السلام عليكم
أصبح فـي عــرف البديهــة أن ينبــري حــملة مشاريــع النهــوض كــلّ من جــهــة إطــاره لتــقديم وصفات الخــلاص من واقع الارتــهان السياسي و الانســداد الاقتصادي و الانحــطاط الأخــلاقي طارحــا رؤيتــه الإيديولوجية كوسيلــة تحليل و أدوات فــهم ، فــلا غـرابــة البتة في عالــم الأفكــار المتصارعــة أن نــشهـد تعددا في الولاءات و اختلافا في القــناعات ـ فلقـد أصبــح تسويــق الحلول و تشخيــص العاهــات يتعرض لها كــل من لمــس في نفســه القدرة علـى نــقد الواقع و تــجاوزه حتـى غــدت تتــكاثــر معــها أقــلام لــم تتعــلم كيــف تصبــر علـى التشخيص و التــحليل لتنتــظــر نــضوج العــقل " المُــكَـوَّن " و ترفعــه من التأثيرات المتسرعــة لإيديولوجيات مــادية ، فــما أكــثر من تحــمَّــسَ و انطلــقَ شــاهرا إطــار فكــره المرجعي مًــســخِّــرا في ذلك أقــصى ما استهــلكه نظره من مطالعات سياسية و اقتصادية و بــحوث أجنية و قراءات مؤَدلَجــة ثــم تجــده في لــحظــة مــا كمــا لــو أنــهُ لم تصــدر عنه شيء مما كــان يدعــو إلــيه ، تــجده في لحظــة مــا و قــد انقلــبَ كليا من ولاء كــان يشده إلــى نظريات دهــرية إلــى رحاب فــكر يُــحــلِّــقُ بــه في سمــاء أخرى هــي أختـها في الأصول و التداول القيمي . فلِــمَ القفــز من أقصى إلـى أقصى ؟ إن كــان مــشروعــا في عـرف العقل الحــر أن يمارس قدرا من المراجعـة الذاتية و يتحــرى الصدق في التحليل الصارم لــواقع مرغوب عنه يــراه شــاذا عن الأصل المرغوب فيه فــالملام و التثريب أن يــدور هــذا العقــل في الانتــقال السريع و الساذج من نقطــة إلــى أخـرى دونــما تمعن و بصيرة للفكــر المُـرتَــحَل إليـه ، يشــعرً المتحــمسَ أنه ظــفَــرَ بضالتـه المنشودة و خلاص اضطرابـه الفــكري فإذا بــه أسيرا لتسرعــه . فــي مشهـدنا الفكــري نــجد اللائكــي الرأسمالــي مــن يتلطــف في التعامــل مــع الدين و يهــادن مهــادنة التحايل الحيادي ـ و فيــه اللائكي المُتَمــركِـس يرســلها شواظا من نــار فيعلــنها حــربا شعــواء عــلى الغيبيات و قيم السماء فينادي بتحــرير العقل من الدين و إن صــار الآن يتحــدث بلغــة الملاطفة و خطاب التسربل بالحياد الموهوم. بــين هــذا و ذاك نــجد لائكيون أمــازيغ نخبويون – ولا نــعمم – تســوقهـم تخريجات هــجينة تحــاول عبثا أن تلتمــسَ لهــا مــكانا في التراث و العرف التاريخي فتتمــيز عـن أصناف لائكية مُــستَـورَدة و مــا هــي إلا لائكية مصنوعــة لــها أنياب . و يــنــحشر بين هــذه الجــوقــة الإيديولوجية أكاديميون لا أصل لـهم تحديدا في الانتمــاء الولائي يتحــدثون في كــل شــيء و بلغــة تــارة تُــلامسُ المنطق الرأسمالي و معجمــه المتداوَل و تــارة أخــرى تأخــذهــم حــماسـة اللغــة الثوريـة فيتحدثون بمنطق حربي عـن " الرجعية " و " الإسلامويين " و " الظلاميين " ، تــتعايــش الأصنــاف الطارئــة علـى المجتــمع بشكــل يوحــي بكونها تعبيرا عن تعددية اختلافية محمــودة تُــضاهــي أخواتهــا في الغرب و تُحــاكي أدبيات التنــوع الفكري و قيم النسبية التــي تنص عليهــا " المواثيق الدولية " ـ بــيد أنــها في نظرنــا تُــخفي تحــتهــا واقــع الأزمــة/الأصل و تُــنذرُ بفتــن اختلافية داخــل المجتــمع الواحد عرفَ عبر مفاصل التاريخ إطــارا مرجعيــا واحدا مُــحتكَــم إليــه رغــم شذوذ الممارسة السياسية الأموية و ما تــلاها عــن النموذج الأم . و قــد يُــستَـدرَكُ علينا سريعــا تضاهي سرعة الانقلاب من إطار لإطار بالحديث عــن ضرورة تــدبير الخلاف و عقلنــته و مــأسسة الحوار و احتــرام الآخــر فيمضــي المَتعجِّــلُ انسياقا مـع تاريخ الغرب ليضري لنــا أمثلــة واقعية من نموذج الفكــر الغربي في تــعاطيه مع قضايا المجتــمع و الإنسان و الاقتصاد فيحـــتجّ علينا بواقـع هــو أصــلا حجــة علــى منطــق تفكيره ، فالعـاقل اللبيب يــرى بــوضوح كيف تتعــانق الثقافــة الغربية مع حضارتــه التي تأسست عــلى نــمط التجريد العقلي للقضايا و كيف لا تتشاكــس الهوية الثقافية الغربية الغربية مع أصول حضارته التــي ينسبونــها – بشهادتهم – إلــى العقل اليوناني الصرف ، و بالتـالي فطبيعــة مكونات العقل الغربي المعاصر تنتــمي إلــى مجتمــع تداولي موروث احتفــظ بالقيم الحضارية و لــم يتطــور إلا في ظل أحشاءها ، أي في أحضان المجنمع الواحــد ذو الهويــة الواحــدة ، علــى أن هــذه التعددية الظاهــرة التي يلتقطــها المغلوب علــى أمــره فيحسبهــا مبدأً مفصولا عن قيم المجتمــع لا تــقدر أن تستوعب قيم الاختلاف خارج هــذا المجتمــع ، دليلنــا على ذلك مــا يشهــده العالم الإسلامي من هــجوم فكري غربي شرس مًــضلِّــل يطــالُ حتــى أسس الإسلام نفسه الذي يتعارض منطقه الداخلي مــع أشكال التنميط الثقافي الغربي ذو البعد الدهري الواحــد ، بــل و نجد حتــى من أنصار التعددية الاختلافية الغربية من يعلنــها حربا علــى قيم الشرق الموسوم بالتخلف و الانحطاط خصوصا بعد أحــداث 11 شتنبــر حيث عــرَّت دعاوى التعددية و فضحت الوجــه القبيــح لمثقفي الغرب صانــعي الاستخراب و مهندسي الاستتباع . القــضية كــل القضيــة أن الاحتــجاج بالغرب صــارَ عنــد مقلٍّــدينا التُّــبَّــع لا يتجــاوز استدلالا ينــم عن عــقدة نــقــص !
لــمـا أصبــح اللعب بخيار التعددية و غــدا كــل طرف يُــدلِّــس بضاعتــه باسم قبول الآخــر تحــوَّلت النخب و قيادات الأحزاب اللائكية و العديد من الشباب المتحــمسينَ المتسرعين إلــى مجتمـع آخــر تداخلــت في عقولهــم أنــماط فكرية تستــمد أسسها من عالم آخــر مُــهيمن بحق صدارتــه الحضارية و تشاكســت في أصول مناهــج تفكيرهم قيم تنتــمي إلــى مجتـمع تداولي أصيل ورثه بالفطرة و قيم تغريبية تحاول عبثا إيجاد موقع لها في الذات . مجتــمعان تحت سقف واحــد كما كتب المفكر الإسلامي منير شفيق في كتابــه النفيس ( قضايا التنمية و الاستقلال في الصراع الحضاري ) ، مجتــمعان يمضيان بصمت رهيب في وسط واحــد متناقضان في الأصول الفكرية و متضادان في أنــماط العيش ، أضداد في وحدة تتصارع حصيلتها تمزق مستدام . و حتــى لا يُــظن بنا أننا نستعير أحد قوانين الجدلية المادية الماركسية المتمثلة في قانون وحدة الأضداد و صراعــها لتفسير حركة المجتمـع نسارع من جهـتنا إلــى الجزم بكون هــذا الصراع المتناقض في وحدة لا يُــنتَــظــرُ منــه تحولا من كمي إلى كيفي يفضي إلــى ميلاد مجتمع جديد بخصوصيات تُــفارق المجتمعين المتخاصمين في الخفاء كمـا يذهــب إلــى ذلك دعــاة المادية الدهرية ، و إنــما نتبــع في سبيل ذلك آليات الهدي النبوي و أضواء المأثورات النبوية القاضية باختلاط الحق بالباطل و فتن المجتمع ، فهـذا التنــاد القيمي لا يُــعبر إلا عن فتنــة مجتمعهــا مجتمع مُــشوّه لا هــوَ خــالص يعود إلــى عمقهــا التاريخــي و لا هــو مجتمع غربي مستنسَــخ ، لكــن مــا حيلتنا و اللائكيون علــى اختلاف ألوانهــم و تنـوع مشاربهم قــد صكــوا آذاننا بشعارات استهلاكية رنانة يرددونها بلا كلل يُــخادعون بها البعض فيمضون في تعداد محاســن التعددية و ضرورة تجاوز الفكر التقليدي و الإشادة بعصر "النهضة " و " التنوير " ... أصوات مبتورة عن روح الشعوب !.
