قيل:
تدعون أن هدفكم في الحياة غير مادي مع أن هدفكم هو الحصول على النعيم المقيم في الجنة والحور العين ولحم طير شهي
تدعون أن أخلاقكم غير مبنية على مصلحة في حين أنكم تفعلون الخيرات وتتصدقون فقط بناء على مصلحة دخول الجنة والإستمتاع بنعيمها
فلا فرق إذن بين مفهوم الأخلاق في المنظور الدارويني المبني على المنفعة والمصلحة وبين الأخلاق في المنظور الإسلامي المبني على ذات الأساس..
قلنا:
أولها:
الأخلاق في المطلق أمر فطري لا يُنكره لا صاحب دين ولا ناكر دين..وإنما ينكره ناكر لإنسانيته..فالأمانة فضيلة والخيانة رذيلة..هذه من المسلمات والإنسان بطبعه يميل إلى الفضيلة وينبذ الرذيلة حتى لو تعارض فعله مع مصلحته الشخصية..وهذا حجر الأساس..فالملحد لا يستطيع أن يُؤصل للأخلاق من منطلق دارويني إذ لا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة ترفض ما هو أصلح لها كمادة وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها ..هذا هو الإشكال الحقيقي أمام الملحد..إذ لا يمكنه تبني مفهوم أخلاقي إلا بتبني مفهوم لا مادي ميتافيزيقي خارج إطار المادة وقوانينها لأنه لا يوجد مثلا مفهوما للتضحية في القاموس الدارويني..ولهذا يسقط الإطلاق في خصوص مادية الهدف..فمالذي يدفع الملحد لبر والديه ولا مصلحة مادية له في ذلك..لنكون بذلك قد أسقطنا أصل شبهته انطلاقا منه كملحد قبل نقضها من جوانب أخرى..
ثانيها:
دخول الجنة هو من باب الطاعة في المقام الأول..ثم تأتي الجنة تبع لها كفضل من الله ومنة..فلو شاء الله لما وعدنا بشيء لا بجنة ولا بنار ومع ذلك سنكون أخلاقيين فقط من باب الإنقياد لأمر الله ومن باب الفطرة التي فطرنا الله عليها ككائن يميل إلى الفضيلة وينبذ الرذيلة..فلو شاء الله لأمرنا كما امر السماوات والأرض : "فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا:أتينا طائعين"..فهل وعد الله السماوت والأرض بجنة حتى ياتيا طائعين !!!
لا توجد مصلحة هنا فلم يعدها الله بالجنة ليقولا أتينا طائعين..فإن كان هذا الخطاب للسماوت والأرض فكيف لو الأمر لمن هو دون ذلك (( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) !
ثالثها:
حتى لو سلمنا له بالجنة كمصلحة عليا فإن حجتُة داحضة ولا شك..فمادية الأهداف والغايات ليست مذمومة بإطلاق وليست مذمومة لذاتها: فالمسلم لا ينكر المادية هكذا بإطلاق فلسنا نصارى ننظر للإنسان على أنه روح مجردة ولسنا يهود ننظر إليه جسدا بلا روح...بل نحن وسط بين ذلك نتزوج في الدنيا ونأكل ونشرب ونلبس ونستمتع بما احل الله..وهذه جميعها أهداف مادية لا ينكرها الإسلام..فإن كان المسلم قد سعى إليها في الدنيا فأي قيمة تبقى لاعتراض الملحد في سعينا لمثيلاتها في الآخرة !..
أما من جهة كونها ليست مذمومة لذاتها..فهذا لأنها مذمومة لطبيعة الإختبار ومكانه لا لأنها: مادية !..إذ لو فرضنا ان الغاية العليا للمسلم من الآخرة مادي..فهذا لا يتساوى مع من كان كل هدفه من الدنيا مادي..لأن الإختبار هو في ترك ما تميل إليه النفس في دار الدنيا لا في دار الآخرة..!
رابعها:
حديثه عن الجنة فيه خلط ومغالطة..فالأخلاق كما قلنا أمر فطري يحمله كل إنسان متدين وغير متدين....أما ارتباط الأخلاق وتوافقها مع ما أمر به الدين فهذه حجة عليه لا له..فهذا دليل على ان الدين والأخلاق من مشكاة واحدة..
