هذا البحث ربما يكون فيه رد على من يقول أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني
قال تعالى في كتابه العزيز: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }1.
التفسير الميسر: (أولم يَسِرْ هؤلاء المكذبون بالله, الغافلون عن الآخرة, في الأرض سَيْرَ تأمل واعتبار, فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذَّبوا برسل الله كعادٍ وثمودٍ؟ وقد كانوا أقوى منهم أجسامًا, وأقدر على التمتع بالحياة..)2.
كان هناك أممٌ سبقونا في الحياة الدنيا, وكانوا على قَدْرٍ كبير من الحضارة, والتقدم في زمان وجودهم, وقد تركوا خلفهم آثاراً, دالة على مستواهم الحضاري. ومهما لعبت يد الزمان, والعوامل الطبيعية, في طمس ما تركوه من آثار, إلا أنها لا تزال تشع بنور الحقيقة. وهناك من الآثار من تلاعبت فيها يد الإنسان الشرير والحاسدة والحاقدة, بقصد طمس وإخفاء ملامح الحقيقة, وتشويه سمعة العظماء الأطهار. وأعظم مثل على ذلك الآثار المصرية القديمة, والتي أوضحت بجلاء ذلك العمل الحقير. ومن أمثلة المتلاعبين في الحقائق التاريخية, الشرير حور محب, عدو الله ورسله.
ماذا فعل حور محب؟:
لقد كان معظم ملوك مصر القديمة, وملوك الفراعنة بالذات يسرقون أمجاد من سبقوهم, وينسبونها إلى أنفسهم زوراً وبهتاناً, ليضفي السارق على ذكراه المجد, والثناء. وليت الأمر يقتصر على ذلك فحسب, بل تعداه إلى أن يشوه سمعة من سرق آثارهم. ومن أمثلة هؤلاء اللصوص الفرعون "حور محب" الذي عمل بهدوء, وروية وبدافع الحقد على الحق وأصحابه, على إعادة كتابة التاريخ المدون على الجدران والذي كان يمجد الداعية العظيم إخناتون, فقلبه رأساً على عقب, وجعل من الداعية العظيم مدَمِراً لمكانة مصر وعظمتها بين الأمم القديمة بسبب دعوته للإيمان بالله الواحد الأحد فدار بخلد المجرم حور محب ما حدث لمصر أيام الهكسوس, وربط بين ذلك وبين سيطرة بني إسرائيل على البلاد المصرية أيام اخناتون, فأراد أن يطمس ملامح تلك الفترة, ويخفي شخصيتها, وأن يوصم اخناتون بالعار, والشذوذ.
لقد أعاد حور محب كل آثار اخناتون, ونسب إلى نفسه ما أراد, وحرَّف في النصوص ما أراد مما جعل دعوته تبدو وكأنها عقيدة شرك لا تختلف عن أي عقيدة أخرى كانت في زمانهم تتصارع مع العقائد الأخرى, وشوه التماثيل والصور كما يحلو له, فأظهر الداعية العظيم, مشوه الجسد. وأنه يعاني من قصور جنسي, وأمراض في الغدد الصماء. والغريب أن علماء الآثار المعاصرين. يعتقدون أن اخناتون هو من قال للنحاتين, والرسامين أن يفعلون ذلك.
يقول الدكتور محمد بيومي مهران: (.. وعلى أي حال فما أن توفى الملك "آي" حتى خلا الطريق أمام القائد حور محب .. ومن ثم فقد قاد حملة رهيبة ضد الآتونية...بدأ حور محب محاولته الجادة في أن يؤكد شرعيته للعرش الذي يجعله
رأس المصريين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومن ثم فقد تزوج من "موت نزمت" أخت نفرتيتي التي كانت تعيش في العمارنة ...وهناك تمثال جميل في متحف " تورين" يمثل الزوجين معاً , مع نص طويل على القاعدة, يروي قصة
ارتحاله إلى طيبة ليتوج هناك. ومن ثَمَّ فقد استهل أعمال الهدم على فترتين؛ فبدأ باغتصاب آثار أسلافه, وبخاصة توت عنخ أمون والملك آي وفي مقدمتها التماثيل والمعابد من ذلك أنّ الرواق ذا العمد بمعبد الأقصر الذي يجري فيه الاحتفالات بعيد أُوبت, قد سطا عليه الكُتَّاب والنحاتون المكلفون بكشط أكبر قدر ممكن من أسماء توت عنخ أمون لطمسها, ونقش أسماء حور محب في محلها. فضلاً عن طبع خراطيشه على جميع تماثيل أسلافه ... وكان ثاني أعمال حور محب ... انه لم يعترف اطلاقاً بأنه الخلف المباشر لهم, وقد بذل كل الجهد لإثبات هذه الفرية غير الأمينة...لدرجة أن القوائم الرسمية في عصر الرعامسة كانت تذكره باعتباره الخليفة الشرعي لأمنحتب الثالث, ومن ثم فقد رأينا قائمتي الملوك في أبيدوس وسقارة تتجاهل الفراعين" اخناتون, وسمنخ كارع , وتوت عنخ أمون, وآي" الموصومون بالآتونية. ثم تضعان حور محب "1335- 1308 ق م" بعد أمنحتب الثالث "1405- 1367 ق م " .. وكان ثالث أعمال حملة حور محب الضارية ضِدَّ الآتونية, أن الرجل إنما كان يعتقد أن ملوك العمارنة أنما كانوا السبب فيما أصاب البلاد من تدهور سياسي, واقتصادي, وديني, فقد بدأ يوقع القصاص, ويروي غليل الحقد المتولد من الجروح التي أصابت كبريائه, ويثأر في الوقت ذاته لكهنة أمون, الذين أقروا شرعية اغتصابه للعرش. وكان عنيفاً ورهيباً, فقد أرسل فرقة من العمال إلى مدينة " أخت أتون ... فـمحو معظم المباني ونهبوها, وحطموا كل شيء تحطيماً منظماً... ثم حلوا كثيراً من أحجار " أخت أتون " لاستعمالها في أماكن أخرى. وخُرِبَتْ المقبرة الملكية. ونهب أثاثها الجنزي ... وفي الحقيقة
_________________
1- سورة الروم9
2- التفسير الميسر "انترنت"
فلقد أدى حور محب دوره الذي رسمه له كهان أمون, أو رسمه هو لنفسه كاملاً, وبكل قسوة وضراوة, في إزالة كل ما يُذَكِّر الناس بأيام العمارنة ودعوتها. كما كان شديد الحرص على أن يَذْكُرُ في كل مناسبة, الدور المشئوم في نظره الذي أداه إخناتون. ومن ثم فما كان يشير إلى الداعية العظيم إلا باسم "المجرم" أو ذلك العدو من "أخت أتون" .. )1.
وإذا جاز لنا أن نسأل: لماذا كان حور محب حاقداً كل هذا الحقد على اخناتون مع أنه كان هو قائد الجيش في عهد الداعية العظيم؟. ولماذا جعل من اخناتون سبباً في تدهور أوضاع مصر السياسية والاقتصادية والدينية؟. ثم أية جروح هذه التي أصابت كبرياء حور محب فجعلته يروي غليل الحقد الذي كان كامناً في قلبه على إخناتون, والآتونية مما جعله وبكل قسوة وضراوة, يعمل في إزالة كل ما يُذَكِّر الناس بأيام العمارنة ودعوتها؟!.
يقول محمد بيومي مهران: (أن حور محب هدم المعبد العظيم للإله الخالق الذي شيده اخناتون في سنين حكمه المبكرة وذلك للقضاء على دين اخناتون والعودة إلى اله طبية القديم أمون رع. )2. وهكذا تبين بوضوح, وجلاء كيف مارس حور محب جُمَّ حقده, وغضبه ضِدَّ عقيدة التوحيد, وصاحبها, إخناتون, والتابعين لها. وكان كل ذلك بإيعاز ومباركة من كهنة أمون رع. فمكنوه من عرش مصر وهو لا يستحقه, وأطلقوا يده لتعبث في تاريخ مصر وحضارتها.
ما هي الجريمة التي ارتكبها الداعية العظيم حتى أوصلته إلى بؤرة انتقام الكهنة وحور محب؟!.
يقول محمد بيومي مهران: (أما مميزات ديانة إخناتون السلبية, فهي تحريم جميع الأساطير. وإعمال السحر وعدم
السماح بعمل أيِّ صنم للإله أتون. لأن الإله الحق, لا صور له..)3. وهل يا تُرى هذه الأمور تجعل من حور
محب عدواً حاقداً على الآتونية, وهو الذي كان ينعم بخيراتها, أيام كان قائد الجيش فيها؟! لا بُدَّ أن هناك سبباً أقوى
بكثير من تلك الأسباب التي ذكرها الدكتور مهران؟ وأعتقد أن السبب ربما يكون ما يدعيه حور محب من أن إخناتون مسئول عما يقول عنه من أنه تدهور سياسي, واقتصادي أصاب مصر وذلك لأن اخناتون عَمَّ في عصره السلام والوئام في كل ربوع منطقة الشرق الأوسط القديم. ووضعت الحرب أوزارها, وأصبح الحب والتعاون هو سمة أهل ذلك الزمان. كما أن مصر كان يحكمها قوم مؤمنون بالله الواحد الأحد, ولم يكن يرُقُ لحور محب مثل هؤلاء القوم. ولاعتقاده أن إخناتون هو من مَكَّنَ هؤلاء من أن يحكموا مصر. فإذا كانت تلك هي سلبيات إخناتون وعقيدته, عقيدة التوحيد " اللهم أنت الإله الذي ليس معه سواه ". وسياسته التي هي الحب والسلام, فلماذا كل هذا الحقد من حور محب؟. أم يريد حور محب المشرك بالله الواحد, الحروب وسفك الدماء, فهذا ما يصنع لمصر عظمتها ونفوذها بين الأمم ؟!!. إن ما كان يدعو إليه الداعية العظيم "إخناتون", هو نفسه الذي كان يدعو إليه الأنبياء والمرسلين. ومن كانت هذه عقيدته, فلا يعقل أن يقال عنه أنه كان يعبد الشمس؟!! فالشمس لم تكن هي الإله, ولكنَّ الشمس هي المخلوق الذي أودع الله فيه من نوره فجعل منه سبباً في بعث الحياة والنشاط, والعمل اليومي. وأن الشمس ليست هي أتون بل هي من آثار أتون. أليس رع هو قرص الشمس؟! فلماذا لم ينادي به إخناتون؟!.والمصريين القدماء جميعاً يقدسون"رع" الذي هو قرص الشمس, ولو كان آتون هو قرص الشمس فعلام تبناه اخناتون؟! ولماذا عاداه قومه إذن؟! فالأمر ما تعدى إلا استعمال اسم من أسماء الشمس الإله.
وإذا كان الأمر مجرد صراع بين كهنة تتمسك باسم الإله أتون "الشمس". وبين كهنة تؤيد اسم الإله رع, كما كان الأمر بين الإله أمون, والإله رع, فلنجمع بين الأسمين في لفظ " أتون رع" وليستفد جميع الكهنة من الطرفين قرابين مقدمة للآلهة!. والحقيقة هي أن الأمر جِدُّ مختلف. الحقيقة هي عبادة إله فوق كل الظواهر الطبيعية, إله واحد أحد ليس معه سواه.
يقول الدكتور محمد بيومي مهران: ( ويرى جون ويلسون " 1899- 1976 م ".. لم يكن بين آلهة الشمس المختلفة, أو مظاهر "إله" الشمس ما يسمى" أتون" قبل منتصف الأسرة الثامنة عشر. وهناك عبارة مبهمة يكثر استعمالها منذ بداية الأسرة الثامنة عشر وترجمتها "سيد كل ما يحيط بالقرص")4.
أصل كلمة فِرْعَوْنَ وبدء استعمالها:
ماذا تعنى كلمة فرعون, ومتى كان استعمالها؟!.
يقول الدكتور محمد بيومي مهران: (من المعروف تأريخيا أنَّ كلمة "فِرْعَون" بصيغتها المصرية القديمة "بر-عا"
إنما كانت تعني في بادئ ذي بدء " البيت- العالي " أو " البيت- العظيم"وهي طريقة من بين الطرق الكثيرة التي
كانت تشير إلى "القصر الملكي", وليس إلى ساكنه. ثُمَّ حدث خلال عصر تحتمس الثالث "1490- 1436ق م "
أن المصطلح " بر- عو" أو " بر-عا " أي " فِرْعَوْن" إنما بُدِء في إطلاقه على الملك نفسه. وانطلاقاً من هذا, فإن
__________________________________________
1- كتاب دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم ص. " 409, 410, 411 "
2- نفس المصدر السابق صفحة 160
3- نفس المصدر السابق صفحة 413
4- نفس المصدر السابق صفحة 447
إطلاق لفظة "فِرْعَوْن"على أي ملك قبل عصر تحتمس الثالث, إنما يُعَدُّ خطأ في تسلسل تواريخ الأحداث. حيث
أصبحت لفظة " فِرْعَوْن " تعبيراً محترماً يُقْصَدُ به الملك نفسه, منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة. وهكذا يبدو واضحاً أنَّ
استعمال التوراة في قصتي إبراهيم ويوسف عليهما السلام " تكوين 12: 14-20 , 39: 1 , 40: 2-21 , 41 : 1-14 , 42: 15 , 47: 1-26 ,50 : 4-7 " إنما هو خطأ تأريخي . والأمر بالنسبة للقرآن الكريم الذي حرص في سرده لقصة يوسف عليه السلام, وقد عاش في مصر أيام الهكسوس حوالي " 1672- 1575ق م" على أن يلقب حاكم مصر الذي عاصر النبي الكريم بلقب الملك "سورة يوسف آية 43, 54." بينما حرص على أن يلقب ذلك الملك الذي عاصر موسى عليه السلام, وقد خرج من مصر على رأس بني إسرائيل حوالي "1214ق م" فيما نرجح, أي في الفترة التي كان يحمل فيها ملك مصر لقب " فِرْعَوْن". وعلى أي الأحوال, فإن لقب "فِرْعَوْن" إنما يبدو مؤكدا منذ أيام" إخناتون "1367- 1350 ق م" ...)1.
وهكذا فإن لقب "فِرْعَوْن" إنما يبدو مؤكدا استعماله منذ أيام "إخناتون".
تقول الأديان السماوية أن بني إسرائيل عاشوا في مصر ردحا من الزمان حيث كانت البداية في زمن الهكسوس وكان خروجهم من مصر في زمن حدث فيه صراع عقائدي بين النبي موسى وبين احد الفراعين, وتقول التوراة عنه انه رمسيس الثاني ولم يوضح القرآن اسم ذلك الفرعون رغم أن الله قال له: لتكون لمن خلفك آية. ولما كان التاريخ الفرعوني مُبْهَماً بصفة عامة, ومتجاهلاً لحقيقة الوجود الإسرائيلي بصفة خاصة, وحيث لا يوجد أيّة آثار تدل على هذا الوجود الإسرائيلي في مصر نهائيا, ولا زمن خروجهم, اللهم إلا ما وجدوه مكتوبا في لوح إسرائيل الأثر القديم الوحيد الذي يتحدث عن الوجود الإسرائيلي في مصر, والذي يعود تاريخه إلى زمن الفرعون مرنبتاح ابن الفرعون رمسيس الثاني والتي يقول فيها (وبذرة إسرائيل انقطعت), لذلك راح علماء الآثار والباحثين عن الحقيقة يؤولون ويفسرون ويستنتجون ويتوقعون دون وضع أيديهم على الحقيقة وهناك من اعتمد على لوح إسرائيل. وهناك من اعتمد على الأبعاد الزمانية. وهناك من اعتمد على التوراة وهناك من قاس صفات فرعون المذكورة في القران مع صفات أي فرعون تتقارب صفاته.
فهناك من قال: أن أحمس الأول هو فرعون موسى بناء على معلومة للمؤرخ اليهودي (يوسف بن متى) الذي عاش في العام 280 قبل الميلاد حيث ذكر أن العابيرو أو الخابيرو هم أنفسهم العبرانيون أي بني إسرائيل. وهم أيضا الهكسوس الذي طردهم أحمس فكان هذا هو ما يمسى بالخروج (د. رشدي البدراوي ). وهناك من يقول أن أحمس هو فرعون التسخير. وان تحتمس الأول هو فرعون الخروج. وهناك من يقول أن فرعون موسى هو تحتمس الثالث حتى قيل عن اخناتون انه هو موسى علية السلام. وطالما أن هناك من يقول بذلك, فلماذا لا يكون ما يقولونه قريب من الحقيقة؟!
وهناك من يقول أن توت عنخ أمون ربما هو فرعون موسى.
غير أن هناك شبه إجماع على أن رمسيس الثاني هو فرعون التسخير وان ابنه مرنبتاح هو فرعون الخروج.
إن جميع من تحدثوا عن فرعون موسى لم يَبْنوا أقوالهم على حقائق تاريخية أو دينيه. بل على ظنون وتوقعات.
كما أن المعلومات المستقاة من التوراة ليست كافية, والتي تقول أن رمسيس الثاني هو الفرعون المقصود فالتوراة كتبت بعد عهد موسى بأكثر من سبعمائة سنة وهذا في حد ذاته دليل على عدم الدقة والجنوح فيما كُتِبَ عن الحقيقة.
كما أن معلومات التوراة لا يوجد من الآثار ولو اثر واحد يؤيدها.
إذن فلابد أن يُبْنى الاستنتاج على أسس من المنطق والواقع. وبالتالي على الباحث عن الحقيقة أن لا يتجاهل أية
معلومة مهما كان صغرها, طالما أنها تقربه, أو تقف به باتجاهها.
هل حكم بني إسرائيل مصر بعد غرق فرعون؟!:
من الحقائق التي يجب عدم تجاهلها, حقيقة عودة الإسرائيليين إلى مصر بعد غرق فرعون وتورثهم لجميع أملاكه
قال تعالى: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ...الآية }2. وقال تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}3.
وقال تعالى{فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}4.
يقول الشيخ السيوطي: (كذلك: أخراجنا كما وصفنا. وأورثناها بني إسرائيل: بعد إغراق فرعون وقومه)5.
يقول القرطبي:( يُرِيد أَنَّ جَمِيع مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْجَنَّات وَالْعُيُون وَالْكُنُوز وَالْمَقَام الْكَرِيم أَوْرَثَهُ اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل.
_________________________________________
1- نفس المصدر السابق هامش صفحة 347
2- سورة الأعراف137
3- الدخان25 , 26 , 27 . 28
4- الشعراء 57, 58, 59 .
