الإسلام الليبرالي
أو الضوء الذي يخفي الحقائق
محمد إبراهيم مبروك
يبدو أن قناعات المنظِّرين الأمريكيين من أمثال (هنتنجتون) و (فوكوياما) و (برنارد لويس) بأن الإسلام يملك الأيديولوجية الوحيدة القادرة على تحدي المنظومة الليبرالية العلمانية للحضارة قد غدت قناعات نهائية للسياسة الأمريكية بوجه عام.
ومع إصرار هذه السياسة على الانفراد بحكم العالم غدا قهر الإسلام وإرغامه على الالتحاق بالتبعية الغربية هو الهدف المحوري لتلك السياسة الذي تدور حوله باقي أهدافها الأخرى. ومع استعصاء الإسلام على هذا القهر الذي يتجلى في المقاومة الجهادية للأمريكيين في أماكن مختلفة من هذا العالم اقتضى العمل على اختراق الإسلام نفسه من الناحية الفكرية بابتداع ما يسمى بـ (الإسلام الليبرالي) الذي شاع عنه الحديث في المرحلة الأخيرة والذي يعني بكلمة مبسطة للغاية: ابتداع بناء مفاهيمي مزيف يجمع بين بعض الأطر الشكلية للإسلام والمضمون الليبرالي للحضارة الغربية القائمة، ويتم تبنيه ودعمه والترويج له بالطريقة التي تصنع منه الضوء الذي يخفي الحقائق.
الرصد والتنظير لمحاولات توظيف الإسلام للمصالح السياسية:
العمل على توظيف الإسلام للمصالح السياسية شأن قديم، مثله مثل كل ما يمكن العمل على توظيفه من معتقدات للمصالح السياسية في التاريخ الإنساني؛ حيث يتوقف النجاح في ذلك على مدى تيقُّظ أهل هذه المعتقدات لما يستهدفه أعداؤهم من اختراق لها؛ لدفعهم إلى الوجهة التي يريدون من خلال الخداع والتضليل.
ويمكن الحديث عن ثلاث محاولات للرصد والتنظير حول هذا الموضوع في النصف الثاني من القرن العشرين:
الأولى: هي ما رصده الأستاذ (سيد قطب) من محاولات أمريكية لتوظيف الإسلام لمصالحها السياسية أوائل تلك المرحلة الزمنيـة للعمـل على إرث الإمبـراطورية الإنجليزية، وسماه حينذاك بـ (الإسلام الأمريكاني).
الثانية: ما كان قائماً بالفعل في الاتحاد السوفييتي، وقام بالتنظير له أيضاً مجموعة من المفكرين العرب من العمل على توظيف الإسلام لخدمة الأهداف الشيوعية وهو ما كان يسمى حينذاك بـ (الإسلام الأحمر).
الثالثة: هي ما قام به صاحب هذه الدراسة من رصد ملامحه فترة السبعينيات والثمانينيات واستشفاف شيوعه في العقود التالية من التأثر بشيوع المفاهيم البراجماتية في المنطقة، ومن بينها البراجماتية الدينية، ومن ثم العمل على توظيف الإسلام للمصالح المختلفة بوجه عام سواء كانت المصالح السياسية الأمريكية، أو المصالح السياسية لقادة بعض الأنظمة، أو قـادة بعض التيـارات المعـارضة، بل من جانب بعض المنتمين للتيـار الإسـلامي نفسه أيضاً وهو ما سماه حينذاك بـ (الإسلام البراجماتي أو النفعي) حيث صدر في كتاب يحمل العنوان نفسه عام 1989م.
ما هي الليبرالية؟
لوك وفولتير:
على الرغم من أن الليبرالية عادة ما تُنسب إلى الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك 1632- 1704) إلا أن (جون لوك) كان يهدف في الأساس من أفكاره السياسية إلى التحرر من سلطات الكنيسة السياسية، وما رسخته من أفكار حول نظرية التفويض الإلهي للملوك والتي نظَّر لها السير (روبرت فيلمر) في كتابه (دفاع عن السلطة الطبيعية للملك) والذي ذهب فيه إلى أنه «على من يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله أن يسلِّموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب أقرهما الله، وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك»(1).
ومن أجل دحض آراء (فيلمر) هذه ذهب (لوك) إلى تصور أن الأفراد في «الحالة الطبيعية» يولدون أحراراً متساوين (وهذه هي نقطة الانطلاق في المذهب الليبرالي كله) وأنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق «عقد اجتماعي» تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب للجماعة ككل؛ وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي؛ وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها(2).
وذهب (لوك) أيضاً إلى ضرورة أن تُفصَل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية «فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العليا؛ لأنها مسؤولة فقط أمام المجتمع بصورة كلية، ذلك المجتمع الذي تعد هي ممثلة له» ومن هنا جعل لوك الأمة هي مصدر كل السلطات وهي الفيصل بينها أيضاً، كما أن مبدأ الفصل بين السلطات الذي فصله (مونتسكيو) بعد ذلك» مبدأ جوهري بالنسبة لليبرالية السياسية»(1).
وكان (فولتير) من أشهر زعماء الليبرالية في فرنسا والذي يعد تلميذاً خالصاً لـ (لوك) من الناحية الفلسفية البحتة، ولكنه يتجاوزه من حيث القدرات الأدبية في التأثير ونقده الحاد وسخريته اللاذعة. وكانت قضية (فولتير) الرئيسية هي تحرير العقلية الأوروبية تماماً من المسيحية الثالوثية عقائد ومفاهيم وقيماً؛ وهكذا كان يصرخ بعنف وسخرية: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت المسيحي؛ والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية»(2).
واتساقاً مع ما سبق فقد دافع (فولتير) دفاعاً مريراً عن حرية الرأي بالنسبة للعقائد والأفكار؛ ولهذا تتردد له تلك المقولة الشهيرة: «أنا لا أوافقك القول، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله».
جون ستيورات مل:
يعد (جون ستيورات مل) منظِّر الليبرالية الأكبر والذي اهتم في كتابه (عن الحرية) بشرحها شرحاً وافياً، وقد حدد أن الغرض من كتابه هذه هو تقرير المبدأ الذي يحدد معاملة المجتمع للأفراد «ومضمون هذا المبدأ هو أن الغاية الوحيدة التي تبيح للناس التعرُّض بصفة فردية أو جماعية لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه؛ فإن الغاية الوحيدة التي تبرر ممارسة السلطة على أي عضو من أعضاء أي مجتمع مُتَمَدْيِن ضد رغبته هي منع الفرد من الإضرار بغيره. أما إذا كانت الغاية من ذلك هي الحيلولة دون تحقيق مصلحته الذاتية أدبيةً كانت أم ماديةً فإن ذلك ليس مبرراً كافياً؛ إذ إنه لا يجوز مطلقاً إجبار الفرد على أداء عملٍ ما، أو الامتناع عن عملٍ ما»(3).
ولكن: ما الذي يمكن أن يحدد في سلوك الفرد ما هو قد يؤثر بالضرر على المجتمع أو لا يؤثر؟
يرى (جون ستيورات مل) أن هناك منطقة في حياة الفرد هي صميم الحرية البشرية، وليس للمجتمع بها إلا مصلحة غير مباشرة إن كانت له مصلحة على الإطلاق، وهي تتضمن:
أولاً: المجال الداخلي للوعي: وهذا يقتضي حرية العقيدة في أوسع معنى لها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والميول في جميع الموضوعات عملية أو علمية، مادية أو أدبية، دينية أو دنيوية. وقد يتبادر إلى الأذهان أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها يدخل في نطاق مبدأ آخر؛ إذ إنها تتعلق بتصـرفـات الفـرد التي تمـس الغير؛ ولكن لما كانت هـذه الحرية لا تقل أهمية عن حرية الفكر نفسها إذ إنها تقوم على الأسباب نفسها؛ فلا يمكن إذن الفصل بينهما.
ثانياً: أن هذا المبدأ يتناول حرية الأذواق والمشارب: بمعنى أنه يطلق الحرية في رسم الخطة التي نسير عليها في حياتنا بما يتفق مع طباعنا، وأن نفعل ما نشاء، على أن نتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج دون أن يقف في طريقنا أحد من إخواننا في الإنسانية طالما كانت أفعالنا لا تنالهم بضرر حتى ولو اعتقدوا أن تصرفاتنا هذه دليل على السخف أو السفه أو الخطأ.
ثالثاً: إنه يتفرع من حرية كل فرد - وفي نطاق حدودها - حرية اجتماع الأفراد للتعاون على أي أمر ليس فيه ضرر للغير؛ على أن يكون الأشخاص المجتمعون بالغين راشدين لم يساقوا إلى الاجتماع بعنف أو إكراه»(4).
وهو بعد ذلك يؤكد تماماً أنه «لا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بالحرية دون أن يكفل هذه الحريات بوجه عام مهما كان نظام الحكم فيه، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بحرية تامة ما لم تكفل هذه الحريات كاملة غير منقوصة»(5).
وفي خطوة تالية يشرح (ستيورات مل) تناقضاته مع الديمقراطية ذاتها (والتي يشاع بين الكثيرين من الكُتَّاب والسياسيين لدينا أنها والليبرالية شيء واحد) فهو ينكر على الشعب استخدام أي وسيلة من وسائل الإجبار ضد حرية التعبير «أنكر على الشعب الحق في ممارسة مثل هذا الإجبار سواء عن طريقه أو عن طريق الحكومة؛ فمثل هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها، ولا يجوز لأرقى الحكومات أو أقلها شأناً أن تلجأ إليها، وهي إذا صدرت بمشيئة الرأي العام فقد تكون أفظع وأشنع مما لو صدرت رغماً عنه وبمعارضته»(6).
وتنطلق المسألة هنا أساساً من رؤيته الفلسفية العلمانية التي انتهت لديه إلى النسبية المعرفية والقيمية المطلقة، ومن ثمَ فإنه على كافة الناس والحكومات أن يتصرفوا على قدر طاقاتهم، وأن يبذلوا أقصى جهدهم؛ فليس هناك شيء يسمى التعيين المطلق، وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق غايات الحياة البشرية، ويجوز لنا أو يجب علينا أن نفترض صحة آرائنا لكي نسترشد بها في تصرفاتنا.
وليس ثمة ما يمكن فصله عن البحث والنقاش والجدال بما في ذلك المعتقدات والقيم حتى لو اجتمعت الأجيال على صحة هذا المعتقد أو ذاك الرأي «فإنه من الواضح تماماً أن الأجيال ليست أكثر مناعة من الأفراد في الوقوع في الخطأ؛ فإن كل جيل مضى كان يعتنق كثيراً من الآراء التي اكتشفت زيفها وتفاهتها أجيال تالية»(7) ثم يعمل (ستيورات مل) بعد ذلك على اتخاذ مثل تاريخي بارز لانتصار المسيحية الغربية على معارضيها ليستخدمه في دحضها بعد ذلك؛ فالإمبراطور (مارقس أوربليوس) كان أكثر معاصريه علماً وأدباً وحرصاً على أن يسود العدل؛ وعلى الرغم من ذلك «كان من أشد الحكام اضطهاداً للمسيحية؛ فبالرغم من استيعابه لجميع علوم الأقدمين وتبحره في حكمة الأولين ومن اتساع تفكيره وبُعد نظره.. إلا أنه لم يدرك أن المسيحية ستعود بالخير لا بالشر على العالم»(1).
وهكذا تأتي الخطوة التالية لهدم المسيحية الغربية في قوله: «بَيْدَ أننا نخالف الإنصاف ونجانب الحقيقة إذا توهمنا أن (مارقس أوريليوس) لم يكن لديه ـ وهو يكافح المسيحية ـ كل المعاذير والحجج التي يلتمسها اليوم أنصار المسيحية لمكافحة ما يناقضها من الآراء. فما كان اعتقاد أحد من المسيحيين في كذب الإلحـاد وفي أنه يؤدي إلى تداعي المجتمع وتفككه بأشد ولا أرسخ من اعتقاد (مارقس أوريليوس) في بطلان المسيحية وفي أنها تفضي إلى انحلال المجتمع وانهدام أركانه»(2).
ولا يكتفي (ستيوارت مل) بمهاجمة العقائد المسيحية الغربية، ولكنه يهاجم آدابها أيضاً؛ والمفارقة هنا أنه يقدم آداب الإسلام عليها على الرغم من اعتباره له أنه دين وثني؛ حيث يذهب إلى أنه «بينما نجد آداب الأمم الوثنية الراقية تصنع الواجبات الاجتماعية في أرفع منزلة من الاعتبار حتى تضمن في سبيل ذلك الحقوق الشخصية والحرية الفردية نرى الآداب المسيحية البحتة لا تكاد تشعر أو تعترف بتلك الواجبات المقدسة؛ وها نحن نقرأ في آداب الإسلام هذه الكلمة الجامعة: (كل والٍ يستكفي عاملاً عملاً وفي ولايته من هو أكفأ له فقد خان عهد الله وخليفته)»(3).
ولأنه يضرب بكل القواعد الأخلاقية عرض الحائط إذا مست بحرية الفرد فهو يعترض على الذين يتساءلون: «إذا كانت المقامرة والقذارة والسُّكْر والدعارة والبطالة من الآفات المزرية بالسعادة شأن الكثير من الأفعال المحظورة بنص القانون؛ فلماذا إذن لا يحاول المشرع قمعها بقدر ما تسمح حالة المجتمع؟ ثم لماذا لا يتقدم الرأي العام ليسد الفراغ الذي لا بد أن يتركه المشرع وينظم رقابة شديدة على هذه الرذائل وينزل العقاب الصارم بمن يوصم بها؟»(4).
وموقفه من هذا التساؤل هو أن معيار تجريم ذلك اجتماعياً هو إلحاق الضرر المباشر بالمجتمع «فمثلاً ليس من الحق أن يعاقب إنسان لمجرد السُّكْر، ولكن الجندي الذي يسكر وهو قائم بواجبه جدير بالعقاب.. أما الضرر العَرَضي ـ أو الضرر التقديري - الذي يصيب المجتمع عنماد يتصرف الفرد تصرفاً لا ينحل بأي واجب معين نحو الجمهور ولا يلحق أي أذى بأحد غير نفسه؛ فهو ضرر تافه خليق بالمجتمع أن يتحمله عن طيب خاطر في جانب ما ينشأ عن الحرية من الخير العميم»(5).
وخلاصة موقفه من الدين تتحدد في ذهابه إلى أنه من واجب الإنسان حمل غيره على إطاعة أوامر الدين هي الأصل لكل ما ارتكبه البشر من ألوان الاضطهاد.
ليبرالية العلمانيين العرب:
إذا كانت هذه الليبرالية كما نظَّر لها الفلاسفة الغربيون فإن الليبرالية التي يدعو إليها العلمانيون العرب تستهدف تحديداً الإطاحة بالعقائد والمفاهيم والقيم الإسلامية أو تذويبها تماماً. يقول (الدكتور أحمد أبو زيد) في هذا السياق: «لقد أفلحت الثقافات الليبرالية في الغرب في تحرير الفرد من كثير من القيم التقليدية المتوارثة والأحكام التي تفرضها تلك القيم؛ وبخاصة الأحكام المتعلقة بمفهومي الصواب والخطأ، فيتحرر الفرد من القواعد الأخلاقية والتعاليم الدينية، ويرفض أن تكون تصرفاته وحياته الخاصة وتعامله مع الآخرين محلاً للتقويم والحكم عليه اجتماعياً وأخلاقياً كما يحدث في المجتمعات أو الثقافات المحافظة أو غير الليبرالية. فالصواب والخطأ مفهومان تعسفيان صاغهما أشخاص سوداويون متسلطون لإخضاع الآخرين لإرادتهم ووجهة نظرهم المتعسفة الضيقة؛ ولذا يجب رفضهما حتى يحيا الفرد حياته بالصيغة التي تروق له»(6).
أما (جمال البنا) فيحدد أهم ما تستهدفه هذه الليبرالية في ضرب الثوابت؛ حيث يقول: «إن أهم ما يفترض أن تتجه إليه الحرية هو هذه الثوابت بالذات التي وإن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل وتتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود؛ هذا كله بفرض أن الثوابت هي دائماً صالحة ولازمة؛ ولكنها لا تكون كذلك دائماً»(7).
موقف الإسلام من الليبرالية:
ولسنا هنا بصدد نقد الليبرالية أو تقييمها فلسفياً؛ وإن كنا نود أن نسجل مبدئياً أن الأمر يتعلق بالأساس بالرؤية الفلسفية التي يصدر عنها فكر المفكر أو الفيلسوف؛ فقد تكون الليبرالية قابلة للأخذ والرد انطلاقاً من الرؤية العلمانية التي تقتصر على العقل وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة. أما إذا كان المفكر أو الفيلسوف يتبع عقيدة أو مذهباً معيناً فإن أول ما تمثله له هذه الليبرالية هي مطالبته بالتخلي عن هذه العقيدة أو هذا المذهب تماماً؛ وهذا ما يحدو بنا إلى مناقشة الفكرة الأساسية التي تتمحور عليها هذه الدراسة، وهي: هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع هذه الليبرالية؟
فالإسلام دين مبدئي شمولي لا يقبل التجزُّؤ يقوم على عقيدة متكاملة وقواعد ثابتة ومنظومة تجمع بين تصوراته لحقائق الوجود وقواعد السلوك التي ينبغي اتباعها من جهة الفرد والمجتمع على السواء وكذلك القيم الأخلاقية الموجهة لها. وإذا كان الإسلام يتسامح في الحرية العقائدية والفكرية فإنه يستهدف أيضاً إقامة مجتمع مستقر يستمد مرجعيته من قواعده العقائدية التي ارتضاها هذا المجتمع.
وحـقـاً أن الإسـلام يـتـسـامـح مـع حـريـة العقائد والأفكار {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والكثير من أعلام الفكر الغربي على مر التاريخ يضربون به المثل في هذا التسامح مقابلة مع المسيحية الغربية، ويستدلون على ذلك بالحرية التي تمتعت بها الأقليات غير المسلمة في أكناف الحضارة الإسلامية في الوقت الذي كان وجود المسلم في الدول المسيحية الغربية لا يعني سوى القتل. ولكن تسامح الإسلام هذا لا يعني قبول الإسلام بعرض عقائد مجتمعاته على الدوام على مائدة التفاوض والأخذ والرد؛ فهذا أمر يتعلق بعقيدة المجتمع ومن ثَم باستقراره، بخلاف حرية العقائد والأفكار للأفراد {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وبعيداً عن موضوع حد الردة فإن أي قوة لا تستطيع قهر أفراد هذا المجتمع المسلم نفسه على الثبات على عقائده؛ فالإسلام لا يأمر بالتفتيش عن دواخل الناس، لكن يظل هؤلاء ملتزمين بقواعد القانون العام.
وشمولية الإسلام تجعل من الإيمان بقواعـد السلوك المستـمـدة مــنه جـزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالإسلام نفسه {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فكيف يمكن إذا أمر الإسلام بتحريم الزنا على سبيل المثال أن يقال إنه من الممكن في إطار الليبرالية الإسلامية المفترضة أن نجعل الموقف من الزنا عند ارتضاء الطرفين يمكن وضعه على محك التجربة لتقدير ما يمكن أن يؤدي إليه من أضرار على المجتمع؟ بل الأمر أكبر من ذلك؛ لأنه لو كان تقدير الأغلبية رفض هذا الموضوع بناء على ما قد تتوصل إليه من أضرار اجتماعية له (ولا أدري بأي مرجعية يمكن تقدير هذه الأضرار؟) فإن هذا يكون حكم الديمقراطية. ولكن الليبرالية تتجاوز ذلك، فتذهب إلى عدم سماح الأغلبية بالتدخل في مثل هذا الأمر؛ لأنه يدخل في تقديرها في منطقة الحرية الشخصية للأفراد التي لا يسمح للمجتمع بالتدخل فيها.
والناس أحرار في أن يقولوا إن موقف الليبرالية هذا أفضل من الإسلام في هذه المسألة أو غيرها؛ فكل هذا يقبله المنطق عند الوقوف على قاعدة اللا قاعدة، ولكن أن يقال إن هذا مسموح به في إطار الإسلام من باب التسامح والحرية اللذين دعا إليهما الإسلام فإن هذا يعني أنه بالإمكان أن نمشي فوق رؤوسنا.
ومسألة القيم الرائجة ليست منقطعة الصلة بهذا السياق؛ لأن القيم الرائجة لها دورها الفعال المباشر في إنماء المجتمع نحو غاياته أو انتكاسه إلى الاتجاه المضاد. فلا يصح بأية حال من الأحوال أن أقيم ـ على سبيل المثال ـ مجتمعاً إسلامياً ويتم السماح مع ذلك بترويج القيم الاستهلاكية فيه، تلك القيم التي تجعل من جلب المال وإنفاقه إلهاً آخر يُعبد من دون الله الواحد الأحد.
الإسلام الليبرالي والجمع بين البراجماتية والليبرالية:
هناك الكثير ممن يجمع بين البراجماتية والليبرالية. فمن الناحية الفلسفية فإن بين منظِّري الليبرالية والبراجماتية الأشهرين (جون ستيورات مل) و (وليم جيمس) الكثير من النقاط المشتركة؛ خصوصاً في الجانب العملي لفلسفتيهما. فالليبرالية تريد أن تضع العقائد أو الأفكار في ساحة النقاش والحوار، والبراجماتية في الوقت نفسه لا تلتزم بأية عقيدة أو فروض نظرية مسبقة أو عقائد أو أفكار جازمة. والليبرالية تجعل من إلحاق الضرر بالآخرين هي الحدود الوحيدة التي تقيد حرية الفرد فيما يرغب فيه من منفعة. والبراجماتية تجعل من المنفعة العملية هي المعيار الوحيد لكل الحقائق. وإذا كان (ستيوارت) قد استمد أفكاره عن النفعية من أستاذه (بتنام) الذي استمدها بدوره من (أبيقور) فإن (وليم جيمس) قد استمدها في الغالب مباشرة من (أبيقور).
أما من الناحية السياسية فإذا كانت البراجماتية الأمريكية تريد توظيف الإسلام في المنطقة لمصالحها السياسية؛ فإن الخطوة الأولى لتحقيق هذه المصالح هو تذويب المبدئية الإسلامية، ومن ثَم فإن الليبرالية ـ بمناهضتها لوجود أية عقائد اجتماعية أو قواعد تشريعية وقيمية مستمدة من هذه العقائد ومطالبتها أن تكون كل هذه الأمور عرضة للنقاش والحوار والصواب والخطأ ـ تكون وسيلة رائعة لتذويب هذه المبدئية، وهو الأمر الذي يعني تحقيق تلك المصالح الأمريكية.
نماذج واقعية قائمة للإسلام الليبرالي:
النموذج السيـاسي للإسـلام الليـبرالـي: حـزب العـدالة والتنمية التركي:
عندمـا صعـد حـزب العدالـة والتنـميـة التركي لتولي الـوزارة بـقـيـادة (رجـب أردوغـان) مـن خلال الانتـخـابـات ظهر الزعيم التاريخي لحزب الرفاه ورئيس وزراء تركيا السابق (نجم الدين أربكان) في أحد حلقات برنامج (بلا حدود) بقناة الجزيرة ليقول إن قيادات الحزب مجموعة من العملاء صعدوا إلى الحكم من خلال مساعدة أجهزة أجنبية نافذة في الدولة، وأنهم يعملون لتطويع الإسلام للمصالح الأمريكية في المنطقة وأنهم يقومون بتقديم تنازلات للعلمانية القائمة في الدولة تفقدهم الصفة الإسلامية. ولكن ما نسيه الزعيم الكبير أنه نفسه أول من أدخـل الإسلامـيـين هذه اللعـبة بتقـديم التنـازلات الحـاسـمة للعلمـانـيـة؛ وذلك بزيـارته لـقـبر صـنم العلمـانية الأكـبـر (كمال أتاتورك) وإعلانه أمامه التزامه بالدستور العلماني في الحكم واقتصار جهوده على ممارسات سياسية واقعية في ظل مرجعية علمانية قائمة، وإذا كان هو قد فعل ذلك فعليه ألا يندهش أن يأتي تلامذته إلى الحكم بالتحالف مع السياسة الأمريكية. وإذا كان (أربكان) أعلن التزامه بالدستور العلماني أمام الصنم الأتاتوركي فإن تلامذته من قيادات العدالة والتنمية يستاؤون الآن من إطلاق صفة الإسلاميين عليهم، ويعلنون أنهم علمانيون. فالذي يحدث الآن أن التنازلات التي قام بتقديمهـا للعلمانيـة بعـض زعمـاء الإسـلاميين من باب المراوغة ـ على أفضل فروض حسن الظن ـ يقوم بها الآن وأكثر منها بعض تلاميذهم من باب الاقتناع، وما أن تبدأ بالتنازل عن بعض الإسلام حتى تنتهي على الفور بالإسلام؛ حدث ذلك في تركيا، ويحدث مثله في تونس ومصر وأماكن أخرى. والنتيجة هي كما تقول مجلة الشاهد البريطانية(1): «إن الصفقة التي تطبخ الآن تسعى إلى جعل الإسلام التركي مفرغاً من ثوابت الدين» ولكن الأهم من ذلك هو ترويج هذا النموذج التركي نفسه على أنه النموذج الإسلامي الليبرالي المعتدل الذي ينبغي الاقتداء به في كل دول العالم الإسلامي إلى درجة أن كبار القادة الأمريكيين مثل (الرئيس بوش) و(كولن باول) و(كوندليزا رايس) أعلنوا مراراً أن النموذج التركي هو النموذج الذي ينبغي أن يسود في المنطقة، بل إن اليميني المحافظ الصهيوني المعروف بعدائه وتعصبه الشديد للعالم الإسلامي (وولفويتز) أعلن أن «الأتراك يقاتلون من أجل مجتمع حر وديمقراطي ومتسامح يمكن أن يصبح نموذجاً مفيداً لدول أخرى في العالم الإسلامي». بل إن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يقوم في الأساس على الارتكاز الفكري لمفهوم الإسلام الليبرالي «بدأت تسريبات معالمه مع زيارة رئيس وزراء تركيا (رجب أردوغان) إلى واشنطن في 28/1/2004 ونشرت صحيفة (يني شفق) التركية (معناها: الفجر) في 30/1/2004 عرض الرئيس الأمريكي (بوش) على (رجب) معالم هذا المشروع الذي يمتد من المغرب حتى أندونيسيا مروراً بجنوب آسيا، وآسيا الوسطى والقوقاز، وقد ابتدأ العرض على تركيا لتتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني (بحسب خبر الصحيفة). والمقصود انبطاحها لأمريكا وأخوّتها لإسرائيل لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وُعَّاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليتولوا التبشير بنموذج الاعتدال التركي المطبق في تركيا.
هذه الأخبار ذكرها المحرر الرئيس للصحيفة المذكورة والذي كان ضمن الوفد الصحفي المرافق لأرودغان»(2).
الليبرالية والديمقراطية:
أظهرنا فيما سبق أن الليبرالية خصوصاً عند منظِّرها الأكبر (جـون ستيـوارت مـل) تجـعـل من الفـردية ـ أي من الفكر العقلي للأفراد وحسـابات المصـالح والأضرار ـ المرجعيةَ الوحيدة لكل أمر من الأمـور، وتجعل من الحرية الشخصية منطقة محرمة لا يحق للمجتمع التدخل فيها؛ بينما تجعل الديمقراطية من الأغلبية معبرة عن إرادة الأمة، ومن ثم فعلى الأفراد الخضوع لأحكامها.
ومع ذلك تظل الديمقراطية هي أداة عملية معبرة عن الليبرالية التي تظل تعمل في الوقت نفسه على وضع العوائق في مواجهة الإرادة العامة للأغلبية لمنعها من التدخل في المنطقة الخاصة بالحرية الشخصية.
إذاً؛ فالتداخل كبير بين الديمقراطية والليبرالية، والترويج لليبرالية في المنطقة يعمل أساساً من خلال الترويج للديمقراطية كمدخل ضروري لها، ومن ثَم فإن مناقشة موقف الإسلام من الليبرالية يقتضي بشكل حتمي مناقشة موقفه من الديمقراطية.
موقف الإسلام من الديمقراطية:
وتُعَرَّف الديمقراطية بأنها «مذهب يراد به إرجاع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى السلطة العامة للأمة. أما الديمقراطية كنظام للحكم فيراد به النظام الذي يُرجِع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة»(3).
والديمقراطي «هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به، وينبع التغيير من الإيمان بأن البُنى الاجتماعية لا تُبنى على قواعد ثابتة، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم، ولذلك فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل؛ فالإطار الذهني الديمقراطي يُبنى على الثقة المتناهية في العقل الذي يُمَكِّن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع التعددي بتقبله لنمط حياة الآخرين مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية»(4).
والديمقراطية توجد «إذا توفرت عدة شروط؛ منها: الانتخابات الدورية، والتعددية السياسية، والمنافسة والمشاركة السياسية، وهي التي تشكل في مجملها الأسس العامة للديمقراطية الليبرالية والتي تتمثل في التعددية السياسية، والتي تظهر في شكل تعدد حزبي وتداول على السلطة بين الأحزاب المتنافسة، وخضوع القرارات السياسية للتفاعل السياسي بين القوى السياسية المختلفة، وخضوعه للمساومة، والحل الوسط، واحترام رأي الأغلبية، والمساواة السياسية بمنح صوت لكل مواطن، وترسيخ مفهوم الدولة القانونية القائمة على الفصل بين السلطات مع وجود دستور مكتوب، وخضوع الحكام للقانون»(5).
وعلى الأساس السابق فإن الإشكالية الأساسية في تحديد موقف الإسلام من الديمقراطية هي في شبهة التشابه بينها وبين الشورى في مبدأ حق الأغلبية في اتخاذ القرار، ومن ثَم الانحياز إلى إرادة الجماهير في مواجهة استبداد الفرد. ولكن هذا التشابه أو التقاطع في هذه النقطة لا يؤثر أدنى تأثير في التناقض بين الإسلام والديمقراطية كمنظومة متكاملة بوجه عام؛ فبينما يتم اتخاذ قرار الأغلبية في الإسلام في إطار المرجعية الإسلامية؛ فإن اتخاذ قرار الأغلبية في الديمقراطية يتم دون إطار على الإطلاق؛ أي دون الالتزام بأيَّة قواعد عقائدية أو فكرية أو أخلاقية، وينطلق من الأرضية العلمانية في التفكير التي تقتصر على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة «فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي، ومن ثَمَّ؛ فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لا بد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية. وبناء عليه فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع فإنه من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي؛ وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني للمجتمع»(1).
وهذا يتناقض مع كون الدولة في الإسلام دولة عقيدية، تجعل من العقيدة الإسلامية مرجعيتها التي تستمد منها سلطاتها وأحكامها. من ناحية أخرى فإن الأفراد في الديمقراطية أيّاً كانت توجهاتهم لهم الحق دون تمييز في إبداء الرأي في كافة شؤون الدولة وتوجهاتها، ثم يتم اتخاذ القرارات بناء على تحديد موقف الأغلبية الناتجة عن ذلك أيّاً كان هذا الموقف. وهذا يتناقض مع التحريم على الأفراد أو غيرهم أن يتدخلوا فيما هو ثابت من الشريعة {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وكما يقول ابن تيمية: «والإنسان متى حلل الحرام المجمَع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمَع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء»(2).
كما أن القرار لا يعود للأفراد دون تمييز فيما هو محل الاجتهاد من الشرع، وإنما هذا يعود لأهل الاختصاص من العلماء؛ وهؤلاء هم الذين تطبق فيما بينهم قاعدة الأغلبية عند الخلاف. وما سبق لا يعني تجريد الأفراد العاديين من الحقوق السـياسية في الإسـلام؛ لأنه يعود لهؤلاء أيّـاً كانت انتماءاتهم ما داموا مواطنين بالدولة الحق في اتخاذ قرارات الدولة العامة التي لا تحتاج إلى قدرات اجتهادية خاصة. ومن ناحية أخرى فـإن القبول بمبدأ تـداول السلطة مع أحـزاب ذات أـيديـولـوجيات مختلفة هو أشبه ما يكون بالقبول بمبدأ: «نعبد ربك يوماً، وتعبد ربنا بوماً» وهو المبدأ الذي رفضه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قريش.
من مداخل الغزو الفكري للإسلام الليبرالي:
أولاً: الإسلام الليبرالي من خلال محو الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية:
تنامت في السنوات الأخيرة الدعوة لعدم استقطاب الجماهير بين الإسلام والعلمانية، وتم الترويج لبعض الادعاءات العلمانية التي تزعم إيمان تيار عريض من العلمانيين بالإسلام مع عدم اقتناعهم بأن الإسلام دين ودولة، ورفضهم لتطبيق الشريعة الإسلامية، وقام أحدهم وهو (جمال البنا) بالترويج لمفهوم جديد بالنسبة للواقع الثقافي الإسلامي ـ وإن كان قد عمل على إشاعته من قبلُ بعض المستشرقين ذوي العلاقات الخاصة مع الاستخبارات الغربية ـ هذا المفهوم هو أن الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة، بل وأصدر (البنا) كتاباً بهذا العنوان كان قد نشر معظمه بجريدة القاهرة.
وإذا كان العلمانيون يفعلون ذلك من جهتهم فإن الأغرب من ذلك هو ما يقوم به بعض الإسلاميين من الدعوة في هذا الاتجاه؛ حيث يفرق (فهمي هويدي) بين مستويين من العلمانية: العلمانية المتصالحة مع الدين... والعلمانية الرافضة للدين.
ويرى أن الفئة الأولى من العـلمـانيين لا تعـارض العقيدة رغم تحفظها على تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع، ومن ثَم فلا مانع - كما يؤكد ـ من مد الجسور مع هؤلاء «ونفسح مجالاً للعلمانية المتصالحة مع الدين، ونفكر في تأصيل شرعي لهذا [عبارة عجيبة وكأن الخيارات العقلية تأتي أولاً ثم يتم البحث عن تأصيل شرعي لها من خلال التأويل القائم على الهوى طبعاً] وأظن أن ذلك ليس صعباً؛ فقد جاز لنا أن نقبل أهل الـذمة. فهل يجـوز لنـا أن نقـبل أنـاسـاً لـهم تحفـظـات عـلى عـلاقة الدين بالسياسة؟»(3). وفي هـذا السيـاق أيضاً فإنه يقبل الماركسيين الذيـن لا يرفضون الدين رغم تحفظاتهم على الشريعة الإسلامية.
أما الدكتور (محمد عمارة) فيقسم العلمانيين تقسيماً يختلف قليلاً عن هذا وإن كان يمضي في الاتجاه نفسه تماماً؛ فهناك «علمانيون (عملاء وثوريون) يهدفون إلى ربط المسلمين بعجلة الغرب أو إلى نقض الدين وإلغائه في واقع الحياة، والخلاف مع هؤلاء خلاف في «الأصول». أما العلمانيون الآخرون فينادون فقط بفصل الدين عن الدولة والخلاف معهم خلاف في الفروع»(4).
ثانياً: الإسلام الليبرالي من خلال الاستجابة للعمل الديمقراطي:
تبنِّي بعض الإسلاميين للديمقراطية:
حديث بعض الإسلاميين عن تبني الديمقراطية حديث يعود إلى حوالي عقدين من الزمان كتعبير من هؤلاء عن قبول الحل السلمي في الصراع السياسي مع الأنظمة القائمة مقابل الخيار المسلح الذي اتخذته بعض جماعات العنف في تلك المرحلة وتراوحت الدوافع بين التسليم الواقعي بضرورة اتخاذ هذا المسار كخيار وحيد مستطاع للمشاركة في العمل السياسي وبين الرغبة في استثمار الصراع القائم المنهك والمسيء للصورة لدى الغرب بين طرفين لا يعرف كلاهما سوى لغة العنف، ومن ثمَ الظهور بصورة الودعاء الطيبين الراغبين في العمل السياسي وفقاً للقواعد الغربية.
وعلى سبيل المثال فقد أقر «الدكتور صلاح الصاوي» التعامل المرحلي مع الديمقراطية، وذلك من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد بقوله: «إذا كانت العلمانية هي الشر الواقع لا محالة فإن العلمانية الديمقراطية أهون وأخف وطئاً من العلمانية الديكتاتورية»(5).
وفي مارس 1994 أصدرت جماعة (الإخوان المسلمين) مجمـوعة من الوثـائق - هـي الأخـطـر في تـاريخـها من وجهة نظرنا - من بينها وثيقة بعنوان: «الشورى وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم»، وقد تناولت الوثيقة رؤية الإخوان للديمقراطية والتعددية والعمل الحزبي، وانتهت إلى ما يلي:
أولاً: أن الأمة مصدر السلطات.
ثانياً: إقرار وجود دستور مكتوب يفصل بين السلطات وبحفظ الحريات.
ثالثاً: قيام مجلس أمة منتخب.
رابعاً: الدعوة إلى تعدد الأحزاب والتعددية السياسية.
خامساً: إقرار تداول السلطة عن طريق انتخابات برلمانية دورية.
أما (محمد سليم العوا) فذهب إلى أنه في ظـل الطـغيـان في كل الحكومـات والمجتمعـات فـلا بديل عن التعددية وهي واجبة - وليسـت جائزة فحسب (لا أدري من أين يأتي هؤلاء الكتاب بكـل هـذه الجرأة على إصـدار مثل هذه الأحكام) - في الجمـاعـات العـاملة للإسـلام والعـاملة في السياسة والمجتمع الإسـلامـي، وانتـهى إلى أن التعـددية تعني أنـه «لا يمــكـن منع الاتجاهات الأخرى كالعلمانيين والشيوعيين والملاحدة عن الوجود في المجتمع المعاصر، بل يجب منعهم من الدعوة إلى هـدم النظـام الإسـلامي، ثـم تركـهم بعد ذلك وجمهور الناخبين؛ فإذا خدعوه كـان الإسلاميون مقـصريـن في دعـوة النــاخبين وتبصـيرهم، ولا يجوز أن يحـملوا تقصيرهم وقعودهم عن الدعوة الصحيحة على الآخرين - فكل الاتجاهات تتنافس»(1).
ويفرق (فهمي هويدي) بين ثلاث صور للعمل السياسي من المنظور التعددي:
الصورة الأولى: تظهر في العمل السياسي داخل الإطار الإسلامي، وتتمثل في تعدد الاتجاهات والاجتهادات الإسلامية.
أما الثانية: فتظهر في شكل فكر غير إسلامي يتحفظ على بعض جوانب الشريعة الإسلامية.
أما الثالثة: فتظهر في عمل خارج العقيدة الإسلامية ومضاد لها في الوقت ذاته.
ويرى هويدي أن الموقف من هذه الصيغ يكون كما يأتي:
أولاً: العمل السياسي للفئة الأولى مباح اتفاقاً.
ثانياً: العمل السياسي للفئة الثانية مباح ترجيحاً.
ثالثاً: العمل السياسي للفئة الثالثة محظور إجماعاً»(2).
وكل ما أستطيع قوله هنا بالنسبة للكلام السابق هو أن أتساءل: من أين استمد (هويدي) هذه الرؤية؟ هل من الممكن أن يكون قد استمدها من المرجعية الإسلامية؟
التمييز بين مواقف الإسلاميين من الديمقراطية:
لا بد أن نميز بين عدة مواقف من الديمقراطية حتى يمكن تحديد ما نقصده بالتساوم على الإسلام من خلال مدخل قبول العمل الديمقراطي:
1 ـ القول بأنه لا تناقض بين الديمقراطية والإسلام أو الإقرار بقواعد اللعبة الديمقراطية بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة بين الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو الإسلامية بوجه عام والقول بأن ذلك يتفق مع نظام الحكم الإسلامي أو لا يتناقض معه.
2 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة مع الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو اللا إسلامية بوجه عام، مع الإقرار بعدم اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي، ولكن قبوله فقط من باب اعتقاد ضرورة ذلك للمشاركة في العمل السياسي.
3 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها والمراوغة في الإقرار بمدى اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي.
4 ـ قبول دخول اللعبة السياسية على أساس إتاحة الفرصة للجماهير في اختيار النظام الإسلامي في ظل الظروف القائمة؛ مع الإعلان عن العمل على إصلاح النظم القائمة وتعديلها بما يتفق مع النظام الإسلامي، ومن ثم يكون اختيار الجماهير للجهة الإسلامية التي تتخذ هذا المسلك يعني اختيارها أيضاً للإجراءات التي أعلنتها لتعديل النظام.
وما نراه ـ وبناء على الأسس التي ذكرناها سلفاً بالنسبة لموقف الإسلام من الديمقراطية ـ فإنه إذا كان الموقف الرابع يمكن قبوله، والموقفان الثاني والثالث يحتملان الاجتهاد؛ فإن الموقف الأول يمثل مساومة صريحة على الإسلام.
ومع ذلك فقد تكون هناك حالات خاصة تجعل الموقف الإسلامي من المشاركة في العملية الديمقراطية أكثر تحديداً. فعلى سبيل المثال فإن مشاركة الإسلاميين في الانتخابات الكويتية يمثل واقعياً تحقيق الهيمنة على البرلمان الكويتي في ظل ظروف محيطة تجعل تطبيق النظام الإسلامي في هذه الدولة ضرباً من المستحيل. وعلى النقيض من ذلك فإن مشاركة الإسلاميين في انتخابات يديرها مجموعة من العملاء في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يقاومه المجاهدون في كل مكان تمثل خيانة عظمى تعمل على تدعيم هذا الاحتلال وإضفاء
------------------------------------
(1) نقلاً عن ول ديورانت - قصة الحضارة: مج 17 ج 2 ص 47.
(2) بريتراند رسل - حكمة الغرب: ج 2 ص 115.
(1) المرجع السابق: ص 116.
(2) نقلاً عن ول ديورات - قصة الحضارة: مج 19 ج 2 ص 205.
(3) الحرية: ص 72.
(4) المرجع السابق: ص 76 - 77.
(5) الحرية: ص 77.
(6) المرجع السابق: 83.
(7) المرجع السابق: ص 88.
(1) المرجع السابق: ص 100.
(2) المرجع السابق: ص 102.
(3) المرجع السابق: ص 139.
(4) المرجع السابق: ص 179.
(5) المرجع السابق: ص 181.
(6) الحياة 2 نوفمبر 2004.
(7) الحرية : ص 12.
(1) الشاهد: العدد 343.
(2) أبو محمد المقدسي - مشروع الشرق الأوسط الكبير: موقع المقريزي.
(3) إبراهيم عبد العزيز شيحا (مبادئ الأنظمة السياسية) نقلاً عن د. محمد أحمد مفتي - نقص الجذور الفكرية للديمقراطية: ص 31- 32.
(4)Zeuedie Barbu نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: 21- 22.
(5) علي الدين هلال - مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث - نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 16.
(1) Michoel Novak نقلاً عن المرجع السابق: ص 22.
(2) نقلاً عن المرجع السابق: ص 40.
(3) التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي مجموعة من الكتاب: ص 55.
(4) من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، الوعي الإسلامي العدد 316، نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 77.
(5) الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي: ص 257.
(1) التعددية السياسية - مرجع سابق: ص 48.
(2) المرجع السابق: ص 55.
http://saaid.net/mktarat/almani/52.htm
أو الضوء الذي يخفي الحقائق
محمد إبراهيم مبروك
يبدو أن قناعات المنظِّرين الأمريكيين من أمثال (هنتنجتون) و (فوكوياما) و (برنارد لويس) بأن الإسلام يملك الأيديولوجية الوحيدة القادرة على تحدي المنظومة الليبرالية العلمانية للحضارة قد غدت قناعات نهائية للسياسة الأمريكية بوجه عام.
ومع إصرار هذه السياسة على الانفراد بحكم العالم غدا قهر الإسلام وإرغامه على الالتحاق بالتبعية الغربية هو الهدف المحوري لتلك السياسة الذي تدور حوله باقي أهدافها الأخرى. ومع استعصاء الإسلام على هذا القهر الذي يتجلى في المقاومة الجهادية للأمريكيين في أماكن مختلفة من هذا العالم اقتضى العمل على اختراق الإسلام نفسه من الناحية الفكرية بابتداع ما يسمى بـ (الإسلام الليبرالي) الذي شاع عنه الحديث في المرحلة الأخيرة والذي يعني بكلمة مبسطة للغاية: ابتداع بناء مفاهيمي مزيف يجمع بين بعض الأطر الشكلية للإسلام والمضمون الليبرالي للحضارة الغربية القائمة، ويتم تبنيه ودعمه والترويج له بالطريقة التي تصنع منه الضوء الذي يخفي الحقائق.
الرصد والتنظير لمحاولات توظيف الإسلام للمصالح السياسية:
العمل على توظيف الإسلام للمصالح السياسية شأن قديم، مثله مثل كل ما يمكن العمل على توظيفه من معتقدات للمصالح السياسية في التاريخ الإنساني؛ حيث يتوقف النجاح في ذلك على مدى تيقُّظ أهل هذه المعتقدات لما يستهدفه أعداؤهم من اختراق لها؛ لدفعهم إلى الوجهة التي يريدون من خلال الخداع والتضليل.
ويمكن الحديث عن ثلاث محاولات للرصد والتنظير حول هذا الموضوع في النصف الثاني من القرن العشرين:
الأولى: هي ما رصده الأستاذ (سيد قطب) من محاولات أمريكية لتوظيف الإسلام لمصالحها السياسية أوائل تلك المرحلة الزمنيـة للعمـل على إرث الإمبـراطورية الإنجليزية، وسماه حينذاك بـ (الإسلام الأمريكاني).
الثانية: ما كان قائماً بالفعل في الاتحاد السوفييتي، وقام بالتنظير له أيضاً مجموعة من المفكرين العرب من العمل على توظيف الإسلام لخدمة الأهداف الشيوعية وهو ما كان يسمى حينذاك بـ (الإسلام الأحمر).
الثالثة: هي ما قام به صاحب هذه الدراسة من رصد ملامحه فترة السبعينيات والثمانينيات واستشفاف شيوعه في العقود التالية من التأثر بشيوع المفاهيم البراجماتية في المنطقة، ومن بينها البراجماتية الدينية، ومن ثم العمل على توظيف الإسلام للمصالح المختلفة بوجه عام سواء كانت المصالح السياسية الأمريكية، أو المصالح السياسية لقادة بعض الأنظمة، أو قـادة بعض التيـارات المعـارضة، بل من جانب بعض المنتمين للتيـار الإسـلامي نفسه أيضاً وهو ما سماه حينذاك بـ (الإسلام البراجماتي أو النفعي) حيث صدر في كتاب يحمل العنوان نفسه عام 1989م.
ما هي الليبرالية؟
لوك وفولتير:
على الرغم من أن الليبرالية عادة ما تُنسب إلى الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك 1632- 1704) إلا أن (جون لوك) كان يهدف في الأساس من أفكاره السياسية إلى التحرر من سلطات الكنيسة السياسية، وما رسخته من أفكار حول نظرية التفويض الإلهي للملوك والتي نظَّر لها السير (روبرت فيلمر) في كتابه (دفاع عن السلطة الطبيعية للملك) والذي ذهب فيه إلى أنه «على من يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله أن يسلِّموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب أقرهما الله، وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك»(1).
ومن أجل دحض آراء (فيلمر) هذه ذهب (لوك) إلى تصور أن الأفراد في «الحالة الطبيعية» يولدون أحراراً متساوين (وهذه هي نقطة الانطلاق في المذهب الليبرالي كله) وأنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق «عقد اجتماعي» تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب للجماعة ككل؛ وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي؛ وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها(2).
وذهب (لوك) أيضاً إلى ضرورة أن تُفصَل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية «فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العليا؛ لأنها مسؤولة فقط أمام المجتمع بصورة كلية، ذلك المجتمع الذي تعد هي ممثلة له» ومن هنا جعل لوك الأمة هي مصدر كل السلطات وهي الفيصل بينها أيضاً، كما أن مبدأ الفصل بين السلطات الذي فصله (مونتسكيو) بعد ذلك» مبدأ جوهري بالنسبة لليبرالية السياسية»(1).
وكان (فولتير) من أشهر زعماء الليبرالية في فرنسا والذي يعد تلميذاً خالصاً لـ (لوك) من الناحية الفلسفية البحتة، ولكنه يتجاوزه من حيث القدرات الأدبية في التأثير ونقده الحاد وسخريته اللاذعة. وكانت قضية (فولتير) الرئيسية هي تحرير العقلية الأوروبية تماماً من المسيحية الثالوثية عقائد ومفاهيم وقيماً؛ وهكذا كان يصرخ بعنف وسخرية: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت المسيحي؛ والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية»(2).
واتساقاً مع ما سبق فقد دافع (فولتير) دفاعاً مريراً عن حرية الرأي بالنسبة للعقائد والأفكار؛ ولهذا تتردد له تلك المقولة الشهيرة: «أنا لا أوافقك القول، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله».
جون ستيورات مل:
يعد (جون ستيورات مل) منظِّر الليبرالية الأكبر والذي اهتم في كتابه (عن الحرية) بشرحها شرحاً وافياً، وقد حدد أن الغرض من كتابه هذه هو تقرير المبدأ الذي يحدد معاملة المجتمع للأفراد «ومضمون هذا المبدأ هو أن الغاية الوحيدة التي تبيح للناس التعرُّض بصفة فردية أو جماعية لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه؛ فإن الغاية الوحيدة التي تبرر ممارسة السلطة على أي عضو من أعضاء أي مجتمع مُتَمَدْيِن ضد رغبته هي منع الفرد من الإضرار بغيره. أما إذا كانت الغاية من ذلك هي الحيلولة دون تحقيق مصلحته الذاتية أدبيةً كانت أم ماديةً فإن ذلك ليس مبرراً كافياً؛ إذ إنه لا يجوز مطلقاً إجبار الفرد على أداء عملٍ ما، أو الامتناع عن عملٍ ما»(3).
ولكن: ما الذي يمكن أن يحدد في سلوك الفرد ما هو قد يؤثر بالضرر على المجتمع أو لا يؤثر؟
يرى (جون ستيورات مل) أن هناك منطقة في حياة الفرد هي صميم الحرية البشرية، وليس للمجتمع بها إلا مصلحة غير مباشرة إن كانت له مصلحة على الإطلاق، وهي تتضمن:
أولاً: المجال الداخلي للوعي: وهذا يقتضي حرية العقيدة في أوسع معنى لها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والميول في جميع الموضوعات عملية أو علمية، مادية أو أدبية، دينية أو دنيوية. وقد يتبادر إلى الأذهان أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها يدخل في نطاق مبدأ آخر؛ إذ إنها تتعلق بتصـرفـات الفـرد التي تمـس الغير؛ ولكن لما كانت هـذه الحرية لا تقل أهمية عن حرية الفكر نفسها إذ إنها تقوم على الأسباب نفسها؛ فلا يمكن إذن الفصل بينهما.
ثانياً: أن هذا المبدأ يتناول حرية الأذواق والمشارب: بمعنى أنه يطلق الحرية في رسم الخطة التي نسير عليها في حياتنا بما يتفق مع طباعنا، وأن نفعل ما نشاء، على أن نتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج دون أن يقف في طريقنا أحد من إخواننا في الإنسانية طالما كانت أفعالنا لا تنالهم بضرر حتى ولو اعتقدوا أن تصرفاتنا هذه دليل على السخف أو السفه أو الخطأ.
ثالثاً: إنه يتفرع من حرية كل فرد - وفي نطاق حدودها - حرية اجتماع الأفراد للتعاون على أي أمر ليس فيه ضرر للغير؛ على أن يكون الأشخاص المجتمعون بالغين راشدين لم يساقوا إلى الاجتماع بعنف أو إكراه»(4).
وهو بعد ذلك يؤكد تماماً أنه «لا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بالحرية دون أن يكفل هذه الحريات بوجه عام مهما كان نظام الحكم فيه، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بحرية تامة ما لم تكفل هذه الحريات كاملة غير منقوصة»(5).
وفي خطوة تالية يشرح (ستيورات مل) تناقضاته مع الديمقراطية ذاتها (والتي يشاع بين الكثيرين من الكُتَّاب والسياسيين لدينا أنها والليبرالية شيء واحد) فهو ينكر على الشعب استخدام أي وسيلة من وسائل الإجبار ضد حرية التعبير «أنكر على الشعب الحق في ممارسة مثل هذا الإجبار سواء عن طريقه أو عن طريق الحكومة؛ فمثل هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها، ولا يجوز لأرقى الحكومات أو أقلها شأناً أن تلجأ إليها، وهي إذا صدرت بمشيئة الرأي العام فقد تكون أفظع وأشنع مما لو صدرت رغماً عنه وبمعارضته»(6).
وتنطلق المسألة هنا أساساً من رؤيته الفلسفية العلمانية التي انتهت لديه إلى النسبية المعرفية والقيمية المطلقة، ومن ثمَ فإنه على كافة الناس والحكومات أن يتصرفوا على قدر طاقاتهم، وأن يبذلوا أقصى جهدهم؛ فليس هناك شيء يسمى التعيين المطلق، وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق غايات الحياة البشرية، ويجوز لنا أو يجب علينا أن نفترض صحة آرائنا لكي نسترشد بها في تصرفاتنا.
وليس ثمة ما يمكن فصله عن البحث والنقاش والجدال بما في ذلك المعتقدات والقيم حتى لو اجتمعت الأجيال على صحة هذا المعتقد أو ذاك الرأي «فإنه من الواضح تماماً أن الأجيال ليست أكثر مناعة من الأفراد في الوقوع في الخطأ؛ فإن كل جيل مضى كان يعتنق كثيراً من الآراء التي اكتشفت زيفها وتفاهتها أجيال تالية»(7) ثم يعمل (ستيورات مل) بعد ذلك على اتخاذ مثل تاريخي بارز لانتصار المسيحية الغربية على معارضيها ليستخدمه في دحضها بعد ذلك؛ فالإمبراطور (مارقس أوربليوس) كان أكثر معاصريه علماً وأدباً وحرصاً على أن يسود العدل؛ وعلى الرغم من ذلك «كان من أشد الحكام اضطهاداً للمسيحية؛ فبالرغم من استيعابه لجميع علوم الأقدمين وتبحره في حكمة الأولين ومن اتساع تفكيره وبُعد نظره.. إلا أنه لم يدرك أن المسيحية ستعود بالخير لا بالشر على العالم»(1).
وهكذا تأتي الخطوة التالية لهدم المسيحية الغربية في قوله: «بَيْدَ أننا نخالف الإنصاف ونجانب الحقيقة إذا توهمنا أن (مارقس أوريليوس) لم يكن لديه ـ وهو يكافح المسيحية ـ كل المعاذير والحجج التي يلتمسها اليوم أنصار المسيحية لمكافحة ما يناقضها من الآراء. فما كان اعتقاد أحد من المسيحيين في كذب الإلحـاد وفي أنه يؤدي إلى تداعي المجتمع وتفككه بأشد ولا أرسخ من اعتقاد (مارقس أوريليوس) في بطلان المسيحية وفي أنها تفضي إلى انحلال المجتمع وانهدام أركانه»(2).
ولا يكتفي (ستيوارت مل) بمهاجمة العقائد المسيحية الغربية، ولكنه يهاجم آدابها أيضاً؛ والمفارقة هنا أنه يقدم آداب الإسلام عليها على الرغم من اعتباره له أنه دين وثني؛ حيث يذهب إلى أنه «بينما نجد آداب الأمم الوثنية الراقية تصنع الواجبات الاجتماعية في أرفع منزلة من الاعتبار حتى تضمن في سبيل ذلك الحقوق الشخصية والحرية الفردية نرى الآداب المسيحية البحتة لا تكاد تشعر أو تعترف بتلك الواجبات المقدسة؛ وها نحن نقرأ في آداب الإسلام هذه الكلمة الجامعة: (كل والٍ يستكفي عاملاً عملاً وفي ولايته من هو أكفأ له فقد خان عهد الله وخليفته)»(3).
ولأنه يضرب بكل القواعد الأخلاقية عرض الحائط إذا مست بحرية الفرد فهو يعترض على الذين يتساءلون: «إذا كانت المقامرة والقذارة والسُّكْر والدعارة والبطالة من الآفات المزرية بالسعادة شأن الكثير من الأفعال المحظورة بنص القانون؛ فلماذا إذن لا يحاول المشرع قمعها بقدر ما تسمح حالة المجتمع؟ ثم لماذا لا يتقدم الرأي العام ليسد الفراغ الذي لا بد أن يتركه المشرع وينظم رقابة شديدة على هذه الرذائل وينزل العقاب الصارم بمن يوصم بها؟»(4).
وموقفه من هذا التساؤل هو أن معيار تجريم ذلك اجتماعياً هو إلحاق الضرر المباشر بالمجتمع «فمثلاً ليس من الحق أن يعاقب إنسان لمجرد السُّكْر، ولكن الجندي الذي يسكر وهو قائم بواجبه جدير بالعقاب.. أما الضرر العَرَضي ـ أو الضرر التقديري - الذي يصيب المجتمع عنماد يتصرف الفرد تصرفاً لا ينحل بأي واجب معين نحو الجمهور ولا يلحق أي أذى بأحد غير نفسه؛ فهو ضرر تافه خليق بالمجتمع أن يتحمله عن طيب خاطر في جانب ما ينشأ عن الحرية من الخير العميم»(5).
وخلاصة موقفه من الدين تتحدد في ذهابه إلى أنه من واجب الإنسان حمل غيره على إطاعة أوامر الدين هي الأصل لكل ما ارتكبه البشر من ألوان الاضطهاد.
ليبرالية العلمانيين العرب:
إذا كانت هذه الليبرالية كما نظَّر لها الفلاسفة الغربيون فإن الليبرالية التي يدعو إليها العلمانيون العرب تستهدف تحديداً الإطاحة بالعقائد والمفاهيم والقيم الإسلامية أو تذويبها تماماً. يقول (الدكتور أحمد أبو زيد) في هذا السياق: «لقد أفلحت الثقافات الليبرالية في الغرب في تحرير الفرد من كثير من القيم التقليدية المتوارثة والأحكام التي تفرضها تلك القيم؛ وبخاصة الأحكام المتعلقة بمفهومي الصواب والخطأ، فيتحرر الفرد من القواعد الأخلاقية والتعاليم الدينية، ويرفض أن تكون تصرفاته وحياته الخاصة وتعامله مع الآخرين محلاً للتقويم والحكم عليه اجتماعياً وأخلاقياً كما يحدث في المجتمعات أو الثقافات المحافظة أو غير الليبرالية. فالصواب والخطأ مفهومان تعسفيان صاغهما أشخاص سوداويون متسلطون لإخضاع الآخرين لإرادتهم ووجهة نظرهم المتعسفة الضيقة؛ ولذا يجب رفضهما حتى يحيا الفرد حياته بالصيغة التي تروق له»(6).
أما (جمال البنا) فيحدد أهم ما تستهدفه هذه الليبرالية في ضرب الثوابت؛ حيث يقول: «إن أهم ما يفترض أن تتجه إليه الحرية هو هذه الثوابت بالذات التي وإن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل وتتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود؛ هذا كله بفرض أن الثوابت هي دائماً صالحة ولازمة؛ ولكنها لا تكون كذلك دائماً»(7).
موقف الإسلام من الليبرالية:
ولسنا هنا بصدد نقد الليبرالية أو تقييمها فلسفياً؛ وإن كنا نود أن نسجل مبدئياً أن الأمر يتعلق بالأساس بالرؤية الفلسفية التي يصدر عنها فكر المفكر أو الفيلسوف؛ فقد تكون الليبرالية قابلة للأخذ والرد انطلاقاً من الرؤية العلمانية التي تقتصر على العقل وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة. أما إذا كان المفكر أو الفيلسوف يتبع عقيدة أو مذهباً معيناً فإن أول ما تمثله له هذه الليبرالية هي مطالبته بالتخلي عن هذه العقيدة أو هذا المذهب تماماً؛ وهذا ما يحدو بنا إلى مناقشة الفكرة الأساسية التي تتمحور عليها هذه الدراسة، وهي: هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع هذه الليبرالية؟
فالإسلام دين مبدئي شمولي لا يقبل التجزُّؤ يقوم على عقيدة متكاملة وقواعد ثابتة ومنظومة تجمع بين تصوراته لحقائق الوجود وقواعد السلوك التي ينبغي اتباعها من جهة الفرد والمجتمع على السواء وكذلك القيم الأخلاقية الموجهة لها. وإذا كان الإسلام يتسامح في الحرية العقائدية والفكرية فإنه يستهدف أيضاً إقامة مجتمع مستقر يستمد مرجعيته من قواعده العقائدية التي ارتضاها هذا المجتمع.
وحـقـاً أن الإسـلام يـتـسـامـح مـع حـريـة العقائد والأفكار {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والكثير من أعلام الفكر الغربي على مر التاريخ يضربون به المثل في هذا التسامح مقابلة مع المسيحية الغربية، ويستدلون على ذلك بالحرية التي تمتعت بها الأقليات غير المسلمة في أكناف الحضارة الإسلامية في الوقت الذي كان وجود المسلم في الدول المسيحية الغربية لا يعني سوى القتل. ولكن تسامح الإسلام هذا لا يعني قبول الإسلام بعرض عقائد مجتمعاته على الدوام على مائدة التفاوض والأخذ والرد؛ فهذا أمر يتعلق بعقيدة المجتمع ومن ثَم باستقراره، بخلاف حرية العقائد والأفكار للأفراد {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وبعيداً عن موضوع حد الردة فإن أي قوة لا تستطيع قهر أفراد هذا المجتمع المسلم نفسه على الثبات على عقائده؛ فالإسلام لا يأمر بالتفتيش عن دواخل الناس، لكن يظل هؤلاء ملتزمين بقواعد القانون العام.
وشمولية الإسلام تجعل من الإيمان بقواعـد السلوك المستـمـدة مــنه جـزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالإسلام نفسه {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فكيف يمكن إذا أمر الإسلام بتحريم الزنا على سبيل المثال أن يقال إنه من الممكن في إطار الليبرالية الإسلامية المفترضة أن نجعل الموقف من الزنا عند ارتضاء الطرفين يمكن وضعه على محك التجربة لتقدير ما يمكن أن يؤدي إليه من أضرار على المجتمع؟ بل الأمر أكبر من ذلك؛ لأنه لو كان تقدير الأغلبية رفض هذا الموضوع بناء على ما قد تتوصل إليه من أضرار اجتماعية له (ولا أدري بأي مرجعية يمكن تقدير هذه الأضرار؟) فإن هذا يكون حكم الديمقراطية. ولكن الليبرالية تتجاوز ذلك، فتذهب إلى عدم سماح الأغلبية بالتدخل في مثل هذا الأمر؛ لأنه يدخل في تقديرها في منطقة الحرية الشخصية للأفراد التي لا يسمح للمجتمع بالتدخل فيها.
والناس أحرار في أن يقولوا إن موقف الليبرالية هذا أفضل من الإسلام في هذه المسألة أو غيرها؛ فكل هذا يقبله المنطق عند الوقوف على قاعدة اللا قاعدة، ولكن أن يقال إن هذا مسموح به في إطار الإسلام من باب التسامح والحرية اللذين دعا إليهما الإسلام فإن هذا يعني أنه بالإمكان أن نمشي فوق رؤوسنا.
ومسألة القيم الرائجة ليست منقطعة الصلة بهذا السياق؛ لأن القيم الرائجة لها دورها الفعال المباشر في إنماء المجتمع نحو غاياته أو انتكاسه إلى الاتجاه المضاد. فلا يصح بأية حال من الأحوال أن أقيم ـ على سبيل المثال ـ مجتمعاً إسلامياً ويتم السماح مع ذلك بترويج القيم الاستهلاكية فيه، تلك القيم التي تجعل من جلب المال وإنفاقه إلهاً آخر يُعبد من دون الله الواحد الأحد.
الإسلام الليبرالي والجمع بين البراجماتية والليبرالية:
هناك الكثير ممن يجمع بين البراجماتية والليبرالية. فمن الناحية الفلسفية فإن بين منظِّري الليبرالية والبراجماتية الأشهرين (جون ستيورات مل) و (وليم جيمس) الكثير من النقاط المشتركة؛ خصوصاً في الجانب العملي لفلسفتيهما. فالليبرالية تريد أن تضع العقائد أو الأفكار في ساحة النقاش والحوار، والبراجماتية في الوقت نفسه لا تلتزم بأية عقيدة أو فروض نظرية مسبقة أو عقائد أو أفكار جازمة. والليبرالية تجعل من إلحاق الضرر بالآخرين هي الحدود الوحيدة التي تقيد حرية الفرد فيما يرغب فيه من منفعة. والبراجماتية تجعل من المنفعة العملية هي المعيار الوحيد لكل الحقائق. وإذا كان (ستيوارت) قد استمد أفكاره عن النفعية من أستاذه (بتنام) الذي استمدها بدوره من (أبيقور) فإن (وليم جيمس) قد استمدها في الغالب مباشرة من (أبيقور).
