الليبراليون العرب هل هم حقاً ليبراليون؟
أحمد دعدوش
الليبرالية الجديدة تيار فكري حديث يُشكل امتداداً لليبرالية الكلاسيكية الغربية التي نشأت في كل من إنجلترا وفرنسا إبَّان عصر النهضة، والتي تُعدّ بمثابة منظومة أيديولوجية متكاملة تتناول كافة أشكال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تمتد لتشمل المناهج العلمية والفكرية وتحدد أدواتها وآلية عملها. وتعود نشأة الليبرالية الجديدة إلى منتصف القرن الميلادي الماضي، كردِّ فعل لإخفاق الليبرالية الكلاسيكية في تجنيب العقل الأوروبي تبعات التطرف العقائدي، والذي استفحل مع بروز الحركات الفاشية والقومية، وحتى الشيوعية التي خرجت كسابقاتها من رحم الفلسفة المادية، وهي المرجعية الأم للعقل الأوروبي الحديث بكافة أطيافه.
ومع تراجع الليبرالية الكلاسيكية التي حُمّلت الكثير من أوزار الحربين العالميتين، بدأت مرحلة جديدة من النقد وإعادة البناء في محاولة لإنقاذ الثقافة الليبرالية الغربية، فظهرت «الكينزية كتعديل ضروري وعاجل للاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي ليسمح للدولة بالتدخل وإدارة الأزمات، وفي الفلسفة والآداب بدأ المفكرون والنقاد بوضع تصوراتهم المختلفة لمرحلة «ما بعد الحداثة. وفي السياسة برزت مفاهيم التكتل والأحلاف والاحتواء. أما الميدان العلمي فقد شهد انحساراً لنزعة المركزية الأوروبية المتعالية، وبدأ العلماء يدركون أن معرفتهم بالكون ما زالت أقل بكثير من تحقيق آمال القرن العشرين في الإحاطة بأسراره.
وفي هذا المقال سنقوم بإضاءة بعض النقاط التي توضح الفرق الكبير بين الليبرالية الغربية وصورتها المستوردة في العالم العربي والإسلامي، انطلاقاً من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كردِّ فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قِبَل النبلاء والإقطاعيين الغربيين من جهة أخرى. وعبر تحالف السلطتين الدينية والسياسية الإقطاعية تمكن رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية الأوروبية، وحرّموا على العلماء والمفكرين الخوض في الكثير من القضايا التي أعطيت صفة القداسة، ومن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلكي الإيطالي «غاليليه لادِّعائه دوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهو الأمر الذي يتناقض مع رأي الكنيسة التي تبنّت نظرية «بطليموس وألبستها مسوح القداسة.
أما الإقطاعية فقد أخضعت الطبقة العاملة لنظامها الطبقي الجائر، وهو الأمر الذي دفع الطبقة البورجوازية الناشئة للتحالف مع العمال والفلاحين في سبيل التحرر من نير الإقطاع وإحلال الفكر الليبرالي الذي يحقق للفرد حريته وكرامته. وفي المقابل، فإن واقع مجتمعنا الشرقي الإسلامي يكاد يختلف جذرياً عن هذا النموذج الأوروبي، فضلاً عن الفرق الكبير في المنهجين الفكري والسلوكي لدى الليبراليين العرب عما هو متعارف عليه في الليبرالية الغربية، وسنسعى لتوضيح ذلك من خلال المقارنة التالية بين الطرفين:
1 ـ لقد قامت حركة التنوير الأوروبية وفق تسلسل مرحلي تلقائي؛ بدءاً من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة منها عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها السابقة، فكانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرر العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر، وإعفاءه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، ونادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلّمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملّص من الإيمان الديني عند معظم العلمانيين، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، ومن ثَم عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس.
أما في الشرق؛ فقد عمد أتباع الليبرالية العربية إلى اختزال المراحل التسلسلية ـ السابق ذكرها ـ من تطور الحركة التنويرية من العلمانية والليبرالية والديمقراطية وبشكل مبتسر؛ إذ ينادي معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري والراديكالي للمفهوم الليبرالي الديمقراطي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة سحرية يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي وبشكل فوري.