ومسألة المصلحة فيها تفصيل..فالمصلحة في دخول الجنة تتوافق تماما مع طبيعة الإنسان ككائن أخلاقي محب للفضيلة وكاره للرذيلة..يعني لا يوجد تعارض هنا بين المصلحة والأخلاق..فهل يجوز القول أننا ضحينا باللا اخلاق طمعا في الجنة !!..بينما المنظور الإلحادي يُجوّز التضحية بالأخلاق في سبيل تحقيق غايان نفعية مادية فهو قد يسرق وقد يظلم وقد يقهر وقد يتجبر وقد يقتل ظلما من أجل مصلحة مادية وفي هذا تعارض صارخ مع الأخلاق كفضيلة.. ليتبين لنا الفارق في القياس والمغالطة في الإسقاط..وبالتالي تسقط حجته باعتبار أن لا تعارض بين أسباب دخول الجنة وطبيعة الإنسان ككائن لا حيواني..بخلاف الملحد..!
خامسها:
نحن الآن في دار الدنيا..والحور العين ونعيم الجنة هو الآن في عالم الغيب..والإيمان بالغيب والفلاح في الآخرة يستوجب ترك شهوات الدنيا وماديتها..وفي هذا الترك دليل على أن الهدف أسمى من أن يكون مادي..إذ لو كان الهدف ماديا لما كان هناك داعِِ لأن ينتظر المسلم تحقق هدفه في الآخرة وهو يرى إمكانية تحققه في الدنيا !..
اما من جهة مادية الجزاء..فهذا من باب طبيعة الخلق ومن باب الجزاء من جنس العمل..فالمسلم يصوم رمضان ويترك ما نهى الله عنه من طعام وشراب انصياعا لأمر الله فيُجازى عن ذلك في الجنة بجنس ما ترك في الدنيا..ويتجنب مأكولات ومشروبات بعينها فيُجازى بخير منها..وقس على هذا ماشئت..ونفس الشيء بالنسبة للكافر أو العاصي..فمن أكل مال اليتيم..أو كنز مالا ولم يُأتي حقه تمثل له عذابا من جنس عمله..وقس على ذلك ما شئت..والحكمة من هذا كله هو أن يتحقق معنى الثواب والعقاب في كل الأعمال التي وقعت في الدنيا فيتنعم المؤمن في الجنة بأعمال الدنيا ويتألم الكافر في النار بما كسب في الدنيا..وهو مصداق قوله تعالى "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"..إذن فرؤية عمل الدنيا في الآخرة هو من كمال العدل ولهذا كان الجزاء من جنس عمل الدنيا ليرى كلُُّ عمله..
سادسها:
نحن نعبد الله لأن الله أمر بالعبادة (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )..والجنة هي منة وفضل من عند الله..أي حتى لو لم توجد جنة فإن الإنسان سيكون مؤمن وعبدا لله كما أمر فيكفي أنه خلقه وأنعم عليه بما لا يُحصى من النعم أولها نعمة الإيمان والإسلام..فتسقط حجة الملحد من أننا نعبد الله من أجل الجنة لأن طاعة المؤمن لأوامر ربه ستكون من باب الشكر والواجب..
سابعها:
لا أحد يدخل الجنة بعمله وإنما برضا الله ورحمته..وفي هذا توجيه من الله بأن نعلق قلوبنا به سبحانه لا بما هو دونه
ثامنها:
يعتقد البعض ان لا نعيم في الجنة غير ما هو مادي..في حين ان أعظم نعيم الجنة هو غير مادي ألا وهو رضوان الله والتمتع بالنظر إلى وجه الكريم سبحانه ولا نعيم في الجنة يُضاهي هذا النعيم..
يقول بن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
(( والتحقيق أن يقال : الجنَّة ليست اسماً لمجرد الأشجار ، والفواكه ، والطعام ، والشراب ، والحور العين ، والأنهار ، والقصور ، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنَّة ، فإنَّ الجنَّة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ، ومِن أعظم نعيم الجنَّة : التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، وقرة العين بالقرب منه ، وبرضوانه ، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبداً ، فأيسر يسير من رضوانه : أكبر من الجنان وما فيها من ذلك ، كما قال تعالى : ( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر ) التوبة/ 72 ، وأتى به مُنَكَّراًَ في سياق الإثبات ، أي : أي شيء كان من رضاه عن عبده : فهو أكبر من الجنة .))
تعليق