النــقد عملية فكرية أصيلــة تسهــم في كشف جوانب الاختـلال و تبرز أوجه القصور ، و هـي بذلــك تمثل أسلوبـا حفريـا في ثنـايا فـكر النص السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني يسعــى لطـرح الغمم التي تشوب قراءة مــا لقضية مــا . علــى أن النــقد حينمــا ينـبنـي علـى نيــة تقويم الاعوجاج و تصويب الاتجـاه بشكـل يتجرد منه النـاقد من نوايا النقد السفسطـائي يصـير مــفتـاحـا نفيســا لبنــاء القضية بنـاء سليمـا ، و لا ضير فــي أن يتمـترسَ النـاقد بمنــظومــة فكرية يعتــقد فيهــا الصحــة شــرط أن لا يصــادر حـق الآخرين في اختــيار مرجعيتهم التأسيسية بحيث تتحــرك الأفكـار بحرية و بسلاسة بعيدا عن التعــنت و التشرنق علـى الذات الفارغة ، ففــي النــقاشات الصريحـة الهــادئة تتضــح الأفـكار و تتولد المعـاني الجديدة من جدليات الذات و الموضوع .
لــكن للأسف فمواجهــة الفكــر لا يمكن أن يكون لأجل ذاته و لا يمكن التصدي لمـا عند الآخرين انتصـارا لحب الجدل و استعراضا "لعضلات" الفكر ، لأن أسلوب البحث عـن الحقيقة لا يمكن إطلاقا أن يتحقق بموجب النزعات الأنوية و سلطويات الكــلام المفخخ في النقاش . و هـذا الشكـل الجدالي وجدنـاهُ عـائقــا كبيرا أمـام تطور المعرفة بل وجدنــاهُ أنتـجَ عقليات مُــشوهــة تُـسارع إلـى مضغ الكــلام عن "النسبية" المطلقة بشكـل يطلق العنــان لميوعـة الفكر و سيولته ، و هــذا مــا افرزهُ العــقل السفسطـائي في تعـامله مع الأخـلاقيات و باب القيم حيث صــارَ يُـضرَبُ به المثل في شرود "العقل المُــكَــوَِّن" و خروجه عن ضوابط التفكير السليم ، هكـذا تجد ثراسيماخوس و غورغياس و بروتـاغوراس و غيرهم من زعــماء السفسطة الفــارغة يثيرون الزوابع الفكرية التـي استهدفت تمييع الفكــر المُــعَـقلن فانتصرت للذات علــى حساب الموضوع . و مــا فعــله هـؤلاء لا يعدم لــه أنــصار في زمنــنا المعاصر حيث راهنــوا علـى سيولة العقل لأجــل الانتصــار للبــاطل .
و كــم من مفكر بدت لــهُ سوءاته الفكرية في المنـاظرات الفلسفية و الفكرية فانكشفت لديه هشاشات أطروحـاته و مـع ذلك لا يأبـهُ بأخـطائـه بل تأخــذه العزة بالإثم فـلا يجد حنينــا يشده غير السفسطـة البلاغية و الخطاب الإرسالي التجريدي .
إن النـــقد مسؤولية أخـلاقية و ليس هـواية" يتفرطحُ" فيهـا صاحبه بالكـلام الموزون أو المُسجَّـع ، النـقـد عنـوان هوية صاحبه يعكــس قيمهُ التي تــتحكم في اختياراته و ليس منـاسبة لاستعـراض القيل و القال و جمــع لقمـامات الفكر دون نــظر و تمــحيص .
ليس هنـاك شيئا أضر للعقل من التسليم لـه في كـل قراراته، و ليس أنفـع لـه غير تقبل مخـالفات غيره بصدر رحب و نظـر ثاقب، فالاحتمـاء بالعقل و للعقل و التشرنق علـى ذاتـه كِـبرًا يؤدي حتمـا إلـى خلق كِـيانات ثقافية و دوائر فكرية مغلقة تتوجس خيفـة من كل رأي مخالف و تضع لنفسهـا عـوالِمَ خـاصة تتربـى علـى الإقصاء و النفي العنيف لعنديات الآخـرين فضلا عن كونهـا تنخرط في مسلسلات الاحتقار بدل الاقتنـاع بالافتقار ، لذلـك يحتـاج كل منـا إلـى تخصيص مساحـات فارغـة في عقولنـا للآخرين لإثراء الفكرة و تطوير العـلاقات النِّـقاشية دونمـا عنـاد و تعجرف عبر تربية النفس العصية علـى التطويع و تعويد العقل علـى الإنصات بدل الإقصاء و الاستفسار بدل الاستئصال .
لكــن مَهــمّـةَ إخـضاع هـذا العقل العنيد و ترويض عنتريته ليست بالأمـر اليسير خصوصـا و نـحن نعيش أزمنـة الإيديولوجيات المستعصية علـى الانفتاح و التفاعـل الجاد ، كمـا نعيش حـالات الخـواء المعرفي الفردي المؤدي إلـى التحصن بالذات و التعـامل مـع الآخـر كدخيل مرفوض ابتداءً ، لا بــد إذن من اعتبار النـاقد منظورا مُـلـقِّحـاً و مُصـوِّبــاً للفراغـات المعرفية و القنـاعات الخاطئة و الرهـان علـى المنظورات الأخـرى في استكمـال الأبنية المعرفية و توجيههـا ، فالنـاقد الحصيف إنمـا يُـثير مـا لم يستقر في عقل مُنــتَقَـدِه و يخلق جوانبَ مغيبة فيه و قد يمـارس التصحيح فيه جملـة. قد ينطلـق الناقد من اعتبارات معرفية بحتـة للتصويب و التوجيه و قد يتعسف أحـيانـا في النقد فيصيـر حربـاً و وبالا علـى الفكر و العقل فيهدم بلا قياس و يبني بلا أساس ، و من ثم يتحول الناقد حـاقداً و تصبـحُ المعرفـة وسيلـة للنقض فتنتصر الايدولوجيا و تنتعش المضادات و تتقهـقر المعرفة أسيرةً بين هـذا و ذاك .
النـاقد و الحـاقد صنفـان : صنف يتحرك من داخـل الانتمـاء لتيار أو جمـاعـة أو مذهـب ، فيُـقبَـلُ نقد الناقد مـا لـم يتأسس علـى عَـوارٍ فكري و مـا لم يتجرد من المصالح الفئوية و الأطمـاع المغرضة، و يُـرفَـض نقـد الحـاقد باعتبار آفتـه الأخـلاقية التي تجعـل منه شخـصا عَدائيـا لأسباب قد تعود لأشخاص محددين أو حسابات مع أفراد معينين . أمــا الصنف الثاني فيتحـرك من خـارج الانتمـاء، فالناقد هنـا يُــنــظَـر في نقده و في ثنـايا تأصيلـه المعرفي، فإن كـان النقد لا يخرج عن كونـه رأيا مِنهـاجيا توسل غرضـه بالأدوات العلمية الرصينة و التحليلات المنظمـة فهـو نقـد مقبول و مطلوب يوجب النظر فيه و الاعتداد برأيه ، و إن كـان النقد محمـولا علـى الألفاظ التنابزية و المفردات الحربية و أحكـام القيمـة المشحونـة بالكراهية فهـو نقد لا يحتـاج معه غير الإعراض و التجاهـل بلا تردد . و أمـا الحاقد من الخارج فتلك مصيبـة الإيديولوجيين الذين تشبعـوا بقيم النفي العنيف ، فآراء أمـثال هـؤلاء تتحرك بمقتضى ممارسـة الصدام كخـط مقصود فتصبح انتقاداتهم مجرد وسائل للتغطية علـى المشكـل النفسي الذي يعانون منه ، فالحاقد يرسـم لنفسه لوحـة منذ البدايـة لوحـة براقـة تعـطي لـه الحق في الحكم علـى بشاعـة الآخرين و يُـطوِّع كل الإمكانات المعرفية المتاحة للانتقام من المخالَـفين دونمـا اعتبار لأوجـه الاستدلال الفاسدة عنده، فهـو إذ يكتب و يفكر إنمـا قد حدد الهدف ابتداء فجعـلَ من كل الأدوات آليات لخدمـة مشروع النفي و الاستئصال، و مهـما حـاول العـاقل إرشاد الحاقد فإن الفشل نصيبه إذ يتعلق الأمـر بمشكـل غـائر موروث و متأصل في هوامش عقله و قلبه الجاف .َ
من تمظهـرات النـاقد الحصيف أنـه لا يكتفي بالالتقاطـات السريعـة لفكر المُنتَقـَــد و لا يأخـذ بالمنقولات و التقولات و لا يمـارس عنفـا لفظيـا يُـطيحُ بـمنتَقَــدِه لغةً و لا يُــعــبِّــر عن رأيـه في حق غريمـه لغـواً، بل ديدنـه التحري و الإبحـار في المنـاطق الفكرية المتنوعـة و الاعتمـاد علـى فكر و كتـابة المُنتَـقَـد مباشرة بلا واسطـة ، فهـو نـاقد يروم كشف المستور و المنشور و طرح صيغ بديلـة للبنـاء و التجاوز بعيدا عن الأساليب السريعـة و الأحكـام الجـاهزة ، أمـا الحاقد النـاقد فشخصيـة طابعهـا الانفعـال و التشفي، تلتمس طرق النقد من مسالك منعرجـة و تستجدي لغـة حربية حـادة غرضهـا الرئيس تصفيـة مـا عند الآخـر جملة و إقامـة حواجزَ معرفية بين الأفكـار تُفـاضِـلُ بين هـذا و ذاك قسـراً ،فهـو يتحرك بموجب "بدهيات" لصيقـة بدمـاغـه علـى ضوئهـا يُحـاكِـم و يُـخاصِمُ فيعنِّف غريمـه، كمـا يجتهد في نطاق مُحدداته النفسية و موروثاتـه المعرفية فتصير عملية البحث و الاستقصاء مجرد آليات لخدمـة النزعـة الحاقدة بدل الملكـة الناقدة .
للأسف الشديد، تـحوّلَ النقد إلـى ملهـاة يسبح فيهـا زيد بحار المعرفة طلبا للنقض لذاته ، مما يدفع بعمرو نفسـه برد المِـثل و التعامل مـعه كشر مستطير بقاءهُ نفي له علـى خط مستقيم. فالحـاقد الناقد يكتب بعنف و بأسلوب عشوائي يفتقر المرونـة الفكرية و تقوده حساسياته لإذكـاء القطيعـة و تكريس نزعـات الصدام الفكري، فهـو لا يتيح لعقله هوامشَ تعبُـر إليه اجتهـادات الآخرين و لا يدَعُ مجالا للشك في يقينياته المُبتسرة، بل يندفع في خط أهوج يعطي لنفسـه الأعلمــية بـلا نزاع .
يوم تزول الأحـقاد النفسية المريضـة و تختفـي معهـا لغات الاستئصال و النفي تعود العـلاقات بين الأفكـار لتعانق بعضهـا البعض، و يوم تنكمش الإيديولوجيات الصلبة و تتراجع لصالـح تقدم المشترك الإنساني تتـلاقح التوجهـات و تتقاطع المذاهب، آنـذاك يبدأ العقل النـاقد في نضجـه و استواء فكره فتموت الأحـقاد المعرفية التي مزقت الأمم و المجتمعـات و حوّلتهـا إلـى كيانـات مغلوبـة تنهـش بعضهـا البعض ، و لقد تطورت تلك الأحـقاد خصوصا ضد الحركات الإسلامية لتصير لهـا جيشـا من الإعـلاميين المُرتَزَقين يكتبون تحت وقع صدمـة اكتساح الإسلاميين للمشهـد السياسي ( خصوصا في مصر) و صاروا مجنونين بسعـار النقد الحـاقد ينفخون في كل شيء لتزيين أفعـال الطغـاة و الديكتاتوريين، و امتدت نيرانهـا لتشمـل قنوات مرئية و مسمـوعـة تعمل ليل نهـار لقيادة حمـلات الإبادة الفكرية و تكريس الأسلوب "الإرهـابي" في التعـامل مع الأحـرار الشرفاء، فهـؤلاء النقاد الحقّــادون لا يختلفون في شيء عن وعـاظ السلاطين ، فبهم تتم التغطية علـى جرائم المستبدين و بألسنتهم تُــقتَــل الحقيقـة و بأقـلامهم تُــشـوَّه الأحداث في كل مكـان .
في أمـانِ الله
تعليق