5- تفسير الجلالين " انترنت "
قال الْحَسَن وَغَيْره: رَجَعَ بَنُو إِسْرَائِيل إِلَى مِصْر بَعْد هَلاك فِرْعَوْن وَقَوْمه. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوِرَاثَةِ هُنَا مَا اِسْتَعَارُوهُ مِنْ حُلِيّ آلَ فِرْعَوْن بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى. قُلْت: وَكِلا الْأَمْرَيْنِ حَصَلَ لَهُمْ. وَالْحَمْد لِلَّهِ )1. انترنت
التفسير الميَّسر: ( جعلنا هذه الديار من بعدهم لبني إسرائيل.)2.
ويقول الإمام النسفي:(..عن الحسن: لَمّا عبروا النهر رجعوا, وأخذوا ديارهم وأموالهم ..)3.
والآيات 57, 58, 59: تُبين بجلاء ووضوح, و تؤكد أن الإسرائيليين تورثوا من المصريين:
1- الجنات والبساتين. ومن الذي يملك تلك الضياع؟! لا شك أنهم الأغنياء, والوزراء والحكام.
2- الكنوز والثروات, وهي أيضاً من ممتلكات الأغنياء والحكام, والدولة.
3- والمقام الكريم الموقع العالي في الدولة المقام الرفيع. وهذه تدل على سيطرة الإسرائيليين على مقاليد الحكم.
إذن عودة الإسرائيليين إلى مصر بعد غرق فرعون وتوليهم أمر البلاد حقيقة لا ريب فيها يجب ألا يجهلها أي باحث عن فرعون موسى؟. وهذه نقطة مهمة جداً غفل عنها الدكتور البدراوي في نظريته التي ذكرها في كتابه" من هو فرعون موسى". إذ لو كان مرنبتاح هو فرعون الخروج بعد أبيه رمسيس الثاني, لما تورث الإسرائيليون بلاد مصر وحكموها؟. والحقيقة القرآنية توجب من كل باحث أن يبني عليها. فلابُدَّ إذن من أن يكون من تولى حكم مصر بعد غرق الفرعون, سواء كان ابنه أو غير ذلك, لا بَدَّ وأن يكون مؤمناً بالله الواحد الأحد الذي ليس معه سواه , حتى يسمح لبني إسرائيل من العودة, ويرثوا فرعون ومملكته.أليس كذلك؟!!.
كما أن قضية عودة الإسرائيليين إلى مصر بعد غرق فرعون تنفي أن يكون أيّاً من رمسيس الثاني أو مرنبتاح ابن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج.
وبعد: قال تعالى: { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }4.
هناك حقائق قرآنية لا ريب فيها. وهناك حقائق تاريخية أيضا لا ريب. فيها فإذا تطابقت الحقائق التاريخية مع الحقائق القرآنية, فإن هذا يعني إننا قد اقتربنا اقتراباً شديدا من حقيقة فرعون موسى, أما إذا لم تتطابق, فهذا يعني أننا مخطئين في اجتهادنا:
_____________________________________
1- تفسير القرطبي " انترنت "
2- التفسير الميسر " انترنت "
3- تفسير النسفي جزء 3 صفحة233 .
4- سورة القصص3.
الحقائق القرآنية
أولا: أرسل الله نبيه موسى بن عمران ومعه أخاه هارون الذي كان يكبره سنا, وأفصح منه لسانا, رسولين إلى فرعون وملأه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ*إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ }1.
يقول الطبري: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا: يَعْنِي بِأَدِلَّتِهِ. وَسُلْطَان مُبِين...حَدَّثَنَا بِشْر, قَالَ: ثنا يَزِيد, قَالَ: ثنا سَعِيد, عَنْ قَتَادَة: وَسُلْطَان مُبِين: أَيْ عُذْر مُبِين. يَقُول: وَحُجَجه الْمُبَيَّنَة لِمَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا حُجَّة مُحَقِّقَة مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى. إِلَى فِرْعَوْن وَهَامَان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحِر كَذَّاب: يَقُول: فَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى لِمُوسَى..)2.
وقال تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ .....}3.
يقول الأمام الطبري:( الْقَوْل في تَأْويل قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إلَى فرْعَوْن: يَقُول تَعَالَى ذكْره لنَبيّه مُوسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْه: اذْهَبْ: يَا مُوسَى. إلَى فرْعَوْن.....اذْهَبْ إلَى فرْعَوْن ....فَادْعُهُ إلَى تَوْحيد اللَّه وَطَاعَته, وَإرْسَال بَني إسْرَائيل مَعَك.)4.
ثانيا : هناك فرعوناً حكم مصر هو المقصود بعينه بالدعوة, والرسالة التي جاء بها موسى.
قال تعالي: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }5. ولقد أعطانا الله في قرآنه الكريم أوصافا لهذا الفرعون:
1- كان الفرعون المقصود يدعي الإلهية:
قال تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى*فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى }6.
يقول الإمام القرطبي: ( أَيْ لَا رَبّ لَكُمْ فَوْقِي. وَيُرْوَى: أَنَّ إِبْلِيس تَصَوَّرَ لِفِرْعَوْن فِي صُورَة الْإِنْس بِمِصْر فِي الْحَمَّام, فَأَنْكَرَهُ فِرْعَوْن, فَقَالَ لَهُ إِبْلِيس: وَيْحك! أَمَا تَعْرِفنِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَيْف وَأَنْتَ خَلَقْتنِي؟ أَلَسْت الْقَائِل أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي كِتَاب الْعَرَائِس. وَقَالَ عَطَاء: كَانَ صَنَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا صِغَارًا وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا, فَقَالَ أَنَا رَبّ أَصْنَامكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْقَادَة وَالسَّادَة. هُوَ رَبّهمْ , وَأُولَئِكَ, هُمْ أَرْبَاب السَّفَلَة.)7.
وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي...}8.
التفسير الميسر: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي... )*.
قال ابن كثير:( يُخْبِر تَعَالَى عَنْ كُفْر فِرْعَوْن وَطُغْيَانه وَافْتِرَائِهِ فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّة لِنَفْسِهِ الْقَبِيحَة لَعَنَهُ اللَّه كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَاسْتَخَفَّ قَوْمه فَأَطَاعُوهُ " الْآيَة وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَاف لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولهمْ
وَسَخَافَة أَذْهَانهمْ وَلِهَذَا قَالَ: " يَا أَيُّهَا الْمَلَأ مَا عَلِمْت لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرِي" وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ " فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّه نَكَال الْآخِرَة وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَة لِمَنْ يَخْشَى " يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمه وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ
الْعَالِي مُصَرِّحًا لَهُمْ بِذَلِكَ فَأَجَابُوهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ وَلِهَذَا اِنْتَقَمَ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ فَجَعَلَهُ عِبْرَة لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَحَتَّى
أَنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكَلِيم بِذَلِكَ فَقَالَ: "لَئِنْ اِتَّخَذْت إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ..)*
2- وكان متكبراً ومتعالياً:
قال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ }9.
قال ابن كثير: ( وَقَوْله تَعَالَى: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُوده فِي الْأَرْض بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ " أَيْ طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْض الْفَسَاد وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا قِيَامَة وَلَا مَعَاد "فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّك سَوْط عَذَاب إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ")*
وقال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ....}10.
قال السيوطي: (إن فرعون علا: تعظم. في الأرض: أرض مصر. وجعل أهلها شيعا: فرقا في خدمته. يستضعف طائفة منهم:هم بنو إسرائيل...). انترنت
3- كان فرعون ضالا لقومه وخادعا لهم:
قال تعالى: { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }11.
قال ابن كثير: ( فَقَوْله"مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى "كَذَبَ فِيهِ وَافْتَرَى وَخَانَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
________________________________________
1-سورة غافر آية 23 , 24 9- سورة الشعراء آية 29
2- تفسير الطبري إنترنت 10- سورة القصص آية 39
3- سورة طه آية 24 11- سورة القصص آية 4
4- تفسير الطبري " إنترنت" * جميع التفاسير في هذه الصفحة من الإنترنت
5- سورة طه 43
6- سورة النازعات آية " 23 , 24 "
7- تفسير القرطبي " من الإنترنت"
8- سورة القصص آية 38
وَرَعِيَّته فَغَشَّهُمْ وَمَا نَصَحَهُمْ وَكَذَا قَوْله" وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ "أَيْ وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيق الْحَقّ وَالصِّدْق وَالرَّشَد وَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْمه قَدْ أَطَاعُوهُ وَاتَّبَعُوهُ. قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى "فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ " وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَته "وَأَضَلَّ فِرْعَوْن قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)*
وقال تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ }1.
وقال ابن كثير:( أَيْ اِسْتَخَفَّ عُقُولهمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَة فَاسْتَجَابُوا لَهُ.)*
كيف استخف فرعون قومه؟!. لقد استعمل فرعون أسلوب المنطق والواقع, حيث أن فرعون مَلِكٌ يمتلك البلاد والعباد والثروات. يأمر فيطاع, فهو صاحب الأمر والنفوذ. أما موسى فمن هو؟! فهو "في منطق فرعون الضال والمضل" لا يمتلك شيئاً؛ لا قوة ولا مال ولا منصب ولا جاه, وبالتالي من هو بالنسبة لفرعون الذي يمتلك كل شيء ؟!
قال تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ }2.
وقال تعالى : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى }3.
الطبري: ( وَأَضَلَّ فرْعَوْن قَوْمه وَمَا هَدَى: يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَجَاوَزَ فرْعَوْن بقَوْمه عَنْ سَوَاء السَّبيل , وَأَخَذَ بهمْ عَلَى
غَيْر اسْتقَامَة, وَذَلكَ أَنَّهُ سَلَكَ بهمْ طَريق أَهْل النَّار, بأَمْرهمْ بالْكُفْر باَللَّه, وَتَكْذيب رُسُله وَمَا هَدَى: يَقُول: وَمَا سَلَكَ بهمْ
الطَّريق الْمُسْتَقيم, وَذَلكَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ اتّبَاع رَسُول اللَّه مُوسَى, وَالتَّصْديق به, فَأَطَاعُوهُ , فَلَمْ يَهْدهمْ بأَمْره إيَّاهُمْ بذَلكَ, وَلَمْ يَهْتَدُوا باتّبَاعهمْ إيَّاهُ .)*.
وقال الله عنه: {.. وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ }4.
أيسر التفاسير: ( .. وليس في أمر فرعون رشد ولا هدى, وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد.)*
4- كان فرعون ظالما يسفك الدماء ويعيث في الأرض الفساد:
قال تعالى: {...يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}5.
قال الطبري: ( وقوله: يستضعف طائفة منهم ذكر أن استضعافه إياها كان استعباده. ذكر من قال ذلك: 20676 -حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: يستعبد طائفة منهم, ويذبح طائفة, ويقتل طائفة, ويستحيي طائفة. وقوله: إنه كان من المفسدين يقول: إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق منه القتل, واستعباده من ليس له استعباده وتجبره في الأرض على أهلها, وتكبره على عبادة ربه. )*.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }6.
5- كان فرعون مسرفاً:
{.. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}7.
من القاموس: (أسْرَفَ يُسْرِفُ إِسْرافاً: جاوز الحَدَّ...سَرَفٌ: مُجَاوزة الحد والضراوة بالشيء والولوع به )8.
إذن الإسراف هو الغلو في الشيء ومجاوزة الحد. ولم يكن فرعون متجاوزاً في حده في تعاليه على الله وتأليه نفسه فحسب كما يقول بذلك المفسرون. بل كان فرعون مجاوزاً لحدوده في الملذات والشهوات أيضاً, وإذا كان قارون مسرفاً مادياً أفلا يكون فرعون كذلك؟!
كانت تلك بعضٌ من صفات فرعون الذي عاصر موسى وهي حقائق قرآنية لا ريب فيها. فهل يا تُرى يوجد في التاريخ الفرعوني من يتصف بمثل هذه الصفات؟!
ثالثا: كان هناك صراع عقائدي في عهد ذلك الفرعون: وكان هذا الصراع يجري على ثلاث جبهات:
الجبهة الأولى كانت بين موسى وفرعون وجهاً لوجه:
قال تعالي :
( قال: فمن ربكما يا موسى؟.
قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى.
قال: فما بال القرون الأولى؟
____________________________________
1- سورة غافر آية 29
2- سورة الزخرف آية 54
3- سورة طه آية 79
4- سورة هود آية 97
5- سورة القصص آية 4
6- سورة إبراهيم آية 6
7- سورة يونس آية 83
8- قاموس لاروس صفحة 620
*جميع التفاسير من الانترنت
قال: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
قال: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ؟ فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت.
قال: موعدكم يوم الزينة وان يُحشر الناس ضحى.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.
{قَالَ لَهُم مُّوسَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.
{قَالُوا: يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى .
{قَالَ: بَلْ أَلْقُوا.... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى* فأوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى* قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.
كان ذلك الوجه الأول من الصراع العقائدي والذي دار بين موسى عليه السلام من جانب وبين وفرعون وملأه من الجانب الآخر. وقد أنحسم الصراع لصالح موسى. فاستشاط فرعون غضباً لإيمان السحرة وسجودهم, وحول دفة الصراع من الصراع الفكري والعقائدي, إلى القمع والإرهاب:
{ قَالَ: آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى.
{ قَالُوا: لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )1.
ولما تعقد الأمر وزادت الأوضاع سوءً, دعا فرعون إلى اجتماع مجلس الأعيان لمناقشة أحداث الصراع الدائرة في البلاد. وما يمكن أن يُتَخَذُ من قرارات لضبط الأمور, وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ظهور موسى. وإذا بالاجتماع يُفَجِّرُ جبهة صراع أخرى:
( وَقَالَ: فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ..
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ*يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا ..
قَالَ فِرْعَوْنُ:{.. مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ...)2.
يقول الدكتور رشدي البدراوي: (سمع فرعون مقالة هذا الرجل المؤمن, وكان رده أن قال: إن ما يشير به من قتل موسى هو الرأي الصواب والذي يجب أن يروه هم أيضاً كذلك, ولا يخالفون رأيه لأنه يقول بالرأي الرشيد ....
قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ*مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ}3.
الدكتور البدراوي مرة ثانية: ( وعاد الرجل المؤمن يناشد قومه ويقول لهم إني أخاف عليكم –من جراء تكذيبكم موسى –أن يحل عليكم ما حلَّ بالذين تحَزَّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوا رسلهم نوح وعاد وثمود. وآخرين جاءوا من
بعدهم "مثل قوم لوط وأهل مدين" وما حل بهؤلاء لم يكن ظلماً بل عدلاً من الله جزاء تكذيبهم...)4.
واحتد الجدال وبلغ مبلغاً لا يُحتمل وهنا توجه فرعون إلى جموع الناس المحتشدة خارج مقر الاجتماع وتبعه المجتمعون: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ: قَالَ: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ*أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}5. {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي...}6. وهتف له قومه وأيدوا أسلوبه المنطقي في الإقناع. كما تهتف الشعوب لحكامها في هذا الزمان. والحقيقة هي أن فرعون استخف قومه فأطاعوه. ثم التفت إلى هامان وقال له متهكماً: {.. يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ*أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً..}7.
ورأى فرعون أن الأمور لن تستقيم إلا بقتل موسى. فجاءته الأخبار أن موسى ومن معه, قد فروا من البلاد فحشد جيشه لمطاردته. و لم يتوانى وانطلق في مطاردة الفئة المؤمنة فحدث له ما حدث .قال تعالى:{.. وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ }8 فما معنى: {.. وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}؟
___________________________
1- سورة طه آيات "49 , 50 , 51 ,52 , 57 , 60 , 61 , 65 , 66 , 67 ,68 ,69, 71 , 72, "
2- سورة غافر آيات " 26, 28, 29 "
3- غافر 30, 31
4- كتاب قصص الأنبياء " من ه9و فرعون موسى"
5- الزخرف 52
6- سورة القصص آية 38
7- غافر 36
8- غافر 37.
من القاموس :(ت ب ب " التَّبَابُ " بالفتح : الخسران والهلاك .. )1. و( تَبَّ " تَبَبْتُ " يَتِبُّ تَبْاً تابٌّ: تَبَّ المرءُ: خَسِرَ وهلك " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" المسد1. وتَبَاً له: ألْزَمَهُ الله الخسران والهلاك / خُسْراناً وهلاكاً...) 2.
إذن خسر فرعون مملكته, بأن تورثها غيره. وأهلكه الله بالغرق.
خلت ساحة الصراع من فرعون. وكذلك غاب سيدنا موسى عن هذه الساحة لما حاول الهرب من بطش فرعون وملأه, ودليل ذلك أن الرجل المؤمن لما علم ما جرى لفرعون قال لقومه: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. فلو كان موسى موجوداً لكان قول الرجل المؤمن: ويا قوم اتبعوا موسى يهدكم سبيل الرشاد. ولكون موسى قد غادر الأراضي المصرية إلى سيناء, لذلك كان الرجل المؤمن ممثلاً عن موسى في دعوته. ومن هنا قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. كما أن الرجل المؤمن يريد بمقولته هذه أن يعلن للملأ عن توليه زمام الأمور في البلاد المصرية. ولا مفر للقوم من إتباع منهج دعوته. وبذلك بدأ الوجه الثالث للصراع العقائدي فكان بين الرجل المؤمن وبين الملأ من آل فرعون:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ.. وراح يذكرهم بتفاهة الحياة الدنيا فقال: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ* مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }3 .
وكأن القوم يهمهمون بصوت قائلين: إلهنا أمون رع, ويجب عليك إتباع شريعته. فيردُّ عليهم الرجل المؤمن قائلاً: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }4.
كما أن قوله يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ, يدل أيضاً على تولي هذا الرجل المؤمن مقاليد الحكم في البلاد, فهو يطلب من قومه أن يُنْهوا الجدل العقائدي والخلاف الديني بإتباع منهجه التوحيدي, وسياسته الراشدة, ففي ذلك الهدى والرشاد. وحاول الكهنة الكيد له والبطش به فنجاه الله منهم وحسم الصراع لصالح الرجل المؤمن وأهلك الله آل فرعون.
قال تعالى: ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}5.
وكانت النتيجة قوله تعالى: {.. وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }6.
رابعا: هناك زوجة لفرعون:
1- كانت مؤمنه: قال تعالى: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون }7.
