلسفتها ليست قوانين اجتماعية ولا تنظيمية ولا تاريخية، بل قوانين طبيعية تشبه قوانين عالم الطبيعة!.
                                انتهت هذه المدرسة- لتركيزها على ناحية الحرية دون غيرها من الفضائل لقصور العقل الإنسانى عن فهم الوسط الذى يوازن بين المبادىء الأساسية التى تنظم المجتمع المثالى- إلى مجتمع ممزق متصارع متنافر. ولم تخدم هذه المدرسة الفكرية إلا حفنة من رجال الأعمال كل هدفهم جمع الثروة على حساب الناس، وظهر مع الزمن الوجه القبيح للرأسمالية حيث انقسم المجتمع إلى فئتين مُسْتَغِلِّين ومُسْتَغَلِّين، وأصبح مصدر الدخول من الربا والاحتكار هو أساس الغنى. كل ذلك باسم الحرية مما أدى إلى ارتفاع الصرخات هنا وهناك.
                                وانتقل العقل الإنسانى إلى نقيض التفكير الأول، فخرج ماركس ليركز اهتمامه فى اقتصاديات الجماعة، فتناول نظرية القيمة ليثبت أنها تؤدى إلى الاستغلال لا إلى العدالة ؟ لأن أساس نظرية القيمة عنده هو كمية العمل المبذول فيها. لذلك كان كل دخل غيره هو سلب من العامل حقه سواء أكان هذا الدخل ربحا أم ريعا أم ربا. ونظر ماركس إلى التاريخ الإنسانى على أساس أنه سلسلة من الصراع المستمر بين الطبقات المُسْتَغِلّة والمُسْتَغَلّة، وسبب هذا الصراع هو فائض القيمة الذى يستولى عليه صاحب رأس المال من العامل لملكية رأس المال. وهنا صب جام غضبه على الملكية الفردية وبشر الناس حين القضاء عليها بجنة ينعم فيها الجميع بالمساواة التامة يأخذ الإنسان فيها كل حاجته ويبذل ذاتيا أقصى إنتاجه. ونفس الخطأ الذى أودى بحياة الرأسمالية لتركيزها على ناحية واحدة هى الحرية وقعت فيه الماركسية حين ركزت على المساواة دون التفات إلى المبادىء الأساسية الأخرى التى لايجور فيه مبدأ على آخر، لقد بنى هذا التحليل على أساس أن كل عائد غير العمل نهب تحت وطأة شرور الاحتكار والربا، دون دراسة واقعية لمجتمع متوازن يسمح فيه بالملكية النظيفة غير المستغلة، وحين طبقت هذه النظرية لم تستطيع أن تعيش إلا بالقهر والإرهاب، لأنها هاجمت الفطرة الإنسانية ودوافعها الأصيلة فى الملكية والتميز كحوافز للابتكار والإنتاج مما أدى إلى تحويل الجماهير الخاضعة لها إلى مجموعة من العبيد لايحركها إلا الإرهاب و الخوف.
                                والإسلام بوسطيته يوازن كل هذه المبادىء دون إفراط أو تفريط، فبينما يحارب الربا والاحتكار والاستغلال فإنه لا يمنع الدوافع الفطرية فى التملك والتميز، إن اختلاف الأشياء هو سنة الكون، والذى أرق ذوى الضمائر ليس الفرق فى المتاع بين إنسان وإنسان وإنما ضخامة هذا الفرق. وليست الملكية رذيلة فى ذاتها وإنما الرذيلة فى تحولها إلى ملكية مستغلة. والمساواة الحسابية لن تنتهى بنا إلا إلى مرحلة من الهمجية والتخلف. وبينما الربح عائد لعمل مدخر نجد أن الربا الذى يتميز بالثبات فى عائده تحول إلى استغلال فى حالة الخسارة. الخير إذن فى وسط لاطغيان فيه ولا استغلال وأيضا لاكسل فيه ولاتواكل، لهذا كان لكل فرد فى المجتمع حدود لملكيته : حد أعلى مبنى على العدل فيشترط نظافة الملكية من الربا والغرر والاحتكار .وحد أدنى مبنى على الحق تكفله الزكاة .
                                يقول ربنا تبارك وتعالي في سورة البقرة:
                                يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ومِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ولَسْتُم بِآخِذِيهِ إلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269)
                                وتاريخ الإنسان يحكى لنا عبر الزمان أنه ما استعبد الإنسان فى العصر العبودى أو الفرعونى أو الإقطاعى إلا من حرمانه من حق الكفاية. فكان الإنسان يقتل بهرامته أنين الجوع وشبح الخوف. ولهذا كان عبدا للسيد وعبدا لفرعون وعبدا للإقطاعى.
                                والقصة تتكرر اليوم بنفس حروفها فى ظل رأسمالية الاحتكارى الذى يذل العمال بطردهم من العمل، فلا يجدون طعاما ولا أمان . وتحت ضغط الخطر الشيوعي ابتدع الغرب نظام التأمين والتأمينات كغطاء للرعاية الاجتماعية . وهو نظام قائم علي معاوضة قسط مقابل تعويض ، وليس حقا دون مقابل للفقير والمسكين . وما يخصص لذلك مما يسمي الضمان الاجتماعي لايفي بجزء من هذا الحق .
                                وابتدع النظام الاشتراكي الذى ادعي حماية العمال كتاب العمل . ونظرا لحرمانه الناس من حق الملكية فلم يكن هنا حافزا للعمل غير الإرهاب . وفى ظل الحزب الإشتراكى يحرم من هذه المظلة إن غضب عليه الحزب . فهى نفس العبودية الفرعونية وإن اختلفت المسميات.
                                ولقد تبلور اليوم اقتناع قوى أنه لا يمكن الركون الى التلقائية فى تحقيق الرعاية الاجتماعية فإن التنمية الاقتصادية وحدها لا تحقق عدالة ولا رعاية. وأصبح واضحا أن تحقيق هذه الأهداف الاجتماعية يتطلب تدخلا واعيا من قبل الدولة، وأن تدرج فى أول سلم الأولويات من مهامها.
                                والإسلام يحرر الإنسان ابتداء بعقيدة التوحيد، فليس إلا الله يرزق ويعطى، ثم يتمم بالشريعة هذا التحرير، بأن يكفل لكل فرد من أفراد المجتمع حد الكفاية. فبالعقيدة والشريعة يتحرر الإنسان نفسيا وعمليا. وذلك بناء على حقيقة. لا مرية فيها وهي أن الإنسان لم يخلق شيئا، وإنما يضيف منافع فحسب للأشياء. وهنا له حق فى التملك، ولكن لأن ما يملك أصلا من خلق الله سخره للناس سواء، كان للفقير والمسكين حق معلوم يغنيه عن الحاجة وذل السؤال. وبهذا يؤمن الإسلام لكل مسلم حدا أدنى من العيش الكريم مبنى على الحق ، تكفله الزكاة، وهذه هى ميزانية الإعانة أو الرعاية أو التكافل.
                                وأداة الإسلام الرئيسة التي تكلف بها الدولة ، ويلزم بها الأغنياء ، وتتحدد مصارفها بالنص ، فتعطي بالتحديد للفقراء .وهنا تتحقق عدالة توزيع الدخل ، وترسي قواعد التراحم الاجتماعي .
                                ومنذ ما يزيد علي أربع عشرة قرنا ، كانت تعاليم الإسلام تقوم علي فصل بيت مال الزكاة عن بيت المال العام ، للفصل بين حقوق الفقراء وحقوق الجماعة . كما أن رسول الله e، ، حرم علي أهل بيته وعلي آله ، أخذ أى نصيب من الزكاة . ولكنه قبلها كهدية من الفقراء ، وبعد وفاته e أجاز الفقهاء إعطائها لآله e
                                وبوسطية الإسلام القائمة علي إباحة التملك بالكسب الطيب ، وتحريم الاستغلال من الربا والاحتكار والغرر، وفرض حق معلوم هو الزكاة في أموال الأغنياء للفقراء ، تتحقق الرعاية الاجتماعية لمحدودى الدخل ، والتوازن السياسي بتقريب التفاوت بين الدخول ، والنمو الاقتصادى والإعمار دون قيود.
                                يقول ربنا تبارك وتعالي في سورة البقرة :
                                نَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ (279) وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 14 أكت, 2024, 04:59 ص
                                ردود 0
                                29 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 3 أكت, 2024, 11:34 م
                                رد 1
                                19 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 02:37 م
                                رد 1
                                26 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة الفقير لله 3, 28 سبت, 2024, 12:04 م
                                ردود 0
                                19 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفقير لله 3
                                بواسطة الفقير لله 3
                                ابتدأ بواسطة مُسلِمَة, 5 يون, 2024, 04:11 ص
                                ردود 0
                                63 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة مُسلِمَة
                                بواسطة مُسلِمَة
                                يعمل...