ومن جب بباطن الأرض ثم سجن أسفل سراديبها .. ها هو الآن "فوق" عرش "مصر" !
وبعد المكر والغدر والخيانة والسجن .. جاء الفرج والتمكين !
سنوات طوال .. ربما لو جاء التمكين قبلها لتسرب الكبر وحب الدنيا لقلب الصديق ولكن شاء الله أن يرفعه بالإبتلاءات درجات ويره ثمرة صبره على المكاره سنوات طوال .. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟
وصار الصديق عزيزًا لـ "مصر" أمينًا على خزائنها مديرًا لشؤونها الاقتصادية ..!
ولأن الدنيا لا تستقر على حال .. ولا شئ فيها يدوم .. عم القحط أرض "كنعان" فكان عزيز "مصر" - والذي اشتهر بعدله ورأفته مع المحتاجين والضعفاء والفقراء - ينزل بنفسه ليعطي الطعام على عدد الرؤوس .. لكل محتاج وسقًا ..
ومن ضمن المحتاجين كانت المفاجأة !
وجوه مميزة يعرفها الصديق جيدًا ما نسيها بعد كل هذه الأعوام .. إنهم الاخوة الكبار "العصبة" .. من رموه بأيديهم تلك في غيابة الجب بلا ذنب عندهم إلا حب أبوه له ثم الحسد الذي أعمى القلوب .. ثم شروه بثمن بخس وربما لو أرادوا اعطاؤه للمبتاع بلا ثمن لما ترددوا .. ورغم أنه عرفهم يقينًا بمجرد النظر إلا أنهم نكروه !
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }[ يوسف : 56 ]
ولعل التعبير القرآني البليغ اختصر المشهد كله بل مشاعر كليهما في عبارة قصيرة تنبئ عن الكثير والكثير : "فعرفهم - وهم له منكرون"
معرفته لهم قد تنبئ عن أن المظلوم لا ينسى وجه الظالم أبدًا .. والمحسن لا ينسى وجه أقرب الناس إليه وإن بغى .. والمحب لا ينسى وجه حبيبه أيضًا .. وربما كان يتأمل تلك الوجوه في اللحظات الأخيرة لوضعه في الجب مستجديًا عطفهم بلا جدوى .. فصارت ملامح الاخوة الكبار كالنقش في ذاكرة الصديق مع مشاعر مختلطة بين المودة من قلب لا يحمل غلًا لأحد مع عتاب ولسان الحال : "لماذا فرقتم بيني وبين أبي .. لم البغض ؟! أتدرون من أنا .. كيف حال أبي وأخي" وربما تكون هناك أسئلة أخرى تدور.. أما هم ببساطة فله"منكرون" !
وفي تعبير : "منكرون" في وصف حالتهم فأراه لا ينبئ فقط عن جهلهم به لكونه كان صغيرًا وقتما تركوه ، وإنما قد تكون اشتبهت عليهم ملامحه فعلًا ولكن ربما رفض عقلهم الفكرة إما لبغض تحسبًا لظهوره مرة أخرى أو إنكار لحسد ، فكيف يصير هذا مصيره بعد كل ما حدث من مكر وإبعاد ؟! فلسان الحال : "إذًا ليس هو ولا ينبغي أن يكون هو ولا نريد أن يكون هو "
أنكروا وانتهى .. ولكنه عرفهم .. عرفهم يقينًا .. هؤلاء من حرموه من أبيه بلا ذنب اقترفه وباعوه بأبخس الأثمان وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم الكريم وما كنت كنوز العالم لتفتديه عند أبيه .. هم من كانوا سببًا في دخوله السجن بلا ذنب اقترفه وفراقه لأحب الناس .. وهو الآن عزيز "مصر" وهم في موقف احتياج وضعف !
هلا يزج بهم الصديق في السجن ليرتاح ؟
من يفعل ما فعلوه يستحق السجن فعلًا .. وهم الآن ضعفاء وهو العزيز .. القوي .. ولم يعد ذلك الطفل الضعيف المسكين !
الفرصة سانحة للانتقام بلا شك ..!
يتبع بإذن الله ..
تعليق