العَلمـانيــة الاجتــمـاعــية :في نقد آفات العَلمـانية السياسيـة

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الطلحاوي الإسلام اكتشف المزيد حول الطلحاوي
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 1 (0 أعضاء و 1 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الطلحاوي
    2- عضو مشارك

    حارس من حراس العقيدة
    عضو شرف المنتدى
    • 30 مار, 2013
    • 119
    • أستـاذ
    • الإسلام

    العَلمـانيــة الاجتــمـاعــية :في نقد آفات العَلمـانية السياسيـة

    يسود اعتـقاد كلمـا كان الحديث عن موضوع اللائكية بكون روادهـا أصحـاب مذاهب سياسية إذ يكـاد النـاظر في كتب أقطابهـا أن يقرر بسهولة كون اللائكيين رجال سياسة مختصين بالتنظير "للدولة المدنية" وفق منتجوهـا في الغرب، و قـد أكثروا من ربطهـا بالسياسة إيحاء أو تأكيدا علـى فصل الدولة عن توجيه الدين حتـى انـطبع في ذهـن المتلقي تخصيص اللائكية بالشأن السياسي ، و هـذا الانطباع الخادع مـقصود لأن اللائكيين يحاولون قسرا حصـر بضاعتهم في سوق المزايدات السياسية المرتبطة بطبقة فكرية لا تتجاوز البعد "المدني" السياسي بمعنـاه التشريعي المنفصل عن رقابة الدين . فـهم يقررون في كـل مـرة أن لا شأن بهـا بالانتماءات و القناعات العقدية و الأفكـار الأخلاقية إلا من زاوية التعامل الحيادي المطلق مع الجميع دون انحياز لطبقة أو عقيدة أو لون أو عرق أو طائفة ...طـبعـا هـذا الاعتقاد المثالي و الخـرافي هو من اختراع لائكيـين مسيحيين بالدرجة الأولى في العالم العروبي كـان الغرض منه البحث عن موضع قدم للأقليات خوفا من الوهم النـاشئ عن فزاعـة اللادينيين حول ممارسة الإسلاميين للاضطهـاد في حال مـا تمكنوا للوصول للسلطة ، و هـو وهم غذتـهُ عقليات الترهيب الإعلامي و منتحلي الفكر "الإنساني" عندمـا راهنت علـى الوافد الأجنبي في كل شيء، قلت: هو اعتقاد مثالي و خرافي لأن الأدبيات الغربية التي تمثل مراجع معيارية للتلاميذ الحُـفّـاظ مـا فتئت تـذكِّـر بمادية التصور اللائكي للمجتمع و الفكر و الدين ،مـا فتئت تنبــه المحرفين عندنـا بكون اللائكية مرجعية دهرية كمـا سُـطِّـرت في القواميس الشهيرة عندهم ، و لمـا صارت وجوه اللائكيين العرب لا تخجل من إعـادة إنتاجٍ ممل حول البعد الحيادي للائكية عبر السفسطة الزائدة و صارت مفضوحـة و مكشوفـة بالنظر إلـى الفرق الشاسع بين رؤية اللائكيين الغربيين لهـا و بين انتحـال العرب لهـا عندنـا انتـقل الحديث عندهم إلـى سفاسف كـلامية أخرى لا تنتهي حول كونهـا منظورا متطورا و متكيفا و غير قابلة للحصر في الزمـان و المكان فصارت مرة أخـرى مـرتعـا لمزيد من الجدل الفارغ تأسست علــى مقدمـات عند أصحابهـا الغربيين و انتهت عندنـا إلـى مجموعة فارغـة إلا من التحليلات الفكرية المتسلسلة (أركون نموذجا) .

    لــكن ! ليس الحديث هنـا عن هـذا الفصل علـى أهميته البالغة ، و إنمـا الغرض منـه إعـادة ربط اللائكية السياسية باعتبارهـا محمـولا اجتمـاعيا و تفكيرا لادينيا متغلغلا في البنية الفكرية المؤسِّسة لجذور اللاتدين في المجتمع ، فهي في رأينـا تمثل إشعـاعا إحراقيا للتدين و سهـاما تقتـلُ روح التفكير الديني فترديه هيكـلا جـافا من معـاني الإيمان ، إذ غرست في البعض نـوازع التمرد علـى قيم الانتمـاء الديني و بنت فيه أركـان "العقل المجرد" المؤلِّـه للذات الرافض للتوصيات ، و كلمـا اشتدت الأليكة في اغتصاب السلطة و الإعلام كلمـا أنتجت وجوهـا معتوهـة دينيا و مشوهـة خلقيا ، و كلما تحالفت الأليكة مع الاستبداد (و إن كـانت عندنـا وجهـان لصيقان) نقضت أركـان روح المجتمع و خربت أسسه المتبقية و أقـامت مجتمعـا من الضوال لا ينقادون لسلطة و لا لدين. إن حــصر اللائكية بالتفكير السياسي دون الحديث عن آفـاتهـا علـى الدين و علـى أنماط التفكير الاجتماعي و أسس العـلاقات بين أفراد المجتمع يمـثِّــل أحـد محاور التزييف المتعمـد إذ يسكــت أنـصارهـا عن "اللائكية الاجتماعية" و يرسلون الكــلام المنــمق حول آفات تحرير الدولة عن الدين ،اجترار و تكلف

    أي عـلاقة إذن بين اللائكية السياسية و الاجتماعية ؟ و لماذا يصرون علـى تجاهل مـا للتدبير اللاديني للدولة من أثـر مدمر علــى عقل الشعبي المنهـار أصلا تحت وقع أزمـات الاستبداد ؟ و مـع أننا نـؤمن بقوة بكون القطاع الشعبي في أغلبيته كـاره لتحكيم اللائكية إلا أن الأمـر يدعوا للقلق حينما تتسلط بشكل مُنتِــز أجهزة الدولة فتشرع في إعـادة صنـاعة خريطة العقل الشعبي وفق "رؤية" تجعل مبدأهـا الأساسي تهميش توجيهات الدين لإفساح المجال أمـام تغول الأنـا . و إذا كانت الأدبيات السياسية تعلمنا كيف تمـارس كل طبقة سياسية تأثيرهـا على المجتمع عبر تنزيل مشاريعها و برامجهـا الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية فإننا لا نتـوقع من الطبقة اللائكية غير الانحنـاء الذليل لأصولهـا وأنمـاط تفكيرهـا ، و تحكـي لنـا تجارب الأمم كيف صنعت اللائكية عقولا "شعبية" لا تختلف عندهـا الدين عن الأساطير و الخزعبلات ، فتربت هـذه العقليات لترسم شخصيات مفصولة عن غاية وجوده ، تحكي الأمم كيف ينمو العقل الشعبي مؤلها لنزوته الشهوانية متحديا لحدود العباد في وضح النهـار ،تفطـر في رمضان علنا و تحت حماية دين اللائكية و تكره الانقياد لأوامـر الدين بل و تنفر من كلمة دين نفسه .لائكية اجتماعية يتم بنـاءهـا سياسيا من مدخـل فصل الدولة عن مبادئ الدين فتنتهـي إلـى فصل المجتمع من الدين هيهات هيهات...و هـل نُــسيَ مـا فعلت اللائكية السيفية البورقيبية و خليفته من تأسيسٍ فعلي للائكية الاجتماعية من خلال التسلط السياسي الذي فرخ معاقون دينيا و مـلاحدة يتحدون حرمة الله ؟ إن الخيــط ين هذا و ذاك لا يمكن أن تحجبه كثرة الفلسفات التجميلية لتجاعيد أس الفساد السياسي اللائكي و لا تجعـل المتتبع لجذور التمرد على قيم الدين إلا متيقنـا بوجودهـا في أسوار السياسة الممنهـجة . فهـي تفكك قواعد الضبط الاجتمـاعي التي يبنيها الدين منذ وقت مبكر و تمزق أواصر التشابك الأسري عندمـا تجعل الدين "مسألة" شخصية فتتدحرج بعدهـا من "المسألة" إلـى "العنصر" غير المؤثر في توازنات المجتمع ، و لـعل التجربة التونسية علـى مدار عقود من الاستبداد اللائكي البغيض تقدم مثالا حيا علـى ارتباط "المشروع" اللائكي بالتفكك المجتمعي إذ صـار طبيعيا الآن بروز أحفاد "شعبية" بورقيبية انتحلوا عناوين الدفاع عن الدولة "المدنية" و أصبغوهـا بقيم "كونية" ليخفوا بها حجم تغلغل التربة اللائكية في بنيات تفكيرهم . إن عقليات النفور من وصايا الدين و الاشمئزاز الذي يتلجلج في صدورهم كلما دار النقاش حول الدين يعود في نظرنـا إلـى أصول لائكية بامتياز إذ أن استهداف قيم الانتمـاء الديني بشكل غير مباشر كرستهُ أنظمـة ديكتاتورية على طول عقود من الزمن ، وحتــى لا يُــساء فهمنـا فيظن ظان بأن الأمـر فيه مبالغة وأن الغالبية الاجتماعية تؤمن في قرارة نفسهـا بقدسية الدين و رجاحة مضامينه – و هذا صحيح أيضا – نسارع بالتأكيد بأن الحديث هنـا ينسحب علـى فـئة من القطاعات "الشعبية" التي أعرضت عن تشريعات الدين بمقتضى لا فاعليته و ليس بمقتضى العجز عن الامتثال لأحكامه ، و كم من النـاس أطبقت عليهم الدنيا بمفاتنهـا فنبذوا الشرع بموجب الاستسلام للهـوى إلا أن ذلك لـم يُــزحزح لديهم قنـاعة بسمو عظمة الإسلام و نظامه و القيام بالدفاع عنه ضد الإساءات المتكررة من الأقلام الحاقدة و الحقودة ، فهـؤلاء لا حديث لنـا معهم إلا من باب التذكير و الوعظ و الترقيق ،أمـا المشكلــة التي نحـاول أن نـرصد آفاتهــا فتكمن أســاسا في قوم آمنـوا ببعض و كفروا ببعض آخـر ، قوم تغيرت بنيات تفكيرهم لتساير منطق اللائكية السياسية كنتيجة للتربية اللادينية التي تنطلق في السياسات الملغومة ...
    إن من أحـد آفـات اللائكية السياسية مـا تنتـجه من قابليات للانخـلاع الديني إذ تـوفِّـر كل الأسباب الممكنـة لانـزياح الإنسان عن سكتـه الأصلية صوب عـالم من التحلل القيمي تتحـكم فيه قيم الاستعـلاء علـى الدين بمـا هـو إجمـالا وصايا و توجيهـات ، كمـا أنهـا و تحت دعـاوى إطـلاق الحريات تمـارس تغريبا ظـاهـرا انطـلاقا من تأسيس أرضية تفكيك تتيح للخبيثين و الخبيثات أخلاقيا التوسع بحرية "القانون" و بالتـالي تغييرا لمنظومـة التـرابط الاجتمـاعي و تنمـيطا لأسلوب العيش الغربي المعمم ، و هــذا يبدو واضحـا لـو رصدنـا مـا آلت إليهـا تحالفات اللائكية بالاستبداد من فجـور سياسي و تمزيق اجتمـاعي خربت الدولـة و المجتمـع مـعا ،إذ تحولت الأولــى إلـى جهـاز تسلطـي فاسد في كل مؤسساتها و آلـت بالثانية إلـى ضياع في الهوية و الانتمـاء الحضاري كمـا هـو شاخص في مقولـة "مجتمعـان تحت سقف واحد" بتعبير الأستـاذ منير شفيق في (قضايا التنمية و الاستقلال في الصراع الحضاري) . و لمـا كانت الدولـة اللائكية لا تأبـه لحرمـة دين و لا لخصوصية الانتمـاء التـاريخي صارت آفـة حقيقية تستوجب التصدي لهـا نظرا للتعدي السـافر علــى أحـد أهـم مقومات البناء النهضوي و هو الدين و التـاريخ .
    إن التـراجع الخطير للمجتمع الإسلامي في ضبـط سلوكاته يعـود في رأينـا إلــى أصل الشرور و أم البـلاوى : الاستبداد ، و حينمـا تتـقدمُ اللائكيةُ الاستبدادَ في ديار العروبة و الإسلام فإن الخراب يعم العمران سواء في دواليب الدولة أو في مفاصـل الاجتمـاع البشري ،و لـقد مثلت "دولة الخـلافة" بمـا هي مؤسسة حاضنة و حـارسة للدين و الدنيا المظلـة المـانعة من الانـزياح ،أقصـد الخـلافة كمـا مورست بتقاليدهـا السياسية المسندة إلـى فعـل إشراك الأمـة في اختيار رجالاتهـا لا الخـلافـة كمـا درجت في التـاريخ السلطاني المؤسس علـى منطق الغلبة و الشوكـة ، مـهلا ،فإنـي أدرك سلفـا كم سيهـز اللائكي المنتفخ أوداج عقله بفلسفات الدولة الحديثة و حدودهـا في ظل النظام الدولي و الديموقراطية و العقد الاجتمـاعي و و سيادة القانون و و و إذ هي في رأينـا سلوكـات اعتيادية تُـعبِّـر إمـا عم سوء فهـم للمضمون أو عن حجم الاختراق الذي أوغــلَ في مخياله الوجداني قبل المعرفي . علــى أن النـقاش هنـا لا يدور حول مشروعية الخـلافة كنظام إنمـا ربطـه بلحمـة المجتمع الذي كان وفيا لمنطق السياسة الرشيدة التي استوعبت الدين و الدنيا ، إذ بتحولهـا من سلطة فعلية إلـى صورة رمزية فيما بعد تـكون قـد دشنت أولـى حلقات الانـزياح في مسلسل التدجين و الإفسـاد من خـلال ذهـاب الروح الأس و بقاء الهيكل الشكل المتوارث جـيلا بعد جيل إلـى أن أجهـزت الدولـة اللائكية القُـطرية بكـامـل مـا تبقـى من اللحمة في جسد المجتمع فانخربَ الجميع .
    في الغـرب، الدولة اللائكية قواعـد الضبط الاجتمـاعي بمـا يتوافق مع روح المجتمع "المُعلمَن" أصـلا بالفطرة و التـاريخ ، فهي تحركت بموجب توازيات الدولة /المجتمع/الأمـة و ليس بموجب التنـاقض في المكونـات ، إذ استمـر نـمو الفكر اللائكي الاجتمـاعي "شعبيا" دون الحـاجة إلـى من يُــعبِّـر عنه سياسيا ،و هـو نـمو انبثق في وقت مبكر من خــلال عـاملين اثنين : الأول مرتبط بطبيعـة الدين المسيحي نفسه و وصايا أتباعـه بشأن عدم الزج في أمـواج السياسة و التنصيص علـى مبدأ ( أعطوا مـا لقيصر لقيصر و مـا لله لله ) و حيث أن "المسيحيين ميزوا بشكل واضح بين الروحاني أو السمـاوي أو الكنسي و الدنيوي أو المـادي و العلمـاني " كمـا ذهـب ‘لـى ذلك أنتوني بلاك في كتاب (الغرب و الإسلام .عالم المعرفة ع 394 ص:58 ) ،أمـا العامل الثانـي فمرتبـط بطبيعـة الثقافــة المتداولـة و الخصوصية الاجتمـاعية المـوروثة من الحضارة الأم/اليونان إذ تتعـايش فيها أشكـال المتناقضات الأخـلاقية بموجب اعتبارهـا حريات فردية لا صلـة لهـا بتحقيق التوازن الاجتمـاعي . أمـا في السياق الإسلامي/ التـاريخ فيتضح لدارسه بنيوية الدولة/الأمة ككتلة متجانسة من حيث حكم الشارع عليهم جمـيعا و من حيث ارتبـاط مشروع "الدولة" بصلاحيات التمكين للدين أولا و أخيرا (الذين إن مكـانهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكـاة و أمروا بالمعروف و نهـوا عن المنكر و لله عـاقبة الأمور) ، و ظــل الأمـر كذلك إلـى أن نُقِـضت أول عروة في الإسلام فتوسع الانتـقاض إلـى أن صارت الدولة شيء و الدين شيئـا آخرا في عقول أجيال مُنَـمطين ثقافيــا .
    إن اللائكية الاجتمـاعية تمـارس دورا خطيرا في تفكيك عرى الإسلام لأنهـا تمثل عقلية سلبية لمـا في الغرب بحكم أنهـا لأرادت أن تتجسد نمـطا اجتمـاعيا غريبا دون أن تدرك بأن اللائكية مشروع تقويضي كـامل يهـدم التدين لبنة لبنة ، فهـي أشـد فتكـا من اللائكية السياسية لأنهـا الذراع التطبيقـي المـباشر لفلسفـة الحكم اللائكي و لأنهـا أيضا الأداة الفعـالة المسند إليهـا فعـل التفكيك التدريجـي لـروابـط المجتمـع الإسلامي ، و العـلاقة بينهمـا عـلاقة تكـامل بنيوي من حيث اعتبار السياسية منهـا الأس و الدرع و الأخـرى الفرع و التنفيذ . لقـد بدأت النظرية السياسية من منطـلق اعتبار "الدولة" حـارسة للدين و تـابعة للدعـوة حتـى في أزمنـة الانحـطاط السياسي و سيطرة منطق القوة في حيازة السلطة ، و الآن صـار كل شيء مقلوبا حيث صارت المعادلة تقوم علـى تبعية الدعوة للدولة بمـا يضمن لهـا ممارسة التحكم في الشأن الدعوي و الحد من نفوذه عبر أدوات شتـى تملكهـا الدولة مثل : وضع خطط لضرب استقرار الأسرة عبر قوانين تكرس حـالة الانهـيار القيمي ، تحجيم دور العلمـاء عبر سن قوانين مُـحدِّدَة لمجال الاشتغال ، خصخصات متعددة تؤدي إلـى إنتـاج البؤس الاجتمـاعي الذي يؤثر بدوره علــى وازع التدين السليم ، التحكم بالإعـلام بمـا يخدم مصلحـة إيديولوجية الدولة ... و بهـذا تـكون اللائكية السياسية قـد أجهـزت علـى منـابع التدين و لاحقت مسبباته من خـلال توفيرهـا للغطـاء "القانوني" لحركة الفساد الأخـلاقي للمجتمع فانتقلت في ديار الإسلام إشكـالية السلـطة السياسية من مبتدئ وظيفة حمـاية الدين و الدنيا إلـى خبر حمـايتهـا للفساد و الإفساد ، و ذلك إنمـا يتم تحت دعـاوى ظاهرها "التنوير" و باطنهـا "التزوير" إذ اعتادت الطبقة السياسية اللائكية علـى تسويق العنـاوين في كل منـاسبة يقع فيهـا الحديث عن الدولة المدنية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و المواطنة و المساواة ...
    لــكن، و للحقيقة الواقعية فإنه علـى الرغـم من حجم الدجـل الفكري اللائكي للمثقفين المنمطين و رغم ترسانات الدول اللائكية العروبية فيمـا يخص حكمهـا الاستبدادي فإن الطبقة الشعبية في غـاليتهـا لا تزال عصية علـى الاحتواء اللائكي رغـم مـا تعيشهـا من بـؤس مـادي و فـساد في نمط الحـياة ، إذ أن القنـاعات بسيادة منطق الإسلام كمعيار لم يتزعزع من القلوب رغم تردي الأوضاع الاجتمـاعية و تدهـور نظام العيش الكريم ، فإلـى جانب كون الإسلام كدين سمـاوي خـالد عصي علـى التشويه الإعلامي اللائكي الذي أراد إعطاء نسخـة "متطورة" من الإسلام مستمدة من عقله الانبطاحي فإنـه أيضا أثبتت الطبقة الشعبية مقاومتهـا لكل ألوان النسخ و المسخ في هويتهـا و انتمـاءهـا الحضاري ، و بنفس الشكل الذي اتضحت فيه قدرته علـى مواجهـة آثـار "العلمنـة" الفكرية و العملية فإنـهُ أيضا أبانت عن محدودية فـئة من النـاس استهوتهم بريق الحضارة الغربية بانبهـار عـاجز فوقعوا تحت قصف شديد من المدافع اللائكية السياسية ضحية الوهـم الثقافي ، إن هـذا يبدو واضحـا عندمـا توثقهـا دلائل التصويت ضـد كوادر الطبقـة اللائكية في كـل موسم من مواسم الانتخـابات عندمـا تتوافر النـزاهـة و المصداقية . بكلمة ، إن الخـاصية المشتركة للائكيات هي التهـميش ،فالسياسية منهـا تهميش للدين في السياسة و الأخـرى تهميش للدين في المجتمـع .
    إن مـفعـول اللائكية في ديار الإسلام مفعول نسبي و ليس بمطلق لأن بضاعته –كمـا نقول دائما – مزجاة غير صالحـة للاستعمـال كثيرا في حق الشعب ، و لأنهـا اعتقدت نفسهــا جـارَّة للشعب للتخلي عن دينه بذكـاء غبي فإنهـا تنهـار شرعيا و شرعيا لكونهـا صارت مجرورة من حيث تدري أو لا تدري ، كمـا أن تصرفاتهـا اللائكية الغير مستترة صارت أفعـالا متعدية إلـى هوية الشعب فتغيرهـا و صار فعل التغريب فيهـا لازمـا لسلوكـاتهـا ، الشيء الذي جعلهـا مفعولا بهـا من طرف الشعب عبر طريق الرفض و الاحتجاج . لــقد كـان المبتدئ شيء و صـارَ خبرهـا اليوم شيئـا آخـرا !
    لعـل من النـباهـة الآن أن ننــظر للائكية باعتبارهـا موقفـا محددا من العـالم و ليست إجرائيات سياسيـة تخص وظيفـة الدولـة لأنهـا ببساطـة تتجـاوز الآليات إلـى تطبيق "الرؤية" الخـاصة بفصـل و تفكيك المجتمـع قيميا ، و لقــد نـجح الدكتور عبد الوهـاب المسيري رحمه الله أيمـا نجـاح في دراستـه الموسوعية عن "العلمانية الجزئية و الشاملة " إذ استـطاع أن يطيحَ بهـذا الصنـم السياسي بنـقد صارم "للعلمـانية" عبر تحليل المضمون الفلسفي للمفهـوم و عـلاقته بالواقع الاجتمـاعي و الطبيعي و الإنساني و الأخـلاقي ، فهـو يتجـاوز التعريفات الكلاسيكية التـي نحت منحـى حصـر المفهـوم بمبدأ "فصل الدين عن الدولة" و ينـفذ إلـى عمـق القضية بتركيزه علـى "العلمـانية الشاملة" التي تمثــل جوهـر الموضوع و نهـايته ، يقول رحمه الله : " و يوجد في تصورنـا علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولـى جزئية و نعني بهـا العلمانية باعتبارهـا فصل الدين عن الدولة ، و الثانية شاملة و لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب،و إنمـا فصـل كل القيم الإنسانية و الأخـلاقية و الدينية ،لا عن الدولة و حسب و إنمـا عن الطبيعـة وعن حياة الإنسان في جانبيهـا العام و الخاص …"(العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة ،المجلد الأول ،دار الشروق ص 16 ) ، فهـي فعـلا تمثل شكـلا من أشكـال التفكير المـادي تحدد بموجبه أنمـاط العـلاقات الاجتمـاعية و ترفض به أنمـاطا أخـرى لأنهـا في الأخير لا يمكن أن تنـقطع عن مسار المجتمـع بمجرد فصل الدولـة عن الدين و لا يمكن لهـا أن تمـارس تطبيقات المرجعية اللائكية بعيدا عـن المستهـدف الأساسي من الفصل السياسي و هو المجتمـع ،إذ أن مشاريع "العلمنـة" تطـالُ بشكـل واضح تغيير الذهنيات الاجتمـاعية وتحطيم العقل الجمعـي من خـلال التأسيس لأرضيات قبول الانحلالات و تكوين قابليات نفسية بعد أن تكون قد دمرت مـا تبقـى من شعلـة المنـاعـة الدينية ، و اللائكيون يدركـون تمـامـا أن "العلمـانية" تفكير مـادي "عقلاني" لكنهـم يسكتـون عـن أهدافهـا بخصوص ارتباطهـا بمشروع نزع قيم التدين التدريجي ،فبدلا من أن يملكوا الشجـاعة الفـكرية – كمـا فعل الغربيون بشكل واضح في قواميسهم – راحـوا يتهـمون خصومهـم بكونهم لـم يفهـموا "العلمـانية" كمـا يجب و كأنهم يمـارسون الوصاية الفكرية التي ميزتهم طوال مسيرتهم التأليفية ، بــل بعدمـا فشلـوا في وضع تعريف دقيق "للعلمـانية" تحول النـقاش إلـى عموميات فكرية تصول و تجول في التحليل التـاريخي و النقد "العقلاني" و الواقعية و التنوير و غيرهـا من فضاءات فسحـة الفكر اللائكي المهزوم ، فمحمد أركون في ( العلمنة و الدين :الإسلام المسيحية الغرب ) يتحدث عن "العلمنـة" بصفتهـا (إحـدى مكتسبات و فتوحـات الروح البشرية ) و أنهـا ( موقف للروح و هي تنـاضل من أجل امتـلاك الحقيقة أو التوصل إلـى الحقيقة ) ، بالطبع فقد حـق لـه أن يتحدث عن الفتـوحـات باعتبارهـا ثمرة "العلمنـة" مـا دام يعتبـر أنه ( لا ينبغـي علينـا هنـا أن نفرٍّقَ بين الأديان الوثنية و أديان الوحــي ) لأن ذلك التمييز ( عبارة عن مقولـة تيولوجية تعسفية تفرض شبكتهـا الإدراكية أو رؤيتهـا علينـا بشكل ثنوي دائمـا ) ،إن البـلاء الحقيقي الذي يمكـن أن يصيب عقولنـا فيسيء لذاتهـا هو أن نمـارس التضليل "العلمـي" باسم النـقد العـقلاني المقارن ، و مـا أكثر كتابنـا وهـم ينحتـون عـالمـا من المفاهيم النظرية و يصيغونهـا في قوالب نقدية ماراطونية ليقدموهـا للقراء كمـادة مسمـومـة تخفي المقاصـد الكلية من وراء كـل هـذا الهذيان الفكري حول "العلمـانية" ، صـارَ هـذا البـلاء يولـد وباءات معديــة لعقـول لــم تستـطع أن تفهـم أصول المشكـلات و صراع المرجعيات فانهـارت ذليلـة لتهـضم مفردات "العلمنـة" باعتبارهـا مخـرجـا من الوضع المتأزم في العـالم العروبي و الإسلامي . و الحـال أن مـا جنـاهُ الفكـر اللائكي من طمـس للحقائق و تدليس للوقائع و تأويل للأحداث يجعـل العـاقل النـزيه أشد احتياطـا في تقبل صدق مشاريعهم المدمـرة لبنية الأمـة و خصوصياتهـا ، فلـو كـانوا فعـلا أصحـاب مشاريع مستقلة في التفكير تجدد انطـلاقا من أسس الذات و الحضارة لا من خارجهـا و لو امتلـكوا القدرة علـى الإفصـاح عن تمنــياتهم الحقيقية لنوع المجتمـع الذي يريدونه لكـانوا أهـلا للنـقاش السياسي و الحـوار الثقافـي ، لكن آفاتهم أنهـم يتمتـرسون وراء العنـاوين و البحوث المكوكية التي تزدري من الدين و تعـامله كجانب هـامشي في المجتمـع و السياسة و عندمـا يُحـاوَرون و يوضعـون أمـام سؤال المصداقية أو أمـام نقـد و تذمـر الجمهـور لهم يتلوون تلـوي ثعابين المـاء ليتصنعـوا "الحيادية" و التبرؤ مما أُسيءَ في حق فهم نصوصهم و كأنهم وحدهم من يفهـمون اللغـة ( حامد أبو زيد نموذجـا ، و قد نـاقشهُ محمد عمـارة في التفسير المـاركسي للإسلام) .
    و بخصوص الارتباط بالمجتمـع فإن العديد من المفكرين يميزون بين اللائكية المتـطرفـة الماركسية الـتي حسمت موقفهـا من الدين بشكل مبكـر عندمـا مـارسَ روادهـا ذلك عمليـا و بين اللائكية الرأسمـالية التـي حـاولت التوسط مكـرا فإن الأمـر لا يعـدو أن يكون في العـمق اختـلافا في آليات التدمير الاجتمـاعي و ليس اختـلافا في أسس التفكير المرجعي ،إذ الأولـى منهـا أراحتنـا حينمـا قرروا بسرعـة الغـلاة أن الدين صنـاعـة بشـرية يندرج ضمـن "البنية التحتية" التـي تعكسهـا تحولات الواقع الاقتصادي المـادي فاحتـاج النـاسُ لهُ للتعويض عن العجز في التغيير من خـلال "الإلهـاء" بوجود جنـة تعِدْ( قبَّحَ الله الفكر من هـذا الصنف البليد)، و الـثانية لائكية مـاكرة غير مقولبـة في شكل محدد وإنمـا تتخـذ أشكـالا متنوعـة لا تجد بدا من أهلهـا في النفخ فيهـا من جديد كلمـا بانَ عوارهـا ، لائكية تفككُ من دون حـاجـة للتصريـح أو التقرير تستـمد فلسفتهـا من دهرية تعتبـر المجتمـع حـرا في أن يصنـعَ بنفـسه مـا يشـاء متـى شاء شرط احترام حريات الآخرين فتـكون بذلـك أشـد خـطرا و وبالا من الأولـى باعتبار المكر فيهـا بارزا و في الأولـى الغبـاء فيهـا واضحا ، و فــي كــل الحـالات فإن الخـيط النـاظم لأشكـال اللائكيات تجـاهَ المجتمـع هـو التقطيع و التجزيء لأوصـالـه في الولاء والقيم و الهوية خصوصـا إذا كـان هـذا المجتمـع هو المجتمـع الإسلامي بتقاليده و أعرافه و قيمـه الإسلامية العتيدة ، و نـحن نـجد بشكل لا غبار عليه مـا صـارَ إليـه المجتمـع الغربي من انهـيار أخـلاقي جعـلَ الغربيون أنفسهـم يخشون عن مصير حضارتهم "العقلانية" ، بـل و نـجد مـا جنت اللائكية المتلـونـة علــى تديـن المسيحيين إذ تحولـت المعـابـد إلـى مؤسسات فولكرورية مهـجروة و إلى مقرات لكـسر روتـين الصخب اليومي الذي يفرضـهُ هوسُ العــمل الآلـي ، وذلك كـله لا يمكن تفسيـره خـارجَ سياسـات اللائكية و مشاريعهـا الانحـلالية تجـاهَ قيم المجتمـع و كـانت قبل ذلك قد سحــقت مكونـات الهويات و نمطت الانتمـاءات بشكـل أفقـدَ المجتمـع لحمتهُ و منـاعتهُ، و لـولا – في رأيي – حسن التدبير و الترشيد في ظـل قانـون مُقيِّـد للحاكمين لكـانت أوروبـا الآن غـارقـة في أوحـال التخلف السياسي و الاجتمـاعي ،لكنهـا الحكمـة البشرية ليس إلا .
    إن مـظاهـر اللائكية الاجتمـاعية متنـوعـة لكن يجمعهــا الموقف البـارد من الدين و أحكـامه ،إذ ثمـة مـن لازالَ يتعـامـلُ معهُ بصفتهِ "طَـقسـا" من الطقوس الفردية و شكـلا مُعيقـا للتفكير الحر و المجتمـع الحر ، و ثمـة من تأخـذهُ الأبهـة بالسخريـة من أفعـال المتدينين أبهـة من فقــدَ معنـى وجودهُ و صـارَ ذيـلا لا يتحرك إلا برغبة من إرادة العقل الغربي ، و منهـم من يشمـئزون من التـزام المسلمين بدينهم و يضيق صدرهـم كلمـا تُــلِيت آيات بينات اشمئزاز من قالَ فيهم ربنـا جل عـلاهُ ( و إذا ذُكِرَ الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة و إذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )، و منهم من إذا ذُكِّـرَ بأحكـام الله و حدوده أخذتهُ العجرفـةُ و ركبهُ الغرور و راحَ قلبـهُ يقسو قسـوة من نسـيَ ربــهُ فأنـساهُ جل عـلاه و في الآخرة عذاب شديد نسأل الله اللطف و الرحمـة ،قال سبحـانه (و قيل اليوم ننــساكم كمـا نسيتم لقاء يومكم هـذا و مأواكم النـار ومـا لكم من نـاصرين ) ، و منهـم من تفلسفَ عقله حتـى اغتـالَ الدين و حجب بصيرته عن نور الإيمان و هداية الله و لا يدرِ هـذا الضعيفُ كم صـارَ أسيرا في قبضـة عقلـه المغتر يبني عليـه مواقفـا تشيب له الولدان و تنهـار منه الجبال ، و منهـم أسـاتذة و للأسـف يتصرفون تصرف اللائكيين الضائعين في زحمـة الدنـيا لا ينـقادون لأمـر ربانـي بل هاملين لكـل ذي ارتباط بالدين إهمـالَ من يعتبرهُ شأنـا فردانيا مستقـلا عن الآخرين ...إن من أمـثال هـؤلاء من غلبتهـم الدنـيا و ابتلعـت قلوبهم فكـانت التصرفات نـاجمـة من شلل في الإرادة و تراكم للرانِّ في قلوبهم و لا علاقة لهـم بانعكـاسات اللائكية علـى تفكير المجتمـع و منـهم مـن يمثلون مرايـا لائكية تدل سلوكـاتهم علــى إيمان زائف بالحرية و علــى تمكن التفكير اللائكي من تغيير منظومـة التفكير نحـو شكل من أشكـال الدهرية المـادية .
    لــما صـارت آفـات تلك اللائكية علـى مصير بنيـة المجتمـع أصبحَ لازمـا التصدي لهـا و اتخـاذ الإجراءات المنـاسبة للحد من تأثيراتهـا المدمـرة للعقل الجمعي المسلم ، و ذلـك لـن يتأتـى في نـظرنـا إلا بإخـضاع الفـكر اللائكي الاجتمـاعي لنـقد صـارم يــبدأ بتفكيك عـلاقـة السـلطة السياسية بالإجراء اللائكي في تدبير الدولـة للمجتمـع و ينتـهي بمعـالجـة آثـارهـا المتقطعـة علــى التفكير الفردانـي المُـشبَع بأوهـام "العلمنـة"، لـكن ذلــك يحتـاج أولا من الفـاعلين الإسلاميين الشروع في نـقض سرابات ارتبـاط "التقدم و التمدن" بالشرط اللائكـي و كـشف ضلالاتـه الفكرية و الواقعية علــى حركـة المجتمع الإسلامي ، فمـادامَ الفـكر اللائكي راهـنَ في أدبياتـه علــى خـلط المفاهيم فجعـلَ فيمـا سبق اللائكية شرطـا للأخـذ بالديموقراطية و هـو الآن يجعـلُ اللائكية عنـوانـا عريضـا و مدخـلا مفصليـا للنهوض الاقتصادي و الاجتمـاعي فإن المـطلوب إثبـات عكس الطـرح بحيث وجبَ التدليل علــى حجم التخلف و الركود الاجتمـاعي الذي أنتجهُ هـذا الفكر المُشَرّد علـى مـدار عقود من سيطرته علــى مفاصل الدولـة .
    من جهـة أخـرى، فإن أشكـال التمزقات في الوجود الاجتماعي هـو مـرآة عـاكسـة لعقلية متخلفـة لازالت تعتبـر الدين شأنا روحيا فردانـيا منزويا علـى نفسـه ، و هي بهــذا تسحـق ذاتهـا باستمـرار عندمـا تنـحنـي للخـطاب الغربي المُـهيمِن و الذي يجعـلُ من نـظامـه السياسي و الاجتماعي نـموذجـا نمطيا أو مرجعية عليـا مُـسنَـد إليهـا و لا تُـسنِـد لغيرهـا ، فأشكـال التصدعـات الاجتمـاعية في العالم الإسلامي تمـثِّـل في الحقيقـة تعبيرات عـن أزمـة في التـصور المنهـاجي أَلَّـلهت الطـرح الغربي و نموذجـه في التحديث و سَـخِرت من غيره إذ أن الاختـلاف في نهـاية المطـاف يدور حـول سؤال المرجعيات التي تحدد مسـالك التغيير و مـداخـل الإصـلاح المطلوب ، لذلـك كـان البـاحث ميمون النـكاز صائبـا حينمـا طرحَ ضرورة تحدي المرجعية في مستـواهـا الأعلـى إذ أكَّــدَ علـى " ضرورة استحـضار و استصحـاب الوعي بالتَّـنـاد القطعـي بين التصور الفلسفي و الرؤية الإسلامية للكونية و العـالمية بحيث أن كثيرا من المآسي و المظالم و المعـاناة التي تشكو منهـا المجتمعـات الإنسانية –و منهـا المجتمع الإسلامي – في المستويات الدنيا للوجود الإنسـاني هي في جوهرهـا تجليات موضوعية و مآلات منطقية للمنظور الاستبدادي للعالمية و الكونية "، لأن " الازدواجية التنـاقضية في فكر و هوية الدولة ساهمت في تمزيق الأنسجـة الثقافية و المؤسسية للمجتمـع و قامت بدور وظيفي خطير في تفكيك الوحدة الاجتمـاعية حيث نشأت هيكلية إدارية جديدة و تَـشَكَّـلَ نسق ثقافي غريب عن وجدان الأمـة و ضميرهـا الثقافي يهدف إلـى إعـادة بنـاء المجتمع وإنتاج هويته الجديدة " (مقال بعنوان :مـلاحظات حول فكر و مشاريع النهـوض.أنظار حول الرؤية و المنهـج منشور في مجلة المنعطف الفكرية ع 18-19 ص 132-137 ) .
    إن المـواجهـة لإصـلاح عـطب الفـكر الدخـيل يمـر في رأينـا من مدخلين أساسين :
    المدخـل السياسي الفكري : فـلا بـد من إعـادة النـظر في المسلمـات اللائكية حول طبيعـة السلـطة و المجتمع و مفهـوم الدولة المدنية و ارتباط القيم بالتدبير السياسي و تفكيك حُـمـى المكيافيلية في الأدب السياسي و إعـادة النـظر في عـلاقـة الدين بالدولـة بمـا هي عـلاقة جزء بكل و تتبع مسـارات انـقلاب السلـطان علـى القرآن من جذورهـا إلـى حين الاقتتال و التنـازع في المشهـد السياسي الراهن ، فضلا عن ذلـك يستلـزم منـا قراءة بانورامـا السياسـة اللائكية في فضـاء الغرب و مـدى إسهـام "رجال الدين" في قيام "الدولة المدنية" و محاربـة بدع "الحق الإلهي" و "ظل الله في الأرض" وغيرهـا من الفزاعـات التي يتغذى عليهـا الآن الفكر اللائكي المعـاصر ، و هـذا المـدخـل أساسي و مركزي لأنــهُ سيتيحُ للعديد من أبنـائنـا المنخدعين بأوهـام الحداثة إعـادة النـظر في البدهيات الموروثة من رواد التزوير الإعـلامي و الفكري و ستمـارسُ دورهـا في خـلخـلة المفاهيم و كسـر حواجـز الصنمية الفكرية الغربية التي عكفَ البعض منـا علـى تزيين قبائحـها و تجميل تجاعيدهـا . و يمكن القول أن المكتـبة الإسلامية الآن صارت غنـية بالمضادات الحيوية لمـرض عُـضال يسمـى اللائكية فأسهمت في كشف الكثير من الشبهـات و إسقاط الفزاعـات اللائكية عبر تحليلات نقديـة دقيقـة لمشكـلات الراهن السياسي و الاجتمـاعي و صارت كتب اللائكيين العروبيين محل نقض عبر الكتب المتخصصة في الرد علــى المتغربين كمـا نجد ذلك عند كتب القرضاوي و محمد عمـارة و الغزالي رحمه الله و هويدي و عبد السلام ياسين رحمه الله و مفكرين آخرين يطول الحديث عنهم علـى وجه التفصيل.
    و هـذا المدخـل مركزي لأن أصول الأزمـة دارت منذ البدايـة حول انتقاض عرى الإسلام بانتـقاض الحكم الرشيد و توالــت بعدهـا النكـبات لتصيب المجتمـع نظرا لمـا لوظيفة الدولـة من ارتباط وثيقة بالمجتمـع ، فإصـلاح هـذا المدخـل سيحدد لنـا بالتأكيد مسالك التغيير الحقيقية بعيدا عـن آليات التغريب و طرقـه السياسية الملغومـة ، لكن ذلـك لـن يكون في نـظرنـا الأداة السحرية التـي تفك ألـغـاز التخلف الاجتمـاعي و سيادة التفكير السلبي في المجتمع لأن إصـلاح الدولة سياسيا يستلـزم أرضيـة اجتمـاعية متعـاونـة و طبقـة إعـلامية مؤهلـة تُسهمـانِ في بنـاء الخـراب العقلي و المـادي السحيق.
    المـدخـل الإجتمـاعــي : و هـو مـدخـل مواز للشق الأول و لا يتنـاقض مع مشروعـه ، كمـا لا ينبغـي الرهـان علـى الإصـلاح الفوقي بمعزل عـن حركـة المجتمع ومساراته ، و إصـلاح المجتـمع رغـم إشكالاته يُـعينُ علـى إيجـاد الأرضية الصلبـة لانطلاقٍ متماسك و يساعـد علــى تجـاوز الأزمـات التـي يمكن أن تنتـجهـا الدولـة السياسية الجديدة فـلا تعيق مشاريعهـا و لا تبطئ حركاتهـا ، و للأسف فمـا حدث في مصـر و يحدث عقبَ صعود الدولة الجديدة من أعمـال شغب و تخريب وحشي للمـؤسسات يجعلنـا نتيقـن بأن إصـلاح المجتمـع و تفكيره المنحرف و الحاقد يمثل أحد شروط إنـجاح مسار التحديث و إلا فإن الفتـن الاجتمـاعية و استغـلال اللائكيين لهـا سيكون عـائقـا أمـام مشاريع النهوض .
    و في الزمـن الغـابر من تـاريخنـا كـان المجتمـع هـو الرقم الأول في صنـاعـة الوعي الاجتمـاعي لأن الأمـة صاحبة السيادة مارست دورهـا الإشعاعي في ربط العلاقات الاجتمـاعية ببعضهـا البعض و أنتجت فكرا و مشاريعـا مستقلـة عن الدولـة المركزية رغم انفصال السلـطان عن وازع القرآن و تحكم السلاطين في الشأن السياسي بقبضة من حديد ، و هـذا لا يعنـي بطبيعة الحال أنــا نـجهـل الفروق الجوهرية التي كـانت تحكم الدولة السلطانية بالأمـة و بين وضعنـا المعاصر الذي تغولت فيهـا الدولـة علــى المجتمـع و تحكمت في بنـياته الداخلية ، إلا أننــا نـرى أن شأن الإصلاح الاجتمـاعي تحتـاج لوجود طبقـات من أهـل الرأي المتحركين في أحشاء المجتمع ينقذون مـا يمكن إنقاذه رغم هول الفساد و فداحتـه وإلا فإن الثورات المضادة سوف تبتــلع كل الإنجازات و تُـحوِّلهـا إلـى فوضـى عـارمـة تُـوَظَّفُ فيهـا العقول المُـخرَّبـة و تُجَيَّشُ فيهـا ميليشيات أصحاب المصالح و المأجورين كمـا نرى ذلـك بوضوح في تداعيات ثورة 25 ينـاير . إن بنـاء العقـل الاجتمـاعي السليم المربوط بمرجعيته الإسلامية الإصلاحية صمـام أمـان ضـد كـل العـابثين و المرتزقين و المُستَغَلين آنـذاكَ بإمكـان الدولــة السياسـية أن تنـدمج مع لحمتهـا المفقـودة ،آنـذاك سيكون للإصـلاح معنـى حقيقيا بعيدا عن الشعـارات التي سوَّقتهـا أنظمـة الاستبداد اللائكـي أجيالا ، آنـذاكَ سيعـود الخبرُ مبتدأ كمـا كـان .

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 6 يون, 2022, 01:23 م
ردود 0
211 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:22 ص
ردود 0
42 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:20 ص
ردود 0
61 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 07:41 م
ردود 0
98 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عادل خراط
بواسطة عادل خراط
ابتدأ بواسطة Ibrahim Balkhair, 4 سبت, 2020, 05:14 م
ردود 3
113 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Ibrahim Balkhair
بواسطة Ibrahim Balkhair
يعمل...