كلما بحثنا ونقبنا فى الوثائق والأحداث التاريخية كلما أدركنا أن الأسس العميقة لآفة الإنسانية الممتدة ونشأة الإستعمار ترجع، بلا شك، إلى العقائد المحرفة والغش الذى يسود العالم الغربى الصليبى المتعصب، المنبثق أساسا من عقائده المنسوجة عبر المجامع ونصوصه المغرضة و وثائقه المشينة عبر القرون.. ومن أهم هذه الوثائق الكنسية الخطاب البابوى المعنون "بابا روما" (Romanus pontifex)، الذى أصدره البابا نيكولا الخامس عام 1455؛ والخطاب البابوى المعنون "من بين الأعمال"(Inter cوtera)، الذى أصدره البابا إسكندر السادس عام 1493، ونطالع فيهما : ـ
* فى خطاب "بابا روما" يقول نيقولا الخامس : (...)"مع مراعاة أنه منذ أن سمحنا للملك ألفونس فى خطابات سابقة ومنحناه، ضمن أشياء أخرى، الحق الكامل والتام للهجوم وغزو وأسر وهزم وسحق وإخضاع كل المسلمين والوثنيين وأى أعداء أخرى للمسيح أينما كانوا، والإستيلاء على ممالكهم، وضيعاتهم، ومقاطعاتهم، ومناطق نفوذهم، وملكياتهم من عتاد وبيوت، وكل ما يمتلكونه أو حصلوا عليه وإخضاع شخصهم إلى العبودية الدائمة، وحق الإستيلاء لنفسه [أى للملك ألفونس] ولمن يرثه، الممالك والضيعات والإمارات وكل ملكياتهم وأموالهم، وتنصيرهم واستخدامهم لمصلحته" (...). وباقى الخطاب يقر ما قام به الغزاه الإسبان والبرتغال للإستيلاء على أراضى السكان الأصليين ويعرب عن أمنيته فى أن يتم تنصيرهم وإخضاعهم، كما يعلن الحرب على المسلمين وكل الوثنيين أو غير المسيحيين ، ويختتمه قائلا : "وأن هذا الخطاب سارى المفعول إلى الأبد" !!
* وفى خطاب "من بين الأعمال" يقول إسكندر السادس : "إن العقيدة الكاثوليكية والديانة المسيحية فى زماننا تحديدا يجب أن يتم تمجيدها وأن يتم نشرها فى كل مكان، والإهتمام بالوضع الدينى للشعوب الوثنية وإسقاطها وإخضاعها للعقيدة المسيحية (...) وبموجب هذا الخطاب نمنحكم السلطة للإستيلاء على أية أراضى أو جزر تجدونها وتكون لغير مسيحيين فتكون ملكا لكم ولذريتكم إلى الأبد". وقد أقام هذا الخطاب البابوى الأسس الدينية والشرعية للإستعمار الغربى المسيحى منذ أواخر القرن الخامس عشر حتى يومنا هذا.
فإستخدام عبارات من قبيل "يغزو"، و"يهزم"، و"يُخضع"، و"يستولى"، و"يُجبر على التنصير"، تؤكد أن هذه الخطابات البابوية وغيرها من نصوص تؤسس الإطار العالمى للإستعمار والغزو والعنف والسيطرة والتنصير الإجبارى الذى يمارس حتى الآن.. ففى كل خطاب يمدح البابا الغزوات التى تقوم بإخضاع المسلمين وكل من هم غير مسيحيين والإستيلاء على أراضيهم ومواردهم وثرواتهم وتنصيرهم قهرا.
* "عقيدة الإكتشاف" : ـ
وقد نجم عن هذه الوثائق المجحفة وغيرها أساس إنتهاك حرمة أراضى المسلمين والسكان الأصليين للأمريكاتين، وذلك بزعم إن أى إنسان غير مسيحى يُعد عدما ولا يساوى شئ (nullus) وأى أرض مملوكة لغير مسيحى تعد أرض لا صاحب لها (Terra nullius)، وقد تم بعد ذلك إدماج هذه العقيدة سرا وبالتحايل والتزوير فى التشريعات والسياسات القومية والدولية سواء الأمريكية أو الغربية. وهى أصل إنتهاكات حقوق الأفراد والجماعات لغير المسيحيين، وسمحت للدول الغربية الصليبية بالإستيلاء على أراضيهم ثرواتهم الطبيعية وممتلكاتهم، بل هى السبب الأساس فى عمليات القتل العرقى سواء للمسلمين والسكان الأصليين للأمريكاتين أو ما يدور من إقتلاع لمسلمى ميانمار و الفلسطينيين أو فى قطاع غزة وغيرها...