التفسير الميسر : ( وضرب الله مثلا لحال المؤمنين- الذين صدَّقوا الله, وعبدوه وحده, وعملوا بشرعه, وأنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين في معاملتهم- بحال زوجة فرعون التي كانت في عصمة أشد الكافرين بالله, وهي مؤمنة بالله. )
2- وكان لديها القدرة على إصدار قرارات وإبطال قرارات .
وقال تعالى: { وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه ..}8.
الشيخ السيوطي: (وقالت امرأة فرعون: وقد هم مع أعوانه بقتله هو قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا: فأطاعوها وهم لا يشعرون بعاقبة أمرهم معه)*.
يقول الأمام النسفي: (لا تقتلوه :خاطبته خطاب الملوك, أو خاطبت الغواة ..}*.
وهنا أتساءل لماذا أطاع فرعون زوجته ولم يقتل موسى؟
ا- ألا يدلُّ ذلك على حبَّ فرعون لزوجته؟.
ب- ألا يدلُّ على قوة نفوذ زوجة فرعون حيث أصدرت أمراً مغايراً لأمره, والتزم فرعون لأمر زوجته ولم يقتل الطفل؟.
ج_ محاولته تعويضها على حرمانها من الأولاد, أو ربما تعويضها عن ولدٍ وحيدٍ لها فقدته بالموت: خصوصاً وقد قالت له: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.
لنناقش الأمر بهدوء وموضوعية: هناك نبوءة تقول إن مُلْكَ فرعون سينتهي على يد إسرائيلي... وهناك طفل التقطته امرأة فرعون من النهر وعُرف أنه إسرائيلي ... وهناك فرعون الطاغية الذي علم بقصة هذا الطفل, فأمر بقتله, وهذا
أمر طبيعي, درءاً لما يمكن أن يجره مثل هذا الطفل على فرعون وملكه من دمار... وهناك خدم وجند فرعون جاءوا
______________________________________
1- مختار الصحاح صفحة 55 * جميع التفاسير من الانترنت
2- لاروس صفحة 192
3- غافر40
4- غافر آية 44
5- غافر 45.
6-سورة الأعراف آية 137
7- التحريم آية 11
8- سورة القصص آية 9.
لينفذوا أمره.
ولنتخيل المشهد: في باحة القصر...جنود واقفين ومحفزين وحاملين السيوف والسكاكين منتظرين الملكة أن تسلمهم الطفل لقتله تنفيذاً لأمر ملكهم فرعون.... وهناك فرعون يشير إلى الجنود مرة, وإلى الطفل مرة أخرى وهو يقول: اقتلوه...اقتلوه... وهناك خُدَّامُ القصر متجمهرين ليروا ماذا سيحدث؟... ؟ وفجأة! يعلو صوت الملكة قائلة: لا تقتلوه!.
تُرى ماذا سيكون ردُّ فعل الجنود؟ وردَّ فعل فرعون الطاغية؟!. المنطق الطبيعي هو أن ينتزع الجنود الطفل من المرأة انتزاعاً, لتنفيذ أوامر جلالته. وأن يأمر فرعون, إما باعتقال هذه المرأة. أو بقتلها مع الطفل. ولكن! خضع فرعون و"نَخَّ" وذهل الجميع مما سمعوه من الملكة: إذ كيف يُعْصى أمر فرعون؟! ومن الذي يجرؤ على ذلك؟!. والغريب في الأمر هو أن فرعون التزم لأمر زوجته وأصدر أمراً للجند بعدم قتل الطفل والابتعاد عن المكان.
لقد " نَخَّ " وهدأ هديره وسَّلَّم للملكة. وامتثل لأمرها. وكأن الملكة أرادت أن تبين لفرعون لماذا رفضت قتل الطفل فقالت: عسى أن ينفعنا نحن جلالة الملكة, أو نتخذه ولداً يسري عنا حزننا.
أليس في ذلك كله دليل على نفوذ الملكة وقوة مكانتها لدى فرعون, وشدة حبه لها, والعمل على تنفيذ ما يمكن أن يُرضيها؟. لا تقتلوه! خاطبته خطاب ملوك يصدرون أوامرهم للجميع بما فيهم فرعون: لن يُقتل هذا الطفل. ويجب على الجميع أن يمتثل لهذا الأمر.
3- طلبت من ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة:
قال تعالى: {.... إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ..}1.
والسؤال هنا لماذا طلبت امرأة فرعون من ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة؟!.. هل كانت تتصور أنها إذا ما دخلت الجنة سوف لا تجد بيوتاً, ولا قصوراً؟!!.
متى يمكن لإنسان ما أن يطلب من ربه أن يبني له بيتاً في الجنة؟. لنفترض أن إنساناً ما لا يملك بيتاً, وهو عاجز عن بناء مثل هذا البيت, لأنه لا يمتلك ثمن بناء هذا البيت, ويعجز عن تحصيل مثل هذا الثمن. وهذا الشخص مؤمن بنصيبه وقضاء الله فيه, تُرى ماذا يكون موقف مثل هذا الشخص إذا ما كان له صاحب يبني بيتاً, وقادرٌ على ذلك, ويتحدث معه عن جمال هذا البيت الذي يريد أن يبنيه؟. أعتقد أن الرجل الفقير العاجز عن بناء البيت سوف يقول عندها: بيت في الجنة خير من كل بيوت الأرض. اللهم ابن لي عندك بيتاً في الجنة.
ولنفترض أن امرأة مؤمنة, وهي جميلة وعاقلة, ومحبوبة لدى زوجها. وزوجها فاسق وفاجر, ويحاول أن يفعل المستحيل لإرضاء رغباتها, فقرر أن يبني لها قصراً ويجعل فيه بحيرة لترفه فيها عن نفسها. تُرى ماذا يمكن أن تقول مثل هذه الزوجة حينها؟!. لا شك أنها ستقول: ربِّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة, ونجني من هذا الفاسق وعمله. أليس كذلك؟!. وهذا ما حدث من امرأة فرعون, حيث أنها مؤمنة. وفرعون كافر وظالم, وهو يحبها ويحاول إرضائها, فبنى لها قصراً جميلاً لترفه فيه عن نفسها, لذلك والله اعلم دعت ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة فهو خيرٌ من قصر فرعون.
4- طلبت النجاة من فرعون وعمله: قال تعالى: ونجني من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين}
التفسير الميسر: ( وأنقذني من سلطان فرعون وفتنته, ومما يصدر عنه من أعمال الشر, وأنقذني من القوم التابعين له في الظلم والضلال, ومن عذابهم.)*. فالكهنة غاضبون مما يحدث ويسعون للبطش في كل من يؤيد موسى أو يبايعه وهذه المرأة المؤمنة تخشى على نفسها من بطش هؤلاء بها. وتحريضهم لزوجها عليها. ولن يشفع لها وقت ذاك, حبه لها.
خامسا: هناك رجل ما لم يحدد القرآن له اسم:
1- كان مؤمناً ًبالله الواحد الأحد {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ..}
التفسير الميسر: ( وقال رجل مؤمن بالله من آل فرعون, يكتم إيمانه منكرًا على قومه: كيف تستحلون قَتْلَ رجل لا جرم له عندكم إلا أن يقول ربي الله, وقد جاءكم بالبراهين القاطعة مِن ربكم على صِدْق ما يقول؟ فإن يك موسى كاذبًا فإنَّ وبالَ كذبه عائد عليه وحده, وإن يك صادقًا لحقكم بعض الذي يتوعَّدكم به...)*
2- كان من آل فرعون {.. مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ..}
من يكون يا تُرى يكون هذا الرجل المؤمن؟ وما هي درجة قرابته من فرعون؟!
يقول الطبري: ( وَقَوْله: وَقَالَ رَجُل مُؤْمِن مِنْ آل فِرْعَوْن يَكْتُم إِيمَانه: اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي هَذَا الرَّجُل الْمُؤْمِن, فَقَالَ بَعْضهمْ: كَانَ مِنْ قَوْم فِرْعَوْن, غَيْر أَنَّهُ كَانَ قَدْ آمَنَ بِمُوسَى, وَكَانَ يُسِرّ إِيمَانه مِنْ فِرْعَوْن وَقَوْمه خَوْفًا عَلَى نَفْسه. ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23382 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد, قَالَ: ثنا أَحْمَد, قَالَ: ثنا أَسْبَاط, عَنْ السُّدِّيّ: وَقَالَ رَجُل مُؤْمِن مِنْ آل فِرْعَوْن
___________________________________
1- سورة التحريم آية 11
* انترنت
قَالَ: هُوَ اِبْن عَمّ فِرْعَوْن....وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ الرَّجُل إِسْرَائِيلِيًّا, وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُم إِيمَانه مِنْ آل فِرْعَوْن...)*
أولاً: لا يمكن أن يكون هذا المؤمن من الإسرائيليين. لماذا؟! لسبب بسيط وهو أن الثائرين على فرعون هم الإسرائيليون. فلو كان هذا المؤمن منهم لما توانى فرعون بأن يبطش به ويقتله, بعد مقولته تلك.
ثانياً: لا يمكن أن يكون ابن عم فرعون. لماذا؟ لأن ابن العم يطمع في تورث العرش, وبالتالي يمكن أن يتآمر مع الثائرين أو ربما هو قائدهم الحقيقي, وهذا يدفع فرعون للبطش به. لكن ما حدث هو عكس ذلك. فمن يكون إذن؟!
كما لا يمكن أن يكون من قوم فرعون فقط, فهذه القربى البعيدة لا تسمح لهذا الرجل من أن يعترض على قرارات فرعون الطاغية المعرض ملكه للدمار. فهو إذن لا بد وأن يكون من عائلة فرعون؟!
يقول الطبري: ( حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد, قَالَ: ثنا سَلَمَة, عَنْ اِبْن إِسْحَاق. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ السُّدِّيّ مِنْ أَنَّ الرَّجُل الْمُؤْمِن كَانَ مِنْ آل فِرْعَوْن, قَدْ أَصْغَى لِكَلَامِهِ, وَاسْتَمَعَ مِنْهُ مَا قَالَهُ, وَتَوَقَّفَ عَنْ قَتْل مُوسَى عِنْد نَهْيه عَنْ قَتْله)*.
فهل مثل هذا يمكن أن يكون من قوم فرعون, أو ابن عمه أو حتى قريب زوجته؟.
يقول الدكتور رشدي البدراوي: ( ...وتتملكنا الدهشة!! كيف لم يخشَ غضب فرعون وبطشه؟!. ومن أين واتته الجرأة؟. أكان من عائلة كبيرة يَحْسِبُ لها فرعون ألف حساب؟!. ولكن! أية عائلة هذه التي تستطيع الوقوف أمام فرعون, وهامان وجنودهما؟!. أكان يمت بصلة قرابة للفرعون؟!. ولكن حتى لو كان أخاه؟ إذن فهو أقرب من الأخ. وليس هناك أقرب من الأخ إلا الزوجة. فهل كان شقيقاً لزوجته؟. افتراض! بل احتمال شبه مؤكد. إذ لا يمنع فرعون من البطش به إلا أن يكون الأمر كذلك. ويكون الذي آمن أخاً للتي آمنت زوجة فرعون المؤمنة! وخال ولي العهد!.)1.
وهل يقبل فرعون من هذا أن يعترض على أوامره؟! لا شك أن الزوجة أقرب من الأخ, ولكن يظل أخ الزوجة محلَّ شكٍّ, ولا يقبل منه الاعتراض على قرارات فرعون خصوصاً أمام الملأ.
ولكن إذا لم يكن من قوم فرعون, ولا ابن عمه ولا أخيه, ولا حتى شقيق زوجته, فمن يكون إذن هذا الرجل المؤمن الذي هو من آل فرعون؟! الأب؟! لا يمكن للأب أن يتآمر على ابنه. كما أن الأب هو الذي يُوَرِّثُ ابنه الملك, ولا يملك
الابن إلا بعد وفاة الأب. اللهم إلا إذا كان الأب وصل لحالة صحية أصبح على أثرها لا يدري ما يدور حوله.
بقي شخص واحدٌ فقط, وهو الوحيد الذي يمكن أن يعترض على قرارات فرعون ويقرُّ له فرعون ويهدأ, ولا يجرؤ على أن يبطش به, إنه ابنه الوحيد وولي عهده. إذ كيف يمكن له أن يبطش به ويقطع وراثته عن العرش. ويذهب العرش إلى
أيدي الطامعين به,مثل ما حدث مع حور محب عندما استولى على العرش؟ إذن المعترض على قرار قتل موسى هو ابن فرعون وولي عهده. والله أعلم
3- كان هذا الرجل المؤمن, يكتم إيمانه في البداية {.. يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ..}
يقول الدكتور رشدي البدراوي ( قال رجل من آل فرعون. قيل أنه ابن عم فرعون...كان قد آمن بموسى سِرّاً ولم يظهر إيمانه للناس. قال لهم أتقتلون رجلاً كل ما فعله هو أنه قال أن له رباً غير الرب الذي تعتقدون فيه. وقد جاءكم بالمعجزات والآيات التي تدل على صدقه وقال إنها من عند ربكم أنتم أيضاً. فإن كان كاذباً, فإن كذبه واقع عليه لا يتخطاه إلى غيره. أما إذا كان صادقاً وكدتم له, فسيصيبكم على الأقل بعض ما يتوعدكم به من عذاب لأن الله لا يؤيد بالمعجزات شخصاً يكذب ويسرف في الكذب. وناشدهم ثانية أنهم اليوم غالبون وظاهرون على بني إسرائيل ولهم الملك في أرض مصر. وسألهم من ينصركم من عذاب الله إن جاء؟!.)2.
4- كان يدافع عن موسى ويؤيده {..أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ...}
حدث هناك قصة تثبت تضامن هذا الرجل مع موسى, حيث أن موسى عندما قتل رجلاً من أعدائه عندما كان يتعارك مع رجلاً من أنصار موسى, أن جاء هذا الرجل المؤمن من أقصى المدينة مسرعاً إلى موسى ليحذره من أن الملأ يريدون قتله, ونصحه بالخروج ليتقي بذلك شرهم.
قال تعالى:{...فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}3.
الجلالين: (..فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته: إسرائيلي وهذا من عدوه: قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون..)*.
أعتقد أنه لم يكن لموسى أعداء قبل أن يعلن دعوته؟. والحقيقة هي أن الاثنين كانا يعملان في قصر فرعون, وكان الذي من شيعته من الذين عارضوا قتل موسى وهو صغير ويتبع الملكة, ويظهر الوُدَّ دائما لموسى. أما الآخر فهو ممن كان
يريد قتل موسى ويؤيد فرعون, ويظهر البغضاء والعداوة له في القصر دائماً. والله أعلم بالحقيقة.
___________________
1- كتاب قصص الأنبياء والتاريخ جزء 4 صفحة 896
2- نفس المصدر السابق صفحة 880
3- سورة القصص15
* من الانترنت
5-وكان بينه وبين الملأ من آل فرعون جدال عقائدي عنيف قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}1.
6- تآمر عليه قومه وحاولوا قتله قال تعالى :( {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا...}
7- وحُسِمَ الصراع العقائدي لصالح الرجل المؤمن . قال تعالى : ( ..وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }2.
سادساً: ومن الحقائق التي ذكرها القرآن: غرق الفرعون في البحر.
قال تعالى: { فاتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم....}3.
وقال تعالى: { حتى إذا أدركه الغرق قال أمنت انه لا اله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين والآن وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم تنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ..}4.
فَاليَوْمَ نُنَجِّيْكَ بِبَدَنِكَ
ونتساءل في هذا المقام: لا شك أن فرعون غرق مع من غرق من جنده لكن! هل مات فرعون أثناء غرقه ؟!
غرق فرعون في أعماق البحر بعيداً عن الشاطئ. وسحبته الدوامة إلى أعماق المياه, بعيداً عن السطح. ولكن هل مات فرعون في غرقه أم أنه نجى؟! القرآن قال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}5.
فما معنى ننجيك ببدنك ؟!.
الشيخ السيوطي يقول: (فاليوم ننجيك نخرجك من البحر ببدنك جسدك الذي لا روح فيه..)* .
التفسير الميسر: ( فاليوم نجعلك على مرتفع من الأرض ببدنك, ينظر إليك من كذَّب بهلاكك; لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك.)* .
يقول القرطبي: (أَيْ نُلْقِيك عَلَى نَجْوَة مِنْ الْأَرْض. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّ فِرْعَوْن غَرِقَ, وَقَالُوا: هُوَ أَعْظَم شَأْنًا مِنْ ذَلِكَ, فَأَلْقَاهُ اللَّه عَلَى نَجْوَة مِنْ الْأَرْض, أَيْ مَكَان مُرْتَفِع مِنْ الْبَحْر حَتَّى شَاهَدُوهُ...)*.
ومن القاموس: ( نَجَّى يُنَجِّي تَنْجِيةً مُنَجٍّ " المُنَجِّي " مُنَجًّى. نَجَّى الشخصَ: خَلَّصه "نَجَّى السباحُ الغريقَ". ونَجَا أي خَلَصَ" نَجَا بِجِلُدِه". مَنْجَىً جمعها مَنَاجٍ "المناجي": ما ارتفع من الأرض.)6.
فهل ألقى الله بجسد فرعون على مرتفعٍ من الأرض كما يقول بعض المفسرين؟. أم أن النجاة هنا هي الخلاص؟ . أي أن الله خَلَّصَه من الغرق؟!. وعندما يقول الله تعالى فاليوم ننجيك ببدنك: أي نُخَلِّصك ببدنك. فهل هذا يعني أنْ خَلَّص الله جسده فقط؟! أم أن النجاة كانت بحياة البدن دون القدرة على القيام بواجبات الحياة؟ وما قيمة نجاته هنا وهو ميت لا حراك فيه وبعد قليل سوف ندفنه في التراب, وربما لا يراه الكثير ممن هو خلفه؟!. ثمَّ ما معنى قوله تعالى: {..وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}7.
فكيف سيري اللهُ فرعونَ ما كان يحذره من الإسرائيليين؟ أي تدمير ملكه والاستيلاء عليه.
الجلالين: (..ونجعلهم الوارثين: ملك فرعون. ونمكن لهم في الأرض: أرض مصر والشام ونري فرعون وهامان وجنودهما: وفي قراءة ويَرَى بفتح التحتانية والراء ورفع الأسماء الثلاثة منهم ما كانوا يحذرون: يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه)*.
