الشبهة الأولى:
زعموا أن القرأن الكريم نسب الشرك إلى إبراهيم عليه السلام فى موضعين :
الأول: قوله تعالى((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ))الأنعام76
و الثانى: قوله عز و جل عن إبراهيم ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )) الصافات88، و التنجيم محرم
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- فإنه و الله لمن أكبر الجهل ما ظنه هؤلاء فى تلك الأيات الكريمات أنها تحكى الشرك عن نبى الله إبراهيم و العياذ بالله، و هو خليل الرحمن الذى أثنى عليه فى كل موضع من مواضع كتابه فقال ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ))، و قال تعالى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ)) و قد ضرب الله المثل بحنيفية الخليل و أكد بالنصوص القاطعة براءته من الشرك و المشركين أبداً فقال تعالى ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) و قال عز و جل ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً))، و جاءت أحاديث رسول الله (ص) منزهة لأبينا إبراهيم عن كل شائبة حتى أنه أنكر إنكاراً شديداً حين دخل الكعبة المشرفة فوجد صورة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال عليه السلام: (قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط. (
و نبين الحق فى الأيات الكريمات على النحو الأتى:
1) أما الأيات فى سورة الأنعام فلا ريب أن هذا المقام ليس مقام نظر و بحث و إنما مقام مناظرة ليقيم الخليل عليه السلام الحجة علي قومه ، فأظهر موافقته لهم ظاهرياً تمهيداً لتفنيد معتقدهم تفنيداً و بيان أن هذه الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ولا أن تعبد مع الله عز و جل لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة و تأفل أخرى فتغيب عن هذا العالم و الرب تعالى لا يغيب عنه شىء ولا تخفى عليه خافية و هو الدائم الباقى بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه، و انتقل بهم من الكواكب إلى الشمس إلى القمر فلما انتفت الألوهية عن هذه الأجرام الثلاثة التى هى أنور ما تقع عليه الأبصار و تحقق الدليل القاطع على بطلان عبادتها كشف لهم إبراهيم الحق الأكيد و أعلن إخلاصه لله الواحد القهار و تبرأه التام من شركهم الباطل، (( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))الأنعام78
- و قد إبتدأ الله تعالى هذه الأيات المباركات بالثناء على نبيه قائلاً: ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )) الأنعام75، فشهد سبحانه لخليله بكمال الإيمان و امتن عليه بتبصرته و إطلاعه على ما اشتمل عليه ملكوته عز و جل من الأدلة القاطعة و البراهين الساطعة فحصل اليقين و العلم التام و تمت نعمة الله ،
- و مما يؤكد أيضاً أنه كان فى هذا المقام مناظراً لقومه قوله تعالى فى الأيات اللاحقة ((وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ))الأنعام80
2) أما قوله تعالى ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ)) فإن أبراهيم عليه السلام لم ينظر فى النجوم إعتقاداً بها و إنما عرض بهذه الوسيلة ليتنصل من الذهاب مع معهم فى عيدهم الشركى و يتمكن من تحطيم أصنامهم، قال ابن كثير (( إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِقَوْمِهِ ذَلِكَ لِيُقِيمَ فِي الْبَلَد إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدهمْ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَزِفَ خُرُوجُهُمْ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ فَأَحَبَّ أَنَّ يَخْتَلِي بِآلِهَتِهِمْ لَيُكَسِّرَهَا فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقّ فِي نَفْس الْأَمْر فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيم عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ " فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ((
و قال قتادة: "العرب تقول لمن تفكرنظر فى النجوم" أى نظر إل السماء متفكراً فيما يلهيهم به عنه، الشاهد أنه ما إعتقد فى النجوم وما أراد إلا التحايل على المشركين كى لا يشهد أعيادهم الوثنية و ليكيد ألهتهم الباطلة