نصوص سابقة ولاحقة :
ومن أشهر النصوص الكنسية التى سبقت هذان الخطابان أو بعدهما وأدت إلى ترسيخ الإستعمار وإلى القتل العرقى، لا للهنود الحمر سكان الأمريكاتين الأصليين، وإنما لكل شعب قام الصليبيون بغزوه وإحتلاله والعمل على إخضاعه للتنصير أو إبادته عرقيا، نطالع ما يلى : ـ
* الخطاب البابوى الذى أصدره إينوسنت الرابع فى 15 مايو 1252 بعنوان "لإقتلاع" (Ad extirpanda) الذى يبيح فيه البابا التعذيب فى محاكم التفتيش ويبرر فيه ضرورته ؛
* مقولة أحد جهابذة المسيحية : "إذا لم يتب غير المؤمن فمن واجب الكنيسة ومهمتها أن تنقذ الأمة [يقصد المسيحية] وأن تطرد هذا الهرطقى من العالم بقتله" (توما الإكوينى 1267 ) ؛
* "لا توجد إلا كنيسة واحدة مقدسة كاثوليكية وخارجاً عنها لا يوجد أى خلاص. فالكنيسة تمسك بيديها سيفا الدين والدنيا. ومن الضرورى من أجل سلامة الكل، الخضوع كلية لسلطة بابا روما" (البابا بونيفاس الثامن 1302) ؛
* "الغزو والتنقيب والبحث عن وإعتقال وهزم وإخضاع كافة المسلمين والوثنيين أياً ما كانوا، وكل أعداء المسيح أينما كانوا، وتحطيم كيانهم إلى درجة العبودية الدائمة"... (البابا نيقولا الخامس 1455) ؛
* وأيام العصر الرومانى، الذى تولدت فيه المسيحية، فإن قرار غزو الآخر الصادر عن أكثر من بابا، كان يعطى الحق للصليبى المعتدى الملكية المطلقة على البلدان والشعوب التى يغزوها وكان عليه أن يُفقدها كيانها وحقوقها وملكياتها ويفرض عليها العبودية الدائمة.. وقد تزايدت هذه السلطة بسبب وثيقة ثبت تزويرها ، معروفة باسم "وثيقة هبة قسطنطين" التى منحت زوراً كل أراضى الإمبراطورية الرومانية إلى الكنيسة الكاثوليكية.
* الخطاب البابوى للبابا أوربان الثانى الذى أعلن الحروب الصليبية سنة 1095 باسم المسيح والصليب، وفرض وضعه على كل شئ من ثياب وعتاد، قد أعلن أن كل الجرائم التى يقوم بها الصليبيون ستمحو ذنوبهم وتطهرهم بقتل المسلمين.. وتوالت الخطب والقرارات التى لا تكف عن إباحة قتل الآخر وإقتلاعه.
* بعد خمسون عاما من خطاب البابا آدريان الرابع ، أعلن البابا إينوسنت الثالث سنة 1209 حربه الصليبية ضد الألبينيون، الموحدون الرافضون لما تقوم به الكنيسة من تحريف وتزوير خاصة تأليه المسيح. واُعيد نفس القرار سنة 1227 بالنسبة للكاتار فى جنوب غرب فرنسا لنفس الأسباب.
* بعد مذبحة الكاتار اقام البابا جريجوار التاسع أول ساحة للمجازر الجماعية بإقامة محاكم التفتيش لإبادة المسيحيين المعارضين للكنيسة والحكم. وتم استخدام أعنف وسائل التعذيب بموجب الأحكام البابوية الصادرة عام 1252 من البابا إينوسنت الرابع، الذى أعلن "أنه يتعين على المسيحية أن تخدم تطلعات البابوية العالمية". وتوسعت سلطة محاكم التفتيش حتى إدراج مهمة "إبادة الساحرات" سنة 1326 ، وهى من أكبر المذابح الجماعية التى قامت بها الكنيسة وأعوانها قبل مذابح الإستعمار التى أتت على ملايين البشر.
