كثيرة هـي المحاولات التي تواصلت عبر التـاريخ لسحق نظم الدين و مـلاحقة قيمه و ثوابته، فالوسائل الشيطانية لتحجيم نفوذ التدين أو اقتـلاعـه أو تحريفه في أذهـان البشر لم تتوقف علـى مدار التاريخ ، إذ تعددت المكائد و تنوعت الفصائل لتجتهد في محـاربة أسس التدين السليم عبر خلق ترسانات لُـغوية غرضهـا التشويش الفكري و بنـاء تناقضات وهمية داخـل الدين ، طبعـا ليس الكلام هنـا عن كل دين و إنمـا حديثنـا يدور حول الدين السمـاوي الذي أنزله الله تعـالى علـى الرسل عليهم السلام و بلّغـه محمد عليه أفضل الصلاة و السلام للناس كـافـة، فهذا الدين العظيم مــثّــل المنطلق المركزي لبناء الأمم و الحضارات و شـكّـل القضية الوجودية التـي أنتجت العـلائق الاجتماعية و تحددت علـى ضوئهـا قيم السياسـة و الاجتماع و الاقتصاد، فهـو المبتدأ الذي أعـطى للحياة معنـى دالاّ و عليه تأسست أنمـاط العيش ، و هـو الخبر و الأصل الكلي الذي تفرعت منه أغصان التكتلات الاجتماعية و وجّهت منحنيات الفكر الحائر ...
و لمـا كـان الدين أصل الأصول لم يكن غريبا أن تُـثار حوله العديد من التساؤلات و تُـطرَح عليه تقولات و مزايدات و يُضاف إليه تشوهـات و خرافات، فالشيء العظيم لا يمكن أن يمر دون ردود و انتقادات ، لذلك تـحوّلَ الدين إلـى ساحـة فسيحـة للنقاش و المدارسـة و حـظِـيَ بأكبر مساحـة علـى وجه الإطلاق من المجاذبات و المطارحات من أهـل الاختصاص أو من ذوي الأهـواء على حد سواء و صـارَ حـاضرا في الوعي و السلوك و مرجعـا أقعَــدَ المـلاحدة و الدهريين و ألجمَ الوجوديين و الفوضويين و شاكسَ اللائكيين المُغــرّبين، و قد تنوّعت مشارب الصّـادّيـن لهذا الدين بحسب تكوينـاتهم و أهوائهم و أفكـارهم فتنـاوبوا الحمـلات و تبادلوا الأدوار فشنّـوا غارات و هجمـات و توسلوا في سبيل ذلك بمـا غنِـمـوه من فلسفات وثنية و سلطات نفوذية و أموال نقودية و غرائز تسلطية ، و مـع اختلاف تلك التوجهـات مع بعضهـا البعض في المنطلقات و الرؤى إلا أنهـا تشكِّـل في المآل وحدة متكاملة في حربهـا علـى الدين إمـا جهرا و سلاطة أو سرا و تشويهـا ، و هي نتيجـة حتمية و منطقية تُــجلّــيهـا لنـا طبيعـة التنـاقض الكلي بين منظومـات مـادية لا تختلف إلا في دَرَكـات لائكيتهـا و بين مرجعية مشدودة من حيث الأصل إلـى موجد الأكوان و خالق الأعيان ، بين تيارات انخرطت في مشروعـات سحق نزوعـات التدين و مـلاحقة تكويناته و تمظهراته و بين نظام إلهـي فوق الجميع يقوم على بناء متواليات العلائق الإيمانية و الاستخلافية الصلبة، و مـع كل المحاولات الرامية لوأدِ الصوت الديني و قطع جذوره و أوصاله و السعي الحثيث لمصادرة الحق الطبيعي للإنسان في أن يعرف وِجهــة مركبه بأنوار الوحي الإلهـي فإن عـظمـة هـذا الدين يظــلّ شامخـا تـرنـو إليـه أنـظار الحُـيارى و تصبو إليه في كل وقت و حين عقولا تلتمـس الخـلاصَ بـلا تردد، و هنــا سنقف بحول الله علــى أربعــة محـاولات استهدف فيهـا أهلهـا الاعتراض علـى جوهـر الدين التفاف و استئصالا نسردهـا اختصارا :
