جزاكِ الله خيراً أختنا الكريمة
لا ينبغي أن يٌذكر هذا الحديث دون أن نعرض بعض الفوائد العظيمة المستنبطة منه:
... أن الصدق هو شعار المؤمن، وأن المؤمن لا يكذب، وأنّ منجاته في الصدق، وأنه إذا صدق أكرمه الله عز وجل، وجعل الأمور كلها في صالحه .
فقد أخرج الإمام البخاري ومسلم حديث سيدنا كعب بن مالك، والقصة كلها يرويها هذا الصحابي الجليل بلسانه، وقد وردت في كتب التفسير كسبب لنزول آية عظيمة من سورة التوبة، ... ،
وروى هذه القصة الإمام البخاري، والإمام مسلم، وكلكم يعلم أن أعلى درجة في الأحاديث الصحيحة ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهذا الحديث، أو تلك القصة تعد من الطبقة الأولى .
ما معنى كلمة (يعاتب)في نص الحديث ؟
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, يَقُولُ:
((لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ, حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
كلمة(يُعَاتَبْ) تعني أنّ النبي الكريم له حق عليك، أنت لستَ مستمعًا، أحيانا يظنّ الناس أنّ درس العلم مجرد محاضرة، وبعض الأشخاص يحضرها بل ينصرف عنها، فأنت لك أخوان مؤمنون، منضم إلى جماعة مؤمنة، لهم حق عليك، ولك حق عليهم, هذا فرق كبير بين التدريس وبين التربية، التدريس إلقاء درس، لكن المربي هو الذي يتعاون مع أخوانه ليأخذ بيدهم إلى الله عز وجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس مبلغاً فقط، بل هو مربٍّ، فقد قال:((إنما بعثت معلما لأتمم مكارم الأخلاق))
فالنبي لحكمة رآها لم يعاتب أحداً من أصحابه تخلف عن موقعة بدر، لكن في تبوك عاتب النبي من تخلف عن هذه الموقعة .
بالمناسبة الإنسان أحيانًا يعاتب مَن يثق به، حضر شخصٌ أول مرة، فالحضور الأول لا يعدّ التزاماً حميماً، لكن شخصًا له في مجلس العلم سنوات طويلة، فهذا الشخص يعاتَب إذا سافر مِن دون أن يُعلِم، ويعاتَب إذا طلق امرأته من دون أن يستشير، ويعاتَب إذا دخل في تجارة لا ترضي الله عز وجل وله مرجع، من استشار الرجال استعار عقولهم، أنت إذا استشرت رجلاً عاديًّا فقد استعرتَ عقله، واستعرت خبرته، فكيف إذا استشرت من تثق بدينه وعلمه، يعطيك الحكم الشرعي يعطيك ما يرضي الله عز وجل، يعطيك التوجيه الصحيح، يعطيك الدليل ؟ .
... فالنبي في بدر لم يعاتب, لكن في تبوك عاتب، أنت لك حق على من يعلمك، حق النصيحة، وحق الإرشاد، وحق الخدمة، وأن يقدم لك كل ما يستطيع من أجل إسعادك في الدنيا والآخرة، وله حق عليك، إذا دعاك إلى عمل صالح أن تستجيب .
إليك حديث كعب بن مالك يشكو ألمه وحزنه حينما تخلف عن غزوة تبوك :
فهذا الصحابي الجليل, قال:
((لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ, وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ, وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ إذا عاهد المسلمُ اللهَ عز وجل، أو عاهد رسول الله، أو عاهد من ينوب عن رسول الله، عاهد الله عز وجل على السير في طاعته فلا بدّ أن يفيَ، وأنت هل تدري مَن عاهدت؟ عاهدت خالق الكون، لذلك فعَنْ أَنَسٍ, قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ:((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ, وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ))
[أخرجه أحمد في مسنده عن أنس]
إذا أكرم اللهُ الإنسانَ بالعمرة أو بالحج، ووقف عند الحجر الأسعد، وقال الدعاء المشهور :(اللهم عهداً على طاعتك، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، وإيماناً بنبيك، وعهداً على طاعتك، ثم قبل الحجر، هذا العهد ينبغي أن يذكره طوال حياته، وأنت عاهدت الله على الطاعة فعليك الوفاء)
قال: لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ, وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا(بدر أشهر، لكنه في هذه البيعة التي بايع بها النبي عليه الصلاة والسلام في العقبة، هذه البيعة هي حياته كلها), كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ, وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ (الآن دخلنا في الصدق، هذا الصحابي سترون بعد قليل أنه أوتي طلاقة لسان، وأوتي جدلاً، وهذه قدرة في الإنسان، اسمها القدرة على الإقناع، عندما قسّم علماء النفس القدرات العامة والقدرات الخاصة، عدُّوا القدرة على الإقناع قدرة خاصة في الإنسان، فهناك شخص كيفما تكلم تنحاز إلى جانبه، وقد يكون غير محقٍّ، لكن عنده قدرة إقناع، وطلاقة لسان، وحجة حاضرة، وتعليل سريع، كلها موفورة عنده .
ذات مرة كان الأحنف بن قيس في مجلس معاوية بن أبي سفيان، وهذا المجلس عُقِد لأخذ البيعة لابنه يزيد، وكل من حضر المجلس تكلم، وأثنى، وأطنب، ومدح، وبالغ في المديح أمام أبيه، وبقي الأحنف ساكتاً، سكوته أربك المجلس، بل أحرج الحاضرين، فما كان من معاوية إلا أن قال له تكلم يا أحنف، لماذا أنت ساكت؟ فقال الأحنف كلمتين، فيهما بيان، وأيّ بيان، قال: ((أخاف اللهَ إنْ كذبت، وأخافكم إن صدقت))
فكانت كنايتُه أبلغ من التصريح، أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت .
كذلك ، أبو حنيفة النعمان، دخل على المنصور، وقال له خصم عنيد له: يا أبا حنيفة, إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ أأقتله أم أتريث فلعله مظلوم؟ فقال أبو حنيفة:
((الخليفة على الحق أم على الباطل؟ قال له: على الحق، قال له: كنْ مع الحق, فقال أبو حنيفة: أراد أن يقيِّدني فربطتُه))
بعض الأشخاص أصحاب فطنة، أصحاب بديهة، يسعفهم الجواب المفحم مباشرة، هي قدرة في الإنسان، اسمها القدرة على الإقناع .
لكن بالمناسبة من يملك هذه القدرة على الإقناع يملك قدرة على قلب الحق إلى باطل، فالباطل عندئذ يبدو بحجم أكبر من حجمه، من كان يملك قدرة على أن يحطم خصومه بالكلام، فهذه القدرة يوم القيامة يفقدها الإنسان, الدليل قوله تعالى : ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة يس الآية: 65 )
طلاقة اللسان تنتهي يوم القيامة، لأنه يومئذ يشهد العمل على صاحبه .
هذا الصحابي الجليل أوتي جدلاً، بالتعبير الحديث أوتي قوة إقناع عجيبة، فلو أراد أن يكذب على النبي لأقنعه، والنبي هكذا يقول:(لعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر، فإذا قضيت له بشيء، فإنما أقضي له بقطعة من النار، النبي بشر، شخص يملك لسانًا ذربًا، حجة قوية، طلاقة لسان، سرعة بديهة، عبارة متينة، شواهد دقيقة، معه أدلة، أنتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكم لصالحه، فالنبي الكريم طمأننا، وقال: إذا كان أحدكم طليق اللسان، قوي البيان، قوي الحجة وأقنعني، واستطاع بقوة لسانه أنْ ينتزع مني فتوى، ولم يكن محقاً فلن ينجوَ من عذاب الله ، لذلك سأهمس في آذانكم, علاقتك مع مَن؟ مع الله عز وجل، هذا هو التوحيد، علاقتك مع الله وحده)
فقال هذا الصحابي الجليل:وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى, وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ, (فهو صادق، ليس لي عذر، كنت قويًّا، نشيطًا، غنيًّا، متفرغًا، لكنك الآن تجد الرجل يستطيع أنْ يقول: زوجتي مريضة، أو عندي مشكلة، ويأتي بآلاف الأعذار، ويتخلص بنعومة، لكن مع الله الأمر مكشوف،
أمَا قال سيدنا عبد الله بن عمر للراعي: بعني هذه الشاة .
قال له: ليست لي .
قال له: خذ ثمنها .
قال: ليست لي .
قال له: قل لصاحبها ماتت .
قال: ليست لي .
قال له: خذ ثمنها .
قال: واللهِ إنني لفي أشد الحاجة لثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ .
إذًا: لا حل لها، هذا هو الإيمان، هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين، الإيمان قيد، واللهُ عز وجل مطَّلعٌ على قلبك، وعلى حركتك، وعلى نشاطك، وعلى كلامك، يعلم السر وأخفى
قال: وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لم يكن عندي راحلة واحدة فقط، بل كان عندي راحلتان فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ, قال تعالى:
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ (سورة التوبة الآية: 81 )
وكانت من أصعب الغزوات، لبُعْدِها عن المدينة، وكانت في الصيف، في وقت نضج العنب والتمر
قال: اسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا, وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ, فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمِ الَّذِي يُرِيدُ, ( وهكذا بيَّن النبي الكريم للمسلمين أن هذه الغزوة باتجاه تبوك، وأن العدو قوي، وكثير العدد والعُدد، كي يتأهبوا، كي يأخذوا العدة الكافية، فأخبرهم بوجهه الذي يريد), قال: فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا (ليس هناك رغبة شديدة، قد يتحرك اليوم أو غداً، أو بعد غدٍ، قضية سهلة)وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بي (لذلك قيل: هلك المسوفون). قال: فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا, وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ, فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ, ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي, فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ, أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
مثلُه كمثَل رجل له أصدقاء يحبهم ويحبونه، ثم يلتفت في أثناء الدرس فلا يجد أحدًا حواليْه، سيجد الأشخاص البعيدين عن الله عز وجل، وهذا وقت لله عز وجل،
وهذا استنباط لطيف ، :قال تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
( سورة الجمعة الآية: 9)
( مثال ) في وقت صلاة الجمعة ،، من تجد في البيت قابعاً؟ المقصر، الفاسق، الفاجر، المنحرف، غير المسلم، أما المسلمون في هذا الوقت فكلُّهم في المساجد، وقد قال أحد كبار العارفين: ليس الوليُّ الذي يمشي على وجه الماء، وليس الولي الذي يطير في الهواء، لكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال والحرام، أو أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك .
الذي آلمه أنه حين يخرج من بيته لا يرى إلا المنافقين، والعجزة، أما الأصحاب الكرام ، الأقوياء، الأشداء، فهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال تعالى:
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾
( سورة التوبة الآية: 120)
بهذا الوقت أين المسلمون؟ في بيوت الله، وأنت أين تتواجد؟ وهذا الوقت أين تمضيه؟ يجب أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك .
هل قدم كعب حجة لتبيان عذره عن سبب تخلفه عن الغزوة وما هو القرار الذي اتخذه ؟
قال كعب:
((وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ (فالرسول لم يكن مبلِّغًا فقط، بل كان قائدًا كذلك، وكان مربِّيًّا يسأل عن أصحابه، ويتفقّدهم، وأنت لما تتفقد أخًا لك غاب عن درس، فلا يعلم إلا الله كم لك من أجر؟ شعر أن له قيمته، شعر أنه عضو بأسرة، فكل أخ من أخواننا الكرام يجب أن يكون له أخ في الله, أنا اليوم قبل أن آتي إليكم، أخٌ غالٍ علينا، لم أرَه منذ أسبوعين أو ثلاثة، اتصلت به قبل أن آتي، قال لي: لديه سبب يمنعه، لكن شعر بمودة بالغة، فقلتُ له: مِن واجبي أنْ أسال عنك، فكل واحد منكم يتفقد أخوانه، هذا أوصل، وأدعى للمودة، وأقرب إلى مرضاة الله عز وجل). قال النبي الكريم بتبوك، وهو جالس في القوم: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ, (يعني يعتني بثيابه، ببيته، بالظل الظليل، بالفاكهة الناضجة، فهذا ما شأنه أنْ يكون معنا,هذا طعن أليس كذلك؟), فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ, وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, (هؤلاء الأصحاب يجب أن نحبهم، وليكنِ المؤمن عن غياب أخيه كالسيف، يدافع عنه، لكن هناك مؤمنون ضعاف، يتلذذون بنهش أعرض أخوانهم، ويتلذذون بالطعن بإيمانهم . وفي موقف آخر, تفقد النبي صحابيًّا جليلاً، فاتَّهمه أحدهم أنّه شغلته دنياه، فقال أحد أصحاب رسول الله: واللهِ يا رسول الله, لقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك). فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي (يعني تألمت، وإذا سألني النبي: لماذا تخلفتَ يا كعب؟ فبماذا أجيبه؟)فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ, وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي, (ماذا أقول له؟ ما الذي شغلني عنك يا رسول الله؟), فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا, زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل, حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا, فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ (أيْ اتخذ قرارًا حكيمًا أن يصدقه القول ) ح وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا, وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ, بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ, فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ (أراد شخصٌ يومًا أن يسافر لأداء فريضة الحج، ومعه مبلغ من المال، وحار أين يضعه؟ فدخل إلى المسجد, وتوسّم في المصلين، فرأى أحدهم أشدَّهم خشوعاً، يصلي ويغمض عينه، وصلاته متقنة، فبعد أن انتهى من صلاته، قال له: والله أعجبتني صلاتك، وعندي أمانة أريد أن أضعها عندك إلى أن أعود من الحج، فقال له: وأنا صائم أيضًا، قال له: واللهِ صيامك لم يعجبني ! [ أي : عرف أنه مرائي ]
أحياناً الإنسان يكشف نفسه، فهؤلاء حلفوا أيمانًا، ولم يستحلفهم النبي، وقدّم كل واحد منهم عذرًا، فقَبِلها فالنبي منهم).
وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا (هؤلاء هم المنافقون), فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ, وَبَايَعَهُمْ, وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ, وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ, حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ -والنبي عنده فراسة، وسيدنا كعب مؤمن)تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ( رحب به في غضبٍ منه), ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ, فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ قَال: قلت: يا رسول الله, إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ, (فأنا طليق اللسان، وعندي حجة قوية)وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا, (أنا أتكلم بقوة), وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ, (هذا هو التوحيد، أنت بشر، لو أرضيتك بكلام مقنع ليوشك أن يسخط عليَّ الله عز وجل، واللهُ هو الأصل ، وأنا بيده)إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ, وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ, وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ (هذا هو الصدق، كنت قويًّا، ونشيطًا، لكن تخلفت), قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ, فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ, فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي, فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ, قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي, (أَنَّبوني على الصدق، ورموني بالجنون), قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْك هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ, فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ, قَالَ: قُلْتُ مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ, وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هو الحكم الشرعي الذي أصدره رسول الله بكعب ومن معه وما هو البلاء الذي نزل بكعب في زمن المقاطعة؟
قَالَ:
((وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا نحن الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ, قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ, وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ, وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ, وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ, وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ, وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ, (ما هذا الانضباط؟ هذا مجتمع الإيمان، كلمة قالها النبي التزموا بها), وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ, وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ, فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ, وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ, وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ, وَهُوَ ابْنُ عَمِّي, وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَو َاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ, فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ, أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ, هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ, فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ, فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ, فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ, يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي, فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ, وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ, فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ, وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ, فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ, قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا, وَهَذِهِ أَيْضَا مِنَ الْبَلَاءِ (الغساسنة عرب في شمال الجزيرة يبدو أن قصته انتشرت حتى وصلتْهم، فأرسل ملك الغساسنة له كتابًا أنّ صاحبك جفاك، فتعال إلينا، نحن نستقبلك)قال: فتيممت بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا بِهَا, حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ, وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي, فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ, (هل مِن إنسان على الأرض أمرُه نافذ في أصحابه إلى درجة أنه يمنع علاقتهم بزوجاتهم فيستجيبون؟), فَقَالَ: فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا, قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ, قَالَ: فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ, فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا, وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ, فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ, وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا ,قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ, قَالَ: فَقُلْتُ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ قَالَ: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هي البشرى التي حلت على كعب ومن معه وفرح لها المسلمون ؟
قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا, فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي, وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ –قال تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة التوبة الآية: 118 )
سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَي عَلَى سَلْعٍ, يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ ابْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ, قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا, وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ, قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ, فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ, وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا, وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ, فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَس، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ, وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ, وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا, فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ, وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ, حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ, فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ, وَحَوْلَهُ النَّاسُ, فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي, وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ, قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ, قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ, وَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ, قَالَ: فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذْ هداني الله إلى الإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كعب يرتل في خشوع ودموعه تغمر خديه، قول الله تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة التوبة الآية: 118)
سؤال ورد :
بقى لدينا سؤال :
لنقرأالآية من أولها .. يقول الله تعالى :
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾
( سورة التوبة الآية: 117 ـ 118)
فما الذنب الذي فعل النبي حتى يتوب الله عليه, وعلى هؤلاء الثلاثة؟ قال بعض العلماء: وهذا قولٌ أدهشني، إن الله عز وجل أراد أن يجبر خواطر هؤلاء, فتاب على النبي تكريماً لهم، النبي لم يفعل شيئاً، ولم يذنب ذنباً، وما تخلف مرة, ولكن تكريماً لهؤلاء الثلاثة الصادقين مع الله، جاءت توبة الله على النبي, وعلى أصحابه لئلا يشعروا بالوحشة وحدهم .
يا أيها الأخوة, أجمل شعور يشعر به المؤمن حينما يصطلح مع الله، وحينما تكون له توبة، أو حينما لا تخلف العهد الذي عاهدت الله عليه، أو حينما تشعر أنك على العهد قائم، هذا شعور لا يقدر بثمن، شعورك أن الله راضٍ عنك، وقد تاب عليك، وقد قبل توبتك .
فيا أيها الأخوة, نحن في الدنيا وباب التوبة في الدنيا مفتوح على مصراعيه، لماذا تاب الله عليه؟ ولماذا أوحى إلى النبي أن يأمر أصحابه بمقاطعته؟ لأنه صادق، لو أنه اعتذر كما اعتذر المنافقون لبقي منافقاً طوال حياته، وطوته الحياة، ولا سبيل له إلى الجنة، ولكن صدقه نجَّاه من النفاق، فكن صادقاً .
سيدنا جعفر, قال:
((حتى بعث الله فينا رجلاًً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه))
أي أن الصدق سمة أساسية من سمات المؤمنين، فهذا الصحابي الجليل أوتي طلاقة اللسان، أوتي الحجة القوية، أوتي قدرة على إيهام المستمع بما يريد، أوتي قدرة على أن يظهر بحجم أكبر من حجمه، ولكن شعر أن هذا رسول الله فإذا كذب عليه فالأمر بيد الله وحده، واللهُ قادر على أن يسخط النبي عليه .
ما هي قيمة الصدق في اﻹسلام ؟
أيها الأخوة, بقي علينا استنباط لطيف، العلاقة مع الآخرين بيد الله، فإذا أنت بنيتها على معصية الله عز وجل يخرِّب لك هذه العلاقة، ويخلق ظروفًا معقدة فيكرهونك، فالله عز وجل قادر أن يفسد هذه العلاقة بينك وبين من آثرت مرضاته على مرضاة الله عز وجل .
فالقصة فيها صدق، وفيها توبة، وفيها توحيد، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا, وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود]
فعلى كل مسلم أنْ يعاهد الله عز وجل على ألاّ يكذب، وربنا عز وجل قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 119)
معهم بالتوفيق، معهم بالتوبة، يتوب عليهم، يوفقهم، وما من صفة كانت أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام مِنَ الكذب، فهذا الصحابي صدق، فجاءت المعالجة التي بتوبة الله عليه في القرآن الكريم .
فيا أيها الأخوة الأكارم, الصدق منجاة، والكذب مهواة، اُصْدُقْ مع الله، اُصْدُقْ مع نفسك يرفعْك الله عنده وعند الناس، أما إذا كذبت على الله، أو كذبت على نفسك فالهوانُ مصيرُك ، والحقيقة حينما يكذب الإنسان على نفسه، يحتقر نفسه، ولأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض أهونُ من أن يسقط من عين الله، فإذا كذبت على الله، أو كذبت على نفسك سقطتَ من عين الله، فكن صادقاً ولا تبالِ .
فالصحابي الجليل كعب بن مالك مع أنه تخلف عن رسول الله، مع أنه ارتكب كبيرة، التخلف عن الزحف كبيرة في الإسلام، ارتكب كبيرة لكن صدقه نجاه من مغبة هذه الكبيرة التي ارتكبها .
ما هي العبر التي يمكن أن نستفيدها من هذه القصة ؟
هناك استنباطات كثيرة في القصة، فلما جاءت البشارة خرّ ساجدًا، فإذا تلقّى الإنسان بشارة، أو خبرًا سارًّا، فمِن السنة أن تسجد لله سجود الشكر، وهذه القصة علَّمتنا أن نكون صادقين ، وعلَّمتْنا أن ندافع عن أخواننا المؤمنين، دعْ عنك الآخرين، وكن صادقاً، دافع عن أخيك المؤمن ، علَّمتنا أن نشكر الله عز وجل إذا تلقينا نبأ ساراً، علَّمتنا أن التوبة أعظم هدية تأتيك من الله عز وجل .
لذلك قالوا: التوبة أمرٌ حسنٌ، وهي في الشباب أحسن، والعدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، والورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، والسخاء حسن, لكن في الأغنياء أحسن .
فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، وإن الله عز وجل ليفرح بتوبة عبد المؤمن كما يفرح الضال الواجد والعقيم الوالد، وهذا الصحابي الجليل دخل في سجل الخالدين, وصار من أصحاب رسول الله المرموقين بفضل صدقه، ولو كذب على النبي لمات منافقاً، ولحشر مع المنافقين, وأهلك نفسه في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين
من محاضرة للدكتور محمد راتب النابلسي ببعض التصرف
لا ينبغي أن يٌذكر هذا الحديث دون أن نعرض بعض الفوائد العظيمة المستنبطة منه:
... أن الصدق هو شعار المؤمن، وأن المؤمن لا يكذب، وأنّ منجاته في الصدق، وأنه إذا صدق أكرمه الله عز وجل، وجعل الأمور كلها في صالحه .
فقد أخرج الإمام البخاري ومسلم حديث سيدنا كعب بن مالك، والقصة كلها يرويها هذا الصحابي الجليل بلسانه، وقد وردت في كتب التفسير كسبب لنزول آية عظيمة من سورة التوبة، ... ،
وروى هذه القصة الإمام البخاري، والإمام مسلم، وكلكم يعلم أن أعلى درجة في الأحاديث الصحيحة ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهذا الحديث، أو تلك القصة تعد من الطبقة الأولى .
ما معنى كلمة (يعاتب)في نص الحديث ؟
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, يَقُولُ:
((لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ, حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
كلمة(يُعَاتَبْ) تعني أنّ النبي الكريم له حق عليك، أنت لستَ مستمعًا، أحيانا يظنّ الناس أنّ درس العلم مجرد محاضرة، وبعض الأشخاص يحضرها بل ينصرف عنها، فأنت لك أخوان مؤمنون، منضم إلى جماعة مؤمنة، لهم حق عليك، ولك حق عليهم, هذا فرق كبير بين التدريس وبين التربية، التدريس إلقاء درس، لكن المربي هو الذي يتعاون مع أخوانه ليأخذ بيدهم إلى الله عز وجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس مبلغاً فقط، بل هو مربٍّ، فقد قال:((إنما بعثت معلما لأتمم مكارم الأخلاق))
فالنبي لحكمة رآها لم يعاتب أحداً من أصحابه تخلف عن موقعة بدر، لكن في تبوك عاتب النبي من تخلف عن هذه الموقعة .
بالمناسبة الإنسان أحيانًا يعاتب مَن يثق به، حضر شخصٌ أول مرة، فالحضور الأول لا يعدّ التزاماً حميماً، لكن شخصًا له في مجلس العلم سنوات طويلة، فهذا الشخص يعاتَب إذا سافر مِن دون أن يُعلِم، ويعاتَب إذا طلق امرأته من دون أن يستشير، ويعاتَب إذا دخل في تجارة لا ترضي الله عز وجل وله مرجع، من استشار الرجال استعار عقولهم، أنت إذا استشرت رجلاً عاديًّا فقد استعرتَ عقله، واستعرت خبرته، فكيف إذا استشرت من تثق بدينه وعلمه، يعطيك الحكم الشرعي يعطيك ما يرضي الله عز وجل، يعطيك التوجيه الصحيح، يعطيك الدليل ؟ .
... فالنبي في بدر لم يعاتب, لكن في تبوك عاتب، أنت لك حق على من يعلمك، حق النصيحة، وحق الإرشاد، وحق الخدمة، وأن يقدم لك كل ما يستطيع من أجل إسعادك في الدنيا والآخرة، وله حق عليك، إذا دعاك إلى عمل صالح أن تستجيب .
إليك حديث كعب بن مالك يشكو ألمه وحزنه حينما تخلف عن غزوة تبوك :
فهذا الصحابي الجليل, قال:
((لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ, وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ, وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ إذا عاهد المسلمُ اللهَ عز وجل، أو عاهد رسول الله، أو عاهد من ينوب عن رسول الله، عاهد الله عز وجل على السير في طاعته فلا بدّ أن يفيَ، وأنت هل تدري مَن عاهدت؟ عاهدت خالق الكون، لذلك فعَنْ أَنَسٍ, قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ:((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ, وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ))
[أخرجه أحمد في مسنده عن أنس]
إذا أكرم اللهُ الإنسانَ بالعمرة أو بالحج، ووقف عند الحجر الأسعد، وقال الدعاء المشهور :(اللهم عهداً على طاعتك، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، وإيماناً بنبيك، وعهداً على طاعتك، ثم قبل الحجر، هذا العهد ينبغي أن يذكره طوال حياته، وأنت عاهدت الله على الطاعة فعليك الوفاء)
قال: لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ, وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا(بدر أشهر، لكنه في هذه البيعة التي بايع بها النبي عليه الصلاة والسلام في العقبة، هذه البيعة هي حياته كلها), كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ, وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ (الآن دخلنا في الصدق، هذا الصحابي سترون بعد قليل أنه أوتي طلاقة لسان، وأوتي جدلاً، وهذه قدرة في الإنسان، اسمها القدرة على الإقناع، عندما قسّم علماء النفس القدرات العامة والقدرات الخاصة، عدُّوا القدرة على الإقناع قدرة خاصة في الإنسان، فهناك شخص كيفما تكلم تنحاز إلى جانبه، وقد يكون غير محقٍّ، لكن عنده قدرة إقناع، وطلاقة لسان، وحجة حاضرة، وتعليل سريع، كلها موفورة عنده .
ذات مرة كان الأحنف بن قيس في مجلس معاوية بن أبي سفيان، وهذا المجلس عُقِد لأخذ البيعة لابنه يزيد، وكل من حضر المجلس تكلم، وأثنى، وأطنب، ومدح، وبالغ في المديح أمام أبيه، وبقي الأحنف ساكتاً، سكوته أربك المجلس، بل أحرج الحاضرين، فما كان من معاوية إلا أن قال له تكلم يا أحنف، لماذا أنت ساكت؟ فقال الأحنف كلمتين، فيهما بيان، وأيّ بيان، قال: ((أخاف اللهَ إنْ كذبت، وأخافكم إن صدقت))
فكانت كنايتُه أبلغ من التصريح، أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت .
كذلك ، أبو حنيفة النعمان، دخل على المنصور، وقال له خصم عنيد له: يا أبا حنيفة, إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ أأقتله أم أتريث فلعله مظلوم؟ فقال أبو حنيفة:
((الخليفة على الحق أم على الباطل؟ قال له: على الحق، قال له: كنْ مع الحق, فقال أبو حنيفة: أراد أن يقيِّدني فربطتُه))
بعض الأشخاص أصحاب فطنة، أصحاب بديهة، يسعفهم الجواب المفحم مباشرة، هي قدرة في الإنسان، اسمها القدرة على الإقناع .
لكن بالمناسبة من يملك هذه القدرة على الإقناع يملك قدرة على قلب الحق إلى باطل، فالباطل عندئذ يبدو بحجم أكبر من حجمه، من كان يملك قدرة على أن يحطم خصومه بالكلام، فهذه القدرة يوم القيامة يفقدها الإنسان, الدليل قوله تعالى : ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة يس الآية: 65 )
طلاقة اللسان تنتهي يوم القيامة، لأنه يومئذ يشهد العمل على صاحبه .
هذا الصحابي الجليل أوتي جدلاً، بالتعبير الحديث أوتي قوة إقناع عجيبة، فلو أراد أن يكذب على النبي لأقنعه، والنبي هكذا يقول:(لعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر، فإذا قضيت له بشيء، فإنما أقضي له بقطعة من النار، النبي بشر، شخص يملك لسانًا ذربًا، حجة قوية، طلاقة لسان، سرعة بديهة، عبارة متينة، شواهد دقيقة، معه أدلة، أنتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكم لصالحه، فالنبي الكريم طمأننا، وقال: إذا كان أحدكم طليق اللسان، قوي البيان، قوي الحجة وأقنعني، واستطاع بقوة لسانه أنْ ينتزع مني فتوى، ولم يكن محقاً فلن ينجوَ من عذاب الله ، لذلك سأهمس في آذانكم, علاقتك مع مَن؟ مع الله عز وجل، هذا هو التوحيد، علاقتك مع الله وحده)
فقال هذا الصحابي الجليل:وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى, وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ, (فهو صادق، ليس لي عذر، كنت قويًّا، نشيطًا، غنيًّا، متفرغًا، لكنك الآن تجد الرجل يستطيع أنْ يقول: زوجتي مريضة، أو عندي مشكلة، ويأتي بآلاف الأعذار، ويتخلص بنعومة، لكن مع الله الأمر مكشوف،
أمَا قال سيدنا عبد الله بن عمر للراعي: بعني هذه الشاة .
قال له: ليست لي .
قال له: خذ ثمنها .
قال: ليست لي .
قال له: قل لصاحبها ماتت .
قال: ليست لي .
قال له: خذ ثمنها .
قال: واللهِ إنني لفي أشد الحاجة لثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ .
إذًا: لا حل لها، هذا هو الإيمان، هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين، الإيمان قيد، واللهُ عز وجل مطَّلعٌ على قلبك، وعلى حركتك، وعلى نشاطك، وعلى كلامك، يعلم السر وأخفى
قال: وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لم يكن عندي راحلة واحدة فقط، بل كان عندي راحلتان فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ, قال تعالى:
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ (سورة التوبة الآية: 81 )
وكانت من أصعب الغزوات، لبُعْدِها عن المدينة، وكانت في الصيف، في وقت نضج العنب والتمر
قال: اسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا, وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ, فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمِ الَّذِي يُرِيدُ, ( وهكذا بيَّن النبي الكريم للمسلمين أن هذه الغزوة باتجاه تبوك، وأن العدو قوي، وكثير العدد والعُدد، كي يتأهبوا، كي يأخذوا العدة الكافية، فأخبرهم بوجهه الذي يريد), قال: فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا (ليس هناك رغبة شديدة، قد يتحرك اليوم أو غداً، أو بعد غدٍ، قضية سهلة)وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بي (لذلك قيل: هلك المسوفون). قال: فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا, وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ, فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ, ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي, فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ, أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
مثلُه كمثَل رجل له أصدقاء يحبهم ويحبونه، ثم يلتفت في أثناء الدرس فلا يجد أحدًا حواليْه، سيجد الأشخاص البعيدين عن الله عز وجل، وهذا وقت لله عز وجل،
وهذا استنباط لطيف ، :قال تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
( سورة الجمعة الآية: 9)
( مثال ) في وقت صلاة الجمعة ،، من تجد في البيت قابعاً؟ المقصر، الفاسق، الفاجر، المنحرف، غير المسلم، أما المسلمون في هذا الوقت فكلُّهم في المساجد، وقد قال أحد كبار العارفين: ليس الوليُّ الذي يمشي على وجه الماء، وليس الولي الذي يطير في الهواء، لكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال والحرام، أو أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك .
الذي آلمه أنه حين يخرج من بيته لا يرى إلا المنافقين، والعجزة، أما الأصحاب الكرام ، الأقوياء، الأشداء، فهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال تعالى:
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾
( سورة التوبة الآية: 120)
بهذا الوقت أين المسلمون؟ في بيوت الله، وأنت أين تتواجد؟ وهذا الوقت أين تمضيه؟ يجب أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك .
هل قدم كعب حجة لتبيان عذره عن سبب تخلفه عن الغزوة وما هو القرار الذي اتخذه ؟
قال كعب:
((وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ (فالرسول لم يكن مبلِّغًا فقط، بل كان قائدًا كذلك، وكان مربِّيًّا يسأل عن أصحابه، ويتفقّدهم، وأنت لما تتفقد أخًا لك غاب عن درس، فلا يعلم إلا الله كم لك من أجر؟ شعر أن له قيمته، شعر أنه عضو بأسرة، فكل أخ من أخواننا الكرام يجب أن يكون له أخ في الله, أنا اليوم قبل أن آتي إليكم، أخٌ غالٍ علينا، لم أرَه منذ أسبوعين أو ثلاثة، اتصلت به قبل أن آتي، قال لي: لديه سبب يمنعه، لكن شعر بمودة بالغة، فقلتُ له: مِن واجبي أنْ أسال عنك، فكل واحد منكم يتفقد أخوانه، هذا أوصل، وأدعى للمودة، وأقرب إلى مرضاة الله عز وجل). قال النبي الكريم بتبوك، وهو جالس في القوم: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ, (يعني يعتني بثيابه، ببيته، بالظل الظليل، بالفاكهة الناضجة، فهذا ما شأنه أنْ يكون معنا,هذا طعن أليس كذلك؟), فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ, وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, (هؤلاء الأصحاب يجب أن نحبهم، وليكنِ المؤمن عن غياب أخيه كالسيف، يدافع عنه، لكن هناك مؤمنون ضعاف، يتلذذون بنهش أعرض أخوانهم، ويتلذذون بالطعن بإيمانهم . وفي موقف آخر, تفقد النبي صحابيًّا جليلاً، فاتَّهمه أحدهم أنّه شغلته دنياه، فقال أحد أصحاب رسول الله: واللهِ يا رسول الله, لقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك). فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي (يعني تألمت، وإذا سألني النبي: لماذا تخلفتَ يا كعب؟ فبماذا أجيبه؟)فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ, وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي, (ماذا أقول له؟ ما الذي شغلني عنك يا رسول الله؟), فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا, زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل, حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا, فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ (أيْ اتخذ قرارًا حكيمًا أن يصدقه القول ) ح وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا, وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ, بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ, فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ (أراد شخصٌ يومًا أن يسافر لأداء فريضة الحج، ومعه مبلغ من المال، وحار أين يضعه؟ فدخل إلى المسجد, وتوسّم في المصلين، فرأى أحدهم أشدَّهم خشوعاً، يصلي ويغمض عينه، وصلاته متقنة، فبعد أن انتهى من صلاته، قال له: والله أعجبتني صلاتك، وعندي أمانة أريد أن أضعها عندك إلى أن أعود من الحج، فقال له: وأنا صائم أيضًا، قال له: واللهِ صيامك لم يعجبني ! [ أي : عرف أنه مرائي ]
أحياناً الإنسان يكشف نفسه، فهؤلاء حلفوا أيمانًا، ولم يستحلفهم النبي، وقدّم كل واحد منهم عذرًا، فقَبِلها فالنبي منهم).
وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا (هؤلاء هم المنافقون), فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ, وَبَايَعَهُمْ, وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ, وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ, حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ -والنبي عنده فراسة، وسيدنا كعب مؤمن)تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ( رحب به في غضبٍ منه), ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ, فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ قَال: قلت: يا رسول الله, إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ, (فأنا طليق اللسان، وعندي حجة قوية)وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا, (أنا أتكلم بقوة), وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ, (هذا هو التوحيد، أنت بشر، لو أرضيتك بكلام مقنع ليوشك أن يسخط عليَّ الله عز وجل، واللهُ هو الأصل ، وأنا بيده)إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ, وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ, وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ (هذا هو الصدق، كنت قويًّا، ونشيطًا، لكن تخلفت), قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ, فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ, فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي, فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ, قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي, (أَنَّبوني على الصدق، ورموني بالجنون), قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْك هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ, فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ, قَالَ: قُلْتُ مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ, وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هو الحكم الشرعي الذي أصدره رسول الله بكعب ومن معه وما هو البلاء الذي نزل بكعب في زمن المقاطعة؟
قَالَ:
((وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا نحن الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ, قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ, وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ, وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ, وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ, وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ, وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ, (ما هذا الانضباط؟ هذا مجتمع الإيمان، كلمة قالها النبي التزموا بها), وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ, وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ, فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ, وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ, وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ, وَهُوَ ابْنُ عَمِّي, وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَو َاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ, فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ, أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ, هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ, فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ, فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ, فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ, يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي, فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ, وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ, فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ, وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ, فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ, قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا, وَهَذِهِ أَيْضَا مِنَ الْبَلَاءِ (الغساسنة عرب في شمال الجزيرة يبدو أن قصته انتشرت حتى وصلتْهم، فأرسل ملك الغساسنة له كتابًا أنّ صاحبك جفاك، فتعال إلينا، نحن نستقبلك)قال: فتيممت بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا بِهَا, حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ, وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي, فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ, (هل مِن إنسان على الأرض أمرُه نافذ في أصحابه إلى درجة أنه يمنع علاقتهم بزوجاتهم فيستجيبون؟), فَقَالَ: فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا, قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ, قَالَ: فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ, فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا, وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ, فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ, وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا ,قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ, قَالَ: فَقُلْتُ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ قَالَ: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هي البشرى التي حلت على كعب ومن معه وفرح لها المسلمون ؟
قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا, فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي, وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ –قال تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة التوبة الآية: 118 )
سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَي عَلَى سَلْعٍ, يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ ابْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ, قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا, وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ, قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ, فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ, وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا, وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ, فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَس، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ, وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ, وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا, فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ, وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ, حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ, فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ, وَحَوْلَهُ النَّاسُ, فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي, وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ, قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ, قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ, وَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ, قَالَ: فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذْ هداني الله إلى الإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كعب يرتل في خشوع ودموعه تغمر خديه، قول الله تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة التوبة الآية: 118)
سؤال ورد :
بقى لدينا سؤال :
لنقرأالآية من أولها .. يقول الله تعالى :
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾
( سورة التوبة الآية: 117 ـ 118)
فما الذنب الذي فعل النبي حتى يتوب الله عليه, وعلى هؤلاء الثلاثة؟ قال بعض العلماء: وهذا قولٌ أدهشني، إن الله عز وجل أراد أن يجبر خواطر هؤلاء, فتاب على النبي تكريماً لهم، النبي لم يفعل شيئاً، ولم يذنب ذنباً، وما تخلف مرة, ولكن تكريماً لهؤلاء الثلاثة الصادقين مع الله، جاءت توبة الله على النبي, وعلى أصحابه لئلا يشعروا بالوحشة وحدهم .