وإن كان الخطاب البابوى للبابا نيقولا الخامس بعنوان "بابا روما" عام 1455 قد سمح بغزو كافة الأراضى غير المسيحية والإستيلاء عليها وتحويل سكانها إلى العبودية بأيدى الملوك المسيحيين، فإن خطاب البابا إسكندر السادس الصادر عام 1493 قد قام بتقسيم العالم بين إسبانيا والبرتغال وألغى أية سلطة على هذه الأراضى بما أن غير المسيحيين ليس من حقهم إمتلاك أى شئ بموجب "وثيقة هبة قسطنطين" المزورة وبموجب إكتشاف المسيحيين لهذه الأراضى وفقا لعقيدة الإكتشاف التى إبتدعها هذان البابوان ! ولم يكن عصر الإكتشافات إلا عصر الإمبريالية المسيحية المتزايدة بسبب حروبها الدينية المختلفة.
خلفيات إنجيلية سابقة :
وإنصافا للحق، فلم يكن هذا العنف الإجرامى وليد الكنيسة وحدها وإنما نتيجة لنصوص العهد القديم التى توارثتها ونشأت عليها، بل ولا تزال تعتبر نصوص ذلك العهد جزء لا يتجزأ من نصوص العهد الجديد التى تكوّن الكتاب المقدس ! وهو ما لا يزال الفاتيكان يفرضه على الأتباع رغم كل ما تكشف من حقائق تفضح وتدين ذلك الكتاب. ونذكر من تلك النصوص بالعهد القديم على سبيل المثال لا الحصر : ـ
* "وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهِهِ وأخذوا المدينة. وحرّموا كل ما فى المدينة من رجل وإمرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف " (يشوع 6 : 20ـ21) ؛
* "وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها فى خزانة بيت الرب " ( يشوع 6 : 24) ؛
* "فالآن إذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل إقتل رجلا وإمرأة. طفلا ورضيعا. بقراً وغنما. جملا وحماراً " (صموئيل أول 15 : 3) ؛
* "وقال لأولئك فى سمعى أعبروا فى المدينة وراءه واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء إقتلوا للهلاك " (حزقيال 9 : 5) ؛
* "وأخرج الشعب الذي كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بنوارج حديد وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الآجاجر كذلك صنع بجميع قرى بنى عمون " (صموئيل ثانى 12: 31). ذلك كان فى طبعة سنة 1966 ، أما فى طبعة 1671 فكانت الجملة أكثر وضوحا وأكثر كشفا قبل التعديل : "والشعب الذين كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بموارج حديد وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الأحجار كذلك صنع بجميع قرى بنى عمون".. أما فى طبعة بيروت 1988 فتم التعديل بحيث يبدو وكأنهم تحولوا الى عمال يعملون على المناشير ! "وأخرج الشعب الذى فيها وجعله على المناشير وعلى نوارج الحديد وفؤوس الحديد وجعل منه أعمال قوالب الآجر. وهكذا صنع بجميع مدن بنى عمون"، ويقولون أنها منزلة لا تحريف فيها !!
أما فى العهد الجديد فتكفى الإشارة إلى ما يلى : ـ
* "جاء يسوع ليلقى سيفا" (متّى 10 : 34) ؛
* "جاء يسوع ليلقى نارا وإنقساما" (لوقا 12 :49 ـ53 ) ؛
* "أما أعدائى أولئك الذين لا يريدون أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامى"(لوقا : 27) ؛
وكل هذا العنف اللا إنسانى هو ما وصفه القس دى لاس كازاس المرافق لحملة الغزاة الإسبان، وما قام به مرتزقة الجى آيز فى العراق، وما يقوم به الصهاينة بشراسة فى حق الفلسطينيين، وهو جزء مما كشف عنه القس كڤين آنيت من فضائح القتل العرقى لأصحاب أراضى الأمريكتين الذى سنتناوله فى المقال الثالث..
كيف إنفضح الأمر :
بمناسبة مرور خمسة قرون على إكتشافات كريستوفر كولومبس للعالم الجديد، كان "معهد القانون الخاص بالسكان الأصليين" بمدينة دنڤر، قد قام بنشر الحقائق المتعلقة بالخطاب البابوى للبابا إسكندر السادس، الصادر يوم 4 مايو 1493 بعنوان "من بين الأعمال" (Inter Cوtera). وهذا الخطاب الإستعمارى الغائر لا يمنح فحسب كل الأراضى الجديدة التى تم إكتشافها إلى إسبانيا ، إضافة إلى ما تبيّن بعد ذلك كالمحيط الهادى وغيره، وإنما أعلن البابا بموجبه "ضرورة إخضاع الشعوب الأصلية لهذه الأراضى للتبشير والتنصير الإجبارى" !.. وتكفى الإشارة هنا إلى الكتاب الضخم المكون من ثلاثة أجزاء الذى كتبه القس بارتولوميو دى لاس كازاس (Bartolomeo de Las Casas)، المرافق للغزو المسيحى للقارة الأمريكية، حول أهوال ما قام به رجال الكنيسة والغزاه ضد السكان الأصليين للإستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم، وكل ما كالوه لهم من أبشع أنواع العذاب بإسم الرب والصليب، حتى لقّبوه تاريخيا بأنه أول مدافع عن حقوق الإنسان..
