الحديث عن اللائكية هــو حديث عن سياق تمفــصلَ إلــى وقائع تاريخية غدت بمثابة علل تأسيسية ، و أي حديث عن ظاهرة مــا بجردها عن إطارهــا هــو حديث مُــــشَــوه للحقيقة ، و المــلاحظ أن الكثير من اللائكيين و إن كــانوا يؤمنون بهذا المنطق إلا أنهم في حديثهم عن اللائكية يصرون علـى فصل السياق عن النتيجة فتملصوا من الجواب طمـعا في البحث عن منهــج جديد لشرعنة اللائكية لواقعنا الإسلامي فوقعــوا في البــلاء الأكبر حينمـا قالوا بضرورة الالتحاق بالركب الحضاري اللائكي ، فمنهم من تــمرد على تاريخه و قرر أن لا سبيل للمدنية إلا باقتفاء أثر الغرب قي نظمه و تقاليده و بالتالي حصر الدين في الخط العمودي ، و منهم من ركبتهُ الشجاعة البليدة فانتصر للنزعة اللائكية و طـعن في الإسلام و طالت ألسنتهم شتى رموز الإسلام ، بين هــذا و ذاك نسمــع أحيــانا بخطابات لائكية إثنوية أرادت أن تعطي للتاريخ مفهوما مُـــنتــحلا ( شيبه إلى حد مــا بتحديدات مارسيل موس و جوبينو ..) ارتأت أن تنتصر لللائكية من قمقم التراث المحلي ففصلت أسس التراث عن أسس الإسلام الشامخ.
يُــحاولُ اللائكيون عندنـا أن يعطوا تلوينات جذابة و صيغ مقبولة و ألفاظ معسولة حول اللائكية تزيل عنهــا ملامحها التاريخية فتُــكــسى بطلاء لامع خادع ، فتارة اكتست عندهم اللائكية الحل الجذري لأشكال التخلف و أصول الاستبداد و تــارة أخرى لُـــوِّيت برداء الــحيــاد و الظهــور بمظهر المسالِمة للأديان فلا تنتصر لهذا الدين على ذاك ، حُــجِـبَ المعنى الحقيقي لللائكية في خطابات اللائكيين عندنا و اختُــزلَ في تعابير رنانة ، و حُــشدَت في سبيل الانتصار لهذا الزيف المتعدد الأشكال ترسانة أباطيل مستوحــاة – كما هي العادة –من رموز "التنوير" و دعاة " العقلانية" فاقتفت أثرها شبرا بشبر حتى انكشف عدائهم للدين من حيث لا يشعرون ، لا يريدون أن يستعرضوا علينا محفوظاتهم حول تعاريف القواميس الأجــنبية "للعلمانية" بصفتها رؤية دهرية ، يُــدلسون علينا حينما يُــلغون الروح و يُبقون على الهيكل .( للتوسع في الموضوع أحيل القارئ إلـى كتابين نفيسين من تأليف عيد الدويهيس ، الأول حملَ عنوان " العلمانية في ميزان العقل " و الثاني موسوم ب " عجز العقل العلماني " ) . لــكن هــل من المعقــول أن يُـؤكِّــد الغربيون ارتباطهم بالتاريخ و في نفس الوقت تجد شرود الالتقاطيون اللائكيون عندنا عن التاريخ ؟ هــل يــحلم أنصار التغريب بالمدنية مفصولة عن وقائع التاريخ/الإطار؟ كيف تجمدت عقول اللائكيين عندنا عن النظر في اندماج مشروع الدولة الغربية/الأمة مع مشروع المجتمع فأنتج تعاقدا في تدبير السياسة و المجتمع ؟ كيف نُــأَليِــك المجتمع في عالمنا الإسلامي و هــو في تركيبته و تكوينه التداولي مربوط بسياقه ؟ كيف نُــجمِّــد التشريع الإسلامي و المستشرقون يقرون بعظمة منظومتــه ؟ لا جواب .