أما من الناحية السياسية فإذا كانت البراجماتية الأمريكية تريد توظيف الإسلام في المنطقة لمصالحها السياسية؛ فإن الخطوة الأولى لتحقيق هذه المصالح هو تذويب المبدئية الإسلامية، ومن ثَم فإن الليبرالية ـ بمناهضتها لوجود أية عقائد اجتماعية أو قواعد تشريعية وقيمية مستمدة من هذه العقائد ومطالبتها أن تكون كل هذه الأمور عرضة للنقاش والحوار والصواب والخطأ ـ تكون وسيلة رائعة لتذويب هذه المبدئية، وهو الأمر الذي يعني تحقيق تلك المصالح الأمريكية.
نماذج واقعية قائمة للإسلام الليبرالي:
النموذج السيـاسي للإسـلام الليـبرالـي: حـزب العـدالة والتنمية التركي:
عندمـا صعـد حـزب العدالـة والتنـميـة التركي لتولي الـوزارة بـقـيـادة (رجـب أردوغـان) مـن خلال الانتـخـابـات ظهر الزعيم التاريخي لحزب الرفاه ورئيس وزراء تركيا السابق (نجم الدين أربكان) في أحد حلقات برنامج (بلا حدود) بقناة الجزيرة ليقول إن قيادات الحزب مجموعة من العملاء صعدوا إلى الحكم من خلال مساعدة أجهزة أجنبية نافذة في الدولة، وأنهم يعملون لتطويع الإسلام للمصالح الأمريكية في المنطقة وأنهم يقومون بتقديم تنازلات للعلمانية القائمة في الدولة تفقدهم الصفة الإسلامية. ولكن ما نسيه الزعيم الكبير أنه نفسه أول من أدخـل الإسلامـيـين هذه اللعـبة بتقـديم التنـازلات الحـاسـمة للعلمـانـيـة؛ وذلك بزيـارته لـقـبر صـنم العلمـانية الأكـبـر (كمال أتاتورك) وإعلانه أمامه التزامه بالدستور العلماني في الحكم واقتصار جهوده على ممارسات سياسية واقعية في ظل مرجعية علمانية قائمة، وإذا كان هو قد فعل ذلك فعليه ألا يندهش أن يأتي تلامذته إلى الحكم بالتحالف مع السياسة الأمريكية. وإذا كان (أربكان) أعلن التزامه بالدستور العلماني أمام الصنم الأتاتوركي فإن تلامذته من قيادات العدالة والتنمية يستاؤون الآن من إطلاق صفة الإسلاميين عليهم، ويعلنون أنهم علمانيون. فالذي يحدث الآن أن التنازلات التي قام بتقديمهـا للعلمانيـة بعـض زعمـاء الإسـلاميين من باب المراوغة ـ على أفضل فروض حسن الظن ـ يقوم بها الآن وأكثر منها بعض تلاميذهم من باب الاقتناع، وما أن تبدأ بالتنازل عن بعض الإسلام حتى تنتهي على الفور بالإسلام؛ حدث ذلك في تركيا، ويحدث مثله في تونس ومصر وأماكن أخرى. والنتيجة هي كما تقول مجلة الشاهد البريطانية(1): «إن الصفقة التي تطبخ الآن تسعى إلى جعل الإسلام التركي مفرغاً من ثوابت الدين» ولكن الأهم من ذلك هو ترويج هذا النموذج التركي نفسه على أنه النموذج الإسلامي الليبرالي المعتدل الذي ينبغي الاقتداء به في كل دول العالم الإسلامي إلى درجة أن كبار القادة الأمريكيين مثل (الرئيس بوش) و(كولن باول) و(كوندليزا رايس) أعلنوا مراراً أن النموذج التركي هو النموذج الذي ينبغي أن يسود في المنطقة، بل إن اليميني المحافظ الصهيوني المعروف بعدائه وتعصبه الشديد للعالم الإسلامي (وولفويتز) أعلن أن «الأتراك يقاتلون من أجل مجتمع حر وديمقراطي ومتسامح يمكن أن يصبح نموذجاً مفيداً لدول أخرى في العالم الإسلامي». بل إن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يقوم في الأساس على الارتكاز الفكري لمفهوم الإسلام الليبرالي «بدأت تسريبات معالمه مع زيارة رئيس وزراء تركيا (رجب أردوغان) إلى واشنطن في 28/1/2004 ونشرت صحيفة (يني شفق) التركية (معناها: الفجر) في 30/1/2004 عرض الرئيس الأمريكي (بوش) على (رجب) معالم هذا المشروع الذي يمتد من المغرب حتى أندونيسيا مروراً بجنوب آسيا، وآسيا الوسطى والقوقاز، وقد ابتدأ العرض على تركيا لتتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني (بحسب خبر الصحيفة). والمقصود انبطاحها لأمريكا وأخوّتها لإسرائيل لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وُعَّاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليتولوا التبشير بنموذج الاعتدال التركي المطبق في تركيا.
هذه الأخبار ذكرها المحرر الرئيس للصحيفة المذكورة والذي كان ضمن الوفد الصحفي المرافق لأرودغان»(2).
الليبرالية والديمقراطية:
أظهرنا فيما سبق أن الليبرالية خصوصاً عند منظِّرها الأكبر (جـون ستيـوارت مـل) تجـعـل من الفـردية ـ أي من الفكر العقلي للأفراد وحسـابات المصـالح والأضرار ـ المرجعيةَ الوحيدة لكل أمر من الأمـور، وتجعل من الحرية الشخصية منطقة محرمة لا يحق للمجتمع التدخل فيها؛ بينما تجعل الديمقراطية من الأغلبية معبرة عن إرادة الأمة، ومن ثم فعلى الأفراد الخضوع لأحكامها.
ومع ذلك تظل الديمقراطية هي أداة عملية معبرة عن الليبرالية التي تظل تعمل في الوقت نفسه على وضع العوائق في مواجهة الإرادة العامة للأغلبية لمنعها من التدخل في المنطقة الخاصة بالحرية الشخصية.
إذاً؛ فالتداخل كبير بين الديمقراطية والليبرالية، والترويج لليبرالية في المنطقة يعمل أساساً من خلال الترويج للديمقراطية كمدخل ضروري لها، ومن ثَم فإن مناقشة موقف الإسلام من الليبرالية يقتضي بشكل حتمي مناقشة موقفه من الديمقراطية.
موقف الإسلام من الديمقراطية:
وتُعَرَّف الديمقراطية بأنها «مذهب يراد به إرجاع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى السلطة العامة للأمة. أما الديمقراطية كنظام للحكم فيراد به النظام الذي يُرجِع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة»(3).
والديمقراطي «هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به، وينبع التغيير من الإيمان بأن البُنى الاجتماعية لا تُبنى على قواعد ثابتة، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم، ولذلك فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل؛ فالإطار الذهني الديمقراطي يُبنى على الثقة المتناهية في العقل الذي يُمَكِّن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع التعددي بتقبله لنمط حياة الآخرين مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية»(4).
والديمقراطية توجد «إذا توفرت عدة شروط؛ منها: الانتخابات الدورية، والتعددية السياسية، والمنافسة والمشاركة السياسية، وهي التي تشكل في مجملها الأسس العامة للديمقراطية الليبرالية والتي تتمثل في التعددية السياسية، والتي تظهر في شكل تعدد حزبي وتداول على السلطة بين الأحزاب المتنافسة، وخضوع القرارات السياسية للتفاعل السياسي بين القوى السياسية المختلفة، وخضوعه للمساومة، والحل الوسط، واحترام رأي الأغلبية، والمساواة السياسية بمنح صوت لكل مواطن، وترسيخ مفهوم الدولة القانونية القائمة على الفصل بين السلطات مع وجود دستور مكتوب، وخضوع الحكام للقانون»(5).
وعلى الأساس السابق فإن الإشكالية الأساسية في تحديد موقف الإسلام من الديمقراطية هي في شبهة التشابه بينها وبين الشورى في مبدأ حق الأغلبية في اتخاذ القرار، ومن ثَم الانحياز إلى إرادة الجماهير في مواجهة استبداد الفرد. ولكن هذا التشابه أو التقاطع في هذه النقطة لا يؤثر أدنى تأثير في التناقض بين الإسلام والديمقراطية كمنظومة متكاملة بوجه عام؛ فبينما يتم اتخاذ قرار الأغلبية في الإسلام في إطار المرجعية الإسلامية؛ فإن اتخاذ قرار الأغلبية في الديمقراطية يتم دون إطار على الإطلاق؛ أي دون الالتزام بأيَّة قواعد عقائدية أو فكرية أو أخلاقية، وينطلق من الأرضية العلمانية في التفكير التي تقتصر على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة «فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي، ومن ثَمَّ؛ فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لا بد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية. وبناء عليه فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع فإنه من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي؛ وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني للمجتمع»(1).
وهذا يتناقض مع كون الدولة في الإسلام دولة عقيدية، تجعل من العقيدة الإسلامية مرجعيتها التي تستمد منها سلطاتها وأحكامها. من ناحية أخرى فإن الأفراد في الديمقراطية أيّاً كانت توجهاتهم لهم الحق دون تمييز في إبداء الرأي في كافة شؤون الدولة وتوجهاتها، ثم يتم اتخاذ القرارات بناء على تحديد موقف الأغلبية الناتجة عن ذلك أيّاً كان هذا الموقف. وهذا يتناقض مع التحريم على الأفراد أو غيرهم أن يتدخلوا فيما هو ثابت من الشريعة {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وكما يقول ابن تيمية: «والإنسان متى حلل الحرام المجمَع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمَع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء»(2).
كما أن القرار لا يعود للأفراد دون تمييز فيما هو محل الاجتهاد من الشرع، وإنما هذا يعود لأهل الاختصاص من العلماء؛ وهؤلاء هم الذين تطبق فيما بينهم قاعدة الأغلبية عند الخلاف. وما سبق لا يعني تجريد الأفراد العاديين من الحقوق السـياسية في الإسـلام؛ لأنه يعود لهؤلاء أيّـاً كانت انتماءاتهم ما داموا مواطنين بالدولة الحق في اتخاذ قرارات الدولة العامة التي لا تحتاج إلى قدرات اجتهادية خاصة. ومن ناحية أخرى فـإن القبول بمبدأ تـداول السلطة مع أحـزاب ذات أـيديـولـوجيات مختلفة هو أشبه ما يكون بالقبول بمبدأ: «نعبد ربك يوماً، وتعبد ربنا بوماً» وهو المبدأ الذي رفضه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قريش.
من مداخل الغزو الفكري للإسلام الليبرالي:
أولاً: الإسلام الليبرالي من خلال محو الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية:
تنامت في السنوات الأخيرة الدعوة لعدم استقطاب الجماهير بين الإسلام والعلمانية، وتم الترويج لبعض الادعاءات العلمانية التي تزعم إيمان تيار عريض من العلمانيين بالإسلام مع عدم اقتناعهم بأن الإسلام دين ودولة، ورفضهم لتطبيق الشريعة الإسلامية، وقام أحدهم وهو (جمال البنا) بالترويج لمفهوم جديد بالنسبة للواقع الثقافي الإسلامي ـ وإن كان قد عمل على إشاعته من قبلُ بعض المستشرقين ذوي العلاقات الخاصة مع الاستخبارات الغربية ـ هذا المفهوم هو أن الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة، بل وأصدر (البنا) كتاباً بهذا العنوان كان قد نشر معظمه بجريدة القاهرة.
وإذا كان العلمانيون يفعلون ذلك من جهتهم فإن الأغرب من ذلك هو ما يقوم به بعض الإسلاميين من الدعوة في هذا الاتجاه؛ حيث يفرق (فهمي هويدي) بين مستويين من العلمانية: العلمانية المتصالحة مع الدين... والعلمانية الرافضة للدين.
ويرى أن الفئة الأولى من العـلمـانيين لا تعـارض العقيدة رغم تحفظها على تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع، ومن ثَم فلا مانع - كما يؤكد ـ من مد الجسور مع هؤلاء «ونفسح مجالاً للعلمانية المتصالحة مع الدين، ونفكر في تأصيل شرعي لهذا [عبارة عجيبة وكأن الخيارات العقلية تأتي أولاً ثم يتم البحث عن تأصيل شرعي لها من خلال التأويل القائم على الهوى طبعاً] وأظن أن ذلك ليس صعباً؛ فقد جاز لنا أن نقبل أهل الـذمة. فهل يجـوز لنـا أن نقـبل أنـاسـاً لـهم تحفـظـات عـلى عـلاقة الدين بالسياسة؟»(3). وفي هـذا السيـاق أيضاً فإنه يقبل الماركسيين الذيـن لا يرفضون الدين رغم تحفظاتهم على الشريعة الإسلامية.
أما الدكتور (محمد عمارة) فيقسم العلمانيين تقسيماً يختلف قليلاً عن هذا وإن كان يمضي في الاتجاه نفسه تماماً؛ فهناك «علمانيون (عملاء وثوريون) يهدفون إلى ربط المسلمين بعجلة الغرب أو إلى نقض الدين وإلغائه في واقع الحياة، والخلاف مع هؤلاء خلاف في «الأصول». أما العلمانيون الآخرون فينادون فقط بفصل الدين عن الدولة والخلاف معهم خلاف في الفروع»(4).
ثانياً: الإسلام الليبرالي من خلال الاستجابة للعمل الديمقراطي:
تبنِّي بعض الإسلاميين للديمقراطية:
حديث بعض الإسلاميين عن تبني الديمقراطية حديث يعود إلى حوالي عقدين من الزمان كتعبير من هؤلاء عن قبول الحل السلمي في الصراع السياسي مع الأنظمة القائمة مقابل الخيار المسلح الذي اتخذته بعض جماعات العنف في تلك المرحلة وتراوحت الدوافع بين التسليم الواقعي بضرورة اتخاذ هذا المسار كخيار وحيد مستطاع للمشاركة في العمل السياسي وبين الرغبة في استثمار الصراع القائم المنهك والمسيء للصورة لدى الغرب بين طرفين لا يعرف كلاهما سوى لغة العنف، ومن ثمَ الظهور بصورة الودعاء الطيبين الراغبين في العمل السياسي وفقاً للقواعد الغربية.
وعلى سبيل المثال فقد أقر «الدكتور صلاح الصاوي» التعامل المرحلي مع الديمقراطية، وذلك من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد بقوله: «إذا كانت العلمانية هي الشر الواقع لا محالة فإن العلمانية الديمقراطية أهون وأخف وطئاً من العلمانية الديكتاتورية»(5).
وفي مارس 1994 أصدرت جماعة (الإخوان المسلمين) مجمـوعة من الوثـائق - هـي الأخـطـر في تـاريخـها من وجهة نظرنا - من بينها وثيقة بعنوان: «الشورى وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم»، وقد تناولت الوثيقة رؤية الإخوان للديمقراطية والتعددية والعمل الحزبي، وانتهت إلى ما يلي:
أولاً: أن الأمة مصدر السلطات.
ثانياً: إقرار وجود دستور مكتوب يفصل بين السلطات وبحفظ الحريات.
ثالثاً: قيام مجلس أمة منتخب.
رابعاً: الدعوة إلى تعدد الأحزاب والتعددية السياسية.
خامساً: إقرار تداول السلطة عن طريق انتخابات برلمانية دورية.
أما (محمد سليم العوا) فذهب إلى أنه في ظـل الطـغيـان في كل الحكومـات والمجتمعـات فـلا بديل عن التعددية وهي واجبة - وليسـت جائزة فحسب (لا أدري من أين يأتي هؤلاء الكتاب بكـل هـذه الجرأة على إصـدار مثل هذه الأحكام) - في الجمـاعـات العـاملة للإسـلام والعـاملة في السياسة والمجتمع الإسـلامـي، وانتـهى إلى أن التعـددية تعني أنـه «لا يمــكـن منع الاتجاهات الأخرى كالعلمانيين والشيوعيين والملاحدة عن الوجود في المجتمع المعاصر، بل يجب منعهم من الدعوة إلى هـدم النظـام الإسـلامي، ثـم تركـهم بعد ذلك وجمهور الناخبين؛ فإذا خدعوه كـان الإسلاميون مقـصريـن في دعـوة النــاخبين وتبصـيرهم، ولا يجوز أن يحـملوا تقصيرهم وقعودهم عن الدعوة الصحيحة على الآخرين - فكل الاتجاهات تتنافس»(1).
ويفرق (فهمي هويدي) بين ثلاث صور للعمل السياسي من المنظور التعددي:
الصورة الأولى: تظهر في العمل السياسي داخل الإطار الإسلامي، وتتمثل في تعدد الاتجاهات والاجتهادات الإسلامية.
أما الثانية: فتظهر في شكل فكر غير إسلامي يتحفظ على بعض جوانب الشريعة الإسلامية.
أما الثالثة: فتظهر في عمل خارج العقيدة الإسلامية ومضاد لها في الوقت ذاته.
ويرى هويدي أن الموقف من هذه الصيغ يكون كما يأتي:
أولاً: العمل السياسي للفئة الأولى مباح اتفاقاً.
ثانياً: العمل السياسي للفئة الثانية مباح ترجيحاً.
ثالثاً: العمل السياسي للفئة الثالثة محظور إجماعاً»(2).
وكل ما أستطيع قوله هنا بالنسبة للكلام السابق هو أن أتساءل: من أين استمد (هويدي) هذه الرؤية؟ هل من الممكن أن يكون قد استمدها من المرجعية الإسلامية؟
التمييز بين مواقف الإسلاميين من الديمقراطية:
لا بد أن نميز بين عدة مواقف من الديمقراطية حتى يمكن تحديد ما نقصده بالتساوم على الإسلام من خلال مدخل قبول العمل الديمقراطي:
1 ـ القول بأنه لا تناقض بين الديمقراطية والإسلام أو الإقرار بقواعد اللعبة الديمقراطية بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة بين الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو الإسلامية بوجه عام والقول بأن ذلك يتفق مع نظام الحكم الإسلامي أو لا يتناقض معه.
2 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة مع الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو اللا إسلامية بوجه عام، مع الإقرار بعدم اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي، ولكن قبوله فقط من باب اعتقاد ضرورة ذلك للمشاركة في العمل السياسي.
3 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها والمراوغة في الإقرار بمدى اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي.
4 ـ قبول دخول اللعبة السياسية على أساس إتاحة الفرصة للجماهير في اختيار النظام الإسلامي في ظل الظروف القائمة؛ مع الإعلان عن العمل على إصلاح النظم القائمة وتعديلها بما يتفق مع النظام الإسلامي، ومن ثم يكون اختيار الجماهير للجهة الإسلامية التي تتخذ هذا المسلك يعني اختيارها أيضاً للإجراءات التي أعلنتها لتعديل النظام.
وما نراه ـ وبناء على الأسس التي ذكرناها سلفاً بالنسبة لموقف الإسلام من الديمقراطية ـ فإنه إذا كان الموقف الرابع يمكن قبوله، والموقفان الثاني والثالث يحتملان الاجتهاد؛ فإن الموقف الأول يمثل مساومة صريحة على الإسلام.
ومع ذلك فقد تكون هناك حالات خاصة تجعل الموقف الإسلامي من المشاركة في العملية الديمقراطية أكثر تحديداً. فعلى سبيل المثال فإن مشاركة الإسلاميين في الانتخابات الكويتية يمثل واقعياً تحقيق الهيمنة على البرلمان الكويتي في ظل ظروف محيطة تجعل تطبيق النظام الإسلامي في هذه الدولة ضرباً من المستحيل. وعلى النقيض من ذلك فإن مشاركة الإسلاميين في انتخابات يديرها مجموعة من العملاء في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يقاومه المجاهدون في كل مكان تمثل خيانة عظمى تعمل على تدعيم هذا الاحتلال وإضفاء
------------------------------------
(1) نقلاً عن ول ديورانت - قصة الحضارة: مج 17 ج 2 ص 47.
(2) بريتراند رسل - حكمة الغرب: ج 2 ص 115.
(1) المرجع السابق: ص 116.
(2) نقلاً عن ول ديورات - قصة الحضارة: مج 19 ج 2 ص 205.
(3) الحرية: ص 72.
(4) المرجع السابق: ص 76 - 77.
(5) الحرية: ص 77.
(6) المرجع السابق: 83.
(7) المرجع السابق: ص 88.
(1) المرجع السابق: ص 100.
(2) المرجع السابق: ص 102.
(3) المرجع السابق: ص 139.
(4) المرجع السابق: ص 179.
(5) المرجع السابق: ص 181.
(6) الحياة 2 نوفمبر 2004.
(7) الحرية : ص 12.
(1) الشاهد: العدد 343.
(2) أبو محمد المقدسي - مشروع الشرق الأوسط الكبير: موقع المقريزي.
(3) إبراهيم عبد العزيز شيحا (مبادئ الأنظمة السياسية) نقلاً عن د. محمد أحمد مفتي - نقص الجذور الفكرية للديمقراطية: ص 31- 32.
(4)Zeuedie Barbu نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: 21- 22.
(5) علي الدين هلال - مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث - نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 16.
(1) Michoel Novak نقلاً عن المرجع السابق: ص 22.
(2) نقلاً عن المرجع السابق: ص 40.
(3) التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي مجموعة من الكتاب: ص 55.
(4) من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، الوعي الإسلامي العدد 316، نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 77.
(5) الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي: ص 257.
(1) التعددية السياسية - مرجع سابق: ص 48.
(2) المرجع السابق: ص 55.
http://saaid.net/mktarat/almani/52.htm