ويقول ستيفن نيوكم (Steven Newcomb)، مدير المعهد : "منذ عام 1992 بدأنا فى "معهد القانون الخاص بالسكان الأصليين" عملنا على نشر الحقيقة فيما يتعلق بتاريخ الخطاب البابوى "من بين الأعمال" ، الذى أصدره البابا إسكندر السادس عقب الرحلة الأولى لكريستوفر كولومبس فى الكاريبى. وقد أعرب فيه البابا عن رغبته العارمة "لإستعمار هذه الشعوب الهمجية وإخضاعها وإجبارها على قبول العقيدة المسيحية، وذلك لنشر وتوسيع نطاق الإمبراطورية المسيحية"!. وقبل هذا الخطاب البابوى كان الفاتيكان قد طالب بوضوح "بإخضاع الأفارقة للعبودية الدائمة" ، وذلك "بغزوهم وإستعمارهم وقهرهم والإستيلاء على ثرواتهم وأراضيهم وممتلكاتهم" ! وهو موقف لا يزال مستمرا حتى اليوم (راجع مقال : "الرب يسوع فى إفريقيا" ، ومقال : "تنصير إفريقيا").
ويواصل مدير المعهد فى حديثه قائلا : "فى عام الإحتفال بمرور خمسة قرون على اكتشافات كولومبس، بدأنا حملة لنوضح للعالم كيف أن هذه الوثائق البابوية كانت أدوات تنفيذية وسببا لكل القهر والظلم الذى تم ضد شعوب الأمريكاتين وأوكوانيا وإفريقيا وآسيا. فمثل هذه الخطابات البابوية قد أدت مباشرة إلى خلق الإستعمار والإتجار بالبشر عن طريق العبودية والحملات الدموية التى نجم عنها إبادة ملايين البشر. وقد قام الجامعيون لدينا بتصنيف الخطاب البابوى المعنون "من بين الأعمال"، على أنه جحر الزاوية التاريخى الذى قام عليه الإستعمار العالمى"..
ويشير مدير المعهد إلى أن قاضى المحكمة العليا، وزيف ستورى (Joseph Story)، قد كشف أن دار القضاء الأعلى بالولايات المتحدة كانت قد ضمنت حكمها عام 1823 فى قضية ونسون ضد ماكنتوش ، عقيدة القمع الموجودة فى ذلك الخطاب، وحتى يومنا هذا فإن فحوى ما قاله القاضى ونسون وتمييزه بين "المسيحيين" و"السكان الأصليين" الذين كانوا وثنيين، لا تزال سابقة فعالة فى قانون الولايات المتحدة ، فى خرق واضح مع حقوق الإنسان وحقوق الأمم والشعوب الأصليين فى الأمريكاتين.
"لذلك كتبنا رسالة إلى البابا يوحنا بولس الثانى عام 1993 نطلب منه إلغاء ذلك الخطاب البابوى وإبطال مفعوله. وبالتالى أن يقوم رسميا وبوضوح يإسقاط العقيدة الكنسية الخاصة بالغزو والقهر.. لكن حتى اليوم لم يصلنا سوى الصمت الأصم من الفاتيكان" !
وإلغاء هذه الوثيقة وغيرها ليس ضروريا فحسب، بل سوف يكون ذلك عملا يساعد على إسقاط عقيدة السيطرة الكامنة فى خلفيات القانون حول الهنود الحمر فى الولايات المتحدة، ونفس فكرة الإستعمار والسيادة العالمية الزائفة القائمة على قعائد محرفة ومزورة والحد من غطرسة كاذبة قائمة على الأكاذيب.