أولا : المحـاولة البدئية : المحاربة الجذرية / العقيدة
تتمثل المحاولة الأولـى في مساعي التصدي للدين كعقيدة توحيدية قامت ضد الوثنيات و الشِّركيات ، فلقد سارعت أقوام عديدة في الاعتراض علـى ظهور هـذا الدين و نـاصبوا له العداء بشكل مطلق و لـقّّـحوا عقولهم ضد هـذا النداء الإلهـي للناس فالتمسوا كل الطرق للحفاظ علـى المعتقدات البالية و إبعـاد الصوت الجَـهـوري التي صدحت بهـا ألسن الرسل عليهم السلام أجمعين، فالتاريخ يكشف لنا كيف وقفَ هـؤلاء ضد دعوات المرسلين ومـارسوا كل صنوف المحاربة الجذرية لكلمة الله تعالى فأصروا علـى التقاليد الفاسدة الموروثة عن الأجداد و الآباء حتـى أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ، لـوحِقَ الحقُّ بمحاربة العقيدة بداية و اجتمع ضده كبار الأعيان و وُجهائهم للتصدي لهذا النبأ الجلل و عُـقِـدت بسببهـا شتـى " المؤتمرات" للبحث في صيغ منع الوافد الجديد فأشعلَ فيهم حُمــى السُّهـاد و باتوا يعلنونهـا حربا شعواء بلا هوادة .
كـان من الطبيعي أن تقشعـر عقول المقلدين لأن الدين هنـا كعقيدة تأسيسية مــثّـل صدمـة حقيقية و رجّـة هـزّت فكر الوثنيين و زحزحت قنـاعات المشركين، و في سيرة محمد عليه السلام يتضح حجم عـداء القرشيين و مـدى انزعـاجهم من الدعـوة التوحيدية الخالصة إذ تفننوا في استحداث كل الإمكانيات لمنع هـذا الوليد الجديد من الاشتداد و الاستواء و بلغوا ذروتهـا عندمـا قرروا اغتيال الرسول عليه السلام للتخلص من العقيدة المتجددة، بدأت إذن أصول المحاولات الصّادّة لانتشار الدين على شكـل صراع وجودي استهدفَ استئصال مرجعيته العقدية و إحـلال المنظومـة الشِّـركية ومـا تنتجهـا من قيم منحـلّـة و علاقات فاسدة ، و مـا كـان للمشركين أن يستميتوا في صدّ الدعـوة التوحيدية لـو اقتصرت علـى جانبهـا التشريعي دون العقدي ، فالقوم أدركـوا مبكرا أهمية العقيدة في بنـاء الأساس الاجتمـاعي الشامل و مركزيتهـا في تشكيل البنـى الأفقية .
في خـلاصات مسيرات الرسل عليهم السلام تتبدى لنـا كيف عـاند الوثنيون و خـاصموا سنوات تتلــى بأنفاس لا تكل و لا تمل رغبـة في إرسـاء جذور الشرك و الإلحـاد و تثبيت ملحقاتـه البنائية ، و كلمـا جـاءهم رسول ينذرهم شر مـا يفعلون أنكـروا عليه مصدره الإلهـي و سخـروا من التوحيد جملة . إن المـلاحدة المعاصرين ليسوا بأقل وقاحـة من هـؤلاء القوم و إن كـان أمثالهم صاروا مصابين بأمراض اجتمـاعية خدّرت عقولهم و سممت تفكيرهم لتلقي بظلالهـا علــى اعتقاداتهم الرخـوة أصلا .