لا يـقــدر اللائـكي الاعتــراف بأزمتــه المستديمـة القائمـة علـى تـهميش الدين و مسخه و لا يستــسيغ عقلـه أن يكون الدين منطلـق الشهــود و النهــوض إلا أن يكــون هــذا الدين في خــدمــة العقل يُــســخِّـره و يطالبه بالتجديد ، فـهـو عقل محكـوم بعقـدة لازمــته عــبر التاريخ الغربي يــحتــكـر فيه " العقل المجرد " الحــقائق و مفاتــيح الخــلاص و لا يسمــح "بالعـقل المسدد " أن يــكون لــه قــدم في رســم خارطــة المستقبـل ، كــيف يتحقق ذلك و قـد علمـت المدرسة الوضعية كيف أصبح الدين خــرافــة و عقلية " ميتافيزيقية " كــان فيه الإنــسان القديم يستــند إليهــا في تــحليل الظــواهـر ! يُــطالب اللائكــي /التــابع بتــحويل الدين إلـى طقوس و تــرانيم وراء الجدران يُــحوقل فيه أصحابهــا مــا شاءوا ، و يــحتــجُّ هــذا اللائكي المقـلّـِد بكون الدين مقدس الأجــدر له أن يكون في أعلــى عليين بعيدا عــن طبائع البشر المتقلبة ، أسطوانات مهــترئة لا تــسر السامعين و لا تــكشف البضاعــة المُــدَلَّــسة .
عقل اللائكي/التابع عقــل متجــانس غريب ، وجــه غرابتــه أنــه لا يكتفــي بإبــعاد و استــئصال العقــل الإسلامي بخطــاب لَــغوي قــدحي محمــول علــى الألــفاظ التنابــزية فحسب ، و إنــما أصبــح ينصــب نفســه العارف بالإسلام و بتاريخــه كمــا لــو أنـه فقيـه متضلع أو عالـم أصولي مُــدقق و مــا هــو إلا لائكي يتقــمص ، لائكي باسم الإسلام فاعــجب ! علــى أن اللائكي /التابع لا نــكاد نــعــثر في جعــبة عقــلــه مــا يستــحق أن يكــوِّن صفــات مستقــلة ينفــرد بهــا عن اللائكي /المتبوع غير التدليس و تــزوير التاريــخ و تأويــل أحــكام الدين تأويلا وضعيا ، فإذا كــان السيد اللائكي / المتبوع يُــعــبِّـر عــن مطالبــه اللائكية بــجرأة لا تــجد في الدين المنافس مــا يُـــكَــوِّن شريعــة مدنية و لا يــرى بأســا في أن يتــعايش اللواطي و الزانــي و المنحــلات و الخبيثات في مجتــمع تعددي تــحكــمه مبادئ لائكيــة لا شأن لــها بالأخلاقيات بوصفــها حريات فرديــة فــإن اللائكي / التابع تــحكمــه عــقدة الخوف من البــوح بمطالبــه المكبوتــة تــجعــله أمام وجود مجتــمع لا يزال يحتــفظ بوازعــه الديني الأصيــل تــجعــله يسلــك خيارا آخــر يقــوم علــى التــغني بالحريات و المجتــمع المــدني و حريــة الاعتقــاد و تــحرير المرأة .. و مــا تــحت السطــور أهــوال . تــجد اللائكــي/ المتبــوع منســجم مــع هــويتـه و تــاريخه المفصول عـن الهــداية الربانية منــذ ديموقراطية اليونــان/المهزلة انسجــاما لا يُــعــبِّــر عـن الحكــمة أو الـتـوازن بقـدر ما يحــيل مباشرة إلى الشرود العقدي الديني ، و تــجد في مقابلـه اللائكي / التابع مشرود عــن أصولــه ممــزق في عقلــه يلتــمس الخــلاص من غــير طريقــه و لا يبــالي بمــا يفــعل ، لكنــها الحمــاقة بعينــها .