حينــما تأملتُ في المناظرة الشهيرة التي دارت حول عنوان " الدولة الدينية و الدولة المدنية " و التي جمعت بين لائكيين ( محمد خلف الله و فرج فودة ) و إسلاميين ( المستشار الهضيبي و الشيخ محمد الغزالي رحمه الله و المفكر محمد عمارة ) و خصوصا كلمة المستشار و أيضا حينما نظرتُ جليا في المناظرة الشهيرة عام 1992 في الدوحة بين إمام اللائكيين الماركسيين فؤاد زكريا و المفكر الإسلامي المرموق محمد عمارة حول موضوع " أزمة العقل العربي " ( و قد نُــشِــرت تــفاصيلها في سلسلة " في التنوير الإسلامي " ع 63 /2003 ) لاحظت أن الخطاب الإسلامي يطرح حجاجه الاستدلالي من منطلق تساءلي تاريخي يروم إلـى إحــراج اللائكي في تكوينه الثقافي الذي تغذى على هوامش الفكر الغربي ، فقد أدركوا أن مشكلة اللائكي كونه يعيش على تاريخ غيره و أنـه صــار نموذجا مُــستنسَخا بشكل مشوه لا إلى تاريخ حضارته و لا إلى حضارة غيره ، لــذا تـــجـد معظم اللائكيين لا يواجهون الأسئلة الدينية و التـاريخية و إنــما احترفوا التفلسف النظري و العموميات التي لا تــفيد القارئ ، و الذين خــاضوا في هذا البحر المتلاطم انتهوا إلى تأويل التاريخ تأويلا سيئا و إلى مغالطات تاريخية فجة ( قراءات نصرحامد أبو زيد و المستشار العشماوي و فرج فودة...) . و يمكن للقارئ أن يلاحظ جهل اللائكيين بأحداث التاريخ التداولي و كتب التراث عندما يقف على تجاهــلهم للأسئلة التاريخية و الدينية التي تنسف شرعنة اللائكية في الإسلام ، و يمكن ملاحظة تملص اللائكيين في المناظرة الأولى عن التصدي للأسئلة الموجهة لهم رغم أنها أسئلة دارت في صميم موضوع المناظرة ، في حين تــجد الإسلامي في المناظرة يتقدم لطرح الأجوبة حول الأسئلة المُـثارة ( خصوصا حجج فرج فودة الهزيلة ) . ثــمة مشكلة إذن في عقل اللائكي.
حــينـما نــطرح مبدأ المفاصلة بين التاريخ الغربي و التاريخ الإسلامي فإننا نــقوم بدراسة العلل و عوامل ظهـور" العلمنة " و بالتالي النظر في صلاحيتها و مدى ملائمتها لنظم أخرى ، و الناظر لسياقها يدركُ ببساطة ارتباطها اللازم بظروفها و ملابساتها ، فقـد أسهمت في بروزهـا أسباب شتى نختصـر بعضهـا في نقاط :
- الأحداث التي ارتكبتها الكنيسة من اضطهاد للعلماء و قتل و حرق و محاكم تفتيش ، فاقترن الدين في العقل الغربي بارتباطه بالارهاب و الجهل و الاستبداد و الملوك ..
- التصور السائد حول نظرية " التفويض الإلهي " كان قد نــظَّــر له المفكر روبرت فيلمر لمذهب الملك الانجليزي جيمس الأول في تمثيل الملك كظل الله قسي الأرض ، مما أسهم في الثورة على النظام الكهنوتي الديني . (انظر كتاب سقوط الغلو العلماني دار الشروق ط 1995 ص 89) .
- ارتــباط العقـل " العلماني " الحديث في تصوره لمعنى الدين بالتصور اليوناني للدين خصوصا الأرسطوطاليسي في نظرته للدين ( انظر التطرف العلماني في مواجهة الإسلامي. يوسف القرضاوي ص :20 )
- الأبحاث الغربية العديدة التي تخصصت في دراسة الأديان و التاريخ و التي توصلت إلى مـا يُـنـاقِض الدين ( الدراسات الانتروبولوجية و الاثنوغرافيا و السوسيولوجيا و السيكولوجيا و النظريات التطورية ...) ، للتوسع يُــرجى قراءة كتاب علي سامي النشار الموسوم ب ( نــشأة الدين ) .
- طــبيعــة الدين المسيحي نفسه بصفته رسالة روحية .