من جهة أخرى، يقتصر مفهوم العلمانية لدى الكثير من الليبراليين العرب على حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي ـ الذي يراد عزله ـ وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلاً تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي. إذ لم يرد في التاريخ الإسلامي أي ذكر لاضطهاد العلماء باسم الإسلام، كما لم تنشأ خلال العصور الوسطى أي طبقة كهنوتية تُخضِع لسلطانها طبقة أخرى تسمى طبقة العلماء، بل نجد أن معظم العلماء المسلمين الذين نقل لنا التاريخ إبداعهم العلمي في أي من فروعه، كانوا قد نشؤوا على التربية الدينية السائدة في ذلك العصر، والتي تقضي بترسيخ القاعدة العلمية الدينية من علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة واللغة، قبل أن يتوجه طالب العلم لاختيار التخصـص الـذي يـريـده مـن علـوم دينيـة أو تجريبية. ولم يحدث أن اشتكى أي من علماء الإسلام من التناقض الذي يمكن أن يحدث بين عقيدته الإيمانية والتزامه بتعاليمها السلوكية والشعائرية، وبين أبحاثه وتجاربه في كافة ميادين العلم التجريبي والطبيعي.
أما ما ينسب للإسلام من اضطهاد للفلاسفة فهو أمر خارج عن نطاق المقارنة؛ إذ لم يكن حظرُ معظم علماء الدين الإسلامي للفلسفة إلا حظراً لدراسة العقيدة بأدوات الفلسفة اليونانية التي كانت قد نشأت في مجتمع وثني لم يحظَ بنور الوحي والرسالة، وهو أمر لا يعدو أن يكون وضعاً للأمور في مكانها الصحيح، ولو أن البحث لم يتناول الإلهيات والغيبيات وظل مقتصراً على الجانب الطبيعي التجريبي لما وُجد في التاريخ الإسلامي شيء يُذكر مما يتشبث به النقاد، علماً أن الحظر الإسلامي للبحث الفلسفي لا يختلف في جوهره عن الحظر المطبق في الكثير من الدول الليبرالية اليوم على الفكر المناهض للثقافة الغربية.
2 ـ بناء على التسلسل المرحلي السابق ذكره، فإن الليبرالية الاقتصادية والأيديولوجية لم تنشأ في الغرب إلا بعد شيوع العلمنة وتخليص العلم من سلطان الكهنوت، وهكذا فقد كان من الطبيعي أن تثور العقلية العلمانية على أيديولوجيا التسليم بالمطلق ومنح العلم صفة النسبية. وتزامن ذلك مع تطلع الفرد للتحرر الاقتصادي من نير الإقطاع، وتحالف البورجوازية الناشئة مع الطبقة الكادحة التي أصبحت أكثر وعياً وثقافة، مما أدّى إلى تقلّص سلطات الإقطاعيين ومنح الطبقات الدنيا حرية العمل والتملك.
أما في النظام السياسي- الاقتصادي الإسلامي، فعلى الرغم من انحسار التطبيق العادل لتعاليم الإسلام في مراحل متعددة من التاريخ السياسي الإسلامي، إلا أن إلباس هذا التاريخ حُلّةَ الإقطاع الأوروبي ليس إلا محض عبث، وخصوصاً أن علماء الدين الإسلامي كانوا يشكلون صف المعارضة الأول للاستبداد السياسي على مرِّ العصور، ولم يكن التحالف المزعوم بين الفريقين على الشكل الذي يراد له أن يكون في قراءة الليبراليين لهذا التاريخ. فضلاً عن أن النظام الاقتصادي في المجتمع الإسلامي لم يكن إقطاعياً من أي وجه، ولا يمكن تبرير هذه القراءة للتاريخ بالنظر إلى أملاك السلطان وأصحاب الجاه مع غضِّ الطرف عن الحرية الاقتصادية في العمل والتملك، وانتشـار الأوقـاف التي كـانت تزيـد على كل ممتلكات السلطان - كما في بلاد الشام - وهذا أمر يتنافى مع أولى بديهيات الإقطاع.
3 ـ إثر ذلك التغيير العقلي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي نشأ النظام الديمقراطي كتطور تلقائي ليحل بديلاً عن نظام التوريث الإقطاعي الملكي، وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغل الفكر العلماني الليبرالي في المجتمع، والذي أشاع مبادئ الحرية الفردية وحق تقرير المصير، مما أدَّى إلى تدخل الأفراد في انتخاب السلطة الحاكمة، ومن ثم نشوء النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع ورأي الأغلبية.
وفي المقابل نجد أن الليبراليين العرب قد تجاوزوا كل هذه المراحل سعياً لإحلال النظام السياسي الديمقراطي دون التعرض لليبرالية الأيديولوجية وسياقها التاريخي، بل لم يجد بعضهم ضيراً في الاستعانة بالخارج والاتِّكال على الغرب لإحلال هذا النظام بالقوة إن دعت الحاجة، دون التعرض لحقيقة نوايا هؤلاء الحلفاء وأطماعهم في المشرق الإسلامي التي لا يخفيها الغرب نفسه.