والقرآن أثبت لبني إسرائيل تورثهم مُلْكَ مصر بعد غرق فرعون, في عدة آيات:
القصص: { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }8.
والشعراء: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }9.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ }10.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }11 .
والقرآن يقول:{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ }12.
___________________________________
1- سورة غافر 41 11- الأعراف 137
2- سورة غافر آية 45 12- قصص آية 5
3- سورة طه 78 * من الإنترنت
4- يونس 90 ، 91 ,92
5- سورة يونس آية 92
6- قاموس لاروس 1176
7- سورة القصص آيتي " 5 , 6 "
8- القصص 5
9- الشعراء 59.
10- الدخان 28 .
والقراءة الأخرى كما يقول السيوطي{ ويَرَى فِرْعَوْنُ وهامانُ وجُنُودُهُمَا منهم ما كانوا يحذرون }*. فلابُدَّ وأن يكون فرعون حياً حتى يرى ماذا جرى لملكه .أليس كذلك ؟. ولكنه عاجزٌ عن فعل أي شيء وهو يرى من كان بالأمس يستضعفهم , ويذلهم , ويُقَتِّلُّ أبنائهم, كيف يتوارثونه وهو حي ينظر إليهم غير أنه عاجز لا قدرات عقلية ولا قدرات جسدية تسمح له بالاعتراض . ونُريَ فرعون : أي سيرى الله فرعون بأم عينيه ذلك .
التفسير الميسر: (..ونجعل فرعون وهامان وجنودهما يرون من هذه الطائفة المستضعفة ما كانوا يخافونه مِن هلاكهم وذهاب ملكهم, وإخراجهم من ديارهم على يد مولود من بني إسرائيل.)*.
القرطبي:(..أَيْ وَنُرِيد أَنْ نُرِي فِرْعَوْن وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف: "وَيَرَى" بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْل ثَلَاثِي مِنْ رَأَى"فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا" رَفْعًا لِأَنَّهُ الْفَاعِل الْبَاقُونَ "نُرِِي" بِضَمِّ النُّون وَكَسْر الرَّاء عَلَى أَنَّهُ فِعْل رُبَاعِيّ مِنْ أَرَى يُرِي, وَهِيَ عَلَى نَسَق الْكَلَام ; لِأَنَّ قَبْله "وَنُرِيد" وَبَعْده "وَنُمَكِّن" "فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهمَا " نَصْبًا بِوُقُوعِ الْفِعْل وَأَجَازَ الْفَرَّاء "وَيُرِي فِرْعَوْن" بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء وَفَتْح الْيَاء وَيُرِي اللَّه فِرْعَوْن)*
فهل سأل كل معتقد بأن فرعون مات في الغرق نفسه: كيف سَيُري اللهُ فرعونَ, ما مَنَّ به على بني إسرائيل وهو ميت؟!. فلا بد من أن يكون فرعون حياً ,حتى يرى بني إسرائيل يتمتعون بملكه .
ومن القاموس: (نَجَّى يُنَجِّي تَنْجِيَةً مُنَجٍّ " المُنَجّي" مُنَجَّىً. ونجَّى الشخْصَ: خَلَّصَّه" نَجَّى السَبَاحُ الغَريقَ". و مَنْجَى : مكان النجاة. ما ارتفع من الأرض )1. وعليه فإنَّ الله نَجَّى فرعونَ ببدنه أي خَلَّصَه بجسده دون وعيه. ولو أننا تخيلنا أن السباحُ أخرج جثة غريق مات في غرقه, فهل يمكننا أن نقول إن السباحَ نَجَّى الغريق بجسده؟! فالجسد الميت سوف يُدفن في التراب ويندثر فلا نجاة له. كما أن كل من تركهم فرعون خلفه سوف يرونه وهو عاجزٌ نفسياً وجسدياً. وهو الذي كان منذ فترة وجيزة "أي قبل غرقه" يقول: أنا ربكم الأعلى. أنا ربُّ السيف. آخذ كل شيء أريده بيدي. وهاهو أمامهم عاجز لا يستطيع فعل شيء والإسرائيليون يتمتعون في ثرواته وأملاكه, فيكون بذلك حقاً عبرة وعظة.
ويقول أحد من تناقشت معهم حول هذه القضية: إن الله نَجَّى جسد فرعون من أن يأكله السمك. وبالتالي يتعرف عليه الناس فيعتبرون بموته. ويقول آخر أن الله عَلَّمَ المصريين التحنيط في زمان فرعون وذلك لتحفظ جثته فيكون لمن وراءه
آية وعبرة. وعلى العموم لا يعلم بالحقيقة إلا الله .
وهنا لي وقفة: فمن يغرق فان جسده أي جثته يلقى بها البحر إلى الساحل فما قيمة قولة تعالى: الآن ننجيك ببدنك إذا كان فرعون مات واخرج البحر جثته؟ وقول تعالى لتكون لمن خلفك آية فهل المقصود بها من خلفه إلى يوم القيامة؟ أم أنَّ من خلفه ممن في البلاط الملكي والرعية الذين سمعوه وهو يدعى الآلهية وها هو قد غرق؟. أم أن من خلفه هم الملوك الذين سيأتون بعده؟!
وإذا قيل أن تحنيط جثه فرعون دليل على نجاته ببدنه, فإن هناك العشرات من الجثث الفرعونية محنطة ولا يعرف من بينها فرعون موسى؟. وأعود للسؤال السابق كيف سيرى فرعون وهامان تملك الإسرائيليين ملك فرعون؟ لا بدَّ أن يكون حياً حتى يرى ذلك؟. إذن كانت نجاة فرعون والله أعلم بالحقيقة, حيا ببدنه دون وعيه أو إدراكه والله اعلم.
سابعاً: خروج بني إسرائيل من مصر
هل خرج بني إسرائيل من مصر نهائياً بمطاردة فرعون لهم ولم يعودوا إليها؟. أم أن هذه المطاردة كانت خاتمة الصراع مع فرعون, وانتهت بغرق فرعون. ثم عاد الإسرائيليون إلى مصر وتورثوها كما أثبت القرآن ذلك. ثم خرجوا من مصر خروجاً فيه أمناً وسلاماً؟!. لنتأمل في ذلك:
1- المطاردة: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }2.
يقول السيوطي: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم: لحقهم. فرعون وجنوده بغياً وعدواً: مفعول له..)*
يقول الطبري: (الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعهُمْ فِرْعَوْن وَجُنُوده: يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَقَطَعْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ حَتَّى جَاوَزُوهُ. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْن: يَقُول: فَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُوده: يُقَال مِنْهُ: أَتْبَعْته وَتَبِعْته بِمَعْنًى وَاحِد. وَقَدْ كَانَ الْكِسَائِيّ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْد عَنْهُ يَقُول: إِذَا أُرِيد أَنَّهُ أَتْبَعهُمْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَالْكَلَام "أَتْبَعهُمْ" بِهَمْزِ الْأَلِف, وَإِذَا أُرِيد اِتَّبَعَ أَثَرهمْ أَوْ اِقْتَدَى بِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ "اِتَّبَعْت" مُشَدَّدَة التَّاء غَيْر مَهْمُوزَة الْأَلِف .)*
يقول القرطبي :( يُقَال: تَبِعَ وَأَتْبَعَ بِمَعْنًى وَاحِد, إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ. وَاتَّبَعَ "بِالتَّشْدِيدِ" إِذَا سَارَ خَلْفه. وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : أَتْبَعَهُ "بِقَطْعِ الْأَلِف" إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ, وَاتَّبَعَهُ "بِوَصْلِ الْأَلِف" إِذَا اِتَّبَعَ أَثَره, أَدْرَكَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو زَيْد . وَقَرَأَ قَتَادَة " فَاتَّبَعَهُمْ " بِوَصْلِ الْأَلِف. وَقِيلَ:اِتَّبَعَهُ "بِوَصْلِ الْأَلِف" فِي الْأَمْر اِقْتَدَى بِهِ. وَأَتْبَعَهُ "بِقَطْعِ الْأَلِف" خَيْرًا أَوَ شَرًّا; هَذَا
__________________________________
1- قاموس لاروس صفحة 1176 , 1177 .
2- يونس90
* إنترنت
قَوْل أَبِي عَمْرو. وَقَدْ قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد. فَخَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيل وَهُمْ سِتّمِائَةِ أَلْف وَعِشْرُونَ أَلْفًا , وَتَبِعَهُ فِرْعَوْن مُصْبِحًا فِي أَلْفَيْ أَلْف وَسِتّمِائَةِ أَلْف .)*
إنه لأمر غريب! هل يُعْقَلُ أن يكون جيش فرعون مليونين وستمائة ألف جندي؟ "أي والله هذا لم يحدث في العصر الحديث؟! وهل كان يعيش في مصر مثل هذا العدد في الأزمنة القديمة؟!!. أنا آسف. لم ولن أقتنع. فمعذرة للتراث. وعلى العموم فهذه ليست قضيتي, فقضيتي هي خروج بني إسرائيل من مصر.
هذه القضية يحسمها القرآن في قوله تعالى:
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ* وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }1.
في آية 136تتحدث عن غرق فرعون وجنده في اليم. ثم تأتي الآية 137 وباستعمال حرف العطف " الواو" الذي يفيد
التعقيب والترتيب, تتحدث عن تورث بني إسرائيل ملك مصر. ثم تأتي الآية 138 لتتحدث بعد التوريث عن خروج بني إسرائيل إلى سيناء وباتجاه الأرض المقدسة. وهل اليم المذكور في آية 136 غير البحر المذكور في آية 138؟
والحقيقة هي والله أعلم أن الأمر لا يحتاج إلى علم بلاغة, وقوة لغة وسعة فقه, ومجلدات من التفاسير. بقدر ما يحتاج إلى تأمل وتدبر في آيات الله.
الفرق بين اليم والبحر:
الفرق بين البحر والْيَمِّ في القرآن الكريم:
يقول الأستاذ منذر أبو هواش" مترجم اللغة العثمانية وباحث ومفكر": (تحدث القرآن الكريم عن البحار وعن الأنهار بالمعنى والمصطلح المتعارف عليه لغة عند الناس للبحار والأنهار، وكلمتا البحر والنهر واضحتان من هذه الناحية في كافة المواضع القرآنية، وليس هناك اختلاف حول المفاهيم المتعلقة بهما, وبمجرد النظر إلى السياق القرآني والتأمل فيه نرى أن كلمة البحر قد استخدمت في كافة المواضع التي كان البحر مقصودا فيها بكامله وبمواصفاته وبكيانه وبحجمه وبكامل مكوناته:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ}2.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}3.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَار}4.
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}5.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}6.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}7.
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}8.
ويلاحظ أنه من غير الممكن في هذه السياقات وفي غيرها أن نستبدل كلمة البحر بكلمة الماء لأن ذلك يؤدي إلى اختلال المعنى.
أما كلمة اليم فهي تذكر وتستدعي كلمة مايم في اللغات القديمة، والتي تعني ماء كما هو في وارد في اللغات العبرية
والقبطية والنبطية والمصرية الهيروغليفية وغير ذلك. لاحظ أن كلمة "مايم" المشتركة بين عدة لغات قديمة تتكون من
مقطعين هما "ماء" و "يم"، وأن البلاغة القرآنية اختصرتهما في كلمة واحدة هي "يم"، وربما كان ذلك من باب المجاز اللغوي فيما يسمى بلاغة "إطلاق اسم الكل على الجزء"، ومن خلال التأمل في السياقات الستة الواردة في القرآن الكريم لهذه الكلمة نرى ونفهم بكل وضوح وجلاء أن المقصود بها هو ماء البحر أو مياه البحار أو الأنهار بمواصفاتها
وإمكاناتها وآثارها المعروفة على التحديد، وإن كان غير المدقق يفهمها بشكل عام على أنها كلمة مرادفة للبحر أو النهر أو ما إلى ذلك، علما بأن هذا الفهم العام لا يخل كثيرا بالمعنى، وإن ابتعد قليلا عن موجبات البلاغة القرآنية.
__________________-
1- سورة الأعراف آيات"136, 137, 138"
2-سورة المائدة 96
3- الأعراف 138
4- إبراهيم 32
5-سورة النحل 14
6- الإسراء 67
7- سورة الكهف 79
8- الكهف 109
*- من الإنترنت
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}1.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}2.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيم}3.
فالماء هنا هو سبب الغرق.
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}4.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}5.
الماء هنا هو المعني على التحديد، والمقصود هو القذف والإلقاء في الماء، وأن ماء البحر أو النهر لا البحر أو النهر هو المأمور بإلقائه بالساحل.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}6.
ماء البحر على التحديد هو الذي غشيهم وليس البحر بكامله.
ونلاحظ أننا لو استبدلنا كلمة اليم بكلمة الماء في السياقات الستة السابقة لما اختلف المعنى كثيرا. وقد اقتضت الحكمة الإلهية والبلاغة القرآنية استخدام كلمة اليم في المواضع الستة المذكورة التي استخدمت فيها من أجل الدقة في التفريق بين هذا الماء "ماء البحر أو النهر والماء العادي."
أعتقد أن هذا هو الفرق بين كلمتي البحر واليم بالشكل الذي أفهمه من السياق القرآني استنادا إلى معلوماتي اللغوية المتواضعة في ضوء مختلف التفاسير المتواترة عن السلف الصالح)*.
تلك حقائق تسعة ذكرها القران عن حقيقة ما جرى بين موسى وفرعون .
2- الخروج السلمي:
قال تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ* فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ*وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}7.
هذه الآيات تبين أن هناك خروج مطاردة لبني إسرائيل من فرعون وجنده, وأن هناك خروج سلمي, تبينه الآية رقم 138.
__________________
1- سورة الأعراف 136
2- القصص 40
3- الذاريات 40
4- طه 39
5- القصص 7
6- طه 78
7- سورة الأعراف آيات" 135, 136, 137, 138"
* من الإنترنت
الحقائق التـاريخيــة
قضية البحث عن من هو فرعون موسى؟ تنحصر في تاريخ الفراعنة, وليس في من قبلهم. لأن الحقيقة التاريخية أثبتت أن لفظ كلمة فرعون كلقب لجلالة الملك الذي يتربع على عرش البلاد المصرية, بُدِئَ في استعمالها, من أواسط الأسرة الثامنة عشرة كما تقدم بيانه. لذلك فسوف أحصر بحثي على ملوك تلك الفترة التاريخية, وسيكون مفتاحي الذي سأفتح به بوابة التاريخ المغلقة والمبهمة, هو الرجل المؤمن من آل فرعون, وبناءاً على الحقائق القرآنية. والتي تمثل المقاييس والموازين الحقيقية التي سأقيسُ, وأزنُ بها كل الشخصيات التي لها علاقة بالصراع بين موسى وفرعون. فإذا ما تطابقت أوصاف الأشخاص المعنيين, بالأوصاف القرآنية, فإن هذا يعني عدة أمور من أهمها:
1- أن القرآن نبأهُ حقٌ. وأنه موحىً من عند الله الذي يعلم سلوك العباد وتصرفاتهم ويحصيها لهم. قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }1.
2-معرفة شخصية فرعون موسى الحقيقية؟.
3- معرفة من هو الرجل المؤمن من آل فرعون؟.
4- معرفة من هي امرأة فرعون؟
صمت الآثار المصرية عن قصة الخروج
يقول الدكتور رشدي البدراوي: (... ويعلل سميث سُكُوت الآثار المصرية عن قصة الخروج " أي خروج بني إسرائيل من مصر" بأنها من وجهة النظر الفرعونية لا تزيد عن كونها فرار مجموعة من العبيد من سادتهم المصريين. وما كانت هذه بالحادثة التي تُسَجَّلُ على جدران المعابد أو التي تقام لها الآثار لتسجلها. كما أن هذه التسجيلات لم تكن "كما نقول بلغة عصرنا" صحافة حرة تسجل الأحداث كما وقعت" بل لا بد كانت تحت رقابة صارمة من الفراعين, فلا تُسَجِّلُ إلا ما يسمح به الفراعين أنفسهم ويكون فيه تمجيد لهم .. )2.
وهل ما جرى لفرعون من دمار مملكته وتولي قوما آخرين عرش مصر, أمر هين ولا يستحق أن يدون على الجدران؟!!
وعلى أي حال فأنا هنا لي وجهة نظر أخرى تتمثل في نقطتين:
الأولى: تورث بني إسرائيل للعرش المصري عقب غرق فرعون مصداقاً لقوله تعالى:{ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }3.
يقول السيوطي: ( فأخرجناهم: أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه. من جنات: بساتين كانت على
جانبي النيل وعيون: أنهار جارية في الدور من النيل-وكنوز: أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوزا لأنه لم يعط حق الله تعالى منها. ومقام كريم مجلس حسن للأمراء والوزراء يحفه أتباعهم- كذلك: إخراجنا كما وصفنا.
وأورثناها بني إسرائيل: بعد إغراق فرعون وقومه)*
إذن الحقيقة القرآنية تؤكد أن بني إسرائيل تورثوا ملك مصر بعد غرق فرعون. وهذا لا يروق للكهنة . والحاقدين على عقيدة الإيمان, أعوان الشيطان وحلفاؤه, كأمثال حور محب, وسيتي الأول.
الثانية: عزَّ على مثل هؤلاء الحاقدين على عقيدة الإيمان أن يذكر التاريخ المصري القديم نكسة أصابت مصر كنكسة الهكسوس, يتحكم من خلالها الغرباء بالبلاد المصرية. لذلك عملوا كل ما يمكن أن يعملوه لطمس الحقائق بعد غياب أصحابها عن الحياة الدنيا, وهذا ما نوه إليه الدكتور رشدي البدراوي بقوله: بل لا بد كانت تحت رقابة صارمة من الفراعين, فلا تُسَجِّلُ إلا ما يسمح به الفراعين أنفسهم ويكون فيه تمجيد لهم. وتولي الإسرائيليون عرش مصر يمثل لهم نكسة كنكسة الهكسوس. لذلك عمل حور محب على طمس هذه الحادثة طمساً كاملاً, وأخفاها.
لنبدأ بعون الله وتوفيقه بفتح باب التاريخ المصري الفرعوني بمفتاح الرجل المؤمن فنقول وبالله التوفيق:
الرجل المؤمن من آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ..}4.
___________________________________________
1- سورة الجاثية29
2- كتاب قصص الأنبياء والتاريخ جزء 4 صفحة 658
3-سورة الشعراء آيات " 57, 58 ,59"
4- سورة غافر 28
* من الإنترنت
مؤمن آل فرعون
{ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ...}
غافر 28
تمهـــيد{ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ...}
غافر 28
قال تعالى في كتابه العزيز: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }1.
