المجرّات سلالم اليقين
إبراهيم بن عمر السكران
في منتصف القرن العشرين أطبقت على انجلترا شهرة عالم الفلك والفيزياء الانجليزي "جيمس جينز" (ت 1946م)، وقد تنقّل جينز في حياته الأكاديمية بين جامعة كامبردج وجامعة برنستون، وكان بروفيسور (الرياضيات التطبيقية) في جامعة برنستون.
وكان له إسهامات رئيسية في حقلي الفيزياء والفلك، وخصوصاً في تطوير بعض المسائل في مجال الأشعة ( radiation )، وتخلّق وتطور النجوم ( stellar evolution )، وانتقد نظرية لابلاس في تكون النظام الشمسي واقترح فرضية بديلة، ونحو ذلك.
وسميت باسم جينز عدد من المكتشفات العلمية، منها قانون فيزيائي يسمى (قانون رايلي-جينز) ( Rayleigh-Jeans law ) حيث ساهم جينز في تطويره وهو قانون يصف الإشعاعات الطيفية في الموجات الكهرومغناطييسية.
ومن المكتشفات التي سميت باسمه (كتلة جينز) ( Jeans mass ) وهي نظرية تتعلق بنشأة النجوم، حيث تمثل الحد الأدنى لكتلة السحابة الغازية التي ينشأ عن انكماشها نجم جديد.
وكذلك فوهة قمرية ( lunar crater ) اكتشفت على سطح القمر سميت باسمه (فوهة جينز)، وكذلك فوهة مريخية ( Martin crater ) اكتشفت على سطح كوكب المريخ سميت باسمه أيضاً.
وأي قارئ لحياة "جيمس جينز" العلمية يلاحظ فوراً أنه كان يقف على هذه التخوم بين الكوسمولوجيا (الكونيات) والفيزياء؛ بسبب التحام هذين العلمين في العصور الأخيرة، فكثير من الفلكيين فيزيائيون، وكثير من الفيزيائيين فلكيون، ولذلك يقول الفلكي الأمريكي "لويد متز" (ت 2004م) في كتابه قصة الفيزياء :
(الفلك أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى فرعاً من الفيزياء، ويكفينا لتأكيد ذلك أن نلاحظ العلاقات القائمة بين فيزياء الطاقة العالية والكونيات (الكوسمولوجيا)، أو بين تطور النجوم والفيزياء النووية، أو تلك العلاقات بين بنية المجرات وتحريك السوائل، فهي تظهر مدى الرابطة المتينة بين فرعي المعرفة هذين، بل إن قصة الفيزياء تبدأ بعض نواحيها بالفلك اليوناني)[متز وويفر، قصة الفيزياء، ترجمة تربدار والأتاسي، ص 25].
وليس من العسير إدراك وتفسير سبب هذ التداخل والاشتراك بين مباحث الفيزياء والفلك والتي يشير إليها متز وزميله في النص السابق، ذلك أن الفلك يعنى بالأجرام السماوية، والفيزياء تدرس الحركة وسلوك المادة وطاقتها خلال الزمن والمكان، ومن الطبيعي أن تدرس الفيزياء حركة وسلوكيات هذه الأجرام، ومن هاهنا يجد الفيزيائي نفسه أحياناً فلكياً، ويجد الفلكي نفسه أحياناً فيزيائياً.
ولم يكتف "جيمس جينز" بكتابة الأطروحات المتخصصة، بل كان ينتمي إلى قطاع من المتخصصين يؤمنون بأهمية تبسيط (العلوم الطبيعية) للقارئ العام، كما كتب الفيزيائي البريطاني (ستيفن هوكنغ) مثلاً كتابه المشهور (موجز تاريخ الزمن: من الانفجار الكبير إلى الثقوب السوداء) والذي بسّط فيه أسس الكوسمولوجيا (الكونيات)، وبيعت منه أكثر من عشرة ملايين نسخة، وتُرجم للغات العالمية.
ومثل هذا النمط من المؤلفات التي تخاطب القارئ العام تخلق للمؤلف شهرة في الإعلام باعتباره شارح ومفسر للثورات العلمية في زمنه، وقد لعب "جيمس جينز" هذا الدور فعلاً، وخصوصاً في حقل الكوسمولوجيا (الكونيات) وهو حقل شديد الجاذبية والإبهار للقارئ العام.
وينتمي "جيمس جينز" للتيار الذي يعطي الفلسفة (موقعاً ذيلياً) بالنسبة للعلوم الطبيعية، وأن الفلسفة ذات هوية تبعية باعتبار أن العلوم الطبيعية تكتشف وتبتكر وتخترع، والفلسفة تعلّق لاحقاً فقط على ما تم اكتشافه، فالفلسفة لدى هذا التيار، مجرد "تفسيرات" تلاحق تطورات العلوم، كما يقول جينز مثلاً:
(الفلسفة في أية فترة زمنية، مرتبطة دوماً، وبشكل كبير؛ مع العلم في نفس هذه الفترة، لذلك فإن أي تغير رئيسي في العلم ينتج ردود فعل في الفلسفة).
انظر: [ J. Jeans, Physics and philosophy, Cambridge, 1943, p.2 ].