إن تلك العوامل و غيرهـا قــد سرَّعت من قــيام نظام بديل عن الدين في الغرب سرعــان مـا تــحوَّلَ إلـى مرجعية سياسية حددت علاقة الدين بالدولة و المجتمع و رسمت حدود كل منهـما . تــاريخ غربي صرف لا علاقة له بواقع التاريخ الإسلامي . لــكن ، و نــحن نستدل بمبدأ المفاصلة التاريخية و اختلاف الحيثيات و طبيعة الدين المسيحي و تواتر قيام فقهاء السياسة الشرعية بوظيفتهم في تغيير المنكر السياسي السلطاني تــراهم أحيانا يطرحون " هواجس " نفسية و مخاوف تاريخية فيتحدثون عن "الدولة الدينية" و عمامة الفقيه و سحق المعارضة و الحكم المطلق و أحيانا يتحدثون عن " تدخل " الدين قي السياسة و استغلال الدين لأغراض سياسية كما لو أننا أمام الدين المسيحي . إن تــداخل – و ليس تدخل - الإسلام مع السياسة لا تحجـبـهُ كثرة الحديث عن " الدولة المدنية " و " الديموقراطية " و " الحريات العامة " و " حقوق الأقليات " و " حرية الاعتقاد " و احترام حقوق الإنسان و غيرها من المفردات الاستهلاكية في الخطابات الإنشائية ، و إنــما تــزيد من تأكيد التداخل و الارتباط بينهما بحكم تقاطع الاهتمامات بــل و شمول الإسلام لمقتضيات السياسة بمفهومها التدبيري العام ، فكيف يُــفصل بينهما و الترسانة التنظيمية التشريعية للمجتمع أكبر من أن يُــخـتَـزلَ في العلاقة العمودية ؟ قطعا لا .
لــن نسلكَ كثيرا في سبيل إقامــة الأدلة على تداخل الإسلام بالسياسة سبيل حشد البراهين القرآنية و المأثورات النبوية ، لأنني أعتقد أن العقل اللائكي في تركيبتهِ الذاتية مُــغلَّف بفلسفة غير تداولية ، لا يخاطبكَ بمنطق التاريخ التداولي و إنـما يستوحي قاموسـهُ من نظام تجريدي يُــصــرُّ على ريادته و لا يأبــه بالأوامــر الإلهية و لا بالتوجيهات النبوية بــل و لا بمسار تاريخه السياسي . لــكن إذا كــان اللائكي يحتــجُّ على مخالفيه من خـلال مرجعيته التكوينية و قيمهِ المهضومة أفــلا يحـقُّ للآخر فعل نـفس الشيء ؟ كيفَ يلزمني اللائكي على طرح تاريخي جانبا ليحاججَ بتاريخ غيرهِ ؟ أليسَ هـذا تناقضا ؟ . سنــطرح إذن أسئــلة متفرعة على اللائكي ليحـرِّكَ ذهنــهُ المسكون بالألـيَـكـة ، أسئلة حــرجة لم نــجد – من خلال مطالعاتنا لكتب زعمائهم – أجوبة دقيقة ، إنمـا فلسفة مستورَدة و أحــكام تاريخية متعسفة تدين التاريخ و لا تثبتُ التاريخ .
كيــفَ تنفــونَ السياسة عن الإسلام – و ليس عن الدين كل الدين – و أنتم تهــجرون الإسلام و لا تقرؤون له ؟ أيُــعقَــل أن نُــحاكِــمَ بدون شواهد إثبات ؟ كيف تنفونهــا و معــظم الحقوق و الواجبات لا تُــنــالُ من خارج الدولة ؟( لذلك قال الأصوليون : إن الدولة ثابتة بالاقتضاء ) ، كيف تنفــونها و فقهاء الإسلام وضعوا تعريفات للسياسة بوصفها تدبير للجماعة من طرف الدولة بما لا يُـناقض الحاكمية ؟ كيف تفهـمـون الإسلام بلا دعوة و لا دولة ؟ كيف تنكـرون قيام الدولة في الإسلام و قد تحقق مبكرا في دولة المدينة ( على بساطة فكرة الدولة ) و الجانب القانوني لا مراء فيه ؟ ألم يكـن في دستـور المدينة بنود تنظيـم الدولة بصفتها كيان سياسي ؟ ألـم يكن الخـلفاء الراشدون نماذج سياسية أدارت الدولة و مارست السياسة بأنبل صورهـا ؟ ألـم يكن الفعل السياسي محكومـا بمرجعية الإسلام ؟ ألا نعتبر القضاء و تعيين الولاة و بناء الجيش و رد الأمانات إلـى أهلها و الحكم بالعدل و رد المنازعات إلـى الله و رسوله ملامح تـداخل الإسلام بالسياسة ؟ كيف تفهـمـون آيات الدعوة إلى الاحتكام إلى كتاب الله ( و أنزلنا إليكَ الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ) و ( ثم جعلناك علـى شريعة من الأمـر فاتبعهـا ) و( و أن أحكم بينهم بما أنزل الله ) ... كيف ننفي الدولة عن الإسلام و القرآن يقول ( و أعدوا لهم مـا استطعتـم من قوة ) فــمن يُــعِدُّ الجيش إذن : الشعب أم الحكومة ؟ أهي وظيفة الدولة أم الشعب ؟ مــن يَــأخـذ الزكاة لتوزيعـهما على المستحقين من الفقراء إذا لم تكن الدولة ؟ من يطبق حكم الله في مانعيهــا ؟ .