التفسير الميسر: (أولم يَسِرْ هؤلاء المكذبون بالله, الغافلون عن الآخرة, في الأرض سَيْرَ تأمل واعتبار, فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذَّبوا برسل الله كعادٍ وثمودٍ؟ وقد كانوا أقوى منهم أجسامًا, وأقدر على التمتع بالحياة..)2.
كان هناك أممٌ سبقونا في الحياة الدنيا, وكانوا على قَدْرٍ كبير من الحضارة, والتقدم في زمان وجودهم, وقد تركوا خلفهم آثاراً, دالة على مستواهم الحضاري. ومهما لعبت يد الزمان, والعوامل الطبيعية, في طمس ما تركوه من آثار, إلا أنها لا تزال تشع بنور الحقيقة. وهناك من الآثار من تلاعبت فيها يد الإنسان الشرير والحاسدة والحاقدة, بقصد طمس وإخفاء ملامح الحقيقة, وتشويه سمعة العظماء الأطهار. وأعظم مثل على ذلك الآثار المصرية القديمة, والتي أوضحت بجلاء ذلك العمل الحقير. ومن أمثلة المتلاعبين في الحقائق التاريخية, الشرير حور محب, عدو الله ورسله.
ماذا فعل حور محب؟:
لقد كان معظم ملوك مصر القديمة, وملوك الفراعنة بالذات يسرقون أمجاد من سبقوهم, وينسبونها إلى أنفسهم زوراً وبهتاناً, ليضفي السارق على ذكراه المجد, والثناء. وليت الأمر يقتصر على ذلك فحسب, بل تعداه إلى أن يشوه سمعة من سرق آثارهم. ومن أمثلة هؤلاء اللصوص الفرعون "حور محب" الذي عمل بهدوء, وروية وبدافع الحقد على الحق وأصحابه, على إعادة كتابة التاريخ المدون على الجدران والذي كان يمجد الداعية العظيم إخناتون, فقلبه رأساً على عقب, وجعل من الداعية العظيم مدَمِراً لمكانة مصر وعظمتها بين الأمم القديمة بسبب دعوته للإيمان بالله الواحد الأحد فدار بخلد المجرم حور محب ما حدث لمصر أيام الهكسوس, وربط بين ذلك وبين سيطرة بني إسرائيل على البلاد المصرية أيام اخناتون, فأراد أن يطمس ملامح تلك الفترة, ويخفي شخصيتها, وأن يوصم اخناتون بالعار, والشذوذ.
لقد أعاد حور محب كل آثار اخناتون, ونسب إلى نفسه ما أراد, وحرَّف في النصوص ما أراد مما جعل دعوته تبدو وكأنها عقيدة شرك لا تختلف عن أي عقيدة أخرى كانت في زمانهم تتصارع مع العقائد الأخرى, وشوه التماثيل والصور كما يحلو له, فأظهر الداعية العظيم, مشوه الجسد. وأنه يعاني من قصور جنسي, وأمراض في الغدد الصماء. والغريب أن علماء الآثار المعاصرين. يعتقدون أن اخناتون هو من قال للنحاتين, والرسامين أن يفعلون ذلك.
يقول الدكتور محمد بيومي مهران: (.. وعلى أي حال فما أن توفى الملك "آي" حتى خلا الطريق أمام القائد حور محب .. ومن ثم فقد قاد حملة رهيبة ضد الآتونية...بدأ حور محب محاولته الجادة في أن يؤكد شرعيته للعرش الذي يجعله
رأس المصريين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومن ثم فقد تزوج من "موت نزمت" أخت نفرتيتي التي كانت تعيش في العمارنة ...وهناك تمثال جميل في متحف " تورين" يمثل الزوجين معاً , مع نص طويل على القاعدة, يروي قصة
ارتحاله إلى طيبة ليتوج هناك. ومن ثَمَّ فقد استهل أعمال الهدم على فترتين؛ فبدأ باغتصاب آثار أسلافه, وبخاصة توت عنخ أمون والملك آي وفي مقدمتها التماثيل والمعابد من ذلك أنّ الرواق ذا العمد بمعبد الأقصر الذي يجري فيه الاحتفالات بعيد أُوبت, قد سطا عليه الكُتَّاب والنحاتون المكلفون بكشط أكبر قدر ممكن من أسماء توت عنخ أمون لطمسها, ونقش أسماء حور محب في محلها. فضلاً عن طبع خراطيشه على جميع تماثيل أسلافه ... وكان ثاني أعمال حور محب ... انه لم يعترف اطلاقاً بأنه الخلف المباشر لهم, وقد بذل كل الجهد لإثبات هذه الفرية غير الأمينة...لدرجة أن القوائم الرسمية في عصر الرعامسة كانت تذكره باعتباره الخليفة الشرعي لأمنحتب الثالث, ومن ثم فقد رأينا قائمتي الملوك في أبيدوس وسقارة تتجاهل الفراعين" اخناتون, وسمنخ كارع , وتوت عنخ أمون, وآي" الموصومون بالآتونية. ثم تضعان حور محب "1335- 1308 ق م" بعد أمنحتب الثالث "1405- 1367 ق م " .. وكان ثالث أعمال حملة حور محب الضارية ضِدَّ الآتونية, أن الرجل إنما كان يعتقد أن ملوك العمارنة أنما كانوا السبب فيما أصاب البلاد من تدهور سياسي, واقتصادي, وديني, فقد بدأ يوقع القصاص, ويروي غليل الحقد المتولد من الجروح التي أصابت كبريائه, ويثأر في الوقت ذاته لكهنة أمون, الذين أقروا شرعية اغتصابه للعرش. وكان عنيفاً ورهيباً, فقد أرسل فرقة من العمال إلى مدينة " أخت أتون ... فـمحو معظم المباني ونهبوها, وحطموا كل شيء تحطيماً منظماً... ثم حلوا كثيراً من أحجار " أخت أتون " لاستعمالها في أماكن أخرى. وخُرِبَتْ المقبرة الملكية. ونهب أثاثها الجنزي ... وفي الحقيقة
_________________
1- سورة الروم9
2- التفسير الميسر "انترنت"
فلقد أدى حور محب دوره الذي رسمه له كهان أمون, أو رسمه هو لنفسه كاملاً, وبكل قسوة وضراوة, في إزالة كل ما يُذَكِّر الناس بأيام العمارنة ودعوتها. كما كان شديد الحرص على أن يَذْكُرُ في كل مناسبة, الدور المشئوم في نظره الذي أداه إخناتون. ومن ثم فما كان يشير إلى الداعية العظيم إلا باسم "المجرم" أو ذلك العدو من "أخت أتون" .. )1.
وإذا جاز لنا أن نسأل: لماذا كان حور محب حاقداً كل هذا الحقد على اخناتون مع أنه كان هو قائد الجيش في عهد الداعية العظيم؟. ولماذا جعل من اخناتون سبباً في تدهور أوضاع مصر السياسية والاقتصادية والدينية؟. ثم أية جروح هذه التي أصابت كبرياء حور محب فجعلته يروي غليل الحقد الذي كان كامناً في قلبه على إخناتون, والآتونية مما جعله وبكل قسوة وضراوة, يعمل في إزالة كل ما يُذَكِّر الناس بأيام العمارنة ودعوتها؟!.
يقول محمد بيومي مهران: (أن حور محب هدم المعبد العظيم للإله الخالق الذي شيده اخناتون في سنين حكمه المبكرة وذلك للقضاء على دين اخناتون والعودة إلى اله طبية القديم أمون رع. )2. وهكذا تبين بوضوح, وجلاء كيف مارس حور محب جُمَّ حقده, وغضبه ضِدَّ عقيدة التوحيد, وصاحبها, إخناتون, والتابعين لها. وكان كل ذلك بإيعاز ومباركة من كهنة أمون رع. فمكنوه من عرش مصر وهو لا يستحقه, وأطلقوا يده لتعبث في تاريخ مصر وحضارتها.
ما هي الجريمة التي ارتكبها الداعية العظيم حتى أوصلته إلى بؤرة انتقام الكهنة وحور محب؟!.
يقول محمد بيومي مهران: (أما مميزات ديانة إخناتون السلبية, فهي تحريم جميع الأساطير. وإعمال السحر وعدم
السماح بعمل أيِّ صنم للإله أتون. لأن الإله الحق, لا صور له..)3. وهل يا تُرى هذه الأمور تجعل من حور
محب عدواً حاقداً على الآتونية, وهو الذي كان ينعم بخيراتها, أيام كان قائد الجيش فيها؟! لا بُدَّ أن هناك سبباً أقوى
بكثير من تلك الأسباب التي ذكرها الدكتور مهران؟ وأعتقد أن السبب ربما يكون ما يدعيه حور محب من أن إخناتون مسئول عما يقول عنه من أنه تدهور سياسي, واقتصادي أصاب مصر وذلك لأن اخناتون عَمَّ في عصره السلام والوئام في كل ربوع منطقة الشرق الأوسط القديم. ووضعت الحرب أوزارها, وأصبح الحب والتعاون هو سمة أهل ذلك الزمان. كما أن مصر كان يحكمها قوم مؤمنون بالله الواحد الأحد, ولم يكن يرُقُ لحور محب مثل هؤلاء القوم. ولاعتقاده أن إخناتون هو من مَكَّنَ هؤلاء من أن يحكموا مصر. فإذا كانت تلك هي سلبيات إخناتون وعقيدته, عقيدة التوحيد " اللهم أنت الإله الذي ليس معه سواه ". وسياسته التي هي الحب والسلام, فلماذا كل هذا الحقد من حور محب؟. أم يريد حور محب المشرك بالله الواحد, الحروب وسفك الدماء, فهذا ما يصنع لمصر عظمتها ونفوذها بين الأمم ؟!!. إن ما كان يدعو إليه الداعية العظيم "إخناتون", هو نفسه الذي كان يدعو إليه الأنبياء والمرسلين. ومن كانت هذه عقيدته, فلا يعقل أن يقال عنه أنه كان يعبد الشمس؟!! فالشمس لم تكن هي الإله, ولكنَّ الشمس هي المخلوق الذي أودع الله فيه من نوره فجعل منه سبباً في بعث الحياة والنشاط, والعمل اليومي. وأن الشمس ليست هي أتون بل هي من آثار أتون. أليس رع هو قرص الشمس؟! فلماذا لم ينادي به إخناتون؟!.والمصريين القدماء جميعاً يقدسون"رع" الذي هو قرص الشمس, ولو كان آتون هو قرص الشمس فعلام تبناه اخناتون؟! ولماذا عاداه قومه إذن؟! فالأمر ما تعدى إلا استعمال اسم من أسماء الشمس الإله.
وإذا كان الأمر مجرد صراع بين كهنة تتمسك باسم الإله أتون "الشمس". وبين كهنة تؤيد اسم الإله رع, كما كان الأمر بين الإله أمون, والإله رع, فلنجمع بين الأسمين في لفظ " أتون رع" وليستفد جميع الكهنة من الطرفين قرابين مقدمة للآلهة!. والحقيقة هي أن الأمر جِدُّ مختلف. الحقيقة هي عبادة إله فوق كل الظواهر الطبيعية, إله واحد أحد ليس معه سواه.
يقول الدكتور محمد بيومي مهران: ( ويرى جون ويلسون " 1899- 1976 م ".. لم يكن بين آلهة الشمس المختلفة, أو مظاهر "إله" الشمس ما يسمى" أتون" قبل منتصف الأسرة الثامنة عشر. وهناك عبارة مبهمة يكثر استعمالها منذ بداية الأسرة الثامنة عشر وترجمتها "سيد كل ما يحيط بالقرص")4.
أصل كلمة فِرْعَوْنَ وبدء استعمالها:
ماذا تعنى كلمة فرعون, ومتى كان استعمالها؟!.
يقول الدكتور محمد بيومي مهران: (من المعروف تأريخيا أنَّ كلمة "فِرْعَون" بصيغتها المصرية القديمة "بر-عا"
إنما كانت تعني في بادئ ذي بدء " البيت- العالي " أو " البيت- العظيم"وهي طريقة من بين الطرق الكثيرة التي
كانت تشير إلى "القصر الملكي", وليس إلى ساكنه. ثُمَّ حدث خلال عصر تحتمس الثالث "1490- 1436ق م "
أن المصطلح " بر- عو" أو " بر-عا " أي " فِرْعَوْن" إنما بُدِء في إطلاقه على الملك نفسه. وانطلاقاً من هذا, فإن
__________________________________________
1- كتاب دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم ص. " 409, 410, 411 "
2- نفس المصدر السابق صفحة 160
3- نفس المصدر السابق صفحة 413
4- نفس المصدر السابق صفحة 447
إطلاق لفظة "فِرْعَوْن"على أي ملك قبل عصر تحتمس الثالث, إنما يُعَدُّ خطأ في تسلسل تواريخ الأحداث. حيث
أصبحت لفظة " فِرْعَوْن " تعبيراً محترماً يُقْصَدُ به الملك نفسه, منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة. وهكذا يبدو واضحاً أنَّ
استعمال التوراة في قصتي إبراهيم ويوسف عليهما السلام " تكوين 12: 14-20 , 39: 1 , 40: 2-21 , 41 : 1-14 , 42: 15 , 47: 1-26 ,50 : 4-7 " إنما هو خطأ تأريخي . والأمر بالنسبة للقرآن الكريم الذي حرص في سرده لقصة يوسف عليه السلام, وقد عاش في مصر أيام الهكسوس حوالي " 1672- 1575ق م" على أن يلقب حاكم مصر الذي عاصر النبي الكريم بلقب الملك "سورة يوسف آية 43, 54." بينما حرص على أن يلقب ذلك الملك الذي عاصر موسى عليه السلام, وقد خرج من مصر على رأس بني إسرائيل حوالي "1214ق م" فيما نرجح, أي في الفترة التي كان يحمل فيها ملك مصر لقب " فِرْعَوْن". وعلى أي الأحوال, فإن لقب "فِرْعَوْن" إنما يبدو مؤكدا منذ أيام" إخناتون "1367- 1350 ق م" ...)1.
وهكذا فإن لقب "فِرْعَوْن" إنما يبدو مؤكدا استعماله منذ أيام "إخناتون".
تقول الأديان السماوية أن بني إسرائيل عاشوا في مصر ردحا من الزمان حيث كانت البداية في زمن الهكسوس وكان خروجهم من مصر في زمن حدث فيه صراع عقائدي بين النبي موسى وبين احد الفراعين, وتقول التوراة عنه انه رمسيس الثاني ولم يوضح القرآن اسم ذلك الفرعون رغم أن الله قال له: لتكون لمن خلفك آية. ولما كان التاريخ الفرعوني مُبْهَماً بصفة عامة, ومتجاهلاً لحقيقة الوجود الإسرائيلي بصفة خاصة, وحيث لا يوجد أيّة آثار تدل على هذا الوجود الإسرائيلي في مصر نهائيا, ولا زمن خروجهم, اللهم إلا ما وجدوه مكتوبا في لوح إسرائيل الأثر القديم الوحيد الذي يتحدث عن الوجود الإسرائيلي في مصر, والذي يعود تاريخه إلى زمن الفرعون مرنبتاح ابن الفرعون رمسيس الثاني والتي يقول فيها (وبذرة إسرائيل انقطعت), لذلك راح علماء الآثار والباحثين عن الحقيقة يؤولون ويفسرون ويستنتجون ويتوقعون دون وضع أيديهم على الحقيقة وهناك من اعتمد على لوح إسرائيل. وهناك من اعتمد على الأبعاد الزمانية. وهناك من اعتمد على التوراة وهناك من قاس صفات فرعون المذكورة في القران مع صفات أي فرعون تتقارب صفاته.
فهناك من قال: أن أحمس الأول هو فرعون موسى بناء على معلومة للمؤرخ اليهودي (يوسف بن متى) الذي عاش في العام 280 قبل الميلاد حيث ذكر أن العابيرو أو الخابيرو هم أنفسهم العبرانيون أي بني إسرائيل. وهم أيضا الهكسوس الذي طردهم أحمس فكان هذا هو ما يمسى بالخروج (د. رشدي البدراوي ). وهناك من يقول أن أحمس هو فرعون التسخير. وان تحتمس الأول هو فرعون الخروج. وهناك من يقول أن فرعون موسى هو تحتمس الثالث حتى قيل عن اخناتون انه هو موسى علية السلام. وطالما أن هناك من يقول بذلك, فلماذا لا يكون ما يقولونه قريب من الحقيقة؟!
وهناك من يقول أن توت عنخ أمون ربما هو فرعون موسى.
غير أن هناك شبه إجماع على أن رمسيس الثاني هو فرعون التسخير وان ابنه مرنبتاح هو فرعون الخروج.
إن جميع من تحدثوا عن فرعون موسى لم يَبْنوا أقوالهم على حقائق تاريخية أو دينيه. بل على ظنون وتوقعات.
كما أن المعلومات المستقاة من التوراة ليست كافية, والتي تقول أن رمسيس الثاني هو الفرعون المقصود فالتوراة كتبت بعد عهد موسى بأكثر من سبعمائة سنة وهذا في حد ذاته دليل على عدم الدقة والجنوح فيما كُتِبَ عن الحقيقة.
كما أن معلومات التوراة لا يوجد من الآثار ولو اثر واحد يؤيدها.
إذن فلابد أن يُبْنى الاستنتاج على أسس من المنطق والواقع. وبالتالي على الباحث عن الحقيقة أن لا يتجاهل أية
معلومة مهما كان صغرها, طالما أنها تقربه, أو تقف به باتجاهها.
هل حكم بني إسرائيل مصر بعد غرق فرعون؟!:
من الحقائق التي يجب عدم تجاهلها, حقيقة عودة الإسرائيليين إلى مصر بعد غرق فرعون وتورثهم لجميع أملاكه
قال تعالى: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ...الآية }2. وقال تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}3.
وقال تعالى{فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}4.
يقول الشيخ السيوطي: (كذلك: أخراجنا كما وصفنا. وأورثناها بني إسرائيل: بعد إغراق فرعون وقومه)5.
يقول القرطبي:( يُرِيد أَنَّ جَمِيع مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْجَنَّات وَالْعُيُون وَالْكُنُوز وَالْمَقَام الْكَرِيم أَوْرَثَهُ اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل.
_________________________________________
1- نفس المصدر السابق هامش صفحة 347
2- سورة الأعراف137
3- الدخان25 , 26 , 27 . 28
4- الشعراء 57, 58, 59 .
5- تفسير الجلالين " انترنت "
قال الْحَسَن وَغَيْره: رَجَعَ بَنُو إِسْرَائِيل إِلَى مِصْر بَعْد هَلاك فِرْعَوْن وَقَوْمه. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوِرَاثَةِ هُنَا مَا اِسْتَعَارُوهُ مِنْ حُلِيّ آلَ فِرْعَوْن بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى. قُلْت: وَكِلا الْأَمْرَيْنِ حَصَلَ لَهُمْ. وَالْحَمْد لِلَّهِ )1. انترنت
التفسير الميَّسر: ( جعلنا هذه الديار من بعدهم لبني إسرائيل.)2.
ويقول الإمام النسفي:(..عن الحسن: لَمّا عبروا النهر رجعوا, وأخذوا ديارهم وأموالهم ..)3.
والآيات 57, 58, 59: تُبين بجلاء ووضوح, و تؤكد أن الإسرائيليين تورثوا من المصريين:
1- الجنات والبساتين. ومن الذي يملك تلك الضياع؟! لا شك أنهم الأغنياء, والوزراء والحكام.
2- الكنوز والثروات, وهي أيضاً من ممتلكات الأغنياء والحكام, والدولة.
3- والمقام الكريم الموقع العالي في الدولة المقام الرفيع. وهذه تدل على سيطرة الإسرائيليين على مقاليد الحكم.
إذن عودة الإسرائيليين إلى مصر بعد غرق فرعون وتوليهم أمر البلاد حقيقة لا ريب فيها يجب ألا يجهلها أي باحث عن فرعون موسى؟. وهذه نقطة مهمة جداً غفل عنها الدكتور البدراوي في نظريته التي ذكرها في كتابه" من هو فرعون موسى". إذ لو كان مرنبتاح هو فرعون الخروج بعد أبيه رمسيس الثاني, لما تورث الإسرائيليون بلاد مصر وحكموها؟. والحقيقة القرآنية توجب من كل باحث أن يبني عليها. فلابُدَّ إذن من أن يكون من تولى حكم مصر بعد غرق الفرعون, سواء كان ابنه أو غير ذلك, لا بَدَّ وأن يكون مؤمناً بالله الواحد الأحد الذي ليس معه سواه , حتى يسمح لبني إسرائيل من العودة, ويرثوا فرعون ومملكته.أليس كذلك؟!!.
كما أن قضية عودة الإسرائيليين إلى مصر بعد غرق فرعون تنفي أن يكون أيّاً من رمسيس الثاني أو مرنبتاح ابن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج.
وبعد: قال تعالى: { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }4.
هناك حقائق قرآنية لا ريب فيها. وهناك حقائق تاريخية أيضا لا ريب. فيها فإذا تطابقت الحقائق التاريخية مع الحقائق القرآنية, فإن هذا يعني إننا قد اقتربنا اقتراباً شديدا من حقيقة فرعون موسى, أما إذا لم تتطابق, فهذا يعني أننا مخطئين في اجتهادنا:
_____________________________________
1- تفسير القرطبي " انترنت "
2- التفسير الميسر " انترنت "
3- تفسير النسفي جزء 3 صفحة233 .
4- سورة القصص3.
الحقائق القرآنية
أولا: أرسل الله نبيه موسى بن عمران ومعه أخاه هارون الذي كان يكبره سنا, وأفصح منه لسانا, رسولين إلى فرعون وملأه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ*إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ }1.
يقول الطبري: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا: يَعْنِي بِأَدِلَّتِهِ. وَسُلْطَان مُبِين...حَدَّثَنَا بِشْر, قَالَ: ثنا يَزِيد, قَالَ: ثنا سَعِيد, عَنْ قَتَادَة: وَسُلْطَان مُبِين: أَيْ عُذْر مُبِين. يَقُول: وَحُجَجه الْمُبَيَّنَة لِمَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا حُجَّة مُحَقِّقَة مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى. إِلَى فِرْعَوْن وَهَامَان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحِر كَذَّاب: يَقُول: فَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى لِمُوسَى..)2.
وقال تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ .....}3.
يقول الأمام الطبري:( الْقَوْل في تَأْويل قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إلَى فرْعَوْن: يَقُول تَعَالَى ذكْره لنَبيّه مُوسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْه: اذْهَبْ: يَا مُوسَى. إلَى فرْعَوْن.....اذْهَبْ إلَى فرْعَوْن ....فَادْعُهُ إلَى تَوْحيد اللَّه وَطَاعَته, وَإرْسَال بَني إسْرَائيل مَعَك.)4.
ثانيا : هناك فرعوناً حكم مصر هو المقصود بعينه بالدعوة, والرسالة التي جاء بها موسى.
قال تعالي: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }5. ولقد أعطانا الله في قرآنه الكريم أوصافا لهذا الفرعون:
1- كان الفرعون المقصود يدعي الإلهية:
قال تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى*فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى }6.
يقول الإمام القرطبي: ( أَيْ لَا رَبّ لَكُمْ فَوْقِي. وَيُرْوَى: أَنَّ إِبْلِيس تَصَوَّرَ لِفِرْعَوْن فِي صُورَة الْإِنْس بِمِصْر فِي الْحَمَّام, فَأَنْكَرَهُ فِرْعَوْن, فَقَالَ لَهُ إِبْلِيس: وَيْحك! أَمَا تَعْرِفنِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَيْف وَأَنْتَ خَلَقْتنِي؟ أَلَسْت الْقَائِل أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي كِتَاب الْعَرَائِس. وَقَالَ عَطَاء: كَانَ صَنَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا صِغَارًا وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا, فَقَالَ أَنَا رَبّ أَصْنَامكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْقَادَة وَالسَّادَة. هُوَ رَبّهمْ , وَأُولَئِكَ, هُمْ أَرْبَاب السَّفَلَة.)7.
وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي...}8.
التفسير الميسر: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي... )*.
قال ابن كثير:( يُخْبِر تَعَالَى عَنْ كُفْر فِرْعَوْن وَطُغْيَانه وَافْتِرَائِهِ فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّة لِنَفْسِهِ الْقَبِيحَة لَعَنَهُ اللَّه كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَاسْتَخَفَّ قَوْمه فَأَطَاعُوهُ " الْآيَة وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَاف لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولهمْ
وَسَخَافَة أَذْهَانهمْ وَلِهَذَا قَالَ: " يَا أَيُّهَا الْمَلَأ مَا عَلِمْت لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرِي" وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ " فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّه نَكَال الْآخِرَة وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَة لِمَنْ يَخْشَى " يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمه وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ
الْعَالِي مُصَرِّحًا لَهُمْ بِذَلِكَ فَأَجَابُوهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ وَلِهَذَا اِنْتَقَمَ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ فَجَعَلَهُ عِبْرَة لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَحَتَّى
أَنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكَلِيم بِذَلِكَ فَقَالَ: "لَئِنْ اِتَّخَذْت إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ..)*
2- وكان متكبراً ومتعالياً:
قال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ }9.
قال ابن كثير: ( وَقَوْله تَعَالَى: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُوده فِي الْأَرْض بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ " أَيْ طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْض الْفَسَاد وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا قِيَامَة وَلَا مَعَاد "فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّك سَوْط عَذَاب إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ")*
وقال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ....}10.
قال السيوطي: (إن فرعون علا: تعظم. في الأرض: أرض مصر. وجعل أهلها شيعا: فرقا في خدمته. يستضعف طائفة منهم:هم بنو إسرائيل...). انترنت
3- كان فرعون ضالا لقومه وخادعا لهم:
قال تعالى: { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }11.
قال ابن كثير: ( فَقَوْله"مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى "كَذَبَ فِيهِ وَافْتَرَى وَخَانَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
________________________________________
1-سورة غافر آية 23 , 24 9- سورة الشعراء آية 29
2- تفسير الطبري إنترنت 10- سورة القصص آية 39
3- سورة طه آية 24 11- سورة القصص آية 4
4- تفسير الطبري " إنترنت" * جميع التفاسير في هذه الصفحة من الإنترنت
5- سورة طه 43
6- سورة النازعات آية " 23 , 24 "
7- تفسير القرطبي " من الإنترنت"
8- سورة القصص آية 38
وَرَعِيَّته فَغَشَّهُمْ وَمَا نَصَحَهُمْ وَكَذَا قَوْله" وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ "أَيْ وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيق الْحَقّ وَالصِّدْق وَالرَّشَد وَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْمه قَدْ أَطَاعُوهُ وَاتَّبَعُوهُ. قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى "فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ " وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَته "وَأَضَلَّ فِرْعَوْن قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)*
وقال تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ }1.
وقال ابن كثير:( أَيْ اِسْتَخَفَّ عُقُولهمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَة فَاسْتَجَابُوا لَهُ.)*
كيف استخف فرعون قومه؟!. لقد استعمل فرعون أسلوب المنطق والواقع, حيث أن فرعون مَلِكٌ يمتلك البلاد والعباد والثروات. يأمر فيطاع, فهو صاحب الأمر والنفوذ. أما موسى فمن هو؟! فهو "في منطق فرعون الضال والمضل" لا يمتلك شيئاً؛ لا قوة ولا مال ولا منصب ولا جاه, وبالتالي من هو بالنسبة لفرعون الذي يمتلك كل شيء ؟!
قال تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ }2.
وقال تعالى : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى }3.
الطبري: ( وَأَضَلَّ فرْعَوْن قَوْمه وَمَا هَدَى: يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَجَاوَزَ فرْعَوْن بقَوْمه عَنْ سَوَاء السَّبيل , وَأَخَذَ بهمْ عَلَى
غَيْر اسْتقَامَة, وَذَلكَ أَنَّهُ سَلَكَ بهمْ طَريق أَهْل النَّار, بأَمْرهمْ بالْكُفْر باَللَّه, وَتَكْذيب رُسُله وَمَا هَدَى: يَقُول: وَمَا سَلَكَ بهمْ
الطَّريق الْمُسْتَقيم, وَذَلكَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ اتّبَاع رَسُول اللَّه مُوسَى, وَالتَّصْديق به, فَأَطَاعُوهُ , فَلَمْ يَهْدهمْ بأَمْره إيَّاهُمْ بذَلكَ, وَلَمْ يَهْتَدُوا باتّبَاعهمْ إيَّاهُ .)*.
وقال الله عنه: {.. وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ }4.
أيسر التفاسير: ( .. وليس في أمر فرعون رشد ولا هدى, وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد.)*
4- كان فرعون ظالما يسفك الدماء ويعيث في الأرض الفساد:
قال تعالى: {...يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}5.
قال الطبري: ( وقوله: يستضعف طائفة منهم ذكر أن استضعافه إياها كان استعباده. ذكر من قال ذلك: 20676 -حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: يستعبد طائفة منهم, ويذبح طائفة, ويقتل طائفة, ويستحيي طائفة. وقوله: إنه كان من المفسدين يقول: إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق منه القتل, واستعباده من ليس له استعباده وتجبره في الأرض على أهلها, وتكبره على عبادة ربه. )*.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }6.
5- كان فرعون مسرفاً:
{.. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}7.
من القاموس: (أسْرَفَ يُسْرِفُ إِسْرافاً: جاوز الحَدَّ...سَرَفٌ: مُجَاوزة الحد والضراوة بالشيء والولوع به )8.
إذن الإسراف هو الغلو في الشيء ومجاوزة الحد. ولم يكن فرعون متجاوزاً في حده في تعاليه على الله وتأليه نفسه فحسب كما يقول بذلك المفسرون. بل كان فرعون مجاوزاً لحدوده في الملذات والشهوات أيضاً, وإذا كان قارون مسرفاً مادياً أفلا يكون فرعون كذلك؟!
كانت تلك بعضٌ من صفات فرعون الذي عاصر موسى وهي حقائق قرآنية لا ريب فيها. فهل يا تُرى يوجد في التاريخ الفرعوني من يتصف بمثل هذه الصفات؟!
ثالثا: كان هناك صراع عقائدي في عهد ذلك الفرعون: وكان هذا الصراع يجري على ثلاث جبهات:
الجبهة الأولى كانت بين موسى وفرعون وجهاً لوجه:
قال تعالي :
( قال: فمن ربكما يا موسى؟.
قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى.
قال: فما بال القرون الأولى؟
____________________________________
1- سورة غافر آية 29
2- سورة الزخرف آية 54
3- سورة طه آية 79
4- سورة هود آية 97
5- سورة القصص آية 4
6- سورة إبراهيم آية 6
7- سورة يونس آية 83
8- قاموس لاروس صفحة 620
*جميع التفاسير من الانترنت
قال: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
قال: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ؟ فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت.
قال: موعدكم يوم الزينة وان يُحشر الناس ضحى.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.
{قَالَ لَهُم مُّوسَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.
{قَالُوا: يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى .
{قَالَ: بَلْ أَلْقُوا.... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى* فأوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى* قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.
كان ذلك الوجه الأول من الصراع العقائدي والذي دار بين موسى عليه السلام من جانب وبين وفرعون وملأه من الجانب الآخر. وقد أنحسم الصراع لصالح موسى. فاستشاط فرعون غضباً لإيمان السحرة وسجودهم, وحول دفة الصراع من الصراع الفكري والعقائدي, إلى القمع والإرهاب:
{ قَالَ: آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى.
{ قَالُوا: لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )1.
ولما تعقد الأمر وزادت الأوضاع سوءً, دعا فرعون إلى اجتماع مجلس الأعيان لمناقشة أحداث الصراع الدائرة في البلاد. وما يمكن أن يُتَخَذُ من قرارات لضبط الأمور, وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ظهور موسى. وإذا بالاجتماع يُفَجِّرُ جبهة صراع أخرى:
( وَقَالَ: فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ..
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ*يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا ..
قَالَ فِرْعَوْنُ:{.. مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ...)2.
يقول الدكتور رشدي البدراوي: (سمع فرعون مقالة هذا الرجل المؤمن, وكان رده أن قال: إن ما يشير به من قتل موسى هو الرأي الصواب والذي يجب أن يروه هم أيضاً كذلك, ولا يخالفون رأيه لأنه يقول بالرأي الرشيد ....
قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ*مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ}3.
الدكتور البدراوي مرة ثانية: ( وعاد الرجل المؤمن يناشد قومه ويقول لهم إني أخاف عليكم –من جراء تكذيبكم موسى –أن يحل عليكم ما حلَّ بالذين تحَزَّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوا رسلهم نوح وعاد وثمود. وآخرين جاءوا من
بعدهم "مثل قوم لوط وأهل مدين" وما حل بهؤلاء لم يكن ظلماً بل عدلاً من الله جزاء تكذيبهم...)4.
واحتد الجدال وبلغ مبلغاً لا يُحتمل وهنا توجه فرعون إلى جموع الناس المحتشدة خارج مقر الاجتماع وتبعه المجتمعون: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ: قَالَ: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ*أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}5. {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي...}6. وهتف له قومه وأيدوا أسلوبه المنطقي في الإقناع. كما تهتف الشعوب لحكامها في هذا الزمان. والحقيقة هي أن فرعون استخف قومه فأطاعوه. ثم التفت إلى هامان وقال له متهكماً: {.. يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ*أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً..}7.
ورأى فرعون أن الأمور لن تستقيم إلا بقتل موسى. فجاءته الأخبار أن موسى ومن معه, قد فروا من البلاد فحشد جيشه لمطاردته. و لم يتوانى وانطلق في مطاردة الفئة المؤمنة فحدث له ما حدث .قال تعالى:{.. وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ }8 فما معنى: {.. وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}؟
___________________________
1- سورة طه آيات "49 , 50 , 51 ,52 , 57 , 60 , 61 , 65 , 66 , 67 ,68 ,69, 71 , 72, "
2- سورة غافر آيات " 26, 28, 29 "
3- غافر 30, 31
4- كتاب قصص الأنبياء " من ه9و فرعون موسى"
5- الزخرف 52
6- سورة القصص آية 38
7- غافر 36
8- غافر 37.
من القاموس :(ت ب ب " التَّبَابُ " بالفتح : الخسران والهلاك .. )1. و( تَبَّ " تَبَبْتُ " يَتِبُّ تَبْاً تابٌّ: تَبَّ المرءُ: خَسِرَ وهلك " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" المسد1. وتَبَاً له: ألْزَمَهُ الله الخسران والهلاك / خُسْراناً وهلاكاً...) 2.
إذن خسر فرعون مملكته, بأن تورثها غيره. وأهلكه الله بالغرق.
خلت ساحة الصراع من فرعون. وكذلك غاب سيدنا موسى عن هذه الساحة لما حاول الهرب من بطش فرعون وملأه, ودليل ذلك أن الرجل المؤمن لما علم ما جرى لفرعون قال لقومه: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. فلو كان موسى موجوداً لكان قول الرجل المؤمن: ويا قوم اتبعوا موسى يهدكم سبيل الرشاد. ولكون موسى قد غادر الأراضي المصرية إلى سيناء, لذلك كان الرجل المؤمن ممثلاً عن موسى في دعوته. ومن هنا قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. كما أن الرجل المؤمن يريد بمقولته هذه أن يعلن للملأ عن توليه زمام الأمور في البلاد المصرية. ولا مفر للقوم من إتباع منهج دعوته. وبذلك بدأ الوجه الثالث للصراع العقائدي فكان بين الرجل المؤمن وبين الملأ من آل فرعون:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ.. وراح يذكرهم بتفاهة الحياة الدنيا فقال: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ* مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }3 .
وكأن القوم يهمهمون بصوت قائلين: إلهنا أمون رع, ويجب عليك إتباع شريعته. فيردُّ عليهم الرجل المؤمن قائلاً: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }4.
كما أن قوله يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ, يدل أيضاً على تولي هذا الرجل المؤمن مقاليد الحكم في البلاد, فهو يطلب من قومه أن يُنْهوا الجدل العقائدي والخلاف الديني بإتباع منهجه التوحيدي, وسياسته الراشدة, ففي ذلك الهدى والرشاد. وحاول الكهنة الكيد له والبطش به فنجاه الله منهم وحسم الصراع لصالح الرجل المؤمن وأهلك الله آل فرعون.
قال تعالى: ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}5.
وكانت النتيجة قوله تعالى: {.. وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }6.
رابعا: هناك زوجة لفرعون:
1- كانت مؤمنه: قال تعالى: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون }7.
التفسير الميسر : ( وضرب الله مثلا لحال المؤمنين- الذين صدَّقوا الله, وعبدوه وحده, وعملوا بشرعه, وأنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين في معاملتهم- بحال زوجة فرعون التي كانت في عصمة أشد الكافرين بالله, وهي مؤمنة بالله. )
2- وكان لديها القدرة على إصدار قرارات وإبطال قرارات .
وقال تعالى: { وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه ..}8.
الشيخ السيوطي: (وقالت امرأة فرعون: وقد هم مع أعوانه بقتله هو قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا: فأطاعوها وهم لا يشعرون بعاقبة أمرهم معه)*.
يقول الأمام النسفي: (لا تقتلوه :خاطبته خطاب الملوك, أو خاطبت الغواة ..}*.
وهنا أتساءل لماذا أطاع فرعون زوجته ولم يقتل موسى؟
ا- ألا يدلُّ ذلك على حبَّ فرعون لزوجته؟.
ب- ألا يدلُّ على قوة نفوذ زوجة فرعون حيث أصدرت أمراً مغايراً لأمره, والتزم فرعون لأمر زوجته ولم يقتل الطفل؟.
ج_ محاولته تعويضها على حرمانها من الأولاد, أو ربما تعويضها عن ولدٍ وحيدٍ لها فقدته بالموت: خصوصاً وقد قالت له: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.
لنناقش الأمر بهدوء وموضوعية: هناك نبوءة تقول إن مُلْكَ فرعون سينتهي على يد إسرائيلي... وهناك طفل التقطته امرأة فرعون من النهر وعُرف أنه إسرائيلي ... وهناك فرعون الطاغية الذي علم بقصة هذا الطفل, فأمر بقتله, وهذا
أمر طبيعي, درءاً لما يمكن أن يجره مثل هذا الطفل على فرعون وملكه من دمار... وهناك خدم وجند فرعون جاءوا
______________________________________
1- مختار الصحاح صفحة 55 * جميع التفاسير من الانترنت
2- لاروس صفحة 192
3- غافر40
4- غافر آية 44
5- غافر 45.
6-سورة الأعراف آية 137
7- التحريم آية 11
8- سورة القصص آية 9.
لينفذوا أمره.
ولنتخيل المشهد: في باحة القصر...جنود واقفين ومحفزين وحاملين السيوف والسكاكين منتظرين الملكة أن تسلمهم الطفل لقتله تنفيذاً لأمر ملكهم فرعون.... وهناك فرعون يشير إلى الجنود مرة, وإلى الطفل مرة أخرى وهو يقول: اقتلوه...اقتلوه... وهناك خُدَّامُ القصر متجمهرين ليروا ماذا سيحدث؟... ؟ وفجأة! يعلو صوت الملكة قائلة: لا تقتلوه!.
تُرى ماذا سيكون ردُّ فعل الجنود؟ وردَّ فعل فرعون الطاغية؟!. المنطق الطبيعي هو أن ينتزع الجنود الطفل من المرأة انتزاعاً, لتنفيذ أوامر جلالته. وأن يأمر فرعون, إما باعتقال هذه المرأة. أو بقتلها مع الطفل. ولكن! خضع فرعون و"نَخَّ" وذهل الجميع مما سمعوه من الملكة: إذ كيف يُعْصى أمر فرعون؟! ومن الذي يجرؤ على ذلك؟!. والغريب في الأمر هو أن فرعون التزم لأمر زوجته وأصدر أمراً للجند بعدم قتل الطفل والابتعاد عن المكان.
لقد " نَخَّ " وهدأ هديره وسَّلَّم للملكة. وامتثل لأمرها. وكأن الملكة أرادت أن تبين لفرعون لماذا رفضت قتل الطفل فقالت: عسى أن ينفعنا نحن جلالة الملكة, أو نتخذه ولداً يسري عنا حزننا.
أليس في ذلك كله دليل على نفوذ الملكة وقوة مكانتها لدى فرعون, وشدة حبه لها, والعمل على تنفيذ ما يمكن أن يُرضيها؟. لا تقتلوه! خاطبته خطاب ملوك يصدرون أوامرهم للجميع بما فيهم فرعون: لن يُقتل هذا الطفل. ويجب على الجميع أن يمتثل لهذا الأمر.
3- طلبت من ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة:
قال تعالى: {.... إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ..}1.
والسؤال هنا لماذا طلبت امرأة فرعون من ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة؟!.. هل كانت تتصور أنها إذا ما دخلت الجنة سوف لا تجد بيوتاً, ولا قصوراً؟!!.
متى يمكن لإنسان ما أن يطلب من ربه أن يبني له بيتاً في الجنة؟. لنفترض أن إنساناً ما لا يملك بيتاً, وهو عاجز عن بناء مثل هذا البيت, لأنه لا يمتلك ثمن بناء هذا البيت, ويعجز عن تحصيل مثل هذا الثمن. وهذا الشخص مؤمن بنصيبه وقضاء الله فيه, تُرى ماذا يكون موقف مثل هذا الشخص إذا ما كان له صاحب يبني بيتاً, وقادرٌ على ذلك, ويتحدث معه عن جمال هذا البيت الذي يريد أن يبنيه؟. أعتقد أن الرجل الفقير العاجز عن بناء البيت سوف يقول عندها: بيت في الجنة خير من كل بيوت الأرض. اللهم ابن لي عندك بيتاً في الجنة.
ولنفترض أن امرأة مؤمنة, وهي جميلة وعاقلة, ومحبوبة لدى زوجها. وزوجها فاسق وفاجر, ويحاول أن يفعل المستحيل لإرضاء رغباتها, فقرر أن يبني لها قصراً ويجعل فيه بحيرة لترفه فيها عن نفسها. تُرى ماذا يمكن أن تقول مثل هذه الزوجة حينها؟!. لا شك أنها ستقول: ربِّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة, ونجني من هذا الفاسق وعمله. أليس كذلك؟!. وهذا ما حدث من امرأة فرعون, حيث أنها مؤمنة. وفرعون كافر وظالم, وهو يحبها ويحاول إرضائها, فبنى لها قصراً جميلاً لترفه فيه عن نفسها, لذلك والله اعلم دعت ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة فهو خيرٌ من قصر فرعون.
4- طلبت النجاة من فرعون وعمله: قال تعالى: ونجني من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين}
التفسير الميسر: ( وأنقذني من سلطان فرعون وفتنته, ومما يصدر عنه من أعمال الشر, وأنقذني من القوم التابعين له في الظلم والضلال, ومن عذابهم.)*. فالكهنة غاضبون مما يحدث ويسعون للبطش في كل من يؤيد موسى أو يبايعه وهذه المرأة المؤمنة تخشى على نفسها من بطش هؤلاء بها. وتحريضهم لزوجها عليها. ولن يشفع لها وقت ذاك, حبه لها.
خامسا: هناك رجل ما لم يحدد القرآن له اسم:
1- كان مؤمناً ًبالله الواحد الأحد {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ..}
التفسير الميسر: ( وقال رجل مؤمن بالله من آل فرعون, يكتم إيمانه منكرًا على قومه: كيف تستحلون قَتْلَ رجل لا جرم له عندكم إلا أن يقول ربي الله, وقد جاءكم بالبراهين القاطعة مِن ربكم على صِدْق ما يقول؟ فإن يك موسى كاذبًا فإنَّ وبالَ كذبه عائد عليه وحده, وإن يك صادقًا لحقكم بعض الذي يتوعَّدكم به...)*
2- كان من آل فرعون {.. مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ..}
من يكون يا تُرى يكون هذا الرجل المؤمن؟ وما هي درجة قرابته من فرعون؟!
يقول الطبري: ( وَقَوْله: وَقَالَ رَجُل مُؤْمِن مِنْ آل فِرْعَوْن يَكْتُم إِيمَانه: اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي هَذَا الرَّجُل الْمُؤْمِن, فَقَالَ بَعْضهمْ: كَانَ مِنْ قَوْم فِرْعَوْن, غَيْر أَنَّهُ كَانَ قَدْ آمَنَ بِمُوسَى, وَكَانَ يُسِرّ إِيمَانه مِنْ فِرْعَوْن وَقَوْمه خَوْفًا عَلَى نَفْسه. ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 23382 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد, قَالَ: ثنا أَحْمَد, قَالَ: ثنا أَسْبَاط, عَنْ السُّدِّيّ: وَقَالَ رَجُل مُؤْمِن مِنْ آل فِرْعَوْن
___________________________________
1- سورة التحريم آية 11
* انترنت
قَالَ: هُوَ اِبْن عَمّ فِرْعَوْن....وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ الرَّجُل إِسْرَائِيلِيًّا, وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُم إِيمَانه مِنْ آل فِرْعَوْن...)*
أولاً: لا يمكن أن يكون هذا المؤمن من الإسرائيليين. لماذا؟! لسبب بسيط وهو أن الثائرين على فرعون هم الإسرائيليون. فلو كان هذا المؤمن منهم لما توانى فرعون بأن يبطش به ويقتله, بعد مقولته تلك.
ثانياً: لا يمكن أن يكون ابن عم فرعون. لماذا؟ لأن ابن العم يطمع في تورث العرش, وبالتالي يمكن أن يتآمر مع الثائرين أو ربما هو قائدهم الحقيقي, وهذا يدفع فرعون للبطش به. لكن ما حدث هو عكس ذلك. فمن يكون إذن؟!
كما لا يمكن أن يكون من قوم فرعون فقط, فهذه القربى البعيدة لا تسمح لهذا الرجل من أن يعترض على قرارات فرعون الطاغية المعرض ملكه للدمار. فهو إذن لا بد وأن يكون من عائلة فرعون؟!
يقول الطبري: ( حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد, قَالَ: ثنا سَلَمَة, عَنْ اِبْن إِسْحَاق. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ السُّدِّيّ مِنْ أَنَّ الرَّجُل الْمُؤْمِن كَانَ مِنْ آل فِرْعَوْن, قَدْ أَصْغَى لِكَلَامِهِ, وَاسْتَمَعَ مِنْهُ مَا قَالَهُ, وَتَوَقَّفَ عَنْ قَتْل مُوسَى عِنْد نَهْيه عَنْ قَتْله)*.
فهل مثل هذا يمكن أن يكون من قوم فرعون, أو ابن عمه أو حتى قريب زوجته؟.
يقول الدكتور رشدي البدراوي: ( ...وتتملكنا الدهشة!! كيف لم يخشَ غضب فرعون وبطشه؟!. ومن أين واتته الجرأة؟. أكان من عائلة كبيرة يَحْسِبُ لها فرعون ألف حساب؟!. ولكن! أية عائلة هذه التي تستطيع الوقوف أمام فرعون, وهامان وجنودهما؟!. أكان يمت بصلة قرابة للفرعون؟!. ولكن حتى لو كان أخاه؟ إذن فهو أقرب من الأخ. وليس هناك أقرب من الأخ إلا الزوجة. فهل كان شقيقاً لزوجته؟. افتراض! بل احتمال شبه مؤكد. إذ لا يمنع فرعون من البطش به إلا أن يكون الأمر كذلك. ويكون الذي آمن أخاً للتي آمنت زوجة فرعون المؤمنة! وخال ولي العهد!.)1.
وهل يقبل فرعون من هذا أن يعترض على أوامره؟! لا شك أن الزوجة أقرب من الأخ, ولكن يظل أخ الزوجة محلَّ شكٍّ, ولا يقبل منه الاعتراض على قرارات فرعون خصوصاً أمام الملأ.
ولكن إذا لم يكن من قوم فرعون, ولا ابن عمه ولا أخيه, ولا حتى شقيق زوجته, فمن يكون إذن هذا الرجل المؤمن الذي هو من آل فرعون؟! الأب؟! لا يمكن للأب أن يتآمر على ابنه. كما أن الأب هو الذي يُوَرِّثُ ابنه الملك, ولا يملك
الابن إلا بعد وفاة الأب. اللهم إلا إذا كان الأب وصل لحالة صحية أصبح على أثرها لا يدري ما يدور حوله.
بقي شخص واحدٌ فقط, وهو الوحيد الذي يمكن أن يعترض على قرارات فرعون ويقرُّ له فرعون ويهدأ, ولا يجرؤ على أن يبطش به, إنه ابنه الوحيد وولي عهده. إذ كيف يمكن له أن يبطش به ويقطع وراثته عن العرش. ويذهب العرش إلى
أيدي الطامعين به,مثل ما حدث مع حور محب عندما استولى على العرش؟ إذن المعترض على قرار قتل موسى هو ابن فرعون وولي عهده. والله أعلم
3- كان هذا الرجل المؤمن, يكتم إيمانه في البداية {.. يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ..}
يقول الدكتور رشدي البدراوي ( قال رجل من آل فرعون. قيل أنه ابن عم فرعون...كان قد آمن بموسى سِرّاً ولم يظهر إيمانه للناس. قال لهم أتقتلون رجلاً كل ما فعله هو أنه قال أن له رباً غير الرب الذي تعتقدون فيه. وقد جاءكم بالمعجزات والآيات التي تدل على صدقه وقال إنها من عند ربكم أنتم أيضاً. فإن كان كاذباً, فإن كذبه واقع عليه لا يتخطاه إلى غيره. أما إذا كان صادقاً وكدتم له, فسيصيبكم على الأقل بعض ما يتوعدكم به من عذاب لأن الله لا يؤيد بالمعجزات شخصاً يكذب ويسرف في الكذب. وناشدهم ثانية أنهم اليوم غالبون وظاهرون على بني إسرائيل ولهم الملك في أرض مصر. وسألهم من ينصركم من عذاب الله إن جاء؟!.)2.
4- كان يدافع عن موسى ويؤيده {..أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ...}
حدث هناك قصة تثبت تضامن هذا الرجل مع موسى, حيث أن موسى عندما قتل رجلاً من أعدائه عندما كان يتعارك مع رجلاً من أنصار موسى, أن جاء هذا الرجل المؤمن من أقصى المدينة مسرعاً إلى موسى ليحذره من أن الملأ يريدون قتله, ونصحه بالخروج ليتقي بذلك شرهم.
قال تعالى:{...فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}3.
الجلالين: (..فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته: إسرائيلي وهذا من عدوه: قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون..)*.
أعتقد أنه لم يكن لموسى أعداء قبل أن يعلن دعوته؟. والحقيقة هي أن الاثنين كانا يعملان في قصر فرعون, وكان الذي من شيعته من الذين عارضوا قتل موسى وهو صغير ويتبع الملكة, ويظهر الوُدَّ دائما لموسى. أما الآخر فهو ممن كان
يريد قتل موسى ويؤيد فرعون, ويظهر البغضاء والعداوة له في القصر دائماً. والله أعلم بالحقيقة.
___________________
1- كتاب قصص الأنبياء والتاريخ جزء 4 صفحة 896
2- نفس المصدر السابق صفحة 880
3- سورة القصص15
* من الانترنت
5-وكان بينه وبين الملأ من آل فرعون جدال عقائدي عنيف قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}1.
6- تآمر عليه قومه وحاولوا قتله قال تعالى :( {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا...}
7- وحُسِمَ الصراع العقائدي لصالح الرجل المؤمن . قال تعالى : ( ..وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }2.
سادساً: ومن الحقائق التي ذكرها القرآن: غرق الفرعون في البحر.
قال تعالى: { فاتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم....}3.
وقال تعالى: { حتى إذا أدركه الغرق قال أمنت انه لا اله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين والآن وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم تنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ..}4.
فَاليَوْمَ نُنَجِّيْكَ بِبَدَنِكَ
ونتساءل في هذا المقام: لا شك أن فرعون غرق مع من غرق من جنده لكن! هل مات فرعون أثناء غرقه ؟!
غرق فرعون في أعماق البحر بعيداً عن الشاطئ. وسحبته الدوامة إلى أعماق المياه, بعيداً عن السطح. ولكن هل مات فرعون في غرقه أم أنه نجى؟! القرآن قال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}5.
فما معنى ننجيك ببدنك ؟!.
الشيخ السيوطي يقول: (فاليوم ننجيك نخرجك من البحر ببدنك جسدك الذي لا روح فيه..)* .
التفسير الميسر: ( فاليوم نجعلك على مرتفع من الأرض ببدنك, ينظر إليك من كذَّب بهلاكك; لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك.)* .
يقول القرطبي: (أَيْ نُلْقِيك عَلَى نَجْوَة مِنْ الْأَرْض. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّ فِرْعَوْن غَرِقَ, وَقَالُوا: هُوَ أَعْظَم شَأْنًا مِنْ ذَلِكَ, فَأَلْقَاهُ اللَّه عَلَى نَجْوَة مِنْ الْأَرْض, أَيْ مَكَان مُرْتَفِع مِنْ الْبَحْر حَتَّى شَاهَدُوهُ...)*.
ومن القاموس: ( نَجَّى يُنَجِّي تَنْجِيةً مُنَجٍّ " المُنَجِّي " مُنَجًّى. نَجَّى الشخصَ: خَلَّصه "نَجَّى السباحُ الغريقَ". ونَجَا أي خَلَصَ" نَجَا بِجِلُدِه". مَنْجَىً جمعها مَنَاجٍ "المناجي": ما ارتفع من الأرض.)6.
فهل ألقى الله بجسد فرعون على مرتفعٍ من الأرض كما يقول بعض المفسرين؟. أم أن النجاة هنا هي الخلاص؟ . أي أن الله خَلَّصَه من الغرق؟!. وعندما يقول الله تعالى فاليوم ننجيك ببدنك: أي نُخَلِّصك ببدنك. فهل هذا يعني أنْ خَلَّص الله جسده فقط؟! أم أن النجاة كانت بحياة البدن دون القدرة على القيام بواجبات الحياة؟ وما قيمة نجاته هنا وهو ميت لا حراك فيه وبعد قليل سوف ندفنه في التراب, وربما لا يراه الكثير ممن هو خلفه؟!. ثمَّ ما معنى قوله تعالى: {..وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}7.
فكيف سيري اللهُ فرعونَ ما كان يحذره من الإسرائيليين؟ أي تدمير ملكه والاستيلاء عليه.
الجلالين: (..ونجعلهم الوارثين: ملك فرعون. ونمكن لهم في الأرض: أرض مصر والشام ونري فرعون وهامان وجنودهما: وفي قراءة ويَرَى بفتح التحتانية والراء ورفع الأسماء الثلاثة منهم ما كانوا يحذرون: يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه)*.