4 ـ لم يذكر لنا تاريخ النهضة الأوروبية أن أحداً من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوروبي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوروبا، سواء كان ذلك من جهة الاقتباس والإفادة من مجتمع يبادله الشعور بالندّية أو من جهة التقليد القائم على الشعور بالنقص. أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ إذ لم يسعَ مفكرو أي أمة من الأمم النامية في العصر الحديث إلى مثل هذا الاستنساخ المقصود للعقلية الغربية ومحاولة إحلالها كبديل عن الواقع المحلي، وبالشكل الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يسمى بحركة النهضة العربية. يقول زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي): «هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا القبول، وتمثل ما قبلناه.
5 ـ الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سِمَات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز؛ فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحـده، سـواء كـان العقل غربـياً أو شرقياً، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقاً من مركزيته الأوروبية. أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه «الإسلاميين إذ نجده لا يقل تمجيداً وتقديساً لمرجعيته الليبرالية إلى حدٍّ يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها؛ ففي الوقت الذي يُؤخذ فيه على «الإسلامي تقديسه للنص الديني واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكاً بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوروبية.
6 ـ امتـداداً لما سبق ذكـره؛ فإن الليـبرالي العربي يلجأ عادة إلى التبرير عند محاكمة الـغـرب على أخطـائه، بـل ـ يلـجأ لا شعورياً ـ إلى تحميل الذات المسؤولية عن كل خطأ وكأنه بات أسيراً لعقدة الذنب. وقد يتطور الأمر لدى بعضهم إلى إدانة شبه مطلقة لكل ما هو عربي - إسلامي، فتتحول دراسة التاريخ الإسلامي من النقد الموضوعي ـ بهدف طرح القداسة عنه ـ إلى بحث متعمد عن أخطاء الماضي وإدانة رموزه وتجريمهم، بل الافتراء عليهم إن دعت الحاجة، إلى درجة تشبيه «محمد الفاتح بشارون وستالين في ترحيله نصارى القسطنطينية إلى أوروبا بالرغم من احتمائهم بتاجه السلطاني من ظلم الفاتيكان، ولا غرو - والحال هذه - في الادعاء أن الخليفة بعد الفتح قد تدثر «مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية فقط لكـونه خـلـيفة علـى طريقة التوريث ولم يصـل إلـى الحـكم بصنـاديق الاقتراع الديمقراطي ورغـم أنف التـاريخ. [خالص جـلـبي، الـشرق الأوسط: العـدد (8310) بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1422هـ]، والأمر ذاته ينسحب على «صلاح الدين الذي لم يشفع له شيء من إنجازاته عندما اكتشف الكاتب الليبرالي أنه قد أمر بقتل السهرَوَرْدي المتهم بالزندقة، ثـم ترك مملكـتـه لوارثـي الحـكـم من أبنـائه وإخـوته بـدلاً من سعـيه لإحلال الديمـقراطية. [الكـاتب نفـسه، الشرق الأوسط: 4 ربيـع الثانـي 1426 هـ، 12 مايو 2005 العدد 9662].
وبهذه العقلية المنهزمة، لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة؛ إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية للاستعمار، ولا يجد في احتلال العراق إلا خروجاً بعضهم قومياً عن المنظومة الدولية، بل لا تعدو المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك «المتشددون أبعادهـا، أمـا العولمة - بوجهها الأمريكي السافر - فتتحول لدى بعضهم إلى نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني (بالمفهوم الهيوماني الشامل) والذي ما زال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى.
وهكذا؛ فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوماً ذاتياً لا موضوعياً؛ بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصِّي النواقص في الأول، وتلمُّس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغضِّ النظر عن تفهّم حاجة الأول، وأخطاء الثاني.
وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي؛ ففي الوقت الذي يلوم فيه «الإسلامي على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقاً من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقاً من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضاً مع واحدة من أهم مسلّمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.
ختاماً:
فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوربا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوربي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن. وعليه، فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه، أن يُنعموا النظر أولا في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقا للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يُعملوا عقولهم في استنباط نظام ليبرالي حر يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمّن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية. وعندئذ يمكن لغير الليبرالي العربي أن يطمئن في حواره مع من يدعي الليبرالية بأن الحوار سوف لن يكون عقيما.