فى واقع الأمر قلة من الناس يمكنها تصور ما تخفيه عبارة من قبيل "قداسة البابا"، كالجرائم المالية وغسيل الأموال والإنحرافات الجنسية والقتل الطقسى والعرقى والتعامل مع المافيا والإتجار بالسلاح وبالأطفال أو بالأعضاء البشرية، وقلة هم من يمكنهم تقبّل فكرة أن يكون البابا عضوا أساسيا فى النظام العالمى الجديد، وما أكثر الملفات المرعبة فيما تحمله تلك المؤسسة الفاتيكانية، ومن أهمها "معسكرات الإعتقال المسيحية" وكل ما تكشف فيها من أهوال ..
18 أكتوبر 2013
_________________________
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
* فى خطاب "بابا روما" يقول نيقولا الخامس : (...)"مع مراعاة أنه منذ أن سمحنا للملك ألفونس فى خطابات سابقة ومنحناه، ضمن أشياء أخرى، الحق الكامل والتام للهجوم وغزو وأسر وهزم وسحق وإخضاع كل المسلمين والوثنيين وأى أعداء أخرى للمسيح أينما كانوا، والإستيلاء على ممالكهم، وضيعاتهم، ومقاطعاتهم، ومناطق نفوذهم، وملكياتهم من عتاد وبيوت، وكل ما يمتلكونه أو حصلوا عليه وإخضاع شخصهم إلى العبودية الدائمة، وحق الإستيلاء لنفسه [أى للملك ألفونس] ولمن يرثه، الممالك والضيعات والإمارات وكل ملكياتهم وأموالهم، وتنصيرهم واستخدامهم لمصلحته" (...). وباقى الخطاب يقر ما قام به الغزاه الإسبان والبرتغال للإستيلاء على أراضى السكان الأصليين ويعرب عن أمنيته فى أن يتم تنصيرهم وإخضاعهم، كما يعلن الحرب على المسلمين وكل الوثنيين أو غير المسيحيين ، ويختتمه قائلا : "وأن هذا الخطاب سارى المفعول إلى الأبد" !!
* وفى خطاب "من بين الأعمال" يقول إسكندر السادس : "إن العقيدة الكاثوليكية والديانة المسيحية فى زماننا تحديدا يجب أن يتم تمجيدها وأن يتم نشرها فى كل مكان، والإهتمام بالوضع الدينى للشعوب الوثنية وإسقاطها وإخضاعها للعقيدة المسيحية (...) وبموجب هذا الخطاب نمنحكم السلطة للإستيلاء على أية أراضى أو جزر تجدونها وتكون لغير مسيحيين فتكون ملكا لكم ولذريتكم إلى الأبد". وقد أقام هذا الخطاب البابوى الأسس الدينية والشرعية للإستعمار الغربى المسيحى منذ أواخر القرن الخامس عشر حتى يومنا هذا.
فإستخدام عبارات من قبيل "يغزو"، و"يهزم"، و"يُخضع"، و"يستولى"، و"يُجبر على التنصير"، تؤكد أن هذه الخطابات البابوية وغيرها من نصوص تؤسس الإطار العالمى للإستعمار والغزو والعنف والسيطرة والتنصير الإجبارى الذى يمارس حتى الآن.. ففى كل خطاب يمدح البابا الغزوات التى تقوم بإخضاع المسلمين وكل من هم غير مسيحيين والإستيلاء على أراضيهم ومواردهم وثرواتهم وتنصيرهم قهرا.
* "عقيدة الإكتشاف" : ـ
وقد نجم عن هذه الوثائق المجحفة وغيرها أساس إنتهاك حرمة أراضى المسلمين والسكان الأصليين للأمريكاتين، وذلك بزعم إن أى إنسان غير مسيحى يُعد عدما ولا يساوى شئ (nullus) وأى أرض مملوكة لغير مسيحى تعد أرض لا صاحب لها (Terra nullius)، وقد تم بعد ذلك إدماج هذه العقيدة سرا وبالتحايل والتزوير فى التشريعات والسياسات القومية والدولية سواء الأمريكية أو الغربية. وهى أصل إنتهاكات حقوق الأفراد والجماعات لغير المسيحيين، وسمحت للدول الغربية الصليبية بالإستيلاء على أراضيهم ثرواتهم الطبيعية وممتلكاتهم، بل هى السبب الأساس فى عمليات القتل العرقى سواء للمسلمين والسكان الأصليين للأمريكاتين أو ما يدور من إقتلاع لمسلمى ميانمار و الفلسطينيين أو فى قطاع غزة وغيرها...