والقرآن أثبت لبني إسرائيل تورثهم مُلْكَ مصر بعد غرق فرعون, في عدة آيات:
القصص: { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }8.
والشعراء: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }9.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ }10.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }11 .
والقرآن يقول:{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ }12.
___________________________________
1- سورة غافر 41 11- الأعراف 137
2- سورة غافر آية 45 12- قصص آية 5
3- سورة طه 78 * من الإنترنت
4- يونس 90 ، 91 ,92
5- سورة يونس آية 92
6- قاموس لاروس 1176
7- سورة القصص آيتي " 5 , 6 "
8- القصص 5
9- الشعراء 59.
10- الدخان 28 .
والقراءة الأخرى كما يقول السيوطي{ ويَرَى فِرْعَوْنُ وهامانُ وجُنُودُهُمَا منهم ما كانوا يحذرون }*. فلابُدَّ وأن يكون فرعون حياً حتى يرى ماذا جرى لملكه .أليس كذلك ؟. ولكنه عاجزٌ عن فعل أي شيء وهو يرى من كان بالأمس يستضعفهم , ويذلهم , ويُقَتِّلُّ أبنائهم, كيف يتوارثونه وهو حي ينظر إليهم غير أنه عاجز لا قدرات عقلية ولا قدرات جسدية تسمح له بالاعتراض . ونُريَ فرعون : أي سيرى الله فرعون بأم عينيه ذلك .
التفسير الميسر: (..ونجعل فرعون وهامان وجنودهما يرون من هذه الطائفة المستضعفة ما كانوا يخافونه مِن هلاكهم وذهاب ملكهم, وإخراجهم من ديارهم على يد مولود من بني إسرائيل.)*.
القرطبي:(..أَيْ وَنُرِيد أَنْ نُرِي فِرْعَوْن وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف: "وَيَرَى" بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْل ثَلَاثِي مِنْ رَأَى"فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا" رَفْعًا لِأَنَّهُ الْفَاعِل الْبَاقُونَ "نُرِِي" بِضَمِّ النُّون وَكَسْر الرَّاء عَلَى أَنَّهُ فِعْل رُبَاعِيّ مِنْ أَرَى يُرِي, وَهِيَ عَلَى نَسَق الْكَلَام ; لِأَنَّ قَبْله "وَنُرِيد" وَبَعْده "وَنُمَكِّن" "فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهمَا " نَصْبًا بِوُقُوعِ الْفِعْل وَأَجَازَ الْفَرَّاء "وَيُرِي فِرْعَوْن" بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء وَفَتْح الْيَاء وَيُرِي اللَّه فِرْعَوْن)*
فهل سأل كل معتقد بأن فرعون مات في الغرق نفسه: كيف سَيُري اللهُ فرعونَ, ما مَنَّ به على بني إسرائيل وهو ميت؟!. فلا بد من أن يكون فرعون حياً ,حتى يرى بني إسرائيل يتمتعون بملكه .
ومن القاموس: (نَجَّى يُنَجِّي تَنْجِيَةً مُنَجٍّ " المُنَجّي" مُنَجَّىً. ونجَّى الشخْصَ: خَلَّصَّه" نَجَّى السَبَاحُ الغَريقَ". و مَنْجَى : مكان النجاة. ما ارتفع من الأرض )1. وعليه فإنَّ الله نَجَّى فرعونَ ببدنه أي خَلَّصَه بجسده دون وعيه. ولو أننا تخيلنا أن السباحُ أخرج جثة غريق مات في غرقه, فهل يمكننا أن نقول إن السباحَ نَجَّى الغريق بجسده؟! فالجسد الميت سوف يُدفن في التراب ويندثر فلا نجاة له. كما أن كل من تركهم فرعون خلفه سوف يرونه وهو عاجزٌ نفسياً وجسدياً. وهو الذي كان منذ فترة وجيزة "أي قبل غرقه" يقول: أنا ربكم الأعلى. أنا ربُّ السيف. آخذ كل شيء أريده بيدي. وهاهو أمامهم عاجز لا يستطيع فعل شيء والإسرائيليون يتمتعون في ثرواته وأملاكه, فيكون بذلك حقاً عبرة وعظة.
ويقول أحد من تناقشت معهم حول هذه القضية: إن الله نَجَّى جسد فرعون من أن يأكله السمك. وبالتالي يتعرف عليه الناس فيعتبرون بموته. ويقول آخر أن الله عَلَّمَ المصريين التحنيط في زمان فرعون وذلك لتحفظ جثته فيكون لمن وراءه
آية وعبرة. وعلى العموم لا يعلم بالحقيقة إلا الله .
وهنا لي وقفة: فمن يغرق فان جسده أي جثته يلقى بها البحر إلى الساحل فما قيمة قولة تعالى: الآن ننجيك ببدنك إذا كان فرعون مات واخرج البحر جثته؟ وقول تعالى لتكون لمن خلفك آية فهل المقصود بها من خلفه إلى يوم القيامة؟ أم أنَّ من خلفه ممن في البلاط الملكي والرعية الذين سمعوه وهو يدعى الآلهية وها هو قد غرق؟. أم أن من خلفه هم الملوك الذين سيأتون بعده؟!
وإذا قيل أن تحنيط جثه فرعون دليل على نجاته ببدنه, فإن هناك العشرات من الجثث الفرعونية محنطة ولا يعرف من بينها فرعون موسى؟. وأعود للسؤال السابق كيف سيرى فرعون وهامان تملك الإسرائيليين ملك فرعون؟ لا بدَّ أن يكون حياً حتى يرى ذلك؟. إذن كانت نجاة فرعون والله أعلم بالحقيقة, حيا ببدنه دون وعيه أو إدراكه والله اعلم.
سابعاً: خروج بني إسرائيل من مصر
هل خرج بني إسرائيل من مصر نهائياً بمطاردة فرعون لهم ولم يعودوا إليها؟. أم أن هذه المطاردة كانت خاتمة الصراع مع فرعون, وانتهت بغرق فرعون. ثم عاد الإسرائيليون إلى مصر وتورثوها كما أثبت القرآن ذلك. ثم خرجوا من مصر خروجاً فيه أمناً وسلاماً؟!. لنتأمل في ذلك:
1- المطاردة: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }2.
يقول السيوطي: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم: لحقهم. فرعون وجنوده بغياً وعدواً: مفعول له..)*
يقول الطبري: (الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعهُمْ فِرْعَوْن وَجُنُوده: يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَقَطَعْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ حَتَّى جَاوَزُوهُ. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْن: يَقُول: فَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُوده: يُقَال مِنْهُ: أَتْبَعْته وَتَبِعْته بِمَعْنًى وَاحِد. وَقَدْ كَانَ الْكِسَائِيّ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْد عَنْهُ يَقُول: إِذَا أُرِيد أَنَّهُ أَتْبَعهُمْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَالْكَلَام "أَتْبَعهُمْ" بِهَمْزِ الْأَلِف, وَإِذَا أُرِيد اِتَّبَعَ أَثَرهمْ أَوْ اِقْتَدَى بِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ "اِتَّبَعْت" مُشَدَّدَة التَّاء غَيْر مَهْمُوزَة الْأَلِف .)*
يقول القرطبي :( يُقَال: تَبِعَ وَأَتْبَعَ بِمَعْنًى وَاحِد, إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ. وَاتَّبَعَ "بِالتَّشْدِيدِ" إِذَا سَارَ خَلْفه. وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : أَتْبَعَهُ "بِقَطْعِ الْأَلِف" إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ, وَاتَّبَعَهُ "بِوَصْلِ الْأَلِف" إِذَا اِتَّبَعَ أَثَره, أَدْرَكَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو زَيْد . وَقَرَأَ قَتَادَة " فَاتَّبَعَهُمْ " بِوَصْلِ الْأَلِف. وَقِيلَ:اِتَّبَعَهُ "بِوَصْلِ الْأَلِف" فِي الْأَمْر اِقْتَدَى بِهِ. وَأَتْبَعَهُ "بِقَطْعِ الْأَلِف" خَيْرًا أَوَ شَرًّا; هَذَا
__________________________________
1- قاموس لاروس صفحة 1176 , 1177 .
2- يونس90
* إنترنت
قَوْل أَبِي عَمْرو. وَقَدْ قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد. فَخَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيل وَهُمْ سِتّمِائَةِ أَلْف وَعِشْرُونَ أَلْفًا , وَتَبِعَهُ فِرْعَوْن مُصْبِحًا فِي أَلْفَيْ أَلْف وَسِتّمِائَةِ أَلْف .)*
إنه لأمر غريب! هل يُعْقَلُ أن يكون جيش فرعون مليونين وستمائة ألف جندي؟ "أي والله هذا لم يحدث في العصر الحديث؟! وهل كان يعيش في مصر مثل هذا العدد في الأزمنة القديمة؟!!. أنا آسف. لم ولن أقتنع. فمعذرة للتراث. وعلى العموم فهذه ليست قضيتي, فقضيتي هي خروج بني إسرائيل من مصر.
هذه القضية يحسمها القرآن في قوله تعالى:
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ* وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }1.
في آية 136تتحدث عن غرق فرعون وجنده في اليم. ثم تأتي الآية 137 وباستعمال حرف العطف " الواو" الذي يفيد
التعقيب والترتيب, تتحدث عن تورث بني إسرائيل ملك مصر. ثم تأتي الآية 138 لتتحدث بعد التوريث عن خروج بني إسرائيل إلى سيناء وباتجاه الأرض المقدسة. وهل اليم المذكور في آية 136 غير البحر المذكور في آية 138؟
والحقيقة هي والله أعلم أن الأمر لا يحتاج إلى علم بلاغة, وقوة لغة وسعة فقه, ومجلدات من التفاسير. بقدر ما يحتاج إلى تأمل وتدبر في آيات الله.
الفرق بين اليم والبحر:
الفرق بين البحر والْيَمِّ في القرآن الكريم:
يقول الأستاذ منذر أبو هواش" مترجم اللغة العثمانية وباحث ومفكر": (تحدث القرآن الكريم عن البحار وعن الأنهار بالمعنى والمصطلح المتعارف عليه لغة عند الناس للبحار والأنهار، وكلمتا البحر والنهر واضحتان من هذه الناحية في كافة المواضع القرآنية، وليس هناك اختلاف حول المفاهيم المتعلقة بهما, وبمجرد النظر إلى السياق القرآني والتأمل فيه نرى أن كلمة البحر قد استخدمت في كافة المواضع التي كان البحر مقصودا فيها بكامله وبمواصفاته وبكيانه وبحجمه وبكامل مكوناته:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ}2.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}3.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَار}4.
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}5.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}6.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}7.
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}8.
ويلاحظ أنه من غير الممكن في هذه السياقات وفي غيرها أن نستبدل كلمة البحر بكلمة الماء لأن ذلك يؤدي إلى اختلال المعنى.
أما كلمة اليم فهي تذكر وتستدعي كلمة مايم في اللغات القديمة، والتي تعني ماء كما هو في وارد في اللغات العبرية
والقبطية والنبطية والمصرية الهيروغليفية وغير ذلك. لاحظ أن كلمة "مايم" المشتركة بين عدة لغات قديمة تتكون من
مقطعين هما "ماء" و "يم"، وأن البلاغة القرآنية اختصرتهما في كلمة واحدة هي "يم"، وربما كان ذلك من باب المجاز اللغوي فيما يسمى بلاغة "إطلاق اسم الكل على الجزء"، ومن خلال التأمل في السياقات الستة الواردة في القرآن الكريم لهذه الكلمة نرى ونفهم بكل وضوح وجلاء أن المقصود بها هو ماء البحر أو مياه البحار أو الأنهار بمواصفاتها
وإمكاناتها وآثارها المعروفة على التحديد، وإن كان غير المدقق يفهمها بشكل عام على أنها كلمة مرادفة للبحر أو النهر أو ما إلى ذلك، علما بأن هذا الفهم العام لا يخل كثيرا بالمعنى، وإن ابتعد قليلا عن موجبات البلاغة القرآنية.
__________________-
1- سورة الأعراف آيات"136, 137, 138"
2-سورة المائدة 96
3- الأعراف 138
4- إبراهيم 32
5-سورة النحل 14
6- الإسراء 67
7- سورة الكهف 79
8- الكهف 109
*- من الإنترنت
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}1.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}2.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيم}3.
فالماء هنا هو سبب الغرق.
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}4.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}5.
الماء هنا هو المعني على التحديد، والمقصود هو القذف والإلقاء في الماء، وأن ماء البحر أو النهر لا البحر أو النهر هو المأمور بإلقائه بالساحل.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}6.
ماء البحر على التحديد هو الذي غشيهم وليس البحر بكامله.
ونلاحظ أننا لو استبدلنا كلمة اليم بكلمة الماء في السياقات الستة السابقة لما اختلف المعنى كثيرا. وقد اقتضت الحكمة الإلهية والبلاغة القرآنية استخدام كلمة اليم في المواضع الستة المذكورة التي استخدمت فيها من أجل الدقة في التفريق بين هذا الماء "ماء البحر أو النهر والماء العادي."
أعتقد أن هذا هو الفرق بين كلمتي البحر واليم بالشكل الذي أفهمه من السياق القرآني استنادا إلى معلوماتي اللغوية المتواضعة في ضوء مختلف التفاسير المتواترة عن السلف الصالح)*.
تلك حقائق تسعة ذكرها القران عن حقيقة ما جرى بين موسى وفرعون .
2- الخروج السلمي:
قال تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ* فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ*وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}7.
هذه الآيات تبين أن هناك خروج مطاردة لبني إسرائيل من فرعون وجنده, وأن هناك خروج سلمي, تبينه الآية رقم 138.
__________________
1- سورة الأعراف 136
2- القصص 40
3- الذاريات 40
4- طه 39
5- القصص 7
6- طه 78
7- سورة الأعراف آيات" 135, 136, 137, 138"
* من الإنترنت
الحقائق التـاريخيــة
قضية البحث عن من هو فرعون موسى؟ تنحصر في تاريخ الفراعنة, وليس في من قبلهم. لأن الحقيقة التاريخية أثبتت أن لفظ كلمة فرعون كلقب لجلالة الملك الذي يتربع على عرش البلاد المصرية, بُدِئَ في استعمالها, من أواسط الأسرة الثامنة عشرة كما تقدم بيانه. لذلك فسوف أحصر بحثي على ملوك تلك الفترة التاريخية, وسيكون مفتاحي الذي سأفتح به بوابة التاريخ المغلقة والمبهمة, هو الرجل المؤمن من آل فرعون, وبناءاً على الحقائق القرآنية. والتي تمثل المقاييس والموازين الحقيقية التي سأقيسُ, وأزنُ بها كل الشخصيات التي لها علاقة بالصراع بين موسى وفرعون. فإذا ما تطابقت أوصاف الأشخاص المعنيين, بالأوصاف القرآنية, فإن هذا يعني عدة أمور من أهمها:
1- أن القرآن نبأهُ حقٌ. وأنه موحىً من عند الله الذي يعلم سلوك العباد وتصرفاتهم ويحصيها لهم. قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }1.
2-معرفة شخصية فرعون موسى الحقيقية؟.
3- معرفة من هو الرجل المؤمن من آل فرعون؟.
4- معرفة من هي امرأة فرعون؟
صمت الآثار المصرية عن قصة الخروج
يقول الدكتور رشدي البدراوي: (... ويعلل سميث سُكُوت الآثار المصرية عن قصة الخروج " أي خروج بني إسرائيل من مصر" بأنها من وجهة النظر الفرعونية لا تزيد عن كونها فرار مجموعة من العبيد من سادتهم المصريين. وما كانت هذه بالحادثة التي تُسَجَّلُ على جدران المعابد أو التي تقام لها الآثار لتسجلها. كما أن هذه التسجيلات لم تكن "كما نقول بلغة عصرنا" صحافة حرة تسجل الأحداث كما وقعت" بل لا بد كانت تحت رقابة صارمة من الفراعين, فلا تُسَجِّلُ إلا ما يسمح به الفراعين أنفسهم ويكون فيه تمجيد لهم .. )2.
وهل ما جرى لفرعون من دمار مملكته وتولي قوما آخرين عرش مصر, أمر هين ولا يستحق أن يدون على الجدران؟!!
وعلى أي حال فأنا هنا لي وجهة نظر أخرى تتمثل في نقطتين:
الأولى: تورث بني إسرائيل للعرش المصري عقب غرق فرعون مصداقاً لقوله تعالى:{ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }3.
يقول السيوطي: ( فأخرجناهم: أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه. من جنات: بساتين كانت على
جانبي النيل وعيون: أنهار جارية في الدور من النيل-وكنوز: أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوزا لأنه لم يعط حق الله تعالى منها. ومقام كريم مجلس حسن للأمراء والوزراء يحفه أتباعهم- كذلك: إخراجنا كما وصفنا.
وأورثناها بني إسرائيل: بعد إغراق فرعون وقومه)*
إذن الحقيقة القرآنية تؤكد أن بني إسرائيل تورثوا ملك مصر بعد غرق فرعون. وهذا لا يروق للكهنة . والحاقدين على عقيدة الإيمان, أعوان الشيطان وحلفاؤه, كأمثال حور محب, وسيتي الأول.
الثانية: عزَّ على مثل هؤلاء الحاقدين على عقيدة الإيمان أن يذكر التاريخ المصري القديم نكسة أصابت مصر كنكسة الهكسوس, يتحكم من خلالها الغرباء بالبلاد المصرية. لذلك عملوا كل ما يمكن أن يعملوه لطمس الحقائق بعد غياب أصحابها عن الحياة الدنيا, وهذا ما نوه إليه الدكتور رشدي البدراوي بقوله: بل لا بد كانت تحت رقابة صارمة من الفراعين, فلا تُسَجِّلُ إلا ما يسمح به الفراعين أنفسهم ويكون فيه تمجيد لهم. وتولي الإسرائيليون عرش مصر يمثل لهم نكسة كنكسة الهكسوس. لذلك عمل حور محب على طمس هذه الحادثة طمساً كاملاً, وأخفاها.
لنبدأ بعون الله وتوفيقه بفتح باب التاريخ المصري الفرعوني بمفتاح الرجل المؤمن فنقول وبالله التوفيق:
الرجل المؤمن من آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ..}4.
___________________________________________
1- سورة الجاثية29
2- كتاب قصص الأنبياء والتاريخ جزء 4 صفحة 658
3-سورة الشعراء آيات " 57, 58 ,59"
4- سورة غافر 28
* من الإنترنت
تعليق