د/ عامر الهوشان
خلق الله تعالى هذا الكون فجعل نظامه مستقرا, تجري أحداثه بشكل منسق ومحكم , وتسير أموره سيرا منتظما مبهرا, ووهب للإنسان العقل والتفكير والتأمل, ليعمل كل ذلك في الوصول إلى الله تعالى ومعرفته, فكل شيء في هذا الكون البديع يدل على عظمته وقدرته, قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة/164
لقد جعل الله تعالى من اتساق هذا الكون وانسجام أحكامه, دليلا على وجوده سبحانه وتعالى وإبداعه, وجعل من وحدة نظامه من أصغر ذرة فيه إلى أكبر مجرة, دليلا على وحدانيته وإنفراده في الخلق والأمر, قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} الأنبياء/22
لقد عاند الملحدون على اختلاف درجاتهم وانتماءاتهم حقيقة وجود الله تعالى رغم وضوحها وجلائها, وحاربوا على مر العصور وكر الدهور الحقائق الباهرة الظاهرة على وحدانيته, رغم دلائلها وبراهينها, وهم في ذلك صنفين اثنين:
1- عالم معاند ومكابر وحاقد, يعلم الحق ويحاول معاندته ومحاربته, لحقد وقر في قلبه على دين الله تعالى, وكراهية للإسلام ولد وتربى وترعرع عليها منذ الصغر, فهو في صراع دائم بين حقائق العلم التي تدعوه إلى الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته, وبين نوازع النفس والشيطان التي تشده إلى حقده وكراهيته على الإسلام.
ولا شك أن اعتراف الكثير من هذا الصنف بوجود الله تعالى ووحدانيته ولو بعد حين, وخضوعهم في النهاية لحقائق العلم وثوابته, يؤكد أن الغلبة في النهاية دائما للعلم والحق.
ولعل اعتراف (سير أنتوني فلو) أستاذ الفلسفة البريطاني الشهير, والتي كانت كتاباته الإلحادية الغزيرة تعتبر جدول أعمال الفكر الإلحادي طوال النصف الثاني للقرن العشرين, بوجود إله لهذا الكون وتركه الإلحاد, وذلك بعد أن جاوز الثمانين من عمره, من خلال إصداره عام 2007 م كتابا يشرح ذلك بعنوان (هناك إله) مما شكل صدمة هستيرية لزملائه وتلامذته الملاحدة, أكبر دليل على ذلك.
2- ملحد جاهل أو نصف متعلم مقلد وتابع, يقول ويردد ما تقوله النخبة المثقفة في بلده ومجتمعه, معتبرا أن ذلك هو التحضر والتقدم والرقي, بعد أن تم غسل دماغه وعقله بشبهات الأكاذيب والأوهام التي لا حقيقة لها على أرض الواقع عن الإسلام, من خلال ما تبثه وسائل الإعلام والاتصالات ليل نهار على الشباب والناشئة, من الالحاد والجحود بوجود الله تعالى, مستندة بذلك على ما يقوله الصنف الأول من الملاحدة العلماء, أو تزوير وتحوير أقوال المهتدين منهم إلى وجود الله والإيمان.
لقد تملك الكثير من علماء الغرب الغرور والعنجهية المفرطة, بعد الثورات العلمية السريعة والمتوالية, فنسبية أينشتاين كانت خلال القرن الماضي أحد الركائز الأساسية التي بُنيت عليها الفيزياء الحديثة والنظرة إلى للكون.
كما أن الثورات العلمية المتلاحقة الذي شهدها القرن العشرين, والذي تفجرت فيه ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وثورة الهندسة الوراثية، وثورة علوم الإنسان، مما أبقى الآفاق مفتوحة أمام ثورات علمية أخرى جديدة سيشهدها القرن الحادي والعشرون, زادت من تلك العنجهية والغرور.