صيد الفوائد
http://saaid.net/mktarat/almani/53.htm
أحمد دعدوش
الليبرالية الجديدة تيار فكري حديث يُشكل امتداداً لليبرالية الكلاسيكية الغربية التي نشأت في كل من إنجلترا وفرنسا إبَّان عصر النهضة، والتي تُعدّ بمثابة منظومة أيديولوجية متكاملة تتناول كافة أشكال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تمتد لتشمل المناهج العلمية والفكرية وتحدد أدواتها وآلية عملها. وتعود نشأة الليبرالية الجديدة إلى منتصف القرن الميلادي الماضي، كردِّ فعل لإخفاق الليبرالية الكلاسيكية في تجنيب العقل الأوروبي تبعات التطرف العقائدي، والذي استفحل مع بروز الحركات الفاشية والقومية، وحتى الشيوعية التي خرجت كسابقاتها من رحم الفلسفة المادية، وهي المرجعية الأم للعقل الأوروبي الحديث بكافة أطيافه.
ومع تراجع الليبرالية الكلاسيكية التي حُمّلت الكثير من أوزار الحربين العالميتين، بدأت مرحلة جديدة من النقد وإعادة البناء في محاولة لإنقاذ الثقافة الليبرالية الغربية، فظهرت «الكينزية كتعديل ضروري وعاجل للاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي ليسمح للدولة بالتدخل وإدارة الأزمات، وفي الفلسفة والآداب بدأ المفكرون والنقاد بوضع تصوراتهم المختلفة لمرحلة «ما بعد الحداثة. وفي السياسة برزت مفاهيم التكتل والأحلاف والاحتواء. أما الميدان العلمي فقد شهد انحساراً لنزعة المركزية الأوروبية المتعالية، وبدأ العلماء يدركون أن معرفتهم بالكون ما زالت أقل بكثير من تحقيق آمال القرن العشرين في الإحاطة بأسراره.
وفي هذا المقال سنقوم بإضاءة بعض النقاط التي توضح الفرق الكبير بين الليبرالية الغربية وصورتها المستوردة في العالم العربي والإسلامي، انطلاقاً من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كردِّ فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قِبَل النبلاء والإقطاعيين الغربيين من جهة أخرى. وعبر تحالف السلطتين الدينية والسياسية الإقطاعية تمكن رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية الأوروبية، وحرّموا على العلماء والمفكرين الخوض في الكثير من القضايا التي أعطيت صفة القداسة، ومن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلكي الإيطالي «غاليليه لادِّعائه دوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهو الأمر الذي يتناقض مع رأي الكنيسة التي تبنّت نظرية «بطليموس وألبستها مسوح القداسة.
أما الإقطاعية فقد أخضعت الطبقة العاملة لنظامها الطبقي الجائر، وهو الأمر الذي دفع الطبقة البورجوازية الناشئة للتحالف مع العمال والفلاحين في سبيل التحرر من نير الإقطاع وإحلال الفكر الليبرالي الذي يحقق للفرد حريته وكرامته. وفي المقابل، فإن واقع مجتمعنا الشرقي الإسلامي يكاد يختلف جذرياً عن هذا النموذج الأوروبي، فضلاً عن الفرق الكبير في المنهجين الفكري والسلوكي لدى الليبراليين العرب عما هو متعارف عليه في الليبرالية الغربية، وسنسعى لتوضيح ذلك من خلال المقارنة التالية بين الطرفين:
1 ـ لقد قامت حركة التنوير الأوروبية وفق تسلسل مرحلي تلقائي؛ بدءاً من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة منها عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها السابقة، فكانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرر العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر، وإعفاءه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، ونادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلّمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملّص من الإيمان الديني عند معظم العلمانيين، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، ومن ثَم عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس.
أما في الشرق؛ فقد عمد أتباع الليبرالية العربية إلى اختزال المراحل التسلسلية ـ السابق ذكرها ـ من تطور الحركة التنويرية من العلمانية والليبرالية والديمقراطية وبشكل مبتسر؛ إذ ينادي معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري والراديكالي للمفهوم الليبرالي الديمقراطي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة سحرية يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي وبشكل فوري.