لائكي تابع يــحاول عبثا طــرح محفوظــاته ينــشد التغيير من طريق واحــد فيحسب نفســه صاحــب مشروع وجب الالتفاف حوله ، يُــردد المفاهــيم المنحوتــة غربيا و يعيد إنــتاج تاريــخ انتهــى و كــأنــه وصل الجبــال طولا . علــى أنــه و هــو مــاضٍ في تقليدياتــه لا يشتــغل إلا فــي مــاضي غيره يُــوظِّــف أسلحتــهم البالية فيحســب ذاته مجــددا في نــظريات التغيير و أصول الحراك الاجتــماعــي و مــا هــو إلا في قبــضة أسياده أسيرا منــزوع الســلاح يُــطالب التغيير بأدوات من صنــعوا التــخريــب و يقــتفــي أثــر من صنعوا التغيير في بــلاد هــو خارج عنــها البــتة . مــا طبيعــة المجتــمع السياسي و الاجتــماعي المنشــود عندهـم إلا صــورا منسوخــة تــدور حــول التداول علــى السلطــة و التعددية الحزبية و حــرية الرأي و صــحافــة حــرة و انتــخابات نــزيهـة و الباب لازال مفتوحا...أجـــسام بـــــلا قلـــــوب!
صــنف من اللائكيين مَــن يفــتخــر بلائكيتــه و يــدعــو إلــى الفصل التــام بين الشأن الديني و السياسي بوصفهــما مجالين لا يلتقيــان في تسيير دواليب الدولة إذ تتــحــرك في عــقلـه الوضعي صورتــان متلازمتــان ، صورة حــكم ديني مطلــق ينــصب المشانــق و المقاصــل و يخنــق الحريات و يُــلاحق الأحــرار و يقـطع الأيادي و صــورة ترتــسم فيها فلــسفــة " الأنــوار " و " العقد الاجتــماعي " و تعددية حزبية برلمانية تُــنافِــس و حكم حيادي لا شأن لــه بــما لله لله ، عـــقلان في عــقل واحــد ! فمتــى يتــخلــص اللائكي من الصور البنائية الوهمــية و ينصــت لنداء الله حيث الحــاكم مسوس بتــدبير المعاش و حــفظ الدين ، متــى يــخلع من عقــله فلسفة غيره و يتــيحَ لقلبــه و عقلــه بتدبــر شمولية الدين بوصفــه قيم سلوكية مشدودة إلــى منظومـة الآيات البينات و المأثورات النبوية ؟ مــتى يُــحرر عقلَه المستعبَد بفكر أسياده ؟ الشريــعة متـى خلت من السياسة كــانت نــاقصة و السياسة متــى عريت من الشريعــة كــانت نــاقصة ، جمـــلة صاغــها أبو حيان التوحيدي في ( الإمتاع و المــؤانــسة ) .
ذلك صنف يتــغذى علــى مخلفات أصحاب " الأنوار " فــصار ذيــلا لهــم حتــى إذا دخلوا جحر ضب دخلوه معهــم ، و ثــمة صنف آخــر مخضــرم بلون الإســلام و اللائكية لا يـرى أي تناقضا بينهما يُــدافع عن الأليكــة من داخــل الإســلام و يُــنافح عن الفصل التام ثم يــرصد شواهــد تبريرية يلــوي فيهــا المعــاني و المبانــي لتصيــر في خــدمــة عقلــه المؤليَــك ، تُــطالبــهُ بالأدلة فيُخــرج لــك " أنتم أعلم بشؤون دنياكــم " فإن حاصرتَ فكــره الضيق ببيان المعنــى الدقيق و كشف سبب الورود احتــجَّ و غضب و مــضى في استعــراض محفوظــانه من قامــوس " الحداثة " و " العقلانية " و مسايرة العصر و عصر العقل ...و مــا هي إلا لائكية متسربلة بالدين ، صنف كهــذا أشــد بأسا من أولــه حيث انــفرد الأول بالتقليد والدجل و الجهل بالدين و جمــع الثـاني بــلاوى التأويل من داخــل الدين
بــنــية العــقل اللائـكي بنـية نــافية لا تــسمــح بتــصور الدين خــارج الطقوس الجـامدة و لا قابلـية لــه بمــراجــعة طروحــات الفـصل بفــعل ثــقل التــاريخ الغربي و هــيمــنة مقــاييســه عــلى الشــعوب المستَــعبَــدة ، بــحيث ينــدر وجود مــن ينــقد قنــاعاتــه الموروثــة من ســجلات غيره إلا أن يــكون شبــح المــوت يــلاحــقه بالنذير و الوعــيد يُــزعزع لــه ولاءاتــه و يُــذَكِّــرُه بالمصير و اليقين فيـهرع بالانقلاب على اعتقاداته الراسخة إذ تتحــرك فيه آنذاك الفطــرة المطموسة بديــلا عن غــرور العــقل و عناده ، لذلك تــجد العديد من المفكرين الذين طــلَّقــوا ما ءامنوا به عندمــا زحف سن الشيخوخــة فصاروا أعــداء لما كانوا عليه يكتبــون و يردون علــى أنفسهــم ، و في ذلك عــبرة لغيرهم قبل نسخ التجربة . لـــكننا و نــحن نُــواجِـــه اللائكي بأسئــلة الصدق السياسي و التراث السياسي و عقــل الفقيه الذي استوعــب عصر زمــانه و تقلباته المتمــوجة نــراهُ يُــواجهنــا بأسئــلة العصر و ما يعرفــه من تحولات جذريــة في النظام الدولي و العلاقات الدولية و ما استــجد في أنظمة علم السياسة من أطروحات و مبادئ قالوا عنهــا أنهــا كونــية ، و كــأنــه يشــهِــر في حقنــا آخــر ورقـة يملكهـا هــذا العقل اليتيم ، فبعــدمــا انهـــزم في مــيدان التأصيل الشرعي و التاريخي لتبرير خيار الأليكــة و حــصَــدَ في ذلك مــرارة الجــهل و رفض الشعب المسلم راحَ ملتجــئا إلــى فلسفة العصــر يُــجرِّبُ فيها حــظــه البئيس فينطــلق لسانه بالحديث عن انعدام البرنــامج السياسي لــدى الإسلاميين و الجــمود الفقهــي و عقلية " الظــلام " و " الرجعية " و كــأننا أمــام تُـــجَّــار اللَّغــو الكــلامي و عقليات التسويق الإعلامي تُــتــقِــن اللعب بالألفاظ الهــجينة و تعــوزُه النضج السياسي و الفكري إن لــم يكــن من منطــلق واجب الدين و مــا يفرضه من مراقبة القول الفاحش فمِــن باب فلسفة "الإخاء" الفرنسية التي يؤمنون بها مطلقا !
مِــن ضــمن عجــائب هــذا العقل المستَــورَد أنــه لــم يكتفِ بالتغطية على الاعتراف بأزمــته الدينية و جفاف قلبه فحسب ، و إنــما صــارَ يضــع نفسه كمــا لو أنــه إسلامي يُــنافــح عن مشروع النهــضة الإســلامية و يُــقدم نفسه من داخــل خط الإسلاميين الحركيين فــتراه يصــرخ في وجــه الإسلامي الأصيل بكلمتــه الهزلية " كلــنا إسلاميون " أو علــى تقدير : كلنا مسلمون ! يــافطــة تُــحاول ســتر عناده و تخفي وراءها عــالمــا مغايــرا من الانخــلاع الديني و الشرود القيمي و كأنــه يُـــخاطب قوما يجــهلــون تجليات و عــلامات التدين ، لائكي إســلامي و لك أن تعجب . يُــذكرنا هــذا بصـرخة ألم اللائكــي فؤاد زكريا إبــان المناظرة الشهيرة عــام 1413/1992 بينــه و بين المفكر الإسلامي محمد عمــارة تحت عنــوان ( أزمــة العقل العربي ) حيث أعــاد الأسطوانـة الخادعــة لتدليس المشروع المعادي للدين ، أسطوانة أننا جميعا إسلاميون ، فالعبــارة عنده لا تتــجاوز كـون المسلم تــربى في ظــل الإسلام و لا يــودُّ أن يــفهــم من الإسلامية مشروعـا للنهوض و الإقلاع التنمــوي يستــوعب مجالات الحــياة كلهــا و طبقات المسلمين كــلهم ، لائكــية تــدَّعــي الدين عليهــا عــــزيــــز ! تُـــرى هــل يجوز في عرف العقل أن يكون الماركسي الدهـري مــؤمنــا بحرية الســوق و ملكية الأفــراد و تــحرير الرأسمــال غــير أحــمق موصوف بمحرف الماركسية اللينينية ؟ هــل يجوز لليبرالي يؤمــن بمذهــبه الاقتناعَ بالتأمـــيم و نــزع الملكيات و المساواة في الأجــور غــير مــعتــوه يُــؤمن "بالبنية التحتية" كـــأساس و ينافــح في المقابــل عن الاقتــصاد الحــر ؟! و نــستــطرد قيــاسا و هــل يمكــن لإســلامي/زَعَمَ لــم تســجد جباهــه للمولــى عز و جــل قــط لا يــرى الحــرام حراما و الحــلال حلالا أن يــضــعَ نفــســه ذادا للإســلام إلا أن يكــون في عقلــه مـــس ! أو يــفــهم الإسلامية تعددية اختــلاطية تــجوز عنــده عصــرنــة الإسلام و تحــديثــه بمـا لا يتنــاقض مــع القوانين الدولــية و المواثيق الكونية/قالـوا ، و للمـزيد في هـذا المـوضوع يُــرجى قراءة كتاب : الإسلام و الآخـر من يعترف بمن و من ينكر من ؟ للد. محمد عمارة .
تــخبــطات هـذا العــقل يجــعلــه عــقلا مختــلطا ، فــهو من جــهة يــقوم بإعــادة إنتاج تاريخ غير تــداولي و يطـنب في الحديث عن مــزايا الألــيكة و تــحييد الدين و تحكيم "العقلانية" في السياسة و تــدبير القــضايــا ، لــكنـــه في المــقابل لا يــودُّ أن يــخــسر دينــه و تــاريخه الموروث تَــجــرُّهُ الفــطرة و شــموخ الإسلام إلــى البــوح بعليــتــه و مــكانتــه ، غير أنــها علــية جــمود تــوضع في الرفــوف و بين جــدران المســاجد و إلا فــهو إســلام مستحــدث طــوَّره "إسلامـويون" معاصرون بــدافــع التــميــز ! تــأخـذهُ الرجــفــة خــوفــا من أن يــتــعرى عــن إسلاميـته المزعومـة أمــام الإسلامي الأصيل فيســارِعَ للــتقــمص تــمويــها ، جــرأة في تــهمــيش الدين و جــرأة في احــتكــاره ! لــــكــن هــذا الــدين الشــامخ لا يــحتــاج إلــى من يكشــف أهلــه من غــيره ، فتــمظهــرات التــدين و الالتــزام الشمولي بــه لا تــعوزه فلــسفة للاستــدلال إذ نــظرة في الســلوك اليومي تــكشف من يقــفُ مــع أصحاب الصدود و من يــكافــح ليشــيع الإســلام و يسري في القــلوب . و حــتى لا يُــسارِعَ أحــد بالاستــدراك علينــا فيسأل : كــيف جــعلتَ سـابقــا هــذا العــقل عــقلا متــجانســا و تــسِــمَــهُ الآن بالمخــتلِــط ؟ أليــسَ هــذا دلــيلا علــى التنــاقض الصــارخ ؟ و نُـــجــيــب سريــعا بكــون هــذا العقل هــو فــعلا عقلا متجانسا لــكنــه تــجانــس اخــتلاف لا تــجانــس وحــدة ، و تــجانــس اختلافــه هـو عـلامــة ضــعفــه و عــجزه عــن الاندمــاج في خــط التداول يــجــعلــه أقرب إلــى عقــل ممــزق في هــويتــه و مــرجعــيتــه الشــاملــة ، في حــين أن اللائكــي المتبــوع ينــفرد بتــجانــس وحــدتــه الداخــلية ، فــهو عــقل يتناغـم مع التراث و لا تتشاكــس في ذاته حطاب دهــري و خطاب مشدود إلـى قــوة الدين في الوقت الذي تتــداخــل في عــقل اللائكي التــابع نموذج متغرب فرض نفسـه بقوة الهيمنــة و السطوة مع نموذج متصل بتاريخه ، و هــذا التــجانس المختَــلَف في ذاتــه هــو مــا يمــثل بــنــية عقلــية معــلقة لائكــية في ديار الإسلام ركبت مــوجــة التغريب المتـــخــلِّــف .