و أيضاً هذه الأيات وردت فى سياق مديح الخليل عليه السلام فابتدأها الله من ختام قصة نوح فقال تعالى((وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ *إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ... ((
الشبهة الثانية :
زعموا أن إبراهيم عليه السلام شك فى الإيمان لقوله تعالى((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي((
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
الجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن الإيمان ثلاثة مراتب: (1) علم اليقين (2) عين اليقين (3) حق اليقين
و نضرب مثالاً على ذلك: فلو أمن شخص إيمان يقينى لا شك فيه أن داخل الحقيبة طعاماً فهذا علم اليقين، و لو فتح الحقيبة و نظر الطعام بعينيه فهذا عين اليقين، و لو أمسك بهذا الطعام و أكل منه فهذا حق اليقين، فإبراهيم عليه السلام ما شك فى ربه أبداً و إنما أراد الإنتقال من مستوى الإستدلال إلى مستوى العيان و الإرتقاء إلى درجة أعلى من درجات الإيمان ، و هذا حال المؤمنين دائماً فى سعيهم إلى الكمال ، فالفرق بين سؤال إبراهيم و سؤال غيره، كالفرق بين سؤال موسى رؤية ربه و سؤال قومه نفس الطلب، لأن سؤال موسى كان سؤال محبة و شوق إلى الله ، أما سؤال قومه فكان سؤال ريبة و مكابرة
و قد تكفل رسول الله (ص) ببيان هذا المعنى و ذلك حين قال قوم "شك إبراهيم و لم يشك نبينا" فقال رسول الله(ص)تواضعاً " نحن أحق بالشك من إبراهيم" و النبى عليه الصلاة و السلام لا يقع منه الشك أبداً و هو القائل " لَا أَشُكّ وَلَا أَسْأَل " فكان هذا من قبيل افتراض ما لا يمكن وقوعه ليكون أبلغ فى الدلالة على المعنى المنشود و هو إستحالة وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام
و قيل أن المراد :نحن أشد إشتياقاً إلى رؤية ذلك من إبراهيم، و قيل : معناه هذا الذى ترون أنه شك نحن أحق به لأنه طلب لمزيد البيان لا ريبة فى الرحمن الوجه الثانى: أن الشك مراد به الخواطر التى لا تثبت لا معنى التوقف بين أمرين ، لأن الأخير منفى بالنصوص القاطعة فى الكتاب و السنة و إجماع الأمة، أما الأول فهو من دلائل صريح الإيمان كما جاء فى الحديث أن بعض الصحابة قالوا للنبى عليه السلام: ((إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال : "وقد وجدتموه؟" قالوا : نعم. قال" ذاك صريح الإيمان".))
الشبهة الثالثة:
طعنوا فى عصمة نبى الله إبراهيم لقول رسول الله(ص) : "لم يكذب إبراهيم النبي، عليه السلام، قط إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله : إني سقيم. وقوله : بل فعله كبيرهم هذا. وواحدة في شأن سارة"
و قوله عليه السلام فى حديث الشفاعة: "فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، "
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- كما هو واضح لكل ذى لب فإن هذه الشبهة لا تستحق عناء الرد عليها، و لكننى تعمدت أن أذكرها لأنها دليل عصمة إبراهيم عليه السلام، فهذه الكذبات الثلاثة سيعدها الخليل ذنوباً إرتكبها حين يُسئل الشفاعة يوم القيامة، و هذا الحصر ينفى عنه أى خطيئة أخرى ، زد على هذا أنها ليست ذنوباً فى حقيقة الأمر، فتالله أى إنسان هذا الذى لم يكذب فى حياته كلها إلا ثلاث كذبات، كلهن من قبيل التعريض و اثنتان منهم فى ذات الله ؟!
فالأولى قوله(إنى سقيم) و هو يحتمل معانى كثيرة منها: إني سقيم أي سأسقم واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا , ويحتمل أنه أراد إني سقيم بما قدر علي من الموت أو سقيم الحجة على الخروج معكم...إلخ
والثانية قوله : ( بل فعله كبيرهم ) قال القرطبي هذا قاله تمهيدا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة وقطعا لقومه في قولهم إنها تضر وتنفع , وهذا الاستدلال يتجوز فيه الشرط المتصل , ولهذا أردف قوله : ( بل فعله كبيرهم ) بقوله : ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون )، و قال ابن قتيبة معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا , فالحاصل أنه مشترط بقوله : ( إن كانوا ينطقون ) أو أنه أسند إليه ذلك لكونه السبب .