وهذا الرأي التبخيسي للفلسفة في مقابل إجلال العلوم الطبيعية، والذي يتبناه الفيزيائي/الفلكي "جيمس جينز"، ليس رأياً مبتكراً له، بل هو اتجاه معروف في الفكر الغربي، ويشيع خصوصاً بين الباحثين في الحقول التجريبية، ويمكن أن نجد اعترافاً بهذا الدور التبعي/التفسيري للفلسفة في التشبيه الذي صاغه رأس الفلسفة الألمانية "هيغل" (ت 1831م)، حين وصف الفلسفة في نهاية مدخل كتابه عن فلسفة الحق بقوله:
(بومة مينرفا لا تنشر أجنحتها وتطير إلا حين يخيم المساء)
انظر [ Hegel, Philosophy of right, p.xxi ].
ومينرفا هي آلهة الحكمة والفلسفة في الأساطير الرومانية، وكان لها بومة لأن البومة في تصوراتهم رمز للحكمة باعتبار سلوكها الصامت المراقب طوال النهار، واختيارها المواقع غير المأهولة.
ومقصود هيغل بهذا التشبيه أن الفلسفة لا تبدأ في العمل إلا بعد انتهاء الأحداث والأعمال في النهار، فتأتي لاحقاً لتفسر فقط، ومقتضى هذا التشبيه أن الفلسفة ذات (مرتبة تفسيرية) فقط، لا (صانعة للأحداث).
وهناك شواهد أخرى كثيرة في الفكر الغربي لمن يميل لهذا الاتجاه التقزيمي لمكانة الفلسفة في مقابل تعظيم العلوم الطبيعية ونتائجها في الطب والتكنولوجيا ونحوها، وليس هاهنا محل بسط هذه الشواهد.
ولذلك تجد أمريكا -مثلاً- المتفوقة في العلوم والتقنية يقل فيها الفلاسفة، بينما أوروبا التي تراجعت مقابل التفوق الأمريكي يكثر فيها الفلاسفة، حتى أن عالم النفس الأمريكي جرانفيل ستانلي (ت 1924م) في مقالته "الفلسفة في الولايات المتحدة" التي نشرها في فصلية (مايند) حين كان يطرح تشخيصاً مبكراً للواقع الفلسفي في أمريكا يقول:
(الفلاسفة في أمريكا أندر من الثعابين في النرويج)
( philosophers in America are as rare as snakes in Norway )
انظر مقالته: [ G. Stanley Hall, Philosophy in the United States, Mind, p.95 ]
وقد استعرض ستانلي تفسيراً لهذه الظاهرة -أعني محدودية الفلاسفة في أمريكا- مرتبطاً بعمر البلد، ومزاج الأعمال والاستثمار العملي.
وفي تقديري الشخصي أن من أهم كتب جيمس جينز كتابه "الفيزياء والفلسفة" ( Physics and philosophy ) وهو دراسة مقارنة بين طريقة عمل الفيزيائيين ومنتجاتهم العلمية، وطريقة عمل الفلاسفة ومنتجاتهم التي قدموها، ويحاول جينز في كتابه هذا أن يثبت وجهة نظره تفصيلاً حول تواضع ثمرات الفلسفة مقارنةً بالنتائج التي قدمتها لنا الفيزياء، وفي هذا الكتاب مواضع صادمة للقارئ، مثل الموضع الذي شرح فيه نظرية كانط وحلل جدواها وأنه يرى أنها لم تضف شيئاً ذا بال، ثم حاول أن ينقل الفلسفة إلى تفكير جديد على ضوء نتائج الفيزياء كمفهوم السببية وحرية الإرادة وغيرها.
وإذا وضع الباحث كتاب جينز هذا في سياقه التاريخي فسيستوعب بالضبط خلفيات هذا الطرح، فكتاب جينز هذا (الفيزياء والفلسفة) وُلِد في أيام (ثورة العلوم الطبيعية) وتطور الحياة الاجتماعية بناء على المكتشفات والابتكارات التي تضخها في حياة الناس، وكانت هذه المرحلة أصعب اللحظات التي بدأت تعيش فيها الفلسفة (أزمة الجدوى)، فصار يتساءل كثير من الباحثين في الحقول التجريبية خصوصاً عن (جدوى الفلسفة) ويرون أنها لم تقدم شيئاً؟
ومن أهم الأطروحات التي حاولت دراسة هذه الظاهرة والرد على المخالفين فيها، ورقة الفيلسوف الانجليزي برنارد ويليامز (ت 2003م) وكانت بعنوان "حول بغض وازدراء الفلسفة" ( On hating and Despising philosophy ) وقد نشرت في مجلة (لندن ريفيو) وقد استفتحها ويليامز بقوله (حيثما وجد موضوع فلسفي وجد من يكرهه ويزدريه) والرصد المثير الذي عرضه ويليامز هو قوله في مقالته (هذه الأيام، معظم الذين يتخذون هذا الموقف ضد الفلسفة ليسوا متدينين، بل علماء!).
انظر مقالته: [ B. Williams, On hating and Despising philosophy, LRB, 1996, p.16 ]
وبطبيعة الحال لم يكن ويليامز مسروراً بهذه الظاهرة، بل خصص هذه الورقة للرد على هذه الاتجاه المستخفّ بالفلسفة بعد ثورة العلوم الطبيعية.
هذه الظاهرة شديدة الشيوع في الفكر الغربي العلمي، أعني ازدراء الفلسفة وتعظيم العلوم الطبيعية، تقودنا إلى التساؤل:
لماذا إذن شاع بين الشباب المثقف العربي، المعجب بالغرب؛ القراءة في "التراث" الفلسفي الغربي، كفلاسفة القرون 17-18-19، والضعف في التكوين العلمي الطبيعي؟
تعليق