من جهة أخرى، يقتصر مفهوم العلمانية لدى الكثير من الليبراليين العرب على حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي ـ الذي يراد عزله ـ وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلاً تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي. إذ لم يرد في التاريخ الإسلامي أي ذكر لاضطهاد العلماء باسم الإسلام، كما لم تنشأ خلال العصور الوسطى أي طبقة كهنوتية تُخضِع لسلطانها طبقة أخرى تسمى طبقة العلماء، بل نجد أن معظم العلماء المسلمين الذين نقل لنا التاريخ إبداعهم العلمي في أي من فروعه، كانوا قد نشؤوا على التربية الدينية السائدة في ذلك العصر، والتي تقضي بترسيخ القاعدة العلمية الدينية من علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة واللغة، قبل أن يتوجه طالب العلم لاختيار التخصـص الـذي يـريـده مـن علـوم دينيـة أو تجريبية. ولم يحدث أن اشتكى أي من علماء الإسلام من التناقض الذي يمكن أن يحدث بين عقيدته الإيمانية والتزامه بتعاليمها السلوكية والشعائرية، وبين أبحاثه وتجاربه في كافة ميادين العلم التجريبي والطبيعي.
أما ما ينسب للإسلام من اضطهاد للفلاسفة فهو أمر خارج عن نطاق المقارنة؛ إذ لم يكن حظرُ معظم علماء الدين الإسلامي للفلسفة إلا حظراً لدراسة العقيدة بأدوات الفلسفة اليونانية التي كانت قد نشأت في مجتمع وثني لم يحظَ بنور الوحي والرسالة، وهو أمر لا يعدو أن يكون وضعاً للأمور في مكانها الصحيح، ولو أن البحث لم يتناول الإلهيات والغيبيات وظل مقتصراً على الجانب الطبيعي التجريبي لما وُجد في التاريخ الإسلامي شيء يُذكر مما يتشبث به النقاد، علماً أن الحظر الإسلامي للبحث الفلسفي لا يختلف في جوهره عن الحظر المطبق في الكثير من الدول الليبرالية اليوم على الفكر المناهض للثقافة الغربية.
2 ـ بناء على التسلسل المرحلي السابق ذكره، فإن الليبرالية الاقتصادية والأيديولوجية لم تنشأ في الغرب إلا بعد شيوع العلمنة وتخليص العلم من سلطان الكهنوت، وهكذا فقد كان من الطبيعي أن تثور العقلية العلمانية على أيديولوجيا التسليم بالمطلق ومنح العلم صفة النسبية. وتزامن ذلك مع تطلع الفرد للتحرر الاقتصادي من نير الإقطاع، وتحالف البورجوازية الناشئة مع الطبقة الكادحة التي أصبحت أكثر وعياً وثقافة، مما أدّى إلى تقلّص سلطات الإقطاعيين ومنح الطبقات الدنيا حرية العمل والتملك.
أما في النظام السياسي- الاقتصادي الإسلامي، فعلى الرغم من انحسار التطبيق العادل لتعاليم الإسلام في مراحل متعددة من التاريخ السياسي الإسلامي، إلا أن إلباس هذا التاريخ حُلّةَ الإقطاع الأوروبي ليس إلا محض عبث، وخصوصاً أن علماء الدين الإسلامي كانوا يشكلون صف المعارضة الأول للاستبداد السياسي على مرِّ العصور، ولم يكن التحالف المزعوم بين الفريقين على الشكل الذي يراد له أن يكون في قراءة الليبراليين لهذا التاريخ. فضلاً عن أن النظام الاقتصادي في المجتمع الإسلامي لم يكن إقطاعياً من أي وجه، ولا يمكن تبرير هذه القراءة للتاريخ بالنظر إلى أملاك السلطان وأصحاب الجاه مع غضِّ الطرف عن الحرية الاقتصادية في العمل والتملك، وانتشـار الأوقـاف التي كـانت تزيـد على كل ممتلكات السلطان - كما في بلاد الشام - وهذا أمر يتنافى مع أولى بديهيات الإقطاع.
3 ـ إثر ذلك التغيير العقلي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي نشأ النظام الديمقراطي كتطور تلقائي ليحل بديلاً عن نظام التوريث الإقطاعي الملكي، وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغل الفكر العلماني الليبرالي في المجتمع، والذي أشاع مبادئ الحرية الفردية وحق تقرير المصير، مما أدَّى إلى تدخل الأفراد في انتخاب السلطة الحاكمة، ومن ثم نشوء النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع ورأي الأغلبية.
وفي المقابل نجد أن الليبراليين العرب قد تجاوزوا كل هذه المراحل سعياً لإحلال النظام السياسي الديمقراطي دون التعرض لليبرالية الأيديولوجية وسياقها التاريخي، بل لم يجد بعضهم ضيراً في الاستعانة بالخارج والاتِّكال على الغرب لإحلال هذا النظام بالقوة إن دعت الحاجة، دون التعرض لحقيقة نوايا هؤلاء الحلفاء وأطماعهم في المشرق الإسلامي التي لا يخفيها الغرب نفسه.