يا أيها الأخوة, أجمل شعور يشعر به المؤمن حينما يصطلح مع الله، وحينما تكون له توبة، أو حينما لا تخلف العهد الذي عاهدت الله عليه، أو حينما تشعر أنك على العهد قائم، هذا شعور لا يقدر بثمن، شعورك أن الله راضٍ عنك، وقد تاب عليك، وقد قبل توبتك .
فيا أيها الأخوة, نحن في الدنيا وباب التوبة في الدنيا مفتوح على مصراعيه، لماذا تاب الله عليه؟ ولماذا أوحى إلى النبي أن يأمر أصحابه بمقاطعته؟ لأنه صادق، لو أنه اعتذر كما اعتذر المنافقون لبقي منافقاً طوال حياته، وطوته الحياة، ولا سبيل له إلى الجنة، ولكن صدقه نجَّاه من النفاق، فكن صادقاً .
سيدنا جعفر, قال:
((حتى بعث الله فينا رجلاًً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه))
أي أن الصدق سمة أساسية من سمات المؤمنين، فهذا الصحابي الجليل أوتي طلاقة اللسان، أوتي الحجة القوية، أوتي قدرة على إيهام المستمع بما يريد، أوتي قدرة على أن يظهر بحجم أكبر من حجمه، ولكن شعر أن هذا رسول الله فإذا كذب عليه فالأمر بيد الله وحده، واللهُ قادر على أن يسخط النبي عليه .
ما هي قيمة الصدق في اﻹسلام ؟
أيها الأخوة, بقي علينا استنباط لطيف، العلاقة مع الآخرين بيد الله، فإذا أنت بنيتها على معصية الله عز وجل يخرِّب لك هذه العلاقة، ويخلق ظروفًا معقدة فيكرهونك، فالله عز وجل قادر أن يفسد هذه العلاقة بينك وبين من آثرت مرضاته على مرضاة الله عز وجل .
فالقصة فيها صدق، وفيها توبة، وفيها توحيد، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا, وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود]
فعلى كل مسلم أنْ يعاهد الله عز وجل على ألاّ يكذب، وربنا عز وجل قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 119)
معهم بالتوفيق، معهم بالتوبة، يتوب عليهم، يوفقهم، وما من صفة كانت أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام مِنَ الكذب، فهذا الصحابي صدق، فجاءت المعالجة التي بتوبة الله عليه في القرآن الكريم .
فيا أيها الأخوة الأكارم, الصدق منجاة، والكذب مهواة، اُصْدُقْ مع الله، اُصْدُقْ مع نفسك يرفعْك الله عنده وعند الناس، أما إذا كذبت على الله، أو كذبت على نفسك فالهوانُ مصيرُك ، والحقيقة حينما يكذب الإنسان على نفسه، يحتقر نفسه، ولأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض أهونُ من أن يسقط من عين الله، فإذا كذبت على الله، أو كذبت على نفسك سقطتَ من عين الله، فكن صادقاً ولا تبالِ .
فالصحابي الجليل كعب بن مالك مع أنه تخلف عن رسول الله، مع أنه ارتكب كبيرة، التخلف عن الزحف كبيرة في الإسلام، ارتكب كبيرة لكن صدقه نجاه من مغبة هذه الكبيرة التي ارتكبها .
ما هي العبر التي يمكن أن نستفيدها من هذه القصة ؟
هناك استنباطات كثيرة في القصة، فلما جاءت البشارة خرّ ساجدًا، فإذا تلقّى الإنسان بشارة، أو خبرًا سارًّا، فمِن السنة أن تسجد لله سجود الشكر، وهذه القصة علَّمتنا أن نكون صادقين ، وعلَّمتْنا أن ندافع عن أخواننا المؤمنين، دعْ عنك الآخرين، وكن صادقاً، دافع عن أخيك المؤمن ، علَّمتنا أن نشكر الله عز وجل إذا تلقينا نبأ ساراً، علَّمتنا أن التوبة أعظم هدية تأتيك من الله عز وجل .
لذلك قالوا: التوبة أمرٌ حسنٌ، وهي في الشباب أحسن، والعدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، والورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، والسخاء حسن, لكن في الأغنياء أحسن .
فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، وإن الله عز وجل ليفرح بتوبة عبد المؤمن كما يفرح الضال الواجد والعقيم الوالد، وهذا الصحابي الجليل دخل في سجل الخالدين, وصار من أصحاب رسول الله المرموقين بفضل صدقه، ولو كذب على النبي لمات منافقاً، ولحشر مع المنافقين, وأهلك نفسه في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين
من محاضرة للدكتور محمد راتب النابلسي ببعض التصرف
تعليق