ولعل أهم الثورات العلمية التي شهدها القرن العشرون وأخطرها, تلك التي يطلق عليها (ثورة الهندسة الوراثية), والتي تهدف إلى هندسة الطاقم الوراثي للكائنات الحية بتوجيهه إلى أداء وظائف محددة، وبفضل هذه الثورة تم اكتشاف تركيب الحمض النووي بالخلايا الحية وغيرها، مما غيَّر أفكارا قديمة، وحلَّ مشكلات علمية كانت مستعصية، وأجاب على تساؤلات ظلت قروناً تبحث عن إجابات ذات مصداقية.
لقد أسكرت كل هذه الثورات والإنجازات عقول الغرب ومفكريه وملحديه, وجعلهم يظنون أنهم قد ملكوا الكون والتصرف والتحكم فيه, وأنهم لم يعودوا بحاجة إلى وجود الله ودينه وشرعه –والعياذ بالله-, وذلك على الرغم من الظواهر الكونية والبشرية الكثيرة والعديدة, التي لم يستطع الإنسان الوصول إلى تفسير علمي لها حتى الآن, كحقيقة الروح والحياة, وحقيقة ما يسمى بمثلث (فورموزا) بتايوان, الذي فقدت واختفت فيه وبمثلث (برمودا) الكثير من السفن والطائرات, حتى أطلق عليه سكان (تايوان) اسم (مقبرة السفن والطائرات) وغيرها من الظواهر كثير.
لقد دفع هذا الغرور والتكبر في وقت من الأوقات, لأن يتبجح أحد هؤلاء (فريدرك نيتشه) الفيلسوف الألماني المعروف المتوفى سنة 1900م للقول: إن الله قد مات أو هو في طريقه إلى الموت -والعياذ بالله من حكاية هذا الكلام الكبير الشنيع ولكن ناقل الكفر ليس بكافر- فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما نعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله تماما كما قال (لابلاس).
ومع براءة العالم (لابلاس) من هذا الكلام, حيث يعترف بمقولة له على قدرة الله تعالى ووجوده, من خلال شرحه دليل الحركة الكونية بقوله: (أما القدرة الفاطرة التي عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث إن النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل).
إن هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلا باحتمال واحد من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟ إنه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصى إلا إذا لبث خمسين ألف عام يعد الأرقام ليلا ونهارا، على أن يعد في كل دقيقة (150) عددا).
إلا أن الملحدين أرادوا استغلال حيرته ودهشته لعظمة الكون, ليحرفوا له بعض أقواله لتصب في خانة الإلحاد وعدم الإيمان, وهذا ما يؤكد أن الملحدين كما قلنا أكثر من صنف ولون, فمنهم العالم الذي سيوصله علمه إلى الحقيقة إن تخلى عن عصبية القوم والجنس والملة, ومنهم مقلد وتابع وجاهل.
ومع أننا تعودنا طوال السنين السابقة, على الاستدلال بوجود الله تعالى على اتساق هذا الكون وانتظامه, إلا أن الله تعالى بحكمته وعلمه, جعل لقاعدة اتساق الكون وانتظامه ووحدته بعض الاستثناءات, ليكون هو الآخر دليلا على وجوده وعظمته سبحانه, ويكسر بهذا الاستثناء استكبار بعض المغفلين من العلماء, ممن يظنون بأنهم أحاطوا بالكون علما, أو استغنوا بعلومهم عن الله –والعياذ بالله-.
يظهر ذلك من خلال بعض الظواهر الكونية غير المفهومة ولا المنظومة, والتي أدهشت العلماء والمفكرين والمخترعين, وجعلتهم في حيرة من أمرها وحيالها, فمع الدرجة العالية التي وصلوا لها من العلم والمعرفة, إلا إن هناك الكثير من الظواهر في هذا الكون, التي لا يعرفون لها سببا, ولا لطريقة سيرها وعملها نظاما, وبالتالي فهم في قلق واضطراب دائم.
