ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات الطلب هو "سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل بل ورجالات العلم لضحك كثيرا من طرافة المفارقة بين الواقع وهجرة التصورات القديمة، ومن الطريف أن بعض النظرات تستعصي على التعديل، ولا يستطيع الطالب أصلا أن يتصور خلافَها حتى بعد أن يشب عن الطوق، كنظرته لشيخه الذي التقاه على صِغر، فهو لا يملك أن يقلص المسافة النفسية والنظرة القديمة التي احتلها الشيخ يوم كان الفؤاد خاليا تصفق أبوابُه بالشيخ وحده، وعموما بعض أجزاء هذه المسألة فيه خير كثير!
لا أود أن يرتحل قلمي كثيرا ويشتط عما أنا بصدده، فما أردت إلا مجردَ الإشارةِ إلى مفهوم شائع يقرع سمع الطالب في أول سنيِّ عكوفه الأول ولا يفارقه حتى حين ، فبينما بناؤه العلمي يوشك على الاكتمال من لبِنَات الشيوخ وسقوفِ المؤلفين إذا بــ جملةٍ تقرع سمعه مرارا؛ ألا وهي: كن مستقلا، حافظ على طريقتك الخاصة، كن أنت. ويستعمل بعض الناصحين عباراتٍ مجازية عريضة تصيب الطالب بالهلع من مِثل: ابتلعك وابتلعته، وأكلك وأكلته، وهضمك وهضمته، وتنصهر في بوتقته .. إلى آخر ما تجود به اللغات من أساليب التنفير عن الاقتباس والمشاكلة.
والأوساط الثقافية تروْجُ فيها هذه المفاهيم أكثر منها في الأوساط الشرعية الخالصة، وفي نظري أن قدرا صالحا من مقاصد هذه النصائح لو فُهِم على وجهه لكان مناسبا، لكنَّ كثيرا من الناس يظن الاستقلال عن الناس والتميز عنهم في كل حركة وسكنة أمرا مقصودا في ذاته، وهذا من شأنه أن يحرم الطالب من كثير الكنوز التي تمر في طريق مناجم الطلب لكنه يكفُّ يده عنها طمعا في تقدير أكبر قدرٍ من الاستقلال كما نصحوه مرارا !
لو استطعت أن أصرخ في طبلةِ أذُن أخي الطالب لقلت له: مواطن القوة في كل شيء يجب أن تأخذها وتقتبسها بكل ما تستطيع، وتضمها إلى كنانتك بكل ما تطيق، ومواطن الإعجاب - أخي الطالب - ليس من الاستقلال أن تظهر التبلُّدَ تجاهها !
ليس المستقلُّ أبدًا من يتظاهر أن يوسف عليه السلام ليس جميلا، وأن الشمس ليست حارقة، وأن السماء ليست مدهشة .. لا .. هذا ليس استقلالا، هذه "حماقة" تلبس أردية الاستقلال البالية !
خذْ واقتبسْ وانبهرْ واندهشْ وقلّدْ وحاكِ وانسجْ على منوال .. إلى آخره. وكل استقلال يأتي بعد هذا فهو محمود.
بعد هذا .. لك أن تخالف الغلط والخطأ وتبدي اعتراضك على مواطن العجلة والضعف ومكامن النقص (ودون تكلُّفٍ أيضا).
تذكر أن "أول الإبداع محاكاة" ثم ينفرد الإنسان بعد حين بزيّه الخاص وطريقته التي جمعت المتفرق في الجميع، فالإبداع هو تقليد منظِّم لعدد من المبدعين، ومن هؤلاء جميعا تكون أنت، وكما قيل بأن "الأسد هو عبارة عن مجموعة من الخِراف المهضومة" والقماش هو مجموعة من الخيوط المبعثرة !
مرَّةً تحدث ابن المقفع عن تجربته في الفصاحة في نصّ من أجمل النصوص التي تروي قصة الوصول إلى نمطٍ خاص في الإبداع فقال:
(شربت من الخطب ريًا، ولم أضبط لها رويًا، فغاضتْ ثم فاضتْ، فلا هي هي نظاما، وليست غيرها كلاما)
فالناشئ الذي يبغي التميز ويحلمُ أن يكون له أثرٌ في أيِّ صعيد؛ عليه أن يشربَ "إبداعات" الذين سبقوه، فهي تغيض ثم تفيض؛ فلن تكون هيَ هيَ؛ ولن تكون أيضًا غيرها !
وعليه أن يجعل (خاطرَهُ كوادٍ مُطمئِنٍ قد مدّتْهُ سيولٌ جاريةٌ من شِعابٍ مختلفة، أو كمَنْ ركّبَ طيباً من أخلاطٍ متغايرةٍ من الطيبِ، فلا يُعرَفُ أرَجُ ما ركّبَهُ من أي طيبٍ هو) كما ذكر المظفر بن الفضل.
قيمة الاستقلال الحقيقي قيمةٌ كبرى يجب أن لا يتخلى عنها الإنسان مهما كان؛ وهي مثار إعجاب بحقّ حين تُفهم على وجهها، لكن كثيرا ما يجلب "الحموضة" أولئك الذين يتكلفون الاستقلال؛ أولئك الذين يرون الناس يمشون على أقدامهم، فيضعون أيديهم على الأرض ليمشوا على أربع؛ طمعاً في تحصيل أكبر قدر من الاستقلال؛ يُخرجُهم من "تبعية المشي على الأقدام" !
