ثقافة السفينة
عثمان حنزاز
1- نص الحديث.
2- مقدمات.
3- حديث السفينة وأهمية القيادة.
4- مبادئ تحكم القيادة: أولها: الشورى والنصيحة – ثانيها: العدل – ثالثها: الحرية المسؤولة.
5- العمل الجماعي.
6- اختلافنا ثراء لوحدتنا.
1- نص الحديث:
روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب الشركة من صحيحه: (باب هل يقرع في القسمة والإستهام فيه) من حديث النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوأَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” .
2- مقدمات:
المتأمل لهذا الحديث يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وكأنه يصف حال مجتمعنا (السفينة) وحال أفراده والعلاقة التي تجمع بين مكونات هذا المجتمع والذي قسم إلى قسمين، قسم في أعلى السفينة وقسم في أسفلها وهي الفئة العريضة، وقسم آخر ينتمي إلى القسم الأول وهم قادة السفينة. فركاب السفينة هم في الأصل متساوون فيها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم “مثل القائم عَلَى حدود الله والواقع فيها” ، والذي فرق بينهم (طابق علوي وآخر سفلي) مصلحة السفينة، “فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها” فانقسامهم لايعني بالضرورة تفاضل احد على الأخر، إنما الاستهام عليها والاقتراع على تدبير شأنها هو الذي فرقهم “كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ” . فركاب السفينة تجمع بينهم الأخوة والمحبة والتعاون بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرواً على من فوقهم” هذه المحبة والأخوة هي التي جعلتهم يفكرون في خرق السفينة بحسن نية ولم يكن في نيتهم الإيذاء أو إغراق السفينة بدليل الحديث: “لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا” فكانت حكمة العقلاء منهم أن منعوهم من فعل ذلك حكمة ورحمة بهم، وليس غصبا وقهرا “فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا” . وهنا تظهر القيادة الحكيمة الرحيمة التي تحل المشاكل قبل أن تغرق السفينة.
3- حديث السفينة وأهمية القيادة:
القيادة هي القدرة على تحريك الناس والتأثير فيهم، وتحفيزهم على العمل باختيارهم في الاتجاه الذي يحقق أهدافهم ومصالحهم. وتكمن أهمية القيادة من خلال هذا الحديث في:
- القدرة على التنسيق بين أفراد المجتمع (السفينة) وبين المشاريع والأهداف والخطط المستقبلية (سقاية الماء) “كمثل قوم استهموا على سفينة” .
- القدرة على توحيد العاملين لتحقيق الأهداف المسطرة. “فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها” .
- القدرة على حل المشاكل والسيطرة عليها وتوجيهها ووضع الخطط لحلها . “وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً” .
- تنمية قدرات الأفراد، تدريبهم ورعايتهم وتحفيزهم، وزيادة المهارات الإنسانية والعملية وإعطائهم حيزا من الاجتهاد والتفكير والتنفيذ. “لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا” .
4- مبادئ تحكم القيادة:
في الدولة الإسلامية هناك ثلاثة مبادئ أساسية تحكم عمل القيادة:
أولها: الشورى والنصيحة:
ما كان للسفينة أن تنجو لو أن القوم لم يكونوا متناصحين متشاورين فيما بينهم، كما جاء في الحديث “وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً” . وتُعرَّف الشورى بأنها أخد الرأي ممن هو أهل له، أوهي استطلاع رأي الأمة أومن ينوب عنها في الأمور العامة المتعلقة بها، وهي من الدعائم الأساسية في النظام السياسي الإسلامي ولم تكن مقتصرة على النظام السياسي فقط بل تجاوزته لتشمل كل أمور الحياة. سُميت سورة من سور القرآن الكريم باسم “الشورى”؛ دلالة على أهمية تحقق هذا الشرط في أي شأن من شؤون المسلمين. قال الله تعالى يصف المؤمنين: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم [1].
وجاء في الحديث الشريف عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “”إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة!” قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: “لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم”" [2].
وقد ضرب لنا المعصوم صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في المشورة وتقبل النصيحة من الأمة رغم مكانته عند ربه وبين أصحابه ، فكان يقدم رأي من يشاوره على رأيه لو وافق مصلحة الأمة واتفقت عليه الأغلبية وكان شعاره الكلمة المشهورة: “أشيروا عليَّ أيها الناس” .. كان صلى الله عليه وسلم المربي “الصاحب المحبوب والقائد المطاع، وكان بين المحبة والطاعة مجال فسيح للتفاهم الفكري وتبادل الرأي والتشاور. ولم تكن الصحابة إمعة تسمع وتطيع” . لأن “الإمعة التابع لا غناء فيه للجهاد. بل الغناء لمن يلتزم بمهمات ينفذها بصدق ونصيحة ، ولو كان مخالفا لرأي الجماعة وقيادتها. بعد أن شارك في الشورى من مكانه في التنظيم، وعلى مستوى مهمته” [3]، فانعدام التشاور والتناصح في مصالح الأمة، وغياب أهل الحل والعقد يصنع لنا الاستبداد في الحكم والرأي.
ثانيها: العدل:
العدل هو أساس المجتمع الذي يحقق سعادة الفرد والجماعة ، والله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط قال تعالى: يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [4].
وعلى القائد ان يعامل الجميع على حد سواء بغض النظر عن مستوياتهم وأجناسهم وطبقاتهم وألوانهم بالعدل: إنَ اللهَ يأمركُم أن تؤدوا الآمنات إلى أهلهَا وإذا حكمتُم بينَ الناسِ أن تحكُمُوا بالعدلِ [5].
لأن الهدف الأساسي من العدل هو “هدم الحواجز الطبقية، وتقريب الشقة بين الأغنياء والفقراء في اتجاه أكبر قدر ممكن من المساواة في القسمة، أهم ما يجب أن تتصدى له الدولة الإسلامية. هذا الهدف الاجتماعي مرتبط ارتباطا وثيقا بالاقتصاد وتنظيمه، وازدهاره، وتوزيع الأرزاق بواسطته” [6].
فعلى قادة سفينة ان يسيجوها بأساس العدل الذي يعطي لكل ذي حق حقه ، سواء كانوا في أعلى أو أسفل السفينة نفكر في كيفية حمايتهم من الأسباب التي تؤدي بهم الى خرق السفينة كالفقر والظلم والتبذير والاحتكار والإقصاء وعدم التكافل . ففي إمكان الدولة ومن واجبها “أن تحل العدل في القسمة محل احتكار الأغنياء، وظلم الحكام، وتبذير السفهاء، والعدل يضمن الحد الأدنى الضروري، يتناول مجال الضروريات والحاجيات حسب التقسيم الشاطبي. والزكاة عماد من أعمدة هذه القسمة العادلة” [7].
ثالثها: الحرية المسؤولة:
جعل الإسلام “الحرية” حقاً من الحقوق التي يتميز بها الإنسان، سواء كانت هذه الحرية متعلقة بحقوق الفرد المادية اوالمعنوية، فلا قيمة للإنسان بدونها ، فأنت حرّ ما لم تضرّ. وقد بلغ من تعظيم الإسلام لها أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله بإعمال العقل الحر، قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي [8]. وهذا لا يعني ان الإسلام قد جرد هاته الحرية من كل القيود، بل جعل لها ضوابط حتى لا تؤدي إلى الإضرار بحرية الآخرين وبمصالح وسلامة المجتمع (السفينة). ومن أهم هذه الضوابط:
1– المحافظة على مقاصد الشريعة كحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
2 – الإحسان الذي لا يخنق الحرية لكن يرتفع بها لتستعلي على الأنانية حتى يراقب الإنسان الله في أفعاله وأقواله وحاله كما جاء في الحديث “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك” .
5- العمل الجماعي:
العمل الجماعي هو صمام الأمان يشبه إلى حد كبير السفينة التي تتلاطمها الأمواج، تدفعها من مكان إلى مكان، فكل منهما لديه قيادة وعاملين وأفراد وهدف ومرسى…
العمل الجماعي هو القدرة على تحقيق رؤية مشتركة، مبنية على التشارك والتوافق والمساواة ومراعاة حقوق الجميع، ويتميز العمل الجماعي بحسن استخدام الطاقات وزيادة الإنتاجية العالية والروح المعنوية المرتفعة والجودة في الأداء والشعور بالراحة في درجة عالية من الولاء للمجموعة (السفينة). هو عمل تآلفي بين أعضائه والقوة الحقيقية التي يُعتمد عليها في الإتقان والتطوير والتقدم.
الحديث الشريف يبرز لنا دور التغيير الحكيم والتوجيه الرشيد، والذي لا يطغى فيه أحد على الأخر، ويدعونا إلى العمل المشترك والجماعي المبني على التعاون كل من موقعه، وحسب إمكانياته، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
6- اختلافنا ثراء لوحدتنا:
حديث السفينة يقف بنا على حقيقة أوجه اختلاف أفراد وتركيبة مجتمع يركبون سفينة واحدة، وينقسمون فئتين، الأولى تحتكر الثروة والسلطة والنفوذ والإعلام… وثانية تعيش التهميش والفقر والحرمان وضنك العيش، ليس لعيب فيها وإنما لغياب العدل والحرية والتوزيع العادل للثروة. نجاة هذه السفينة لن يكون إلا بتلبية الاحتياجات والمتطلبات المتبادلة بين الفئتين لضمان التوازن في المجتمع.
فسفينة الوطن تبحر بنا على اختلاف مشاربنا وأفكارنا ومشاريعنا، وأوضاعنا الاجتماعية… في بحر عميق نحو شاطئ الأمان فلنجعل أساس هذه السفينة العدل لأن العدل أساس الحكم ولنجعل شراعها الشورى والنصيحة ولنجعل حشو السفينة حرية مسؤولة. لأن النجاح في التدبير هو نجاح في وصول السفينة وأما الغرق فهو نهاية الوطن. وما يربط بين الجميع المصلحة المشتركة (سقاية الماء) وجعلنا من الماء كل شيئ حي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الشورى، الآية: 38.
[2] روى الشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجة.
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الفصل الرابع. التنظيم، النواظم الثلاث، الناظمة الثانية: النصيحة والشورى.
[4] سورة المائدة آية 8.
[5] النساء آية 58.
[6] الأستاذ عبد السلام ياسين: في الاقتصاد، الفصل التاسع: النطاق الإيماني، معاشرة الأغنياء والفقراء.
[7] الأستاذ عبد السلام ياسين: في الاقتصاد، الفصل السابع: التوزيع، التكافل.
[8] سورة البقرة الآية: 256.
تعليق