و الثالث قوله عن ساره أنها أخته و هو أيضاً تعريض صحيح لانه أخوها فى الدين كما قال فى الحديث: (فأتى سارة قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي...الحديث
زعموا أن القرأن الكريم نسب الشرك إلى إبراهيم عليه السلام فى موضعين :
الأول: قوله تعالى((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ))الأنعام76
و الثانى: قوله عز و جل عن إبراهيم ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )) الصافات88، و التنجيم محرم
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- فإنه و الله لمن أكبر الجهل ما ظنه هؤلاء فى تلك الأيات الكريمات أنها تحكى الشرك عن نبى الله إبراهيم و العياذ بالله، و هو خليل الرحمن الذى أثنى عليه فى كل موضع من مواضع كتابه فقال ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ))، و قال تعالى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ)) و قد ضرب الله المثل بحنيفية الخليل و أكد بالنصوص القاطعة براءته من الشرك و المشركين أبداً فقال تعالى ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) و قال عز و جل ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً))، و جاءت أحاديث رسول الله (ص) منزهة لأبينا إبراهيم عن كل شائبة حتى أنه أنكر إنكاراً شديداً حين دخل الكعبة المشرفة فوجد صورة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال عليه السلام: (قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط. (
و نبين الحق فى الأيات الكريمات على النحو الأتى:
1) أما الأيات فى سورة الأنعام فلا ريب أن هذا المقام ليس مقام نظر و بحث و إنما مقام مناظرة ليقيم الخليل عليه السلام الحجة علي قومه ، فأظهر موافقته لهم ظاهرياً تمهيداً لتفنيد معتقدهم تفنيداً و بيان أن هذه الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ولا أن تعبد مع الله عز و جل لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة و تأفل أخرى فتغيب عن هذا العالم و الرب تعالى لا يغيب عنه شىء ولا تخفى عليه خافية و هو الدائم الباقى بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه، و انتقل بهم من الكواكب إلى الشمس إلى القمر فلما انتفت الألوهية عن هذه الأجرام الثلاثة التى هى أنور ما تقع عليه الأبصار و تحقق الدليل القاطع على بطلان عبادتها كشف لهم إبراهيم الحق الأكيد و أعلن إخلاصه لله الواحد القهار و تبرأه التام من شركهم الباطل، (( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))الأنعام78
- و قد إبتدأ الله تعالى هذه الأيات المباركات بالثناء على نبيه قائلاً: ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )) الأنعام75، فشهد سبحانه لخليله بكمال الإيمان و امتن عليه بتبصرته و إطلاعه على ما اشتمل عليه ملكوته عز و جل من الأدلة القاطعة و البراهين الساطعة فحصل اليقين و العلم التام و تمت نعمة الله ،
- و مما يؤكد أيضاً أنه كان فى هذا المقام مناظراً لقومه قوله تعالى فى الأيات اللاحقة ((وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ))الأنعام80
2) أما قوله تعالى ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ)) فإن أبراهيم عليه السلام لم ينظر فى النجوم إعتقاداً بها و إنما عرض بهذه الوسيلة ليتنصل من الذهاب مع معهم فى عيدهم الشركى و يتمكن من تحطيم أصنامهم، قال ابن كثير (( إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِقَوْمِهِ ذَلِكَ لِيُقِيمَ فِي الْبَلَد إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدهمْ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَزِفَ خُرُوجُهُمْ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ فَأَحَبَّ أَنَّ يَخْتَلِي بِآلِهَتِهِمْ لَيُكَسِّرَهَا فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقّ فِي نَفْس الْأَمْر فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيم عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ " فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ((
و قال قتادة: "العرب تقول لمن تفكرنظر فى النجوم" أى نظر إل السماء متفكراً فيما يلهيهم به عنه، الشاهد أنه ما إعتقد فى النجوم وما أراد إلا التحايل على المشركين كى لا يشهد أعيادهم الوثنية و ليكيد ألهتهم الباطلة