_____________________
سليمان بن ناصر العبودي ..
لا أود أن يرتحل قلمي كثيرا ويشتط عما أنا بصدده، فما أردت إلا مجردَ الإشارةِ إلى مفهوم شائع يقرع سمع الطالب في أول سنيِّ عكوفه الأول ولا يفارقه حتى حين ، فبينما بناؤه العلمي يوشك على الاكتمال من لبِنَات الشيوخ وسقوفِ المؤلفين إذا بــ جملةٍ تقرع سمعه مرارا؛ ألا وهي: كن مستقلا، حافظ على طريقتك الخاصة، كن أنت. ويستعمل بعض الناصحين عباراتٍ مجازية عريضة تصيب الطالب بالهلع من مِثل: ابتلعك وابتلعته، وأكلك وأكلته، وهضمك وهضمته، وتنصهر في بوتقته .. إلى آخر ما تجود به اللغات من أساليب التنفير عن الاقتباس والمشاكلة.
والأوساط الثقافية تروْجُ فيها هذه المفاهيم أكثر منها في الأوساط الشرعية الخالصة، وفي نظري أن قدرا صالحا من مقاصد هذه النصائح لو فُهِم على وجهه لكان مناسبا، لكنَّ كثيرا من الناس يظن الاستقلال عن الناس والتميز عنهم في كل حركة وسكنة أمرا مقصودا في ذاته، وهذا من شأنه أن يحرم الطالب من كثير الكنوز التي تمر في طريق مناجم الطلب لكنه يكفُّ يده عنها طمعا في تقدير أكبر قدرٍ من الاستقلال كما نصحوه مرارا !
لو استطعت أن أصرخ في طبلةِ أذُن أخي الطالب لقلت له: مواطن القوة في كل شيء يجب أن تأخذها وتقتبسها بكل ما تستطيع، وتضمها إلى كنانتك بكل ما تطيق، ومواطن الإعجاب - أخي الطالب - ليس من الاستقلال أن تظهر التبلُّدَ تجاهها !
ليس المستقلُّ أبدًا من يتظاهر أن يوسف عليه السلام ليس جميلا، وأن الشمس ليست حارقة، وأن السماء ليست مدهشة .. لا .. هذا ليس استقلالا، هذه "حماقة" تلبس أردية الاستقلال البالية !
خذْ واقتبسْ وانبهرْ واندهشْ وقلّدْ وحاكِ وانسجْ على منوال .. إلى آخره. وكل استقلال يأتي بعد هذا فهو محمود.
بعد هذا .. لك أن تخالف الغلط والخطأ وتبدي اعتراضك على مواطن العجلة والضعف ومكامن النقص (ودون تكلُّفٍ أيضا).
تذكر أن "أول الإبداع محاكاة" ثم ينفرد الإنسان بعد حين بزيّه الخاص وطريقته التي جمعت المتفرق في الجميع، فالإبداع هو تقليد منظِّم لعدد من المبدعين، ومن هؤلاء جميعا تكون أنت، وكما قيل بأن "الأسد هو عبارة عن مجموعة من الخِراف المهضومة" والقماش هو مجموعة من الخيوط المبعثرة !
مرَّةً تحدث ابن المقفع عن تجربته في الفصاحة في نصّ من أجمل النصوص التي تروي قصة الوصول إلى نمطٍ خاص في الإبداع فقال:
(شربت من الخطب ريًا، ولم أضبط لها رويًا، فغاضتْ ثم فاضتْ، فلا هي هي نظاما، وليست غيرها كلاما)
فالناشئ الذي يبغي التميز ويحلمُ أن يكون له أثرٌ في أيِّ صعيد؛ عليه أن يشربَ "إبداعات" الذين سبقوه، فهي تغيض ثم تفيض؛ فلن تكون هيَ هيَ؛ ولن تكون أيضًا غيرها !
وعليه أن يجعل (خاطرَهُ كوادٍ مُطمئِنٍ قد مدّتْهُ سيولٌ جاريةٌ من شِعابٍ مختلفة، أو كمَنْ ركّبَ طيباً من أخلاطٍ متغايرةٍ من الطيبِ، فلا يُعرَفُ أرَجُ ما ركّبَهُ من أي طيبٍ هو) كما ذكر المظفر بن الفضل.
قيمة الاستقلال الحقيقي قيمةٌ كبرى يجب أن لا يتخلى عنها الإنسان مهما كان؛ وهي مثار إعجاب بحقّ حين تُفهم على وجهها، لكن كثيرا ما يجلب "الحموضة" أولئك الذين يتكلفون الاستقلال؛ أولئك الذين يرون الناس يمشون على أقدامهم، فيضعون أيديهم على الأرض ليمشوا على أربع؛ طمعاً في تحصيل أكبر قدر من الاستقلال؛ يُخرجُهم من "تبعية المشي على الأقدام" !
_____________________
سليمان بن ناصر العبودي ..