عسكرة الحياة

تقليص
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • النيسابوري
    5- عضو مجتهد

    عضو اللجنة العلمية
    حارس من حراس العقيدة
    عضو شرف المنتدى
    • 13 أغس, 2012
    • 761
    • الإسلام

    #1

    عسكرة الحياة

    د. سلمان بن فهد العوده
    _________________________
    وجدت كثيرًا من المخلصين يدور في رءوسهم وأحاديثهم أن مفتاح النهضة والرقي يتلخص في كلمة واحدة هي "القوة"، وأن القوة تتلخص في كلمة واحدة هي "السلاح المادي"، فهو كلمة السر التي بها هزمنا وعلى وقع تحصيلها ننتصر.
    وتغلُّب عدونا علينا هو بهذا النمط الخاص من القوة، وأمجادنا التاريخية هي من هذا الباب، ومستقبلنا مرهون بامتلاكها.
    وامتد هذا إلى لغتنا المجازية فصارت كلمة "جيش" و"سلاح" و"قتال" تتردد على ألسنتنا، فأمضى "سلاح" هو الكلمة، ونحن "جيش" من المنهزمين، وقد أصبحت "أقاتل" من أجل هذا الموضوع.
    ونسينا أن "القوة الناعمة" أخطر وأبعد أثرًا، وأنها تنخر في عظام الأجيال وتتخلل عقولهم وأخلاقهم وسلوكهم ببطء، وتأثيرها أكيد وبدون مقاومة.
    ونسينا "قوة المعرفة" التي أصبحت هي ميزان الثقل اليوم، فأثمن سلعة وأعظم ثروة هي "سلعة المعرفة" التي يرجع إليها نحو 50% من ثروات الدول المتقدمة.
    إن قوة الإعلام تُحدث تأثيرًا تراكميًّا في العقل والوجدان، يتحول إلى سلوك عن قناعة وحب، وهو أخطر من الدبابة والصاروخ والقنبلة حتى لو كانت القنبلة النووية.
    قد تنهزم عسكريًّا وتنتصر بقيمك وأخلاقك وإصرارك على مبدئك، وقد تنتصر عسكريًّا؛ ولكنك لا تحسن توظيف هذا الانتصار.
    وجدت في القرآن الكريم الامتنان على الناس بتحصينهم من آثار السلاح المدمر الذي هو "بأس" الإنسان ضد أخيه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]، فهذا نبي الله داود -عليه السلام- يعلمه ربه صنعة الدروع السابغات والخوذات وغيرها، مما يتحصن به الإنسان ضد السلاح الفتاك: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ: 11]، وفي موضع آخر: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، وحين يذكر الله الحديد يقول: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وليس في ذلك مدح؛ لأنه يوظف غالبًا في البغي والظلم والاعتداء.
    بينما عقب بقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]، فكأن ما قبله ليس فيه منافع للناس، كما في الآية الأخرى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، فالسياق يشي بأن السكر ليس من الرزق الحسن.
    حتى سيرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- اختصرناها في المغازي، وبعضنا سمَّاها "المغازي" وكأنها كانت قتالاً فحسب. أو ليس النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاث عشرة سنة محظورًا عليه وعلى أتباعه المؤمنين حتى الدفاع عن النفس، ليتجردوا من حظ النفس والانتصار لها نفسيًّا، وليتمكنوا من تحصيل الشروط الموضوعية والذاتية، وليستنفدوا الوسائل السلمية الممكنة، ثم كانت حياة المدينة مليئة بالمناشط الحيوية في البناء والتجارة والمؤاخاة والتعليم والدعوة والمصالحات الواسعة والعلاقات الإنسانية مع المجاورين حتى اضمحلت الوثنية دون قتال ومات النفاق؟!
    حتى أول مواجهة مع الشرك لم يكن المسلمون يحبونها ولا يتطلعون إليها؛ ولكنها كانت قدرًا مقدورًا: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7].
    فيا سبحان الله! هذا الانحياز لعسكرة الحياة، أصبح أسلوبًا في التفاعل مع أولادنا وأزواجنا في الأوامر و"الفرمانات" التي لا تقبل المراجعة، وفي مدارسنا التي غلب عليها طابع التشديد والتهديد، وتلاشت عنها علاقة الحميمية والعلاقة الودية بين الطالب والمبنى الذي يشهد عدوانًا مستديمًا، والمعلم الذي قد يجد نفسه منساقًا بحكم تأثير البيئة التعليمية للغة الأمر الصارم والرقابة ويفقده بعض صوابه، والمدير الذي تعيّن عليه في نهاية المطاف أن يكون قائد ثكنة..
    والأسرة التي لا تلتقي إلا لمامًا، وحتى اللقاء نتيجة أوامر صريحة وصراخ مستمر من الأبوين للتخلي مؤقتًا عن اللابتوب أو الشاشة وقتًا وجيزًا ليرى بعضنا بعضًا..
    والسياسة التي ظللتنا بالروح الأبوية المهيمنة وكأن الإنسان غير قادر على معرفة مصالحه إلا بواسطة من يفكر عنه ويكون وصيًّا عليه، وهو يدري من أبعاد الأمور وخفاياها ما لا يدري سواه.. وأصبح المرء لا يتنفس إلا وفق أطر محددة، لقد صارت الحرية "هامشًا" وصار الاستحواذ هو "المتن"، بينما المنطق أن يكون المتن هو الحرية، ويكون الهامش هو الضابط والشرط الذي لا بُدَّ منه لتصبح الحرية قيمة اجتماعية وشرعية صحيحة.
    حين نفكر في إصلاح أحوال الأمة عبر التاريخ، يتبادر إلى ذهننا القواد العسكريون، والانتصارات العسكرية وكأنها هي التي صنعت الأمة. أما القواد العلميون والتربويون والإصلاحيون فكأنه لا وجود لهم في عقولنا ولا تاريخنا حين نفكر بمعالجة الإخفاقات... ولذا فكل فتى منا مهموم بآلام الأمة يفكر أن يكون "صلاح الدين"، ولا يفكر أن يكون هو الشافعي أو مالك أو أحمد أو ابن تيمية أو ابن حجر أو النووي أو ابن النفيس أو ابن الهيثم أو المبدع أو العالم المتخصص؛ ألسنا نفكر بطريقة انتقائية ونتعامل مع الحياة على أنها معركة عسكرية؛ الذي يفوز فيها يحصل على كل ما يريد؟!
    حين نتحدث عن التأثيرات الأجنبية نشير إلى قادة الحروب والمعارك ضدنا، أو الحروب والمعارك العالمية، وننسى صانعي السيارة وتأثيرهم الهائل في الحياة الفردية والمدنية والعمارة والعلاقات والعبادات، وننسى صانعي الهاتف وتأثيرهم الضخم في حياة الإنسانية، وننسى صانعي المطبعة أو التلفاز.. وهلمّ جرًّا.
    هذا جعل الكثير منا يتخلون عن أدوارهم الإصلاحية بانتظار مفاجأة عسكرية، وتُسبِّب في انخراط الدول الإسلامية والعربية في حقبة مضت في انقلابات عسكرية زادتها تخلفًا وثبورًا؛ وربما العقلاء الذين لا يؤمنون بجدوى المغامرات المرتجلة، قاموا إلى العزلة والانكفاء، وتمنوا في داخلهم "ظهور العادل المتغلب".
    أما ذلك المجهود السهل المنسجم مع فطرتي وقدرتي والذي لا ألمس أثره المباشر الآن؛ ولكن يقال لي: إنه مجهود مؤثر، وإن السيل من نقطة، ومعظم النار من مستصغر الشرر، فالكثيرون يشككون في مصداقيته ويحاولون إقناعي بأنه يذهب أدراج الرياح.
    وهكذا أصبحنا أغلبيةً ساكنة ساكتة غير فاعلة ولا مؤثرة بملء إرادتنا وقناعتنا، فهل إلى رجوع من سبيل؟!