و أيضاً هذه الأيات وردت فى سياق مديح الخليل عليه السلام فابتدأها الله من ختام قصة نوح فقال تعالى((وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ *إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ... ((
الشبهة الثانية :
زعموا أن إبراهيم عليه السلام شك فى الإيمان لقوله تعالى((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي((
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
الجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن الإيمان ثلاثة مراتب: (1) علم اليقين (2) عين اليقين (3) حق اليقين
و نضرب مثالاً على ذلك: فلو أمن شخص إيمان يقينى لا شك فيه أن داخل الحقيبة طعاماً فهذا علم اليقين، و لو فتح الحقيبة و نظر الطعام بعينيه فهذا عين اليقين، و لو أمسك بهذا الطعام و أكل منه فهذا حق اليقين، فإبراهيم عليه السلام ما شك فى ربه أبداً و إنما أراد الإنتقال من مستوى الإستدلال إلى مستوى العيان و الإرتقاء إلى درجة أعلى من درجات الإيمان ، و هذا حال المؤمنين دائماً فى سعيهم إلى الكمال ، فالفرق بين سؤال إبراهيم و سؤال غيره، كالفرق بين سؤال موسى رؤية ربه و سؤال قومه نفس الطلب، لأن سؤال موسى كان سؤال محبة و شوق إلى الله ، أما سؤال قومه فكان سؤال ريبة و مكابرة
و قد تكفل رسول الله (ص) ببيان هذا المعنى و ذلك حين قال قوم "شك إبراهيم و لم يشك نبينا" فقال رسول الله(ص)تواضعاً " نحن أحق بالشك من إبراهيم" و النبى عليه الصلاة و السلام لا يقع منه الشك أبداً و هو القائل " لَا أَشُكّ وَلَا أَسْأَل " فكان هذا من قبيل افتراض ما لا يمكن وقوعه ليكون أبلغ فى الدلالة على المعنى المنشود و هو إستحالة وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام
و قيل أن المراد :نحن أشد إشتياقاً إلى رؤية ذلك من إبراهيم، و قيل : معناه هذا الذى ترون أنه شك نحن أحق به لأنه طلب لمزيد البيان لا ريبة فى الرحمن الوجه الثانى: أن الشك مراد به الخواطر التى لا تثبت لا معنى التوقف بين أمرين ، لأن الأخير منفى بالنصوص القاطعة فى الكتاب و السنة و إجماع الأمة، أما الأول فهو من دلائل صريح الإيمان كما جاء فى الحديث أن بعض الصحابة قالوا للنبى عليه السلام: ((إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال : "وقد وجدتموه؟" قالوا : نعم. قال" ذاك صريح الإيمان".))
الشبهة الثالثة:
طعنوا فى عصمة نبى الله إبراهيم لقول رسول الله(ص) : "لم يكذب إبراهيم النبي، عليه السلام، قط إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله : إني سقيم. وقوله : بل فعله كبيرهم هذا. وواحدة في شأن سارة"
و قوله عليه السلام فى حديث الشفاعة: "فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، "
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- كما هو واضح لكل ذى لب فإن هذه الشبهة لا تستحق عناء الرد عليها، و لكننى تعمدت أن أذكرها لأنها دليل عصمة إبراهيم عليه السلام، فهذه الكذبات الثلاثة سيعدها الخليل ذنوباً إرتكبها حين يُسئل الشفاعة يوم القيامة، و هذا الحصر ينفى عنه أى خطيئة أخرى ، زد على هذا أنها ليست ذنوباً فى حقيقة الأمر، فتالله أى إنسان هذا الذى لم يكذب فى حياته كلها إلا ثلاث كذبات، كلهن من قبيل التعريض و اثنتان منهم فى ذات الله ؟!
فالأولى قوله(إنى سقيم) و هو يحتمل معانى كثيرة منها: إني سقيم أي سأسقم واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا , ويحتمل أنه أراد إني سقيم بما قدر علي من الموت أو سقيم الحجة على الخروج معكم...إلخ
والثانية قوله : ( بل فعله كبيرهم ) قال القرطبي هذا قاله تمهيدا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة وقطعا لقومه في قولهم إنها تضر وتنفع , وهذا الاستدلال يتجوز فيه الشرط المتصل , ولهذا أردف قوله : ( بل فعله كبيرهم ) بقوله : ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون )، و قال ابن قتيبة معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا , فالحاصل أنه مشترط بقوله : ( إن كانوا ينطقون ) أو أنه أسند إليه ذلك لكونه السبب .
و الثالث قوله عن ساره أنها أخته و هو أيضاً تعريض صحيح لانه أخوها فى الدين كما قال فى الحديث: (فأتى سارة قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي...الحديث
تعليق