س/ نرجو أن تجملوا لنا باختصار: ما السرُّ في تحريم الربا، مع أنه اتفاقٌ مبنيٌّ على التراضي، ما وجه الحكمة في ذلك؟!!
-----
ج/ بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه، وبعد
فهذا إشكال قد يرد على الأذهان، ولكن لا يلبث أن يزول بعد شيء من التأمل، وبيان ذلك:
أولاً: الواجب على المؤمن التسليم لحكم الله تعالى، والرضى به، وعدم معارضته بوجه من الوجوه، فإن هذا من تمام الإيمان "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. "(النساء-65).
ولا يمنع هذا من التأمل في حكمة الأمر والنهي، فإن الوقوف على أسرار التشريع يزيد المؤمن طمأنينة، فإن لم يقف على حكمة ذلك فليسلِّم لحكم الله، وليثلج صدرُه بشرع الله، وليعلم أن لله تعالى الحكمةَ البالغة فيما يشرعه، كما له الحكمة البالغة فيما يقضي به ويقدره.
ثانيًا: التراضي من المبادئ الرئيسة في المعاملات، وهو ركنٌ من أركانها، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (النساء-29)، وهذا التراضي إنما يكون في حدود المباح، وأما المحرم فلا يُستباح بالتراضي عليه، وإلا لزم من ذلك أن يكون الزنى مباحًا بالتراضي! وكذا القمار، وقتل النفس التي حرَّم الله! ومثلها الربا.
والربا –غالبًا- يكون بالتراضي بين الطرفين، فالمحتاج إلى المال الحالِّ؛ يرضى بأن يُزاد عليه في الآجل، رغبة في تحصيل المال العاجل، لحاجته إليه، ولذا قال الفقيه الحنفي أبو بكر الرازي الجصاص: «الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله: إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل؛ بزيادة على مقدار ما استقرض، على ما يتراضون به»([1]).
وقال ابن تيميَّة في معرض بيانه عدم تأثير التراضي في إباحة الربا: "وهذا مثل الربا؛ فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك، لما فيه من ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة، ولا يعطيه إلا رأسَ ماله، وإن كان قد بذله باختياره، ولو كان التحريمُ لمجرَّد حقِّ الله تعالى لسقطَ برضاه، ولو كان حقُّه إذا أَسقطه سقطَ لما كان له الرجوع في الزيادة، والإنسان يحرم عليه قتلُ نفسه أعظم مما يحرم عليه قتل غيره، فلو قال لغيره: اقتلني لم يملك منه أعظمَ مما يملك هو من نفسه..."([2])، إلى آخر كلامه رحمه الله وهو نفيس، ولولا طوله لنقلته كاملاً، وذكر فيه: أن الكفار يتبرؤون يوم القيامة من الأكابر، وهم لم يكرهوهم على الكفر، بل برضاهم واختيارهم كفروا، وهذا الرضى لم يبح لما وقعوا فيه من الكفر.
ثالثًا: ثبت في الصحيحين في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: " أما بعد، ما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ؛ وإن كان مائة شرطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"([3]).
واشتراط الربا في العقد مخالفٌ لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون باطلاً.
رابعًا: المال ملكٌ لله وحده، كما قال تعالى"آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ" (الحديد: 7)، فالناس مستخلفون على هذا المال، استخلفهم الله عليه ابتلاءً وامتحانًا، وقال تعالى:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(المائدة: 120).
وقد جعل الله هذا المال في أيدي الناس، وتحت تصرفهم، وشرع للتصرف فيه قيودًا، من أهمها مراعاة العدل، ونفي الظلم، واجتناب أكل المال بالباطل، فمن تصرف في ماله تصرفًا يخالف القيود التي جعلها الشارع كان تصرفه مخالفًا، وتراضي المتبايعين على التصرفات المخالفة لا تصيِّرها موافقة للشرع.
وثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن تلقي الركبان، وعن بيع الغرر، وأن يبيع حاضر لباد، والمزابنة؛ لما يترتب على هذه البيوع من أضرار على الفرد، والجماعة، وتراضي المتبايعين لا يغيِّر الحكم، ولا يبيح المحرَّم، ولا تصير به المفاسد مصالح، بل تبقى المفسدة، ويقع الضرر، وإن جهل المتبايعان حقيقةَ تلك الأضرار.
خامسًا: إن في تحريم الربا مصالح عظيمة، ففيه حفظٌ لحقوق الناس، ومنعٌ للموسرين من استغلال ذوي الحاجات، وأكل المال بالباطل؛ إذ يستغل المقرض حاجة المقترض، فيحصل منه مالاً زائدًا من غير مقابل، فيزداد الغنيُّ غنى، والفقير فقرًا، وتتكدس الأموال عند طائفة قليلة من الناس، ويفضي إلى انقطاع المعروف والإحسان، وضعف التراحم، وهذا كله يورث العداوة والبغضاء.
ولله تعالى حِكَمٌ بالغة، قد يدرك الناس بعضها، ويغفلون عن بعض، فهو الخالق، المدبر، وهو أعلم بخلقه، وبما يصلحهم: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ "(سورة الملك: 14).
عبد الله بن جابر الحمادي
_________________________________________
([1]) أحكام القرآن (2/184).
([2]) مجموع الفتاوى (15/126، 127).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع، منها: (2155)، ومسلم في صحيحه (1504).
-----
ج/ بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه، وبعد
فهذا إشكال قد يرد على الأذهان، ولكن لا يلبث أن يزول بعد شيء من التأمل، وبيان ذلك:
أولاً: الواجب على المؤمن التسليم لحكم الله تعالى، والرضى به، وعدم معارضته بوجه من الوجوه، فإن هذا من تمام الإيمان "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. "(النساء-65).
ولا يمنع هذا من التأمل في حكمة الأمر والنهي، فإن الوقوف على أسرار التشريع يزيد المؤمن طمأنينة، فإن لم يقف على حكمة ذلك فليسلِّم لحكم الله، وليثلج صدرُه بشرع الله، وليعلم أن لله تعالى الحكمةَ البالغة فيما يشرعه، كما له الحكمة البالغة فيما يقضي به ويقدره.
ثانيًا: التراضي من المبادئ الرئيسة في المعاملات، وهو ركنٌ من أركانها، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (النساء-29)، وهذا التراضي إنما يكون في حدود المباح، وأما المحرم فلا يُستباح بالتراضي عليه، وإلا لزم من ذلك أن يكون الزنى مباحًا بالتراضي! وكذا القمار، وقتل النفس التي حرَّم الله! ومثلها الربا.
والربا –غالبًا- يكون بالتراضي بين الطرفين، فالمحتاج إلى المال الحالِّ؛ يرضى بأن يُزاد عليه في الآجل، رغبة في تحصيل المال العاجل، لحاجته إليه، ولذا قال الفقيه الحنفي أبو بكر الرازي الجصاص: «الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله: إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل؛ بزيادة على مقدار ما استقرض، على ما يتراضون به»([1]).
وقال ابن تيميَّة في معرض بيانه عدم تأثير التراضي في إباحة الربا: "وهذا مثل الربا؛ فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك، لما فيه من ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة، ولا يعطيه إلا رأسَ ماله، وإن كان قد بذله باختياره، ولو كان التحريمُ لمجرَّد حقِّ الله تعالى لسقطَ برضاه، ولو كان حقُّه إذا أَسقطه سقطَ لما كان له الرجوع في الزيادة، والإنسان يحرم عليه قتلُ نفسه أعظم مما يحرم عليه قتل غيره، فلو قال لغيره: اقتلني لم يملك منه أعظمَ مما يملك هو من نفسه..."([2])، إلى آخر كلامه رحمه الله وهو نفيس، ولولا طوله لنقلته كاملاً، وذكر فيه: أن الكفار يتبرؤون يوم القيامة من الأكابر، وهم لم يكرهوهم على الكفر، بل برضاهم واختيارهم كفروا، وهذا الرضى لم يبح لما وقعوا فيه من الكفر.
ثالثًا: ثبت في الصحيحين في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: " أما بعد، ما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ؛ وإن كان مائة شرطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"([3]).
واشتراط الربا في العقد مخالفٌ لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون باطلاً.
رابعًا: المال ملكٌ لله وحده، كما قال تعالى"آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ" (الحديد: 7)، فالناس مستخلفون على هذا المال، استخلفهم الله عليه ابتلاءً وامتحانًا، وقال تعالى:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(المائدة: 120).
وقد جعل الله هذا المال في أيدي الناس، وتحت تصرفهم، وشرع للتصرف فيه قيودًا، من أهمها مراعاة العدل، ونفي الظلم، واجتناب أكل المال بالباطل، فمن تصرف في ماله تصرفًا يخالف القيود التي جعلها الشارع كان تصرفه مخالفًا، وتراضي المتبايعين على التصرفات المخالفة لا تصيِّرها موافقة للشرع.
وثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن تلقي الركبان، وعن بيع الغرر، وأن يبيع حاضر لباد، والمزابنة؛ لما يترتب على هذه البيوع من أضرار على الفرد، والجماعة، وتراضي المتبايعين لا يغيِّر الحكم، ولا يبيح المحرَّم، ولا تصير به المفاسد مصالح، بل تبقى المفسدة، ويقع الضرر، وإن جهل المتبايعان حقيقةَ تلك الأضرار.
خامسًا: إن في تحريم الربا مصالح عظيمة، ففيه حفظٌ لحقوق الناس، ومنعٌ للموسرين من استغلال ذوي الحاجات، وأكل المال بالباطل؛ إذ يستغل المقرض حاجة المقترض، فيحصل منه مالاً زائدًا من غير مقابل، فيزداد الغنيُّ غنى، والفقير فقرًا، وتتكدس الأموال عند طائفة قليلة من الناس، ويفضي إلى انقطاع المعروف والإحسان، وضعف التراحم، وهذا كله يورث العداوة والبغضاء.
ولله تعالى حِكَمٌ بالغة، قد يدرك الناس بعضها، ويغفلون عن بعض، فهو الخالق، المدبر، وهو أعلم بخلقه، وبما يصلحهم: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ "(سورة الملك: 14).
عبد الله بن جابر الحمادي
_________________________________________
([1]) أحكام القرآن (2/184).
([2]) مجموع الفتاوى (15/126، 127).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع، منها: (2155)، ومسلم في صحيحه (1504).
تعليق