لــو كــان اللائكي الإسلامــوي يــحــمل هـموم تـحكــيم شــرع الله فتأخــذه الغــيرة علــى حــرمات الله لــكــان لــه قــدم في مــشروع النــهضـة الإسلامية المنشودة و لــكــان الاختـلاف مــعـه اخــتلاف سُــبُــل فرعية للإصــلاح ، لــكن القــومَ تأخــذهــم العــزة بالإثــم فيحــسبون الدين عــليهــم مــقــصلــة ، قــوم انــدرست فيهم قيم الأخــلاق فــأصبــح الدين عنــدهم " مسألــة " من المســائل لا يتــجاوز عــلاقــة العبد بــربــه ، لــو كــان اللائكــي الإسلاموي صــريحــا مـع ذاتــه فيعـلن عـداءه و حربـه علـى الدين بــلا مــداراة لــكان فــعلا صاحــب مشــروع ، لــكنــه مــع الأســف يُــدلِّــسُ البضاعــة و يغــطيهــا بخطـاب ثــرثــاري ينتــحل العنــاوين و ينــحت المــفاهــيم فيحــسب نفسـه مُـنــظِّــرَ مشـروعٍ نهــضويٍّ و مــا هــو إلا امتــدادا غــير شــرعي لــعقــل متــمـرد علــى الدين حينا من الدهــر. فإذا كـــان من المحــال إطــلاق صفـة الماركسية على اللــيبرالي و العكــس صحيح فــلأن جــذور الاختــلاف يــعود إلــى أســاسات التــغـيير و قــواعــد الإصــلاح الشامــل المشدودة للإطــار الإيديولوجي الناظــم ، و جــريا على هــذا النــمط يــكون التنـاقض الحــاد بين اللائكي الإسـلاموي في مشـروعــه التغريبي الاسقاطي المُــنتَــحَــل و بين الإســلامي الأصــيل في مشــروعـه الوجودي يــكون أنــصع من أن تــعيبــه خــدوش ، فكيــف يــدَّعــي اللائكي إسلاميتــه في غيــابٍ لاحتــرام أحــكام الله و سنـة رســوله الكريم ؟ و كــيف لــعقل لائكــي مــجرور به لا يــرى أولويــة الحل الإسلامي أن يــضــع نفــســه من دعــاة الإسلام ؟ شــتـان بين عــقل مــذهـول بقيــم الغرب مُــعــقَّـد بحــداثة وهمــية مشــدودة إلــى عقل اليونــان رمــز العقلانية و بين عــقل يتــحرك بموجب قيم الإسلام يُــقــدِّم علـى ضوءه تــجديدات فقهيــة و نــظرات تــداولية إن لــم تــشفــع لــها مــرجعيتهــا الإســلامية التأسيسية تــشــفع لهــا خــطــها التراثي و قيمهــا التداولية الأصيلـة . مــشكــلة اللائكــي إذن لا تــكمن في مشــروعــه المنــقول الثــاوي لقيم تفكيكية لأسس الحياة الإسلامية فحسب ، و إنــما يــرتبط أيضا بآليات تــفكير هــذا العقل حــيث غــدا التــقليد السيئ أحــد مــرتــكزات القول الفلسفي و الفكــري ، الشيء الذي يـــنزع عنــه الأصالــة و يُــلحِــقه مباشرة بفضاء أجنــبي لا صــلة لــه بمحــرك الجــماهــير ، فــكيف إذن لنــخب لائكية أنهــكتها الاغتــراب أن ينــسجــموا مع مشروع التــغيـير الجذري و هــم جــزء لا يتــجــزأ من معيقــات النــهضة ؟ إلــى أن يــفــيــق هــذا العــقل المُــشَــــرَّد في تكــوينــه نَـدَعُ الــكــلـمـــة الحــرة للـشعـوب !