ولعل من أهم هذه الظواهر ما سمي فيما بعد بنظرية الفوضى, نظرا لكونها قد غيرت الكثير من المعتقدات السائدة قديما عند علماء الرياضيات, من أن كل شيء في هذا الكون يمكن التنبؤ به بالرياضيات, وكان هذا يعطي طمأنينة بأن العالم مكان معروف, ويمكن السيطرة عليه والتنبؤ به.
جاءت نظرية الفوضى لتزيل ذلك الاعتقاد، ولتستبدل الطمأنينة بالقلق من المجهول الذي لا يمكن توقعه.
كانت البداية بعالم الأرصاد (إدوارد لورينز) الذي كان يعمل على التنبؤ بحالة الطقس باستخدام بعض العمليات على حاسوبه عن طريق سلسلة حسابية معينة
وفي يوم من الأيام، أراد اجراء عملية ما، فبدأ من منتصف السلسلة وليس من بدايتها -اختصارا للوقت- ففوجئ بتغيير كبير في النتيجة.
وبمراجعة العملية من أولها تبين له أن تغييرا طفيفا جدا، أدى تراكمه في النهاية إلى تغيير ضخم في النتيجة, وقد عرف هذا بتأثير الفراشة, لتنطلق بعدها المقولة الشهيرة والأهم لهذه النظرية, حتى أصبحت علما وشعارا لها: (لو أن فراشة في شرق الكرة الأرضية رفرفت بجناحها، قد يؤدي ذلك لاحقا لحدوث عواصف في غرب الكرة الأرضية).
انضم إلى (إدوارد لورينز)مجموعة من العلماء والباحثين النخبة, في مجالات الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والكيمياء, ليقوموا بالكثير من المحاولات والتجارب, على ظواهر الاضطراب والفوضى (chaos) والتي مازالت تحير العلماء، فهم يبحثون في الظواهر المغايرة لما اعتادوا عليه علميا: مثل الفشل المحتوم للتوقعات الفلكية طويلة الأجل, وتحولات الأنواع الحية وأعدادها، وحركة أمواج البحر والتذبذب في عمل القلب والدماغ، وسبب الخلل المفاجئ في الكمبيوتر وغير ذلك من ظواهر مشابهة.
ونظرية الفوضى [chaos] استحوذت على أبحاث واختبارات بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي, حينما تحمس كثيرون ووصفها البعض بالثورة الثالثة في علم الفيزياء, وذلك بعد فيزياء اسحق نيوتن وأينشاين.
وبعد عشر سنوات من الأبحاث التي بدأها أولئك العلماء أصبح مصطلح (الفوضى) اختصارا لحركة متصاعدة أعادت صياغة المؤسسة العلمية عالميا, فتكاثرت منتديات (chaos) ومجلاته، وخصص المسؤولون في جهات مثل الجيش الأمريكي، ومراكز الأبحاث والمختبرات أموالا متزايدة, وكلفوا مزيدا من الباحثين للعمل في هذا الميدان.
وولدت نظرية (chaos) أو الفوضى تقنيات خاصة في علوم الكمبيوتر, وأنواعا جديدة من الصور البيانية, ومقولة: إن رفة جناحي فراشة في الهند قد تحدث فيضانات في نهر الأمازون في أمريكا الجنوبية.
ويمكن تبسيط هذه النظرية بالقول:
إنها تدرس سلوك بعض المتغيرات الفوضوي في شتى مجالات الحياة, وتحوله لنموذج قابل للتنبؤ بسلوك المتغير, ومحاولة السيطرة عليه حسب الحالة التي تطبق عليه النظرية.
هذا وقد استخدمت هذه النظرية حاليا في علم الأحياء وعلم المناخ، وخصوصا دراسة الأعاصير، وعلم البراكين والزلازل، وفي مباحث خاصة في علم النفس التحليلي والتخاطري, وكان لها تطبيقات مهمة في مباحاثات الحد من انتشار الأسلحة النووية بين القطبين العالميين سابقا.
ولعل من أهم نقاط الضعف في هذه النظرية, أنه في حال كان أحد المتغيرات خاطئة, فسيؤدي ذلك إلى فشل التطبيق, وبالتالي سيكون لزاما على مشرف الحالة أن يعيد التطبيق بمتغيرات جديدة.
لقد ضربت هذه النظرية نسبية أنشتاين, وبددت خيال نيوتن في حتمية التوقع المحكم والحتمي, وجعلت من الزهو المادي الإلحادي الذي كان سائدا منذ عقود ضربا من الوهم والخيال, وأعاد العلماء إلى مربع الصفر في كثير من القضايا التي اعتقدوا أنهم تجاوزوها وتخطوها.
وكما ظهرت حقيقة وجود الله تعالى ووحدانيته في هذا الكون, من خلال النظام المحكم والدقيق له, ظهر عجز الإنسان وقصر عقله عن إدراك كل حقائق هذا الكون وخفاياه, من خلال يقينه بأن العلم الذي توصل إليه ليس حتميا من خلال ظهور نظرية الفوضى, وأن في الكون غرائب وخفايا لم يتوصل إليها بعد, وأنه لا بد أن يعترف بكلا الحالتين بأن لهذا الكون إله, وأن الإلحاد ضرب من الجنون والغباء في هذا العصر والزمان.
لم تقتصر تطبيقات نظرية الفوضى على مجال معين, بل شملت جميع المجالات, ولعل من أهم وأخطرتطبيقاتها حاليا في العالم, هو تطبيق نظرية الفوضى في الصراعات الايديولوجية والاقليمية الضيقة والجغرافية الأوسع مع الكتل البشرية التي تقطن فيها, وذلك لإحداث تغيرات تسمى بالمصطلح السياسي (تغيرات جيوسياسية) لصالح جهة تبقى تدير هذه النظرية, أو تدرس متغيرات المعادلة ببطئ للوصول إلى اللافوضى حسب حساباتها, وهو مما يمكن أن نتناوله في مقال آخر إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_______________________________________
أهم مراجع المقال:
-نظرية الفوضى علم اللامعقول (إدوارد لورينز(.
-صراع مع الملاحدة حتى العظم لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني.
خلق الله تعالى هذا الكون فجعل نظامه مستقرا, تجري أحداثه بشكل منسق ومحكم , وتسير أموره سيرا منتظما مبهرا, ووهب للإنسان العقل والتفكير والتأمل, ليعمل كل ذلك في الوصول إلى الله تعالى ومعرفته, فكل شيء في هذا الكون البديع يدل على عظمته وقدرته, قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة/164
لقد جعل الله تعالى من اتساق هذا الكون وانسجام أحكامه, دليلا على وجوده سبحانه وتعالى وإبداعه, وجعل من وحدة نظامه من أصغر ذرة فيه إلى أكبر مجرة, دليلا على وحدانيته وإنفراده في الخلق والأمر, قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} الأنبياء/22
لقد عاند الملحدون على اختلاف درجاتهم وانتماءاتهم حقيقة وجود الله تعالى رغم وضوحها وجلائها, وحاربوا على مر العصور وكر الدهور الحقائق الباهرة الظاهرة على وحدانيته, رغم دلائلها وبراهينها, وهم في ذلك صنفين اثنين:
1- عالم معاند ومكابر وحاقد, يعلم الحق ويحاول معاندته ومحاربته, لحقد وقر في قلبه على دين الله تعالى, وكراهية للإسلام ولد وتربى وترعرع عليها منذ الصغر, فهو في صراع دائم بين حقائق العلم التي تدعوه إلى الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته, وبين نوازع النفس والشيطان التي تشده إلى حقده وكراهيته على الإسلام.
ولا شك أن اعتراف الكثير من هذا الصنف بوجود الله تعالى ووحدانيته ولو بعد حين, وخضوعهم في النهاية لحقائق العلم وثوابته, يؤكد أن الغلبة في النهاية دائما للعلم والحق.
ولعل اعتراف (سير أنتوني فلو) أستاذ الفلسفة البريطاني الشهير, والتي كانت كتاباته الإلحادية الغزيرة تعتبر جدول أعمال الفكر الإلحادي طوال النصف الثاني للقرن العشرين, بوجود إله لهذا الكون وتركه الإلحاد, وذلك بعد أن جاوز الثمانين من عمره, من خلال إصداره عام 2007 م كتابا يشرح ذلك بعنوان (هناك إله) مما شكل صدمة هستيرية لزملائه وتلامذته الملاحدة, أكبر دليل على ذلك.
2- ملحد جاهل أو نصف متعلم مقلد وتابع, يقول ويردد ما تقوله النخبة المثقفة في بلده ومجتمعه, معتبرا أن ذلك هو التحضر والتقدم والرقي, بعد أن تم غسل دماغه وعقله بشبهات الأكاذيب والأوهام التي لا حقيقة لها على أرض الواقع عن الإسلام, من خلال ما تبثه وسائل الإعلام والاتصالات ليل نهار على الشباب والناشئة, من الالحاد والجحود بوجود الله تعالى, مستندة بذلك على ما يقوله الصنف الأول من الملاحدة العلماء, أو تزوير وتحوير أقوال المهتدين منهم إلى وجود الله والإيمان.
لقد تملك الكثير من علماء الغرب الغرور والعنجهية المفرطة, بعد الثورات العلمية السريعة والمتوالية, فنسبية أينشتاين كانت خلال القرن الماضي أحد الركائز الأساسية التي بُنيت عليها الفيزياء الحديثة والنظرة إلى للكون.
كما أن الثورات العلمية المتلاحقة الذي شهدها القرن العشرين, والذي تفجرت فيه ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وثورة الهندسة الوراثية، وثورة علوم الإنسان، مما أبقى الآفاق مفتوحة أمام ثورات علمية أخرى جديدة سيشهدها القرن الحادي والعشرون, زادت من تلك العنجهية والغرور.
ولعل أهم الثورات العلمية التي شهدها القرن العشرون وأخطرها, تلك التي يطلق عليها (ثورة الهندسة الوراثية), والتي تهدف إلى هندسة الطاقم الوراثي للكائنات الحية بتوجيهه إلى أداء وظائف محددة، وبفضل هذه الثورة تم اكتشاف تركيب الحمض النووي بالخلايا الحية وغيرها، مما غيَّر أفكارا قديمة، وحلَّ مشكلات علمية كانت مستعصية، وأجاب على تساؤلات ظلت قروناً تبحث عن إجابات ذات مصداقية.
لقد أسكرت كل هذه الثورات والإنجازات عقول الغرب ومفكريه وملحديه, وجعلهم يظنون أنهم قد ملكوا الكون والتصرف والتحكم فيه, وأنهم لم يعودوا بحاجة إلى وجود الله ودينه وشرعه –والعياذ بالله-, وذلك على الرغم من الظواهر الكونية والبشرية الكثيرة والعديدة, التي لم يستطع الإنسان الوصول إلى تفسير علمي لها حتى الآن, كحقيقة الروح والحياة, وحقيقة ما يسمى بمثلث (فورموزا) بتايوان, الذي فقدت واختفت فيه وبمثلث (برمودا) الكثير من السفن والطائرات, حتى أطلق عليه سكان (تايوان) اسم (مقبرة السفن والطائرات) وغيرها من الظواهر كثير.
لقد دفع هذا الغرور والتكبر في وقت من الأوقات, لأن يتبجح أحد هؤلاء (فريدرك نيتشه) الفيلسوف الألماني المعروف المتوفى سنة 1900م للقول: إن الله قد مات أو هو في طريقه إلى الموت -والعياذ بالله من حكاية هذا الكلام الكبير الشنيع ولكن ناقل الكفر ليس بكافر- فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما نعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله تماما كما قال (لابلاس).
ومع براءة العالم (لابلاس) من هذا الكلام, حيث يعترف بمقولة له على قدرة الله تعالى ووجوده, من خلال شرحه دليل الحركة الكونية بقوله: (أما القدرة الفاطرة التي عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث إن النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل).
إن هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلا باحتمال واحد من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟ إنه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصى إلا إذا لبث خمسين ألف عام يعد الأرقام ليلا ونهارا، على أن يعد في كل دقيقة (150) عددا).
إلا أن الملحدين أرادوا استغلال حيرته ودهشته لعظمة الكون, ليحرفوا له بعض أقواله لتصب في خانة الإلحاد وعدم الإيمان, وهذا ما يؤكد أن الملحدين كما قلنا أكثر من صنف ولون, فمنهم العالم الذي سيوصله علمه إلى الحقيقة إن تخلى عن عصبية القوم والجنس والملة, ومنهم مقلد وتابع وجاهل.
ومع أننا تعودنا طوال السنين السابقة, على الاستدلال بوجود الله تعالى على اتساق هذا الكون وانتظامه, إلا أن الله تعالى بحكمته وعلمه, جعل لقاعدة اتساق الكون وانتظامه ووحدته بعض الاستثناءات, ليكون هو الآخر دليلا على وجوده وعظمته سبحانه, ويكسر بهذا الاستثناء استكبار بعض المغفلين من العلماء, ممن يظنون بأنهم أحاطوا بالكون علما, أو استغنوا بعلومهم عن الله –والعياذ بالله-.
يظهر ذلك من خلال بعض الظواهر الكونية غير المفهومة ولا المنظومة, والتي أدهشت العلماء والمفكرين والمخترعين, وجعلتهم في حيرة من أمرها وحيالها, فمع الدرجة العالية التي وصلوا لها من العلم والمعرفة, إلا إن هناك الكثير من الظواهر في هذا الكون, التي لا يعرفون لها سببا, ولا لطريقة سيرها وعملها نظاما, وبالتالي فهم في قلق واضطراب دائم.
ولعل من أهم هذه الظواهر ما سمي فيما بعد بنظرية الفوضى, نظرا لكونها قد غيرت الكثير من المعتقدات السائدة قديما عند علماء الرياضيات, من أن كل شيء في هذا الكون يمكن التنبؤ به بالرياضيات, وكان هذا يعطي طمأنينة بأن العالم مكان معروف, ويمكن السيطرة عليه والتنبؤ به.
جاءت نظرية الفوضى لتزيل ذلك الاعتقاد، ولتستبدل الطمأنينة بالقلق من المجهول الذي لا يمكن توقعه.
كانت البداية بعالم الأرصاد (إدوارد لورينز) الذي كان يعمل على التنبؤ بحالة الطقس باستخدام بعض العمليات على حاسوبه عن طريق سلسلة حسابية معينة
وفي يوم من الأيام، أراد اجراء عملية ما، فبدأ من منتصف السلسلة وليس من بدايتها -اختصارا للوقت- ففوجئ بتغيير كبير في النتيجة.
وبمراجعة العملية من أولها تبين له أن تغييرا طفيفا جدا، أدى تراكمه في النهاية إلى تغيير ضخم في النتيجة, وقد عرف هذا بتأثير الفراشة, لتنطلق بعدها المقولة الشهيرة والأهم لهذه النظرية, حتى أصبحت علما وشعارا لها: (لو أن فراشة في شرق الكرة الأرضية رفرفت بجناحها، قد يؤدي ذلك لاحقا لحدوث عواصف في غرب الكرة الأرضية).
انضم إلى (إدوارد لورينز)مجموعة من العلماء والباحثين النخبة, في مجالات الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والكيمياء, ليقوموا بالكثير من المحاولات والتجارب, على ظواهر الاضطراب والفوضى (chaos) والتي مازالت تحير العلماء، فهم يبحثون في الظواهر المغايرة لما اعتادوا عليه علميا: مثل الفشل المحتوم للتوقعات الفلكية طويلة الأجل, وتحولات الأنواع الحية وأعدادها، وحركة أمواج البحر والتذبذب في عمل القلب والدماغ، وسبب الخلل المفاجئ في الكمبيوتر وغير ذلك من ظواهر مشابهة.
ونظرية الفوضى [chaos] استحوذت على أبحاث واختبارات بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي, حينما تحمس كثيرون ووصفها البعض بالثورة الثالثة في علم الفيزياء, وذلك بعد فيزياء اسحق نيوتن وأينشاين.
وبعد عشر سنوات من الأبحاث التي بدأها أولئك العلماء أصبح مصطلح (الفوضى) اختصارا لحركة متصاعدة أعادت صياغة المؤسسة العلمية عالميا, فتكاثرت منتديات (chaos) ومجلاته، وخصص المسؤولون في جهات مثل الجيش الأمريكي، ومراكز الأبحاث والمختبرات أموالا متزايدة, وكلفوا مزيدا من الباحثين للعمل في هذا الميدان.
وولدت نظرية (chaos) أو الفوضى تقنيات خاصة في علوم الكمبيوتر, وأنواعا جديدة من الصور البيانية, ومقولة: إن رفة جناحي فراشة في الهند قد تحدث فيضانات في نهر الأمازون في أمريكا الجنوبية.
ويمكن تبسيط هذه النظرية بالقول:
إنها تدرس سلوك بعض المتغيرات الفوضوي في شتى مجالات الحياة, وتحوله لنموذج قابل للتنبؤ بسلوك المتغير, ومحاولة السيطرة عليه حسب الحالة التي تطبق عليه النظرية.
هذا وقد استخدمت هذه النظرية حاليا في علم الأحياء وعلم المناخ، وخصوصا دراسة الأعاصير، وعلم البراكين والزلازل، وفي مباحث خاصة في علم النفس التحليلي والتخاطري, وكان لها تطبيقات مهمة في مباحاثات الحد من انتشار الأسلحة النووية بين القطبين العالميين سابقا.
ولعل من أهم نقاط الضعف في هذه النظرية, أنه في حال كان أحد المتغيرات خاطئة, فسيؤدي ذلك إلى فشل التطبيق, وبالتالي سيكون لزاما على مشرف الحالة أن يعيد التطبيق بمتغيرات جديدة.
لقد ضربت هذه النظرية نسبية أنشتاين, وبددت خيال نيوتن في حتمية التوقع المحكم والحتمي, وجعلت من الزهو المادي الإلحادي الذي كان سائدا منذ عقود ضربا من الوهم والخيال, وأعاد العلماء إلى مربع الصفر في كثير من القضايا التي اعتقدوا أنهم تجاوزوها وتخطوها.
وكما ظهرت حقيقة وجود الله تعالى ووحدانيته في هذا الكون, من خلال النظام المحكم والدقيق له, ظهر عجز الإنسان وقصر عقله عن إدراك كل حقائق هذا الكون وخفاياه, من خلال يقينه بأن العلم الذي توصل إليه ليس حتميا من خلال ظهور نظرية الفوضى, وأن في الكون غرائب وخفايا لم يتوصل إليها بعد, وأنه لا بد أن يعترف بكلا الحالتين بأن لهذا الكون إله, وأن الإلحاد ضرب من الجنون والغباء في هذا العصر والزمان.
لم تقتصر تطبيقات نظرية الفوضى على مجال معين, بل شملت جميع المجالات, ولعل من أهم وأخطرتطبيقاتها حاليا في العالم, هو تطبيق نظرية الفوضى في الصراعات الايديولوجية والاقليمية الضيقة والجغرافية الأوسع مع الكتل البشرية التي تقطن فيها, وذلك لإحداث تغيرات تسمى بالمصطلح السياسي (تغيرات جيوسياسية) لصالح جهة تبقى تدير هذه النظرية, أو تدرس متغيرات المعادلة ببطئ للوصول إلى اللافوضى حسب حساباتها, وهو مما يمكن أن نتناوله في مقال آخر إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_______________________________________
أهم مراجع المقال:
-نظرية الفوضى علم اللامعقول (إدوارد لورينز(.
-صراع مع الملاحدة حتى العظم لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني.
تعليق