نصوص سابقة ولاحقة :
ومن أشهر النصوص الكنسية التى سبقت هذان الخطابان أو بعدهما وأدت إلى ترسيخ الإستعمار وإلى القتل العرقى، لا للهنود الحمر سكان الأمريكاتين الأصليين، وإنما لكل شعب قام الصليبيون بغزوه وإحتلاله والعمل على إخضاعه للتنصير أو إبادته عرقيا، نطالع ما يلى : ـ
* الخطاب البابوى الذى أصدره إينوسنت الرابع فى 15 مايو 1252 بعنوان "لإقتلاع" (Ad extirpanda) الذى يبيح فيه البابا التعذيب فى محاكم التفتيش ويبرر فيه ضرورته ؛
* مقولة أحد جهابذة المسيحية : "إذا لم يتب غير المؤمن فمن واجب الكنيسة ومهمتها أن تنقذ الأمة [يقصد المسيحية] وأن تطرد هذا الهرطقى من العالم بقتله" (توما الإكوينى 1267 ) ؛
* "لا توجد إلا كنيسة واحدة مقدسة كاثوليكية وخارجاً عنها لا يوجد أى خلاص. فالكنيسة تمسك بيديها سيفا الدين والدنيا. ومن الضرورى من أجل سلامة الكل، الخضوع كلية لسلطة بابا روما" (البابا بونيفاس الثامن 1302) ؛
* "الغزو والتنقيب والبحث عن وإعتقال وهزم وإخضاع كافة المسلمين والوثنيين أياً ما كانوا، وكل أعداء المسيح أينما كانوا، وتحطيم كيانهم إلى درجة العبودية الدائمة"... (البابا نيقولا الخامس 1455) ؛
* وأيام العصر الرومانى، الذى تولدت فيه المسيحية، فإن قرار غزو الآخر الصادر عن أكثر من بابا، كان يعطى الحق للصليبى المعتدى الملكية المطلقة على البلدان والشعوب التى يغزوها وكان عليه أن يُفقدها كيانها وحقوقها وملكياتها ويفرض عليها العبودية الدائمة.. وقد تزايدت هذه السلطة بسبب وثيقة ثبت تزويرها ، معروفة باسم "وثيقة هبة قسطنطين" التى منحت زوراً كل أراضى الإمبراطورية الرومانية إلى الكنيسة الكاثوليكية.
* الخطاب البابوى للبابا أوربان الثانى الذى أعلن الحروب الصليبية سنة 1095 باسم المسيح والصليب، وفرض وضعه على كل شئ من ثياب وعتاد، قد أعلن أن كل الجرائم التى يقوم بها الصليبيون ستمحو ذنوبهم وتطهرهم بقتل المسلمين.. وتوالت الخطب والقرارات التى لا تكف عن إباحة قتل الآخر وإقتلاعه.
* بعد خمسون عاما من خطاب البابا آدريان الرابع ، أعلن البابا إينوسنت الثالث سنة 1209 حربه الصليبية ضد الألبينيون، الموحدون الرافضون لما تقوم به الكنيسة من تحريف وتزوير خاصة تأليه المسيح. واُعيد نفس القرار سنة 1227 بالنسبة للكاتار فى جنوب غرب فرنسا لنفس الأسباب.
* بعد مذبحة الكاتار اقام البابا جريجوار التاسع أول ساحة للمجازر الجماعية بإقامة محاكم التفتيش لإبادة المسيحيين المعارضين للكنيسة والحكم. وتم استخدام أعنف وسائل التعذيب بموجب الأحكام البابوية الصادرة عام 1252 من البابا إينوسنت الرابع، الذى أعلن "أنه يتعين على المسيحية أن تخدم تطلعات البابوية العالمية". وتوسعت سلطة محاكم التفتيش حتى إدراج مهمة "إبادة الساحرات" سنة 1326 ، وهى من أكبر المذابح الجماعية التى قامت بها الكنيسة وأعوانها قبل مذابح الإستعمار التى أتت على ملايين البشر.
وإن كان الخطاب البابوى للبابا نيقولا الخامس بعنوان "بابا روما" عام 1455 قد سمح بغزو كافة الأراضى غير المسيحية والإستيلاء عليها وتحويل سكانها إلى العبودية بأيدى الملوك المسيحيين، فإن خطاب البابا إسكندر السادس الصادر عام 1493 قد قام بتقسيم العالم بين إسبانيا والبرتغال وألغى أية سلطة على هذه الأراضى بما أن غير المسيحيين ليس من حقهم إمتلاك أى شئ بموجب "وثيقة هبة قسطنطين" المزورة وبموجب إكتشاف المسيحيين لهذه الأراضى وفقا لعقيدة الإكتشاف التى إبتدعها هذان البابوان ! ولم يكن عصر الإكتشافات إلا عصر الإمبريالية المسيحية المتزايدة بسبب حروبها الدينية المختلفة.