4 ـ لم يذكر لنا تاريخ النهضة الأوروبية أن أحداً من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوروبي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوروبا، سواء كان ذلك من جهة الاقتباس والإفادة من مجتمع يبادله الشعور بالندّية أو من جهة التقليد القائم على الشعور بالنقص. أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ إذ لم يسعَ مفكرو أي أمة من الأمم النامية في العصر الحديث إلى مثل هذا الاستنساخ المقصود للعقلية الغربية ومحاولة إحلالها كبديل عن الواقع المحلي، وبالشكل الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يسمى بحركة النهضة العربية. يقول زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي): «هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا القبول، وتمثل ما قبلناه.
5 ـ الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سِمَات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز؛ فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحـده، سـواء كـان العقل غربـياً أو شرقياً، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقاً من مركزيته الأوروبية. أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه «الإسلاميين إذ نجده لا يقل تمجيداً وتقديساً لمرجعيته الليبرالية إلى حدٍّ يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها؛ ففي الوقت الذي يُؤخذ فيه على «الإسلامي تقديسه للنص الديني واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكاً بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوروبية.
6 ـ امتـداداً لما سبق ذكـره؛ فإن الليـبرالي العربي يلجأ عادة إلى التبرير عند محاكمة الـغـرب على أخطـائه، بـل ـ يلـجأ لا شعورياً ـ إلى تحميل الذات المسؤولية عن كل خطأ وكأنه بات أسيراً لعقدة الذنب. وقد يتطور الأمر لدى بعضهم إلى إدانة شبه مطلقة لكل ما هو عربي - إسلامي، فتتحول دراسة التاريخ الإسلامي من النقد الموضوعي ـ بهدف طرح القداسة عنه ـ إلى بحث متعمد عن أخطاء الماضي وإدانة رموزه وتجريمهم، بل الافتراء عليهم إن دعت الحاجة، إلى درجة تشبيه «محمد الفاتح بشارون وستالين في ترحيله نصارى القسطنطينية إلى أوروبا بالرغم من احتمائهم بتاجه السلطاني من ظلم الفاتيكان، ولا غرو - والحال هذه - في الادعاء أن الخليفة بعد الفتح قد تدثر «مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية فقط لكـونه خـلـيفة علـى طريقة التوريث ولم يصـل إلـى الحـكم بصنـاديق الاقتراع الديمقراطي ورغـم أنف التـاريخ. [خالص جـلـبي، الـشرق الأوسط: العـدد (8310) بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1422هـ]، والأمر ذاته ينسحب على «صلاح الدين الذي لم يشفع له شيء من إنجازاته عندما اكتشف الكاتب الليبرالي أنه قد أمر بقتل السهرَوَرْدي المتهم بالزندقة، ثـم ترك مملكـتـه لوارثـي الحـكـم من أبنـائه وإخـوته بـدلاً من سعـيه لإحلال الديمـقراطية. [الكـاتب نفـسه، الشرق الأوسط: 4 ربيـع الثانـي 1426 هـ، 12 مايو 2005 العدد 9662].
وبهذه العقلية المنهزمة، لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة؛ إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية للاستعمار، ولا يجد في احتلال العراق إلا خروجاً بعضهم قومياً عن المنظومة الدولية، بل لا تعدو المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك «المتشددون أبعادهـا، أمـا العولمة - بوجهها الأمريكي السافر - فتتحول لدى بعضهم إلى نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني (بالمفهوم الهيوماني الشامل) والذي ما زال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى.
وهكذا؛ فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوماً ذاتياً لا موضوعياً؛ بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصِّي النواقص في الأول، وتلمُّس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغضِّ النظر عن تفهّم حاجة الأول، وأخطاء الثاني.
وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي؛ ففي الوقت الذي يلوم فيه «الإسلامي على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقاً من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقاً من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضاً مع واحدة من أهم مسلّمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.
ختاماً:
فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوربا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوربي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن. وعليه، فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه، أن يُنعموا النظر أولا في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقا للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يُعملوا عقولهم في استنباط نظام ليبرالي حر يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمّن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية. وعندئذ يمكن لغير الليبرالي العربي أن يطمئن في حواره مع من يدعي الليبرالية بأن الحوار سوف لن يكون عقيما.
صيد الفوائد
http://saaid.net/mktarat/almani/53.htm