هو ملك تملؤه الرقة على رعيته، وفؤاده كله شفقة على الضعفاء، وإذا مر بالفقراء انهملت عيناه من الدمع، مملكته عظيمة واسعة ولكن قلبه أعظم و أوسع، محبوب لدى القريب والبعيد، يأمر لا كسلطان مع أنه عليهم سلطان، يعيش من أجل غيره لا من أجل نفسه، شديد الكرم والعطاء، جزيل الصدقات للفقراء، كأنه لهم غيث ينزل من السماء، إنه ملك السلاجقة، الحاكم المسلم العادل، إنه "السلطان ألب أرسلان الملقب بسلطان العالم . . . صاحب الممالك المتسعة."
لقد امتاز هذا الملك بالتسامح مع المسيء، فهو يجسد مثالاً إسلامياً على العفو والصفح، تأتيه رسالة شكوى أحدهم على وزيره، فيستدعي وزيره ليعطيه الرسالة، فما الذي تتوقع أن يقوله لوزيره؟ ارهف السمع أيها القارئ ولنتعلم أساس الدين الإسلامي كله في جملة واحدة:
"خذ إن كان هذا صحيحاً فهذّب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم."
ماذا ماذا؟ هم يكذبون عليه فيأمره بأن يغفر لهم! بل ويعتبرها زلة؟ كذب وتعنت وخداع ويسميها زلة؟ نعم فالدين قد بُني على حسن الظن بالغير، يكون الإنسان صاحب حرص وحذر ولكن مع النظر إلى محاسن الناس، ألم يُنقل عن التابعي الجليل سعيد بن المسيب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع أمر أخيك على أحسنه"، ولكن كيف أنظر إلى الخير فيمن يضرني ويؤذيني؟ يروي لنا البيهقي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: "إذا بلغك عن أخيك شيء تنكره فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته، وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه."
إن وضع الأعذار للغير إنما هو تدريب للنفس على عدم التحامل والبغض، وبالتالي ينتج من ذلك التسامح والصفح والعفو، فمهما أساء الناس إليك و"كذبوا فاغفر لهم زلتهم."، وما هذه إلا قاعدة قرآنية: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران 159) وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة 13)
ويصل الإسلام إلى مستوى يعلمنا فيه عدم التشفي على الغير بتحريم الغيبة وهي أن تتحدث عن شخص بما يكرهه وهو لا يعلم، بل وبدلاً من أن ننشغل بعيوب الآخرين علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاشتغال بإصلاح عيوب أنفسنا؛ حيث قال: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبَهُ عَنْ عُيُوبِ اَلنَّاسِ."
ونهى الإسلام عن الشتم حتى ولو كان الشخص أمامك، ليعلمنا طهر اللسان مما يعين على طهر الجَنَان، فتكون نقياً في الظاهر صافياً في الباطن، ولذلك يشير المولى عز وجل في كتابه العزيز بأن مدار النجاح والفلاح في الآخرة: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء 89)، وكلنا يعرف قصة سعد الذي بشّر النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة، فسألوه عن السبب فأشار إلى أنه لا ينام إلا ولا يحمل في قلبه الضغينة على أحد.
فالمؤمن سليم القلب، سليم اللسان، سليم الأفعال، يملؤه السلام في كل شيء، حتى وإن آذاه مؤذٍ فإنه في سلام، قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (الفرقان 63)
وحينما يمتلئ المؤمن بالصفاء والسلام في دنياه تكون آخرته جنتها مبنية كلها على الصفاء والسلام: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} (الواقعة 25-26)، وقال عز من قائل: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر 46-47)
وما كان يتميز به سلطان العالم ألب أرسلان من رقة القلب، ومن الشفقة على المساكين، ونصرة المظلومين، وكذلك الكرم، إلا لأنه فقه معنى سماحة القلب، فتذللت صعاب نفسه، ولان قلبه، فأصبح لا يعرف إلا الشفقة والرحمة على الآخرين، والعفو والصفح عن المسيئين.
إن قلب ألب أرسلان لم يسع الكذابين والمذنبين من بني قومه وأهل دينه فقط، وإنما له موقف تسامحي حتى مع من حاربه من غير المسلمين، فهذا ملك الروم رومانوس الرابع يأتي بجيش جرار قوامه 200,000 مقاتل من الروم والخزر والروس والفرنجة والكرج والأرمن والبلغار، يريد أن يغزو المسلمين السلاجقة في عقر دارهم (في جهة الشرق) ثم ينفث من هناك إلى وسط وغرب الدولة الإسلامية فيطيح بالخلافة العباسية في بغداد ومن بعدها الشام ومصر والمغرب العربي، فيستأصل شأفة الإسلام، ويبيد المسلمين.
لم يكن مع الملك البطل ألب أرسلان إلا العدد القليل من المدافعين، فهم ليسوا إلا عشرين ألف مقاتل (أي مجرد عُشر الجنود الأوربيين!)، فما الذي يفعله هذا السلطان الشجاع؟ أولاً يطلب الهدنة مع الروم، ولكن تبوء المحاولة بالفشل، بل ويعامل ملك الروم رسول السلطان معاملة فظة فيها من الإهانة والتقبيح، ويزيد ملك الروم من التنكيل بقوله: " لاَ هُدْنَة إِلاَّ بِبذلِ الرَّيِّ." أي بوصولهم إلى مدينة الري عاصمة دولة السلاجقة، فلا يبقى لدى السلطان إلا خيار المواجهة، فأي مواجهة تكون من ثلة قليلة أمام جيش عتيد ضخم كبير؟
يتسلح السلطان المؤمن بإيمانه، فالله أقوى من ملك الروم ومن جميع الشعوب التي جاءت مع الروم، فهو في موقف مماثل قد سبق أن مرّّ به السلطان أمام أحد الثائرين عليه، فيقول له مستشاره وناصحه الوزير نِظَام المُلْك وقتها:
"أيها الملك لا تخف، فإني قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه، كائنا من كان. قال له الملك: من هم؟ قال: جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء."
وبالتالي كان سلاح الدعاء أقوى من أي سلاح، إنه سلاح التذلل والخضوع لخالق السماء والأرض، إنه سلاح الخشوع وسر الوجود، إنه إكسير الحياة ومخ الأسرار، إنه الشعور بالانفراد عن الكون كله بمن سخّر كل شيء تحت عظمته، إنه الاعتماد على الكبير صاحب الجلال والبهاء، صاحب القوة والحول والإرادة، لا إله إلا هو، ولا غالب إلا هو.
ولذلك في صدّه للروم كرّر الملك الخاشع نفس السلاح، فأكثر من الصلاة والدعاء، وأكثر من الصلاة والدعاء، وأكثر من الصلاة والدعاء، بقلب منكسر، ولب خاشع، ثم قبل أن يتحرك الجيش صلى صلاة مودعٍ خلف الشيخ أبي نصر، والذي قال له:
"إِنَّك تُقَاتلُ عَنْ دينٍ وَعَدَ اللهُ بِنصرِهِ وَإِظهَارِهِ عَلَى الأَديَان، فَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ الله قَدْ كتب باسمِكَ هَذَا الفَتْحَ، وَالْقهم يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالسَّاعَةَ يَكُوْن الخُطَبَاءُ عَلَى المَنَابِر يَدعُوْنَ لِلمُجَاهِدينَ."
وحينما صلّوا "بكى السلطان وبكى الناس، ودعا وأمنوا" ، ولم ينس السلطان أن اتضاعه أمام ربه يقتضي تواضعه أمام الناس، فنادى خالعاً عن نفسه مكانة المُلك وأبهة السلطنة، إلى جانب إدراكه لصعوبة المواجهة مع الروم، والتي أشبه بعملية انتحارية، فأعطى الضوء الأخضر لمن أراد أن يترك الجيش وينسحب:
"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصرفَ فَلينصرف، فَمَا ثَمَّ سُلْطَانٌ يَأْمرُ وَلاَ يَنَهَى."
ثم عقد ذنب فرسه وتبعه الجيش في ذلك، ولبس البياض وتحنط استعداداً للموت، قائلاً: "إن قتلت فهذا كفني." ومضى إلى لقاء العدو.
وما أن تقارب الجيشان لم ينس ربه في اللحظة الأخيرة حتى انهمر إلى الأرض ساجداً لله، متضرعاً وممرغاً وجهه في التراب، متذللاً لرب العزة، ثم قام كما يقوم الأسد من عرينه (ومن العجيب أن كلمة "ألب أرسلان" تعني الأسد الشجاع).
فانطلق الجيش المسلم صاحب العدد القليل أمام تيار جارف من الأعداد الهائلة من الروم وحلفائهم، وكلٌّ يضرب بأقوى ما عنده، وتهافتت السيوف، واستحر القتل، فئة قليلة أمام جمهور كبير، ولكن الله إذا أراد شيئاً فإنه يكون، فما الكرة الأرضية ودورانها وسير الأفلاك في مجاريها إلا بقدرة العزيز العظيم، فكان النصر لتلك الفئة على ذلك الجمهور، نصر من الله وفضل وكرامة.
انتصر جيش المسلمين على الروم في تلك المعركة الخالدة، والتي عُرفت بمعركة ملاذكرد (عام 463 هـ/1070 م)، واعتبرها المؤرخون الأوروبيون (أمثال نورويتش والسير ستيفن رونسيمان) كأعظم كارثة حلّت على الدولة الرومية البيزنطية على مدى التاريخ!
ولم يقف النصر في هزيمة الخصوم فقط، بل المفاجأة أن ملك الروم رومانوس نفسه كان من الأسرى الذين قبض عليهم المسلمون! كرامة من الله وفضل ورحمة، وعظمة على عظمة!
ويؤتى برومانوس مخلوعاً من كبريائه، خاضعاً ذليلاً أمام تلك الفئة المستضعفة، ويُجلب أمام السلطان - سلطان العالم، فيقول له السلطان:
"مَا كُنْتَ تَفْعَلُ لَوْ أَسَرْتَنِي؟
قَالَ [رومانوس]:كُلُّ قبيح.
قَالَ [السلطان]:فَمَا تُؤَمِّلُ وَتَظُنُّ بِي؟
قَالَ [رومانوس]:القتلُ أَوْ تُشهّرُنِي فِي بلاَدك، وَالثَّالِثَة بعيدَةٌ:العفوُ وَقبولُ الفِدَاء."
تخيل أيها القارئ الملك رومانوس ألّب الأمم على سلطان المسلمين، وكان ينوي اجتثاثه وقتله وتدمير مملكته، وعامله بازدراء حينما رفض الهدنة، وهجم عليه في عقر داره، بل ويصرّح له بأنه لو أسره فإنه سيفعل به كل ما هو قبيح! فماذا كان عمل السلطان بالمقابل؟
اختار السلطان الخيار الثالث بقوله: "مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرهَا." أي لا أنوي غير العفو! فعفا عنه وأكرمه! هذا هو سلطان العالم، سلطان الإيمان، سلطان الفقه، سلطان التسامح، سلطان العفو.
هذا هو السلطان المحمدي الذي سار على منهاج النبوة، فهو إنما يتبع بذلك سلطان الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حينما فتح مكة، إذ به يقول لكفار قريش الذين حاربوه وآذوه وطردوه وقتلوا عمه وتسببوا في موت أعز زوجة عليه: "اذهبوا فأنتم الطلقاء!" صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد انقلب رومانوس من باغض وعدو للسلطان السلجوقي إلى صديق محب، فهو في رسالة أرسلها فيما بعد عبّر عمّا يشعر به من مشاعر الامتنان، فما كان من السلطان ألب أرسلان إلا أنه اتبع خُلُق القرآن: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت 34)
بل إن إكرام هذا السلطان الكريم، تعدّى معاملة قوم الملك الرومي له، فحينما عاد رومانوس إلى شعبه تفاجأ بأنهم قد نصّبوا ملكاً آخر مكانه، وماذا كانت مقابل جهود ملكهم رومانوس الكبيرة؟ سمّلوا عينيه ونفوه!
لا نتعجب حينما نقرأ هذه الأخلاق في سيرة سلطان العالم ألب أرسلان، فناصحه ومستشاره ووزيره نظام الملك كان من أهل العلم والصلاح، وسمع الحديث من الإمام الزاهد العابد القشيري، وصاحب الشاعر الصالح عمر الخيام، وهو مؤسس المدارس النظامية بنيسابور وبغداد (والتي ترأسها إمام الحرمين الجويني ثم حجة الإسلام الغزالي)، وهي تعتبر من أقدم الجامعات في العالم، فكان مشجع للعلم والعلماء، ومعظم لهم حتى قال عنهم: "هؤلاء جمال الدنيا والآخرة"، وكان صاحب الصيام والصلاة، وخدمة الفقراء، وهو المتمثل لموضوعنا هنا في التسامح والعفو والتي هي من نتائج نقد الذات بدلاً من تتبع عيوب الآخرين، فيقول عنه الإمام الذهبي:
"يُعْجِبُهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ عيوبَ نَفْسه، فَيَنكسِرُ وَيَبْكِي."
ولذلك فهو كما يصفه ابن الأثير بأنه كان "حليماً، كثير الصفح عن المذنبين"، بل وحتى حينما طُعن في صدره علي يد أحد الباطنية غيلة، قال:
"لاَ تَقتلُوا قَاتلِي، قَدْ عَفْوتُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله."
ما أجمل كلمة "قد عفوت" حتى وإن أخسرتك حياتك! "قد عفوت" جربها كثيراً في حياتك لتسمعها كثيراً بعد مماتك، اكسر نفسك قليلاً من أجل العفو والصفح عن الناس لتجد رباً غفوراً رحيماً عفواً.
قل: "قد عفوت، واغفر لهم زلتهم".
لقد امتاز هذا الملك بالتسامح مع المسيء، فهو يجسد مثالاً إسلامياً على العفو والصفح، تأتيه رسالة شكوى أحدهم على وزيره، فيستدعي وزيره ليعطيه الرسالة، فما الذي تتوقع أن يقوله لوزيره؟ ارهف السمع أيها القارئ ولنتعلم أساس الدين الإسلامي كله في جملة واحدة:
"خذ إن كان هذا صحيحاً فهذّب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم."
ماذا ماذا؟ هم يكذبون عليه فيأمره بأن يغفر لهم! بل ويعتبرها زلة؟ كذب وتعنت وخداع ويسميها زلة؟ نعم فالدين قد بُني على حسن الظن بالغير، يكون الإنسان صاحب حرص وحذر ولكن مع النظر إلى محاسن الناس، ألم يُنقل عن التابعي الجليل سعيد بن المسيب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع أمر أخيك على أحسنه"، ولكن كيف أنظر إلى الخير فيمن يضرني ويؤذيني؟ يروي لنا البيهقي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: "إذا بلغك عن أخيك شيء تنكره فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته، وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه."
إن وضع الأعذار للغير إنما هو تدريب للنفس على عدم التحامل والبغض، وبالتالي ينتج من ذلك التسامح والصفح والعفو، فمهما أساء الناس إليك و"كذبوا فاغفر لهم زلتهم."، وما هذه إلا قاعدة قرآنية: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران 159) وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة 13)
ويصل الإسلام إلى مستوى يعلمنا فيه عدم التشفي على الغير بتحريم الغيبة وهي أن تتحدث عن شخص بما يكرهه وهو لا يعلم، بل وبدلاً من أن ننشغل بعيوب الآخرين علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاشتغال بإصلاح عيوب أنفسنا؛ حيث قال: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبَهُ عَنْ عُيُوبِ اَلنَّاسِ."
ونهى الإسلام عن الشتم حتى ولو كان الشخص أمامك، ليعلمنا طهر اللسان مما يعين على طهر الجَنَان، فتكون نقياً في الظاهر صافياً في الباطن، ولذلك يشير المولى عز وجل في كتابه العزيز بأن مدار النجاح والفلاح في الآخرة: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء 89)، وكلنا يعرف قصة سعد الذي بشّر النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة، فسألوه عن السبب فأشار إلى أنه لا ينام إلا ولا يحمل في قلبه الضغينة على أحد.
فالمؤمن سليم القلب، سليم اللسان، سليم الأفعال، يملؤه السلام في كل شيء، حتى وإن آذاه مؤذٍ فإنه في سلام، قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (الفرقان 63)
وحينما يمتلئ المؤمن بالصفاء والسلام في دنياه تكون آخرته جنتها مبنية كلها على الصفاء والسلام: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} (الواقعة 25-26)، وقال عز من قائل: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر 46-47)
وما كان يتميز به سلطان العالم ألب أرسلان من رقة القلب، ومن الشفقة على المساكين، ونصرة المظلومين، وكذلك الكرم، إلا لأنه فقه معنى سماحة القلب، فتذللت صعاب نفسه، ولان قلبه، فأصبح لا يعرف إلا الشفقة والرحمة على الآخرين، والعفو والصفح عن المسيئين.
إن قلب ألب أرسلان لم يسع الكذابين والمذنبين من بني قومه وأهل دينه فقط، وإنما له موقف تسامحي حتى مع من حاربه من غير المسلمين، فهذا ملك الروم رومانوس الرابع يأتي بجيش جرار قوامه 200,000 مقاتل من الروم والخزر والروس والفرنجة والكرج والأرمن والبلغار، يريد أن يغزو المسلمين السلاجقة في عقر دارهم (في جهة الشرق) ثم ينفث من هناك إلى وسط وغرب الدولة الإسلامية فيطيح بالخلافة العباسية في بغداد ومن بعدها الشام ومصر والمغرب العربي، فيستأصل شأفة الإسلام، ويبيد المسلمين.
لم يكن مع الملك البطل ألب أرسلان إلا العدد القليل من المدافعين، فهم ليسوا إلا عشرين ألف مقاتل (أي مجرد عُشر الجنود الأوربيين!)، فما الذي يفعله هذا السلطان الشجاع؟ أولاً يطلب الهدنة مع الروم، ولكن تبوء المحاولة بالفشل، بل ويعامل ملك الروم رسول السلطان معاملة فظة فيها من الإهانة والتقبيح، ويزيد ملك الروم من التنكيل بقوله: " لاَ هُدْنَة إِلاَّ بِبذلِ الرَّيِّ." أي بوصولهم إلى مدينة الري عاصمة دولة السلاجقة، فلا يبقى لدى السلطان إلا خيار المواجهة، فأي مواجهة تكون من ثلة قليلة أمام جيش عتيد ضخم كبير؟
يتسلح السلطان المؤمن بإيمانه، فالله أقوى من ملك الروم ومن جميع الشعوب التي جاءت مع الروم، فهو في موقف مماثل قد سبق أن مرّّ به السلطان أمام أحد الثائرين عليه، فيقول له مستشاره وناصحه الوزير نِظَام المُلْك وقتها:
"أيها الملك لا تخف، فإني قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه، كائنا من كان. قال له الملك: من هم؟ قال: جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء."
وبالتالي كان سلاح الدعاء أقوى من أي سلاح، إنه سلاح التذلل والخضوع لخالق السماء والأرض، إنه سلاح الخشوع وسر الوجود، إنه إكسير الحياة ومخ الأسرار، إنه الشعور بالانفراد عن الكون كله بمن سخّر كل شيء تحت عظمته، إنه الاعتماد على الكبير صاحب الجلال والبهاء، صاحب القوة والحول والإرادة، لا إله إلا هو، ولا غالب إلا هو.
ولذلك في صدّه للروم كرّر الملك الخاشع نفس السلاح، فأكثر من الصلاة والدعاء، وأكثر من الصلاة والدعاء، وأكثر من الصلاة والدعاء، بقلب منكسر، ولب خاشع، ثم قبل أن يتحرك الجيش صلى صلاة مودعٍ خلف الشيخ أبي نصر، والذي قال له:
"إِنَّك تُقَاتلُ عَنْ دينٍ وَعَدَ اللهُ بِنصرِهِ وَإِظهَارِهِ عَلَى الأَديَان، فَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ الله قَدْ كتب باسمِكَ هَذَا الفَتْحَ، وَالْقهم يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالسَّاعَةَ يَكُوْن الخُطَبَاءُ عَلَى المَنَابِر يَدعُوْنَ لِلمُجَاهِدينَ."
وحينما صلّوا "بكى السلطان وبكى الناس، ودعا وأمنوا" ، ولم ينس السلطان أن اتضاعه أمام ربه يقتضي تواضعه أمام الناس، فنادى خالعاً عن نفسه مكانة المُلك وأبهة السلطنة، إلى جانب إدراكه لصعوبة المواجهة مع الروم، والتي أشبه بعملية انتحارية، فأعطى الضوء الأخضر لمن أراد أن يترك الجيش وينسحب:
"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصرفَ فَلينصرف، فَمَا ثَمَّ سُلْطَانٌ يَأْمرُ وَلاَ يَنَهَى."
ثم عقد ذنب فرسه وتبعه الجيش في ذلك، ولبس البياض وتحنط استعداداً للموت، قائلاً: "إن قتلت فهذا كفني." ومضى إلى لقاء العدو.
وما أن تقارب الجيشان لم ينس ربه في اللحظة الأخيرة حتى انهمر إلى الأرض ساجداً لله، متضرعاً وممرغاً وجهه في التراب، متذللاً لرب العزة، ثم قام كما يقوم الأسد من عرينه (ومن العجيب أن كلمة "ألب أرسلان" تعني الأسد الشجاع).
فانطلق الجيش المسلم صاحب العدد القليل أمام تيار جارف من الأعداد الهائلة من الروم وحلفائهم، وكلٌّ يضرب بأقوى ما عنده، وتهافتت السيوف، واستحر القتل، فئة قليلة أمام جمهور كبير، ولكن الله إذا أراد شيئاً فإنه يكون، فما الكرة الأرضية ودورانها وسير الأفلاك في مجاريها إلا بقدرة العزيز العظيم، فكان النصر لتلك الفئة على ذلك الجمهور، نصر من الله وفضل وكرامة.
انتصر جيش المسلمين على الروم في تلك المعركة الخالدة، والتي عُرفت بمعركة ملاذكرد (عام 463 هـ/1070 م)، واعتبرها المؤرخون الأوروبيون (أمثال نورويتش والسير ستيفن رونسيمان) كأعظم كارثة حلّت على الدولة الرومية البيزنطية على مدى التاريخ!
ولم يقف النصر في هزيمة الخصوم فقط، بل المفاجأة أن ملك الروم رومانوس نفسه كان من الأسرى الذين قبض عليهم المسلمون! كرامة من الله وفضل ورحمة، وعظمة على عظمة!
ويؤتى برومانوس مخلوعاً من كبريائه، خاضعاً ذليلاً أمام تلك الفئة المستضعفة، ويُجلب أمام السلطان - سلطان العالم، فيقول له السلطان:
"مَا كُنْتَ تَفْعَلُ لَوْ أَسَرْتَنِي؟
قَالَ [رومانوس]:كُلُّ قبيح.
قَالَ [السلطان]:فَمَا تُؤَمِّلُ وَتَظُنُّ بِي؟
قَالَ [رومانوس]:القتلُ أَوْ تُشهّرُنِي فِي بلاَدك، وَالثَّالِثَة بعيدَةٌ:العفوُ وَقبولُ الفِدَاء."
تخيل أيها القارئ الملك رومانوس ألّب الأمم على سلطان المسلمين، وكان ينوي اجتثاثه وقتله وتدمير مملكته، وعامله بازدراء حينما رفض الهدنة، وهجم عليه في عقر داره، بل ويصرّح له بأنه لو أسره فإنه سيفعل به كل ما هو قبيح! فماذا كان عمل السلطان بالمقابل؟
اختار السلطان الخيار الثالث بقوله: "مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرهَا." أي لا أنوي غير العفو! فعفا عنه وأكرمه! هذا هو سلطان العالم، سلطان الإيمان، سلطان الفقه، سلطان التسامح، سلطان العفو.
هذا هو السلطان المحمدي الذي سار على منهاج النبوة، فهو إنما يتبع بذلك سلطان الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حينما فتح مكة، إذ به يقول لكفار قريش الذين حاربوه وآذوه وطردوه وقتلوا عمه وتسببوا في موت أعز زوجة عليه: "اذهبوا فأنتم الطلقاء!" صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد انقلب رومانوس من باغض وعدو للسلطان السلجوقي إلى صديق محب، فهو في رسالة أرسلها فيما بعد عبّر عمّا يشعر به من مشاعر الامتنان، فما كان من السلطان ألب أرسلان إلا أنه اتبع خُلُق القرآن: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت 34)
بل إن إكرام هذا السلطان الكريم، تعدّى معاملة قوم الملك الرومي له، فحينما عاد رومانوس إلى شعبه تفاجأ بأنهم قد نصّبوا ملكاً آخر مكانه، وماذا كانت مقابل جهود ملكهم رومانوس الكبيرة؟ سمّلوا عينيه ونفوه!
لا نتعجب حينما نقرأ هذه الأخلاق في سيرة سلطان العالم ألب أرسلان، فناصحه ومستشاره ووزيره نظام الملك كان من أهل العلم والصلاح، وسمع الحديث من الإمام الزاهد العابد القشيري، وصاحب الشاعر الصالح عمر الخيام، وهو مؤسس المدارس النظامية بنيسابور وبغداد (والتي ترأسها إمام الحرمين الجويني ثم حجة الإسلام الغزالي)، وهي تعتبر من أقدم الجامعات في العالم، فكان مشجع للعلم والعلماء، ومعظم لهم حتى قال عنهم: "هؤلاء جمال الدنيا والآخرة"، وكان صاحب الصيام والصلاة، وخدمة الفقراء، وهو المتمثل لموضوعنا هنا في التسامح والعفو والتي هي من نتائج نقد الذات بدلاً من تتبع عيوب الآخرين، فيقول عنه الإمام الذهبي:
"يُعْجِبُهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ عيوبَ نَفْسه، فَيَنكسِرُ وَيَبْكِي."
ولذلك فهو كما يصفه ابن الأثير بأنه كان "حليماً، كثير الصفح عن المذنبين"، بل وحتى حينما طُعن في صدره علي يد أحد الباطنية غيلة، قال:
"لاَ تَقتلُوا قَاتلِي، قَدْ عَفْوتُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله."
ما أجمل كلمة "قد عفوت" حتى وإن أخسرتك حياتك! "قد عفوت" جربها كثيراً في حياتك لتسمعها كثيراً بعد مماتك، اكسر نفسك قليلاً من أجل العفو والصفح عن الناس لتجد رباً غفوراً رحيماً عفواً.
قل: "قد عفوت، واغفر لهم زلتهم".