خلفيات إنجيلية سابقة :
وإنصافا للحق، فلم يكن هذا العنف الإجرامى وليد الكنيسة وحدها وإنما نتيجة لنصوص العهد القديم التى توارثتها ونشأت عليها، بل ولا تزال تعتبر نصوص ذلك العهد جزء لا يتجزأ من نصوص العهد الجديد التى تكوّن الكتاب المقدس ! وهو ما لا يزال الفاتيكان يفرضه على الأتباع رغم كل ما تكشف من حقائق تفضح وتدين ذلك الكتاب. ونذكر من تلك النصوص بالعهد القديم على سبيل المثال لا الحصر : ـ
* "وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهِهِ وأخذوا المدينة. وحرّموا كل ما فى المدينة من رجل وإمرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف " (يشوع 6 : 20ـ21) ؛
* "وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها فى خزانة بيت الرب " ( يشوع 6 : 24) ؛
* "فالآن إذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل إقتل رجلا وإمرأة. طفلا ورضيعا. بقراً وغنما. جملا وحماراً " (صموئيل أول 15 : 3) ؛
* "وقال لأولئك فى سمعى أعبروا فى المدينة وراءه واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء إقتلوا للهلاك " (حزقيال 9 : 5) ؛
* "وأخرج الشعب الذي كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بنوارج حديد وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الآجاجر كذلك صنع بجميع قرى بنى عمون " (صموئيل ثانى 12: 31). ذلك كان فى طبعة سنة 1966 ، أما فى طبعة 1671 فكانت الجملة أكثر وضوحا وأكثر كشفا قبل التعديل : "والشعب الذين كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بموارج حديد وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الأحجار كذلك صنع بجميع قرى بنى عمون".. أما فى طبعة بيروت 1988 فتم التعديل بحيث يبدو وكأنهم تحولوا الى عمال يعملون على المناشير ! "وأخرج الشعب الذى فيها وجعله على المناشير وعلى نوارج الحديد وفؤوس الحديد وجعل منه أعمال قوالب الآجر. وهكذا صنع بجميع مدن بنى عمون"، ويقولون أنها منزلة لا تحريف فيها !!
أما فى العهد الجديد فتكفى الإشارة إلى ما يلى : ـ
* "جاء يسوع ليلقى سيفا" (متّى 10 : 34) ؛
* "جاء يسوع ليلقى نارا وإنقساما" (لوقا 12 :49 ـ53 ) ؛
* "أما أعدائى أولئك الذين لا يريدون أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامى"(لوقا : 27) ؛
وكل هذا العنف اللا إنسانى هو ما وصفه القس دى لاس كازاس المرافق لحملة الغزاة الإسبان، وما قام به مرتزقة الجى آيز فى العراق، وما يقوم به الصهاينة بشراسة فى حق الفلسطينيين، وهو جزء مما كشف عنه القس كڤين آنيت من فضائح القتل العرقى لأصحاب أراضى الأمريكتين الذى سنتناوله فى المقال الثالث..
كيف إنفضح الأمر :
بمناسبة مرور خمسة قرون على إكتشافات كريستوفر كولومبس للعالم الجديد، كان "معهد القانون الخاص بالسكان الأصليين" بمدينة دنڤر، قد قام بنشر الحقائق المتعلقة بالخطاب البابوى للبابا إسكندر السادس، الصادر يوم 4 مايو 1493 بعنوان "من بين الأعمال" (Inter Cوtera). وهذا الخطاب الإستعمارى الغائر لا يمنح فحسب كل الأراضى الجديدة التى تم إكتشافها إلى إسبانيا ، إضافة إلى ما تبيّن بعد ذلك كالمحيط الهادى وغيره، وإنما أعلن البابا بموجبه "ضرورة إخضاع الشعوب الأصلية لهذه الأراضى للتبشير والتنصير الإجبارى" !.. وتكفى الإشارة هنا إلى الكتاب الضخم المكون من ثلاثة أجزاء الذى كتبه القس بارتولوميو دى لاس كازاس (Bartolomeo de Las Casas)، المرافق للغزو المسيحى للقارة الأمريكية، حول أهوال ما قام به رجال الكنيسة والغزاه ضد السكان الأصليين للإستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم، وكل ما كالوه لهم من أبشع أنواع العذاب بإسم الرب والصليب، حتى لقّبوه تاريخيا بأنه أول مدافع عن حقوق الإنسان..
ويقول ستيفن نيوكم (Steven Newcomb)، مدير المعهد : "منذ عام 1992 بدأنا فى "معهد القانون الخاص بالسكان الأصليين" عملنا على نشر الحقيقة فيما يتعلق بتاريخ الخطاب البابوى "من بين الأعمال" ، الذى أصدره البابا إسكندر السادس عقب الرحلة الأولى لكريستوفر كولومبس فى الكاريبى. وقد أعرب فيه البابا عن رغبته العارمة "لإستعمار هذه الشعوب الهمجية وإخضاعها وإجبارها على قبول العقيدة المسيحية، وذلك لنشر وتوسيع نطاق الإمبراطورية المسيحية"!. وقبل هذا الخطاب البابوى كان الفاتيكان قد طالب بوضوح "بإخضاع الأفارقة للعبودية الدائمة" ، وذلك "بغزوهم وإستعمارهم وقهرهم والإستيلاء على ثرواتهم وأراضيهم وممتلكاتهم" ! وهو موقف لا يزال مستمرا حتى اليوم (راجع مقال : "الرب يسوع فى إفريقيا" ، ومقال : "تنصير إفريقيا").
ويواصل مدير المعهد فى حديثه قائلا : "فى عام الإحتفال بمرور خمسة قرون على اكتشافات كولومبس، بدأنا حملة لنوضح للعالم كيف أن هذه الوثائق البابوية كانت أدوات تنفيذية وسببا لكل القهر والظلم الذى تم ضد شعوب الأمريكاتين وأوكوانيا وإفريقيا وآسيا. فمثل هذه الخطابات البابوية قد أدت مباشرة إلى خلق الإستعمار والإتجار بالبشر عن طريق العبودية والحملات الدموية التى نجم عنها إبادة ملايين البشر. وقد قام الجامعيون لدينا بتصنيف الخطاب البابوى المعنون "من بين الأعمال"، على أنه جحر الزاوية التاريخى الذى قام عليه الإستعمار العالمى"..
ويشير مدير المعهد إلى أن قاضى المحكمة العليا، وزيف ستورى (Joseph Story)، قد كشف أن دار القضاء الأعلى بالولايات المتحدة كانت قد ضمنت حكمها عام 1823 فى قضية ونسون ضد ماكنتوش ، عقيدة القمع الموجودة فى ذلك الخطاب، وحتى يومنا هذا فإن فحوى ما قاله القاضى ونسون وتمييزه بين "المسيحيين" و"السكان الأصليين" الذين كانوا وثنيين، لا تزال سابقة فعالة فى قانون الولايات المتحدة ، فى خرق واضح مع حقوق الإنسان وحقوق الأمم والشعوب الأصليين فى الأمريكاتين.
"لذلك كتبنا رسالة إلى البابا يوحنا بولس الثانى عام 1993 نطلب منه إلغاء ذلك الخطاب البابوى وإبطال مفعوله. وبالتالى أن يقوم رسميا وبوضوح يإسقاط العقيدة الكنسية الخاصة بالغزو والقهر.. لكن حتى اليوم لم يصلنا سوى الصمت الأصم من الفاتيكان" !
وإلغاء هذه الوثيقة وغيرها ليس ضروريا فحسب، بل سوف يكون ذلك عملا يساعد على إسقاط عقيدة السيطرة الكامنة فى خلفيات القانون حول الهنود الحمر فى الولايات المتحدة، ونفس فكرة الإستعمار والسيادة العالمية الزائفة القائمة على قعائد محرفة ومزورة والحد من غطرسة كاذبة قائمة على الأكاذيب.
فى واقع الأمر قلة من الناس يمكنها تصور ما تخفيه عبارة من قبيل "قداسة البابا"، كالجرائم المالية وغسيل الأموال والإنحرافات الجنسية والقتل الطقسى والعرقى والتعامل مع المافيا والإتجار بالسلاح وبالأطفال أو بالأعضاء البشرية، وقلة هم من يمكنهم تقبّل فكرة أن يكون البابا عضوا أساسيا فى النظام العالمى الجديد، وما أكثر الملفات المرعبة فيما تحمله تلك المؤسسة الفاتيكانية، ومن أهمها "معسكرات الإعتقال المسيحية" وكل ما تكشف فيها من أهوال ..
18 أكتوبر 2013
_________________________
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية