شبهة من يزعم أن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليس خصوصية للقرآن؛ لأن أسلوب كل قائل صورة نفسه ومزاجه فلا يستطيع غيره أن يحل محله
يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابًا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابًا جديدًا، ألم تقولوا لنا: إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.
ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه البتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟
إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلامية بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك.
بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري ، ولا الذكي كالغبي و ليس الطائش كالحليم ، ولا المريض كالسليم . وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى.
بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة .
فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟
أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟
وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة .
كل هذا نسلمه ولا ننكره، ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه .
بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون. وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم .
فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلًا ؛ قومًا يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالًا واسعًا لا يزاحم بعضهم فيه بعضًا ، و لا يضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيًا لقِرنه في المبدأ والوجهة.
ثم يكون منهم المجلي والمصلي، والمقفي والتالي، ويكون منهم من لا حظَّ له في الرهان. ويكون منهم المتكافئون المتعادلون. وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة .
فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم .
هب -إذًا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية ، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة. فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله، وشيء من هذه المراتب الثلاث لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي » [1].
كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم ؟
قال أبو بكر الباقلاني :«فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم الَّتِي يتَكَلَّم بهَا الْخلق من أهل الفصاحة والعي واللكنة قيل لَهُم لَيْسَ الإعجاز فِي نفس الْحُرُوف وَإِنَّمَا هُوَ فِي نظمها وإحكام رصفها وَكَونهَا على وزن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - »[2] .
و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية ؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه فإن قال: قد تبينتُ الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم .
ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر ؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية : فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه . و من كلماتهم أُلفت جمله وآياته ، و على مناهجهم في التأليف جاء تأليفه .
فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له : أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ .
وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، و أكنها للناس من الحر والقر .
و في تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة ، وترتيب الحجرات والأبهاء ، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا .
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول ، و ما من كلمة من كلامهم و لا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة .
و لكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك .
ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيهاالنفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا..
ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة، بل في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون .
بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يحمل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر .
ورب كلمة تراها في موضع كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد .
ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض للشبهة، وفي الوصف أيها أدق مثيلًا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعًا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان .
والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير ؛ لأن مجال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلًا عن الموازنة بينها، فضلًا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غَفَل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس .
وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله ، تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل "المزاج" في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا "المزاج" هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت في درجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول .
فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة .
ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا.. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان .
هذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله ، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله ، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتفاوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز » [3] .
_____________________
[1]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 123 - 125
[2] - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 178
[3]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 118 - 121
يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابًا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابًا جديدًا، ألم تقولوا لنا: إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.
ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه البتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟
إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلامية بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك.
بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري ، ولا الذكي كالغبي و ليس الطائش كالحليم ، ولا المريض كالسليم . وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى.
بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة .
فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟
أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟
وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة .
كل هذا نسلمه ولا ننكره، ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه .
بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون. وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم .
فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلًا ؛ قومًا يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالًا واسعًا لا يزاحم بعضهم فيه بعضًا ، و لا يضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيًا لقِرنه في المبدأ والوجهة.
ثم يكون منهم المجلي والمصلي، والمقفي والتالي، ويكون منهم من لا حظَّ له في الرهان. ويكون منهم المتكافئون المتعادلون. وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة .
فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم .
هب -إذًا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية ، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة. فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله، وشيء من هذه المراتب الثلاث لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي » [1].
كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم ؟
قال أبو بكر الباقلاني :«فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم الَّتِي يتَكَلَّم بهَا الْخلق من أهل الفصاحة والعي واللكنة قيل لَهُم لَيْسَ الإعجاز فِي نفس الْحُرُوف وَإِنَّمَا هُوَ فِي نظمها وإحكام رصفها وَكَونهَا على وزن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - »[2] .
و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية ؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه فإن قال: قد تبينتُ الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم .
ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر ؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية : فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه . و من كلماتهم أُلفت جمله وآياته ، و على مناهجهم في التأليف جاء تأليفه .
فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له : أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ .
وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، و أكنها للناس من الحر والقر .
و في تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة ، وترتيب الحجرات والأبهاء ، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا .
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول ، و ما من كلمة من كلامهم و لا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة .
و لكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك .
ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيهاالنفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا..
ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة، بل في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون .
بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يحمل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر .
ورب كلمة تراها في موضع كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد .
ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض للشبهة، وفي الوصف أيها أدق مثيلًا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعًا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان .
والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير ؛ لأن مجال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلًا عن الموازنة بينها، فضلًا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غَفَل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس .
وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله ، تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل "المزاج" في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا "المزاج" هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت في درجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول .
فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة .
ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا.. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان .
هذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله ، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله ، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتفاوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز » [3] .
_____________________
[1]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 123 - 125
[2] - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 178
[3]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 118 - 121
تعليق