كيف تـفهـمـون مبدأ الأمـر بالمعروف و النهي عن المنكر معزولا عن رفض الظلم السلطاني ؟ كيف تنكرون قيام العديد من الفقهـاء بمحاسبة ولاة الأمـر حينمـا يزيغون عن الهدي النبوي ؟ هــل يُــعقــل أن يكون هؤلاء على امتداد التاريخ الإسلامي" علمانيون " لا شأن لهم بالفعل السياسي و هــم قــد رسموا لنــا ملاحم بطولية في الدخول على السلطان الجائر ؟ كيف تنكرون وجود فقه سياسي ( و لا أتحدث عن الآليات و الأشكال التنظيمية فهـذا أمر يخضع للظروف المتغيرة ) و التاريخ يحدثنـا باتفاق العديد من الفقهاء عبر المكان المختلف على قضايا سياسية صارت في حكم الإجماع ؟ ( يُــنــظر مثلا كتاب : في الفقه السياسي : مقاربة تاريخية . د محمد محمد أمزيان ص : 9 ).
كيف تفصلون بين الشأن السياسي و الإسلامي و الكثير من الأحاديث تنبأت على حصول افتـراق السلطان عن القرآن و أن أول ما يُـنقَـض من عرى الإسلام الحكم و آخرها نقضا الصلاة ، و أن تمرد السياسي على الشرعي و مـا أفرزتـهُ من أمراض اجتماعية مست قيم الولاء قــد بدأت بواكير تحققه في وقت مبكر من خلال الانقلاب التاريخي على السلطة الشرعية الممثلة في خلافة الإمام علي كرم الله وجهه ؟ ألا تعلمون أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمـــام عــادل ؟ .
كيف تقسمون الحياة إلـى طرفين : قسم يديره رجال دين و نصف آخــر رجال دولة لا يحترم حدود الله و رسوله ؟ كيف تــقنعون المسلم بمقولة ( إعط ما لله لله و مـا لقيصر لقيصر ) و قيصر عبد لله لا يملك حق التصرف المطلق ؟ .
لماذا تفتــعلون صراعات وهمية في التاريخ لتقديم شهادة حسن السيرة للتاريخ الغربي فتــربطون " العلمانية " بالعِــلم و العقلانية و تقرنون الدين بالاستبداد جريا علـى مسار الخط الغربي ؟ متـى انفردت " العلمانية " بالعلم في التاريخ ؟ ألــم تقرأوا العشرات من الآيات تحث على طلب العلم – كل العلم -؟ ألـم تلاحِظـوا قط في تاريخنا ازدواجية العلم بالإسلام ؟ ألـم تقرأوا لرسالة الخوارزمي في ( علم الجبر ) ؟ أتتجاهلون ابن رشد الفقيــه صاحب بداية المجتهد و نهاية المقتصد و صاحب ( الكليات ) و تناصرون ابن رشد الفيلسوف ؟ ألـم تقرأوا في كتب طبقات فقهاء الشافعية فتلاحظوا فيها العالم ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية ؟ ألم تعرفوا عن الرازي غير كونه مفسرا و تجهلون شهرته في ميدان الطب ؟ ... ألا تلاحظون دولة إيران – مع أننا نختلف مع إيديولوجيتها – كيف تبني ترسانتها العلمية و الصناعية و التقنية مع أن مرجعيتها تستند إلـى نظرية ولاية الفقيه ؟ ألا تــرونَ أن أوربا الغربية لم تكن بمعزل عن تأثيرات علماء قرطبة في ميادين شتى ؟ ألا توافقوننا على أن الغرب تمدن بموجب احترام القوانين من خلال دستور يخضه له الجميع و مــا أفرزتــهُ من حريات و تشجـيع للبحث الأكاديمي ؟.
ألــم تقرأوا للمؤرخ ابن خلدون عن حكومة الملك و الحكومة السياسية و حكومة دولة الخلافة ؟ لِــم تتجاهلون رسالة الأنبياء و الرسل في رفض الظلم الأول ( الشرك ) و الدعوة إلى العدل ؟ ألم يمارس الرسل الوظائف السياسية عبر التاريخ ؟ ألا تــرون العدل في الإسلام أهم قيمة سياسية بخلاف النظم الأخرى التي رفعت المساواة كالنموذج الشيوعي و الحرية كالنموذج الليبرالي ( يــنــظَر كتاب القيم السياسية ل د حامد ربيع ) ؟ .
صحـــيح أن الإســلام لم يــحدد لنــا كيفية بناء الدولة و تحديد الأشكال التنظيمية ، لكن لا يقوم هذا دليلا علـى نفي الممارسة السياسية الشرعية ، بــل يمثل دليلا علـى مـرونة الإسلام الذي أعطى مساحة واسعة لمستجدات الواقع و ظروفه ، فهو دليل إثبات لا دليل نفي . ثــم إن أهـم سبب أدى إلـى عدم ابتكار الأشكال التنظيمية في التاريخ الإسلامي كون أن الفقيه لــم يُـسمَـح له بممارسة حقه السياسي من داخـل السلطة و إنــما ظــلَّ عنصرا مشاكسا لسلطة الجور و الغلبة ، و الذين سُــمِحَ لهم بالتحرك من داخل السلطة لم تكن تتجاوز اجتهاداتهم منطق " الآداب السلطانية " .
يُــحاولُ اللائكيون عندنـا أن يعطوا تلوينات جذابة و صيغ مقبولة و ألفاظ معسولة حول اللائكية تزيل عنهــا ملامحها التاريخية فتُــكــسى بطلاء لامع خادع ، فتارة اكتست عندهم اللائكية الحل الجذري لأشكال التخلف و أصول الاستبداد و تــارة أخرى لُـــوِّيت برداء الــحيــاد و الظهــور بمظهر المسالِمة للأديان فلا تنتصر لهذا الدين على ذاك ، حُــجِـبَ المعنى الحقيقي لللائكية في خطابات اللائكيين عندنا و اختُــزلَ في تعابير رنانة ، و حُــشدَت في سبيل الانتصار لهذا الزيف المتعدد الأشكال ترسانة أباطيل مستوحــاة – كما هي العادة –من رموز "التنوير" و دعاة " العقلانية" فاقتفت أثرها شبرا بشبر حتى انكشف عدائهم للدين من حيث لا يشعرون ، لا يريدون أن يستعرضوا علينا محفوظاتهم حول تعاريف القواميس الأجــنبية "للعلمانية" بصفتها رؤية دهرية ، يُــدلسون علينا حينما يُــلغون الروح و يُبقون على الهيكل .( للتوسع في الموضوع أحيل القارئ إلـى كتابين نفيسين من تأليف عيد الدويهيس ، الأول حملَ عنوان " العلمانية في ميزان العقل " و الثاني موسوم ب " عجز العقل العلماني " ) . لــكن هــل من المعقــول أن يُـؤكِّــد الغربيون ارتباطهم بالتاريخ و في نفس الوقت تجد شرود الالتقاطيون اللائكيون عندنا عن التاريخ ؟ هــل يــحلم أنصار التغريب بالمدنية مفصولة عن وقائع التاريخ/الإطار؟ كيف تجمدت عقول اللائكيين عندنا عن النظر في اندماج مشروع الدولة الغربية/الأمة مع مشروع المجتمع فأنتج تعاقدا في تدبير السياسة و المجتمع ؟ كيف نُــأَليِــك المجتمع في عالمنا الإسلامي و هــو في تركيبته و تكوينه التداولي مربوط بسياقه ؟ كيف نُــجمِّــد التشريع الإسلامي و المستشرقون يقرون بعظمة منظومتــه ؟ لا جواب .
حينــما تأملتُ في المناظرة الشهيرة التي دارت حول عنوان " الدولة الدينية و الدولة المدنية " و التي جمعت بين لائكيين ( محمد خلف الله و فرج فودة ) و إسلاميين ( المستشار الهضيبي و الشيخ محمد الغزالي رحمه الله و المفكر محمد عمارة ) و خصوصا كلمة المستشار و أيضا حينما نظرتُ جليا في المناظرة الشهيرة عام 1992 في الدوحة بين إمام اللائكيين الماركسيين فؤاد زكريا و المفكر الإسلامي المرموق محمد عمارة حول موضوع " أزمة العقل العربي " ( و قد نُــشِــرت تــفاصيلها في سلسلة " في التنوير الإسلامي " ع 63 /2003 ) لاحظت أن الخطاب الإسلامي يطرح حجاجه الاستدلالي من منطلق تساءلي تاريخي يروم إلـى إحــراج اللائكي في تكوينه الثقافي الذي تغذى على هوامش الفكر الغربي ، فقد أدركوا أن مشكلة اللائكي كونه يعيش على تاريخ غيره و أنـه صــار نموذجا مُــستنسَخا بشكل مشوه لا إلى تاريخ حضارته و لا إلى حضارة غيره ، لــذا تـــجـد معظم اللائكيين لا يواجهون الأسئلة الدينية و التـاريخية و إنــما احترفوا التفلسف النظري و العموميات التي لا تــفيد القارئ ، و الذين خــاضوا في هذا البحر المتلاطم انتهوا إلى تأويل التاريخ تأويلا سيئا و إلى مغالطات تاريخية فجة ( قراءات نصرحامد أبو زيد و المستشار العشماوي و فرج فودة...) . و يمكن للقارئ أن يلاحظ جهل اللائكيين بأحداث التاريخ التداولي و كتب التراث عندما يقف على تجاهــلهم للأسئلة التاريخية و الدينية التي تنسف شرعنة اللائكية في الإسلام ، و يمكن ملاحظة تملص اللائكيين في المناظرة الأولى عن التصدي للأسئلة الموجهة لهم رغم أنها أسئلة دارت في صميم موضوع المناظرة ، في حين تــجد الإسلامي في المناظرة يتقدم لطرح الأجوبة حول الأسئلة المُـثارة ( خصوصا حجج فرج فودة الهزيلة ) . ثــمة مشكلة إذن في عقل اللائكي.
حــينـما نــطرح مبدأ المفاصلة بين التاريخ الغربي و التاريخ الإسلامي فإننا نــقوم بدراسة العلل و عوامل ظهـور" العلمنة " و بالتالي النظر في صلاحيتها و مدى ملائمتها لنظم أخرى ، و الناظر لسياقها يدركُ ببساطة ارتباطها اللازم بظروفها و ملابساتها ، فقـد أسهمت في بروزهـا أسباب شتى نختصـر بعضهـا في نقاط :
- الأحداث التي ارتكبتها الكنيسة من اضطهاد للعلماء و قتل و حرق و محاكم تفتيش ، فاقترن الدين في العقل الغربي بارتباطه بالارهاب و الجهل و الاستبداد و الملوك ..
- التصور السائد حول نظرية " التفويض الإلهي " كان قد نــظَّــر له المفكر روبرت فيلمر لمذهب الملك الانجليزي جيمس الأول في تمثيل الملك كظل الله قسي الأرض ، مما أسهم في الثورة على النظام الكهنوتي الديني . (انظر كتاب سقوط الغلو العلماني دار الشروق ط 1995 ص 89) .
- ارتــباط العقـل " العلماني " الحديث في تصوره لمعنى الدين بالتصور اليوناني للدين خصوصا الأرسطوطاليسي في نظرته للدين ( انظر التطرف العلماني في مواجهة الإسلامي. يوسف القرضاوي ص :20 )
- الأبحاث الغربية العديدة التي تخصصت في دراسة الأديان و التاريخ و التي توصلت إلى مـا يُـنـاقِض الدين ( الدراسات الانتروبولوجية و الاثنوغرافيا و السوسيولوجيا و السيكولوجيا و النظريات التطورية ...) ، للتوسع يُــرجى قراءة كتاب علي سامي النشار الموسوم ب ( نــشأة الدين ) .
- طــبيعــة الدين المسيحي نفسه بصفته رسالة روحية .
إن تلك العوامل و غيرهـا قــد سرَّعت من قــيام نظام بديل عن الدين في الغرب سرعــان مـا تــحوَّلَ إلـى مرجعية سياسية حددت علاقة الدين بالدولة و المجتمع و رسمت حدود كل منهـما . تــاريخ غربي صرف لا علاقة له بواقع التاريخ الإسلامي . لــكن ، و نــحن نستدل بمبدأ المفاصلة التاريخية و اختلاف الحيثيات و طبيعة الدين المسيحي و تواتر قيام فقهاء السياسة الشرعية بوظيفتهم في تغيير المنكر السياسي السلطاني تــراهم أحيانا يطرحون " هواجس " نفسية و مخاوف تاريخية فيتحدثون عن "الدولة الدينية" و عمامة الفقيه و سحق المعارضة و الحكم المطلق و أحيانا يتحدثون عن " تدخل " الدين قي السياسة و استغلال الدين لأغراض سياسية كما لو أننا أمام الدين المسيحي . إن تــداخل – و ليس تدخل - الإسلام مع السياسة لا تحجـبـهُ كثرة الحديث عن " الدولة المدنية " و " الديموقراطية " و " الحريات العامة " و " حقوق الأقليات " و " حرية الاعتقاد " و احترام حقوق الإنسان و غيرها من المفردات الاستهلاكية في الخطابات الإنشائية ، و إنــما تــزيد من تأكيد التداخل و الارتباط بينهما بحكم تقاطع الاهتمامات بــل و شمول الإسلام لمقتضيات السياسة بمفهومها التدبيري العام ، فكيف يُــفصل بينهما و الترسانة التنظيمية التشريعية للمجتمع أكبر من أن يُــخـتَـزلَ في العلاقة العمودية ؟ قطعا لا .
لــن نسلكَ كثيرا في سبيل إقامــة الأدلة على تداخل الإسلام بالسياسة سبيل حشد البراهين القرآنية و المأثورات النبوية ، لأنني أعتقد أن العقل اللائكي في تركيبتهِ الذاتية مُــغلَّف بفلسفة غير تداولية ، لا يخاطبكَ بمنطق التاريخ التداولي و إنـما يستوحي قاموسـهُ من نظام تجريدي يُــصــرُّ على ريادته و لا يأبــه بالأوامــر الإلهية و لا بالتوجيهات النبوية بــل و لا بمسار تاريخه السياسي . لــكن إذا كــان اللائكي يحتــجُّ على مخالفيه من خـلال مرجعيته التكوينية و قيمهِ المهضومة أفــلا يحـقُّ للآخر فعل نـفس الشيء ؟ كيفَ يلزمني اللائكي على طرح تاريخي جانبا ليحاججَ بتاريخ غيرهِ ؟ أليسَ هـذا تناقضا ؟ . سنــطرح إذن أسئــلة متفرعة على اللائكي ليحـرِّكَ ذهنــهُ المسكون بالألـيَـكـة ، أسئلة حــرجة لم نــجد – من خلال مطالعاتنا لكتب زعمائهم – أجوبة دقيقة ، إنمـا فلسفة مستورَدة و أحــكام تاريخية متعسفة تدين التاريخ و لا تثبتُ التاريخ .
كيــفَ تنفــونَ السياسة عن الإسلام – و ليس عن الدين كل الدين – و أنتم تهــجرون الإسلام و لا تقرؤون له ؟ أيُــعقَــل أن نُــحاكِــمَ بدون شواهد إثبات ؟ كيف تنفونهــا و معــظم الحقوق و الواجبات لا تُــنــالُ من خارج الدولة ؟( لذلك قال الأصوليون : إن الدولة ثابتة بالاقتضاء ) ، كيف تنفــونها و فقهاء الإسلام وضعوا تعريفات للسياسة بوصفها تدبير للجماعة من طرف الدولة بما لا يُـناقض الحاكمية ؟ كيف تفهـمـون الإسلام بلا دعوة و لا دولة ؟ كيف تنكـرون قيام الدولة في الإسلام و قد تحقق مبكرا في دولة المدينة ( على بساطة فكرة الدولة ) و الجانب القانوني لا مراء فيه ؟ ألم يكـن في دستـور المدينة بنود تنظيـم الدولة بصفتها كيان سياسي ؟ ألـم يكن الخـلفاء الراشدون نماذج سياسية أدارت الدولة و مارست السياسة بأنبل صورهـا ؟ ألـم يكن الفعل السياسي محكومـا بمرجعية الإسلام ؟ ألا نعتبر القضاء و تعيين الولاة و بناء الجيش و رد الأمانات إلـى أهلها و الحكم بالعدل و رد المنازعات إلـى الله و رسوله ملامح تـداخل الإسلام بالسياسة ؟ كيف تفهـمـون آيات الدعوة إلى الاحتكام إلى كتاب الله ( و أنزلنا إليكَ الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ) و ( ثم جعلناك علـى شريعة من الأمـر فاتبعهـا ) و( و أن أحكم بينهم بما أنزل الله ) ... كيف ننفي الدولة عن الإسلام و القرآن يقول ( و أعدوا لهم مـا استطعتـم من قوة ) فــمن يُــعِدُّ الجيش إذن : الشعب أم الحكومة ؟ أهي وظيفة الدولة أم الشعب ؟ مــن يَــأخـذ الزكاة لتوزيعـهما على المستحقين من الفقراء إذا لم تكن الدولة ؟ من يطبق حكم الله في مانعيهــا ؟ .
كيف تـفهـمـون مبدأ الأمـر بالمعروف و النهي عن المنكر معزولا عن رفض الظلم السلطاني ؟ كيف تنكرون قيام العديد من الفقهـاء بمحاسبة ولاة الأمـر حينمـا يزيغون عن الهدي النبوي ؟ هــل يُــعقــل أن يكون هؤلاء على امتداد التاريخ الإسلامي" علمانيون " لا شأن لهم بالفعل السياسي و هــم قــد رسموا لنــا ملاحم بطولية في الدخول على السلطان الجائر ؟ كيف تنكرون وجود فقه سياسي ( و لا أتحدث عن الآليات و الأشكال التنظيمية فهـذا أمر يخضع للظروف المتغيرة ) و التاريخ يحدثنـا باتفاق العديد من الفقهاء عبر المكان المختلف على قضايا سياسية صارت في حكم الإجماع ؟ ( يُــنــظر مثلا كتاب : في الفقه السياسي : مقاربة تاريخية . د محمد محمد أمزيان ص : 9 ).
كيف تفصلون بين الشأن السياسي و الإسلامي و الكثير من الأحاديث تنبأت على حصول افتـراق السلطان عن القرآن و أن أول ما يُـنقَـض من عرى الإسلام الحكم و آخرها نقضا الصلاة ، و أن تمرد السياسي على الشرعي و مـا أفرزتـهُ من أمراض اجتماعية مست قيم الولاء قــد بدأت بواكير تحققه في وقت مبكر من خلال الانقلاب التاريخي على السلطة الشرعية الممثلة في خلافة الإمام علي كرم الله وجهه ؟ ألا تعلمون أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمـــام عــادل ؟ .
كيف تقسمون الحياة إلـى طرفين : قسم يديره رجال دين و نصف آخــر رجال دولة لا يحترم حدود الله و رسوله ؟ كيف تــقنعون المسلم بمقولة ( إعط ما لله لله و مـا لقيصر لقيصر ) و قيصر عبد لله لا يملك حق التصرف المطلق ؟ .
لماذا تفتــعلون صراعات وهمية في التاريخ لتقديم شهادة حسن السيرة للتاريخ الغربي فتــربطون " العلمانية " بالعِــلم و العقلانية و تقرنون الدين بالاستبداد جريا علـى مسار الخط الغربي ؟ متـى انفردت " العلمانية " بالعلم في التاريخ ؟ ألــم تقرأوا العشرات من الآيات تحث على طلب العلم – كل العلم -؟ ألـم تلاحِظـوا قط في تاريخنا ازدواجية العلم بالإسلام ؟ ألـم تقرأوا لرسالة الخوارزمي في ( علم الجبر ) ؟ أتتجاهلون ابن رشد الفقيــه صاحب بداية المجتهد و نهاية المقتصد و صاحب ( الكليات ) و تناصرون ابن رشد الفيلسوف ؟ ألـم تقرأوا في كتب طبقات فقهاء الشافعية فتلاحظوا فيها العالم ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية ؟ ألم تعرفوا عن الرازي غير كونه مفسرا و تجهلون شهرته في ميدان الطب ؟ ... ألا تلاحظون دولة إيران – مع أننا نختلف مع إيديولوجيتها – كيف تبني ترسانتها العلمية و الصناعية و التقنية مع أن مرجعيتها تستند إلـى نظرية ولاية الفقيه ؟ ألا تــرونَ أن أوربا الغربية لم تكن بمعزل عن تأثيرات علماء قرطبة في ميادين شتى ؟ ألا توافقوننا على أن الغرب تمدن بموجب احترام القوانين من خلال دستور يخضه له الجميع و مــا أفرزتــهُ من حريات و تشجـيع للبحث الأكاديمي ؟.
ألــم تقرأوا للمؤرخ ابن خلدون عن حكومة الملك و الحكومة السياسية و حكومة دولة الخلافة ؟ لِــم تتجاهلون رسالة الأنبياء و الرسل في رفض الظلم الأول ( الشرك ) و الدعوة إلى العدل ؟ ألم يمارس الرسل الوظائف السياسية عبر التاريخ ؟ ألا تــرون العدل في الإسلام أهم قيمة سياسية بخلاف النظم الأخرى التي رفعت المساواة كالنموذج الشيوعي و الحرية كالنموذج الليبرالي ( يــنــظَر كتاب القيم السياسية ل د حامد ربيع ) ؟ .
صحـــيح أن الإســلام لم يــحدد لنــا كيفية بناء الدولة و تحديد الأشكال التنظيمية ، لكن لا يقوم هذا دليلا علـى نفي الممارسة السياسية الشرعية ، بــل يمثل دليلا علـى مـرونة الإسلام الذي أعطى مساحة واسعة لمستجدات الواقع و ظروفه ، فهو دليل إثبات لا دليل نفي . ثــم إن أهـم سبب أدى إلـى عدم ابتكار الأشكال التنظيمية في التاريخ الإسلامي كون أن الفقيه لــم يُـسمَـح له بممارسة حقه السياسي من داخـل السلطة و إنــما ظــلَّ عنصرا مشاكسا لسلطة الجور و الغلبة ، و الذين سُــمِحَ لهم بالتحرك من داخل السلطة لم تكن تتجاوز اجتهاداتهم منطق " الآداب السلطانية " .