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
    عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ
    وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ
    حديث 7692 : الزهد والرقائق - صحيح مسلم

عن الكاتب

تقليص

النيسابوري الإسلام اكتشف المزيد حول النيسابوري

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة عادل محمد, 13 ينا, 2015, 03:21-م
ردود 2
2,468 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة محب المصطفى
بواسطة محب المصطفى
ابتدأ بواسطة داليا المسلمه, 19 أكت, 2008, 04:08-ص
رد 1
1,411 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة في حب الله
بواسطة في حب الله
ابتدأ بواسطة لخديم, 18 أكت, 2009, 06:16-م
رد 1
2,156 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة احمد المسلم العربي
ابتدأ بواسطة لخديم, 14 أكت, 2009, 01:29-ص
ردود 0
1,325 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة لخديم
بواسطة لخديم
ابتدأ بواسطة امجاد, 10 مار, 2007, 06:47-م
ردود 0
2,462 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة امجاد
بواسطة امجاد
ابتدأ بواسطة إبراهيم صالح, 2 نوف, 2020, 12:02-م
ردود 0
534 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة إبراهيم صالح
ابتدأ بواسطة دال على الخير, 15 أبر, 2014, 09:59-ص
ردود 2
3,731 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة محب المصطفى
بواسطة محب المصطفى
ابتدأ بواسطة ميدو جمال, 2 أكت, 2009, 03:14-ص
ردود 12
4,601 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة د.أمير عبدالله
ابتدأ بواسطة drsalah_hanie, 22 أبر, 2007, 11:28-ص
ردود 2
1,518 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة الشرقاوى
بواسطة الشرقاوى
ابتدأ بواسطة في حب الله, 20 أكت, 2009, 02:50-ص
ردود 10
136 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة عبد مسلم
بواسطة عبد مسلم
ابتدأ بواسطة الشرقاوى, 15 ينا, 2011, 12:03-ص
ردود 0
1,209 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة الشرقاوى
بواسطة الشرقاوى
ابتدأ بواسطة sara94, 12 أكت, 2011, 10:15-م
ردود 0
1,224 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة sara94
بواسطة sara94
ابتدأ بواسطة سامسونج, 8 ديس, 2010, 12:26-م
ردود 2
2,152 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة ثامررر
بواسطة ثامررر
ابتدأ بواسطة راجية عفو الرحمن, 27 يون, 2011, 01:36-م
ردود 0
1,495 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة راجية عفو الرحمن
ابتدأ بواسطة نور الهداية, 11 فبر, 2011, 08:42-ص
ردود 16
7,859 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة العائدة إلى الله

مواضيع من نفس المنتدى الحالي

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة ابو تسنيم, 10 نوف, 2009, 03:00-م
ردود 793
89,171 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة منى رضوان
بواسطة منى رضوان
ابتدأ بواسطة أبو أسامة, 24 يون, 2006, 11:41-م
ردود 610
73,301 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة احمد احمد احمد عبدالحكيم متولى
ابتدأ بواسطة (((ساره))), 28 يول, 2009, 12:34-ص
ردود 479
67,408 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة أمين القسنطيني
ابتدأ بواسطة قلب ينبض بحب الله, 11 نوف, 2013, 11:49-م
ردود 364
29,654 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة قلب ينبض بحب الله
ابتدأ بواسطة شخص ما, 6 ماي, 2008, 10:30-م
ردود 316
40,706 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
يعمل...