وذلك؛ في قولهم : إن الحياة إنما هي من نتاج المادة دون أن يكون وراءها شيء، بل تطورت ذاتيًّا، ونشأت تلقائيًّا حسب قوانين المادة التطورية، هذا ما يسمونه أيضًا بالقوانين الطبيعية.
هذه الشبهة مؤلفة من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي، وهذا ما كان يقول به الشيوعيون في بداية أمرهم.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء، هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول كالفرضية أو النظرية، دعمًا لمواقفهم السابقة.
الجانب الثالث: القول بنسبة الخلق والحياة إلى الطبيعة، فهذا وإن كانوا في حقيقة أمرهم لا يُبالون بجانب البحث عن الخالق أو المسبب، إلاَّ أنهم قالوا بهذا القول رغم إنكارهم لذلك في كتاباتهم هروبًا من الكنيسة، وإله الكنيسة.
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي:
الرد عليه بما يلي:
إن هذا القول إنما هو محاولة تفسيرهم لظاهرة الحياة في المادة، فإنهم لمَّا أنكروا وجود الخالق – جلاَّ وعلا – لزمهم أن يقولون: إن المادة الأولى للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من مادة الكون الأولى، ثم نشأت بعد ذلك في الحياة: الإحساسات الراقية، حتى مستوى الفكر، ووعي ما في الكون عن طريقه، وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلاً ذلك في الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ.
قبل مناقشة هذه المسألة: لابدّ من طرح سؤال وهو: ما هو الدليل العلمي على أن الروح والفكر والإحساس ثمرة من ثمرات المادة؟
إن أدق ما قدمته الشيوعية من برهان على هذه الدعوى إلى الآن هو: أن الحياة تنشأ عن الحرارة ، والحرارة بدورها تنشأ من الحركة، أي أن: الحركة + حرارة = حياة.
ونحن نلجأ إلى نفس الأسلوب الذي تسير عليه الماركسية لضبط سلامة معارفنا، وهو التطبيق العلمي لنرى هل الحركة + الحرارة = الحياة؟
ولنتساءل من الذي جمع هاتين الظاهرتين إلى بعضهما (بجهد من تطبيقه الخاص) بهذه البساطة أو بما شاء من التعقيد الكيميائي فاستخرج منها حقيقة الحياة؟... وهنا لابدّ أن يُعاد إلى الأذهان خبر المؤتمر الذي عقده ستة من علماء الحياة في كلٍّ من الرِّق والغرب في نيويورك 1959م، وكان فيهم العالم الروسي (أوبارين) أستاذ الكيمياء الحيوية في أكاديمية العلوم السوفيتية، أملاً في فهم شيء عن أصل الحياة ومنشأها على ظهر الأرض، وإلى معرفة مدى إمكان إيجاد الحياة عن طريق التفاعل الكيميائي.
لقد قرر المجتمعون في نهاية بحوثهم بالإجماع (أن أمر الحياة لا يزال مجهولاً، ولا مطمع في أن يصل إليه العلم يومًا ما، وأن هذا السرّ أبعد من أن يكون من مجرد بناء مواد عضوية معينة وظواهر طبيعية خاصة).
ثم إن الحقيقة التي أجمع عليها العلماء حتى الآن – مسلمهم وكافرهم – أن العلم لا يدري إلى اليوم شيئًا عن الحياة والروح، فهل تجميع الحرارة والحركة ينتج حياة بهذه البساطة؟ إن مما لا شك فيه أن كلاًّ من الحركة والحرارة من أبرز خصائص الحياة، ولكن من المفروغ منه في قواعد المنطق أن خواص شيءٍ ما ليست تعبيرًا عن الجوهر الذاتي الذي يقوم به؛ فالماء مثلاً في حالة الغليان يتصف بكلٍّ من الحركة والحرارة، وهكذا أن الحركة والحرارة خصيصتان من خصائص الحياة الدالة عليها كالأيدروجين والكربون والأوزون والأوكسجين، وغير ذلك من عناصر الحياة الأساسية، أما جوهر الحياة ذاته فشيء آخر لا يقف عليه إنسان.
ولهذا قال «انجلز»: (ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد شيئًا بخصوص أصل الحياة)، فهذا اعتراف منهم على أنهم ما وصلوا في خصوص الحياة إلى نتيجة علمية ثابتة، وإنما هذه الأقوال دعاوى كاذبة، وأحاجي فارغة تناقض حتى المبادئ العقلية.