المحـاولـة الثانية : محـاولات الالتفاف الجزئيــة
انتكست محـاولات طمس نور الله تعـالى و مخرت إرادة الله عُــبابَ الاستكبار، و انتصرت كلمة الحق فشقّــت طريقهـا لقلوب الناس ترسم فيهم حـلاوة الإيمان و لوعـة الإحسان، و صدقت كلمة المولى عز و جل بأن يظهـره على الدين كله و لو كره المشركون، فرفرفت أعـلام التوحيد من جديد و هـزت حنـاجر المؤمنين قـلاعَ المشركين و اندحرت آمـال الوثنيين في حفظ مـا ورثوه من باطل و سفاسف، لـكن ، سيادة هـذا الدين العظيم و بسط سلطـانه بقوة العقيدة و الشريعـة لـم يمر بعدهـا دون قيام نزعـات تُشاكس هـذا السلطان إذ تحركت محـاولات الالتفاف عليه بشكل جزئي لـم تكن تستهدف عقيدته التوحيدية جملة و إنمـا رمت إلــى تحقيق أغراض أهلهـا تحقيقا "فئويا" محضا ، في هـذا السياق بدأت حركـة أصحاب المصالح الانتهـازية برفض أداء الزكـاة للدولة الإسلامية في زمن الخليفة أبو بكر رضي الله عنه و أصروا علــى فصل الصلاة عن رفيقتهـا الزكـاة إصرارا باتت فيهـا هيبـة الدولة مهددة بمتمردين استهدفوا بالأساس حرمـان طبقـة الفقراء من حقهم المـالي، أي التفافا جزئيا علــى منظومـة التشريع بفصل العقيدة عن مُلحـقاتها التكوينية و البنائية، و هـذا الالتفاف و التصدي للدين كمرجعية عليا نـاظمة لم يكن مجرد " موقف" سياسي قابل للتفاوض حوله و إنمـا عُـدّ سابقة خطيرة و أول محـاولـة "علمـانية" أرادت أن تتملص من المنظومـة و تُحــكِّم أغراضهـا الرافضة لوصايا الدين، بل تُــمثـل في أعراف الدول انفصالا و تمردا علـى سلطـة الدولـة و الدين خصوصـا و أنهـا توسلت تمرير إرادتهـا بقوة السيف و أسنة الرمـاح ، لذلك كـان من المشروع جدا أن يحسـم الخليفة الأول أمـره بشأن تلك الحركة و يعقد العـزم علـى استئصال شأفتهـا إذ يتعلق الأمـر بعدوان علـى أحـد حقوق النـاس الفقراء و أهم مرتكزات الدين .
و من بين محـاولات الالتفاف الجزئية علـى الدين كذلك نجد مساعـي أمراء العض في تشويـه منظومـة العدالـة الإسلامية و الحكم بمنطق تسلطـي يقوم علـى مصادرة آراء العلمـاء المخـالفين و مـلاحقة الأحـرار في أرزاقهم و التنكيل بالأطراف المعارضة، لقـد كـان هـذا التصرف العضوض يتحرك من منظومـة قيمية خـارجة عن نواظم الشورى و العدل و احترام سلطة العلمـاء فصار الحكم الأمـوي يمـارس التفافا خطيرا علــى مبادئ الإسلام في تدبير الدولـة ، فرغـم أن الحـاكم الأموي أو العباسي كـان يتحرك ضمن مجال تداولي يمثل فيه الدين الموجّـِه الرئيسي لحياة الناس إلا أنه استغل سلطـانه لتصفية الحسابات و نهب أموال الدولة و إلهـاء الشعب بقضايا فكرية منـاظراتية أو أدبية ، كمـا أنـه اشتغــل بتنمية ثرواته الجبائية و تهيـئة كـل الأجـواء لاحتـلال الحكم و توريثـه عنوة مـع سحق كـل الزعـامات المنـافسة و الشخصيات النزيهـة . لقد كـان الالتفاف الجزئي علـى الدين هنـا يمر عبر بوابـة السياسـة و الحكم فانتُقِــضَ انتقاضـا رهيبا ففسحَ المجال لتشويه الممـارسة السياسية الشرعية و أعطـى لكل نــاعق مبرر السعي لامتلاك السلطـة و صدقَ رسول الله عليه السلام عندمـا قال : " : لينقضن عرا الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضا الحكم وأخرهن الصلاة "مسند أحمد
يُتــبع بحول الله ...
تعليق