فالإنسان ليس من صنع المادة؛ لأن المصنوع لا يحيط بصانعه، والإنسان قد أحاط بصورة المادة وخرج بها إلى دائرة الأثير، بل إلى عمليات رياضية فكرية في قدرة الإنسان أن يحتويها، وهذا لا يأتي إلا إذا كان في طبيعة الإنسان شيء يعلو على مكونات المادة، شيء مفارق لكل خصائصها المعروفة.
فمادة الكون الأولى، التي ليس فيها مركبات متقنة، وليس فيها حياة ولا إحساس ولا وعي، لا تستطيع أن ترقى إلى الكمال ارتقاءً ذاتيًّا، ولا تستطيع أيضًا أن تصنع أجزاءً فيها هي أكمل منها وأرقى، وذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، وصنع الناقص لما هو أرقى منه نظير تحول العدم إلى الوجود تحولاً ذاتيًّا؛ لأن القيمة الزائدة قد كنت عدمًا محضًا، والعدم المحض لا يُخرجه إلى الوجود إلا قوة مكافئة له، أو أقوى منه، والمادة العمياء الصماء الجاهلة لم تكن أقوى ولا مكافئة لمادة حيّة مريدة ذات وعي وإحساس، بل هي أقل قيمة منها، فهي إذن عاجزة بداهة عن إنتاج ما هو خير منها.
فهذه الدعوى – دعوى وجود الحياة نتيجة التطور الذاتي – كانت تقول بها الشيوعية في بداية أمرها، وكانت تقول: إن المادة تتطور من كمية إلى كيفية، ومصادفة يحدث في المادة شيء آخر، والحياة ما هي إلا نتيجة من نتائج هذه المصادفة في المادة في بعض مراحل تطورها، وتُمثل الشيوعية لها بالماء إذا زاد في غليانه يزيد في الحرارة، ولكن لما تصل الحرارة إلى 100% فإنه يصبح بخارًا، فأخذ شكلاً آخر في بعض تطورها، فيقال لهم: إن التطور في مثل هذه الأشياء أحدث شيئًا آخر ولكن ليس لذاتها، بل بفعل فاعل، ثم إن حدوث البخار من الماء شيء يمكن إثباته بالتجربة، فهل الحياة مثل هذا؟ هل يمكن إثبات الحياة في مادة ميتٍ ما على سبيل التجربة؟
ثم إن هذا المبدأ من مبادئ الماركسية، لا يمكن أن يعتبر قانونًا عامًّا ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقرر به، وهو وإن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.
إن التراكم في الكم لا يقتضي دائمًا التطور في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك، إن الملاحظة تُثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطًا معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور، فمثلاً:
أ- بيضة الدجاجة الملّقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجيًّا حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذ يخرج من غُلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته إلى الأرض.
لقد حصل التطور، ولكن على خلاف المُدَّعَى في المبدأ الماركسي، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكوّن جنين البيضة تكونًا تدريجيًّا، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه، ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدَّد في نظام التكوين لسُلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.
فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة تراكمات، هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها الله عز وجل بقوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} .
إن هذا المثال كافٍ لنقض فكرة التراكم المدعاة في المبدأ الشيوعي، الذي يعتبرونه قانونًا شاملاً لكل تطور في الوجود، وهو أيضًا كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطورًا تدريجيًّا.
ب- والكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بيضة الأنثى، ويسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة فيه دبَّت الحياة فيه، ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدت، ثم يسير في نمو تدريجي أيضًا حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شابًّا، فكهلاً، ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخًا، فهرمًا، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسّخ جسمه، ويعود ترابًا كما بدأ من التراب، وقد يموت في أيّ مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمرّ في المراحل المعتادة للأحياء، وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء: في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.
هذا المثال الثاني كافٍ أيضًا لنقض كل ما قالوا في مبدأ التطور، ففكرة التراكم المقررة في المبدأ فكرة منقوضة، ذلك؛ لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي، وفكرة التطور السريع المفاجئ المقررة في المبدأ الشيوعي منقوضة أيضًا؛ لأن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ، (أو الصدفة – كما يقولون-).
فهذان المثالان من آلاف الأمثلة في نقض أقوال الشيوعية في القول بالتطور – على التفسير الذي يريدونه – وبنقض مبدأ التطور ينقض أيضًا مبدؤهم القائل بأن الحياة وظيفة من وظائف المادة، متى وصل تركيبها إلى وضع خاص بالتطور، فإن آخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية التي قام بها الغربيون والشرقيون الماركسيون، والتي أنفقوا في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلاّ من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية.
وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها، وصِفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم.
فالعلوم الإنسانية، قد كفتنا مهمة إبطال هذا المبدأ من مبادئ الماركسية وسائر الماديين الملحدين.
على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأيّ دليلٍ عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذي يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء :
وكما سبق أن هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول، فوجدوا فيه غايتهم المنشودة، فقالوا بها دعمًا لمواقفهم السابقة، وقالوا: انتصرت المادة.
يقول (جون لويس): (لقد حول داروين ما كان يجول بخاطر العديد من المفكرين إلى فكرة ممكنة مقنعة، وهي أن عالم الحيوان لم يوجد نتيجة خلق واحدة، بل هو ثمرة تغيرات ارتقائية عملت على تحويل الأنواع التي ظهرت في عصور مبكرة إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا، والتي ظهرت في عصور متأخرة... والإنسان نفسه لم يُخلق بفعل خاص منفصل، بل هو ثمرة الارتقاء، ونظرية الارتقاء لا تستبعد قوى ما فوق الطبيعة من عملية الخلق فحسب، بل تضع بدل هذه القوى: تطور الحياة الطبيعي، وقد كان هذا تجديدًا مدهشًا).
فهذا القول يُظهر لنا مدى تأثر الماديين بهذه النظرية الخبيثة، وسيأتي بيان مجمل لهذه النظرية مع الرد عليها فيما بعد.
الجانب الثالث: القول بوجود الخلق من الطبيعة:
سبق أن ذكرنا: أن المادة والطبيعة عندهم شيء واحد، ولكنهم لما وجدوا ضغوطًا من الكنائس البابوية المنحرفة قالوا: الخلق إنما هو من الطبيعة. فلينظر مدى صحة هذا القول، وهل الطبيعة تصلح أن تكون خالقًا؟
في الحقيقة: إن هذه فرية راجت في عصرنا هذا، راجت حتى على الذين – يظنون أنهم – نبغوا في العلوم المادية، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها، فقالوا: الطبيعة هي التي تُوجد وتحدثُ.
وهؤلاء نوجه إليهم هذا السؤال: ماذا تريدون بالطبيعة؟ هل تعنون بالطبيعة ذوات الأشياء؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته؟
فإننا نرى: أن الطبيعة في اللغة: السجية.
أمَّا في عقول الناس اليوم فلها مفاهيم:
المفهوم الأول: أنها عبارة عن الأشياء بذاتها، (الكون نفسه)، فالجماد والنبات والحيوان كل هذه الكائنات هي الطبيعة.
وهو مفهوم غير دقيق وحكم غير سديد، فإن هذا القول يصبح ترديدًا للقول السابق بأن الشيء يوجد نفسه – بأسلوب آخر، أي أنهم يقولون: الكون خلق الكون، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، والكون خلق الإنسان والحيوان، هذا القول لا يخرج بالطبيعة بالنسبة لخلق الوجود عن تفسير الماء بالماء، والأشياء أوجدت ذاتها، فهي الحادث والمُحدِث، وهي الخالق والمخلوق في الوقت ذاته، وقد سبق بيان كون العقل الإنساني يرفض التسليم بأن الشيء يوجِد نفسه، كما أن الشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا بصيرًا عليمًا؟ هذا لا يكون، فبطلان هذا القول بيّن، فهو لا يخلو عن أمرين:
1- إمّا ادعاء بأن الشيء وجد بذاته من غير سبب.
2- وإمّا ازدواج الخالق والمخلوق في كائنٍ واحد، فالسبب عين المسبب، وهو مستحيل، بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إلى الوقوف والشرح.
فإن قالوا: خلق كل ذلك مصادفة، يقال: ثبت لدينا يقينًا أن لا مصادفة في خلق الكون – كما سيأتي-.
وكان مما ساعد على انتشار هذا القول: نظرية التولد الذاتي، وكان من أدلتها: ما شاهده العلماء الطبيعيين من تكوّن (دود) على براز الإنسان أو الحيوان، وتكون بكتيريا تأكل الطعام فتفسده، فقالوا: ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها، وراجت هذه النظرية التي مكنّت للوثن الجديد (الطبيعة) في قلوب الضالين والتائهين بعيدًا عن هدي الله الحق، لكن الحق ما لبث أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور (باستير) الذي أثبت أن الدود المتكون والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيًّا من الطبيعة، وإنما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها، وقام بتقدير الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله، فوضع غذاء وعزله عن الهواء وأمات البكتيريا بالغليان، فما تكونت بكتيريا جديدة ولم يفسد الطعام، وهذه هي النظرية التي قامت عليها الأغذية المحفوظة (المعلبات).
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم للطبيعة جليًّا وبينًا.
المفهوم الثاني: أن الطبيعة عبارة عن القوانين التي تحكم الكون؛ بمعنى أنها تعني صفات الأشياء وخصائصها، فهذه الصفات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، وملاسة وخشونة، وهذه القابليات: من حركة وسكون، ونمو واغتذاء، وتزاوج وتوالد، كل هذه الصفات والقابليات: هي الطبيعة.
إن هذا تفسير الذين يدَّعون العلم والمعرفة من القائلين بأن الطبيعة هي الخالقة، فهم يقولون: إن هذا الكون يسير على سُنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية، والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرًا طويلاً، فإنها تسير بذاتها دون مسيّر.
الردود:
1- إن هذا القول ليس جوابًا، وإنما هو انقطاع عن الجواب، وذلك؛
إن هؤلاء في واقع الأمر لا يُجيبون عن السؤال المطروح: من خلق الكون؛ ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا كيف يعمل القوانين في الأشياء، ونحن نريد إجابة عن موجِد الكون وموجِد القوانين التي تحكمه.
(كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تُمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول الماء على الأرض، وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرًا لها، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى إن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟
إن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة).
2- الطبيعة لا تفسّر شيئًا (من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجةٍ إلى تفسير، وذلك؛ (لو أنك سألت طبيبًا: ما السبب وراء احمرار الدم؟).
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها 1/700 من البوصة.
- حسنًا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تُسمّى (الهيموجلوبين)، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين في القلب.
- هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل (الهيموجلوبين)؟
- إنها تُصنع في كبدك.
- عجبًا! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكَبِد وغيرها، بعضها ببعض ارتباطًا كليًّا وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نُسميه «بقانون الطبيعة».
- ولكن ما المراد «بقانون الطبيعة» هذا يا سيادة الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو: الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائمًا إلىنتيجة معلومة؟ وكيف تُنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا، بجميع ما لديه من الإمكانيات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلاَّ عن (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا يحدث؟).
هكذا يتضح من هذه الأسئلة عدم صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون، وأن من أمعن النظر في تعبير الطبيعيين يجد أنها جميعها أفعال مبنية للمجهول؛ لجهلهم أو تجاهلهم الفاعل الحقيقي.
3- إن مبدأ السببية متفق عليه بين المؤمنين والملحدين نظريًّا، فأين تطيقه عمليًّا؟ والمراد بالسببية هنا: أن الإنسان الذي أنعم الله عز وجل عليه بالعقل، منذ أن أشرقت أشعة عقله على الوجود بدأ يتساءل ولا يزال وسيبقى يتساءل عن بداية نشأته، وأين سينتهي مصيره؟ ويتساءل عن هذه الموجودات، والكائنات، كيف وجدت؟ ومن أوجدها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراءها؟
هذا المبدأ من المبادئ الثابتة التي لم تتغير على مدى التاريخ، وهو محل اتفاق بين المؤمنين والملحدين، أما المؤمنون فيقولون به نظريًّا وعمليًّا، وهذا أشهر من أن يقام عليه دليل، أمّا الملحدون، فهؤلاء أيضًا قالوا به نظريًّا، والدليل عليه ما يلي:
يقول «سبركين وياخوت»: (نواجه دائمًا في نشاطنا سؤالاً عن علل هذه الظواهر أو تلك، وهو أحد الأسئلة التي تساعد على تبيّن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تجري حولنا والتوصل إلى جوهرها، ولم يكن عبثًا؛ أن كتب الفيلسوف اليوناني «ديموقريطس» يقول: (لأفضّل أن أجد السبب الحقيقي ولو لظاهرة واحدة من أن أصبح قيصرًا على بلاد فارس). فإذن، ماذا تعني مقولتنا (السبب) و(النتيجة)؟ تعرف من الخبرة أنه (لا شيء) لا ينتج شيئًا، وكل ظاهرة لها ما يُولدها، وهو الذي يُسمّونه (السبب). السبب هو: ما يخلق وينتج ويولد ظاهرة أخرى، وما ينتج تحت تأثير السبب يُسمّى نتيجة أو فعلاً).
فهذا المبدأ العام الذي اعترف به الماديون الملحدون وأخذوا به من الناحية النظرية هل طبقوه من الناحية العملية؟
هذا ما سيتضح لنا عندما يطرح سؤال – وهو مثار خلاف جذري بين المؤمنين من جهة، وبين الماديين الملحدين من جهة أخرى- وهو:
ما هو السبب الكامن وراء هذا الوجود من أرض وسماوات ونبات وحيوانات وإنسان وغيره من المخلوقات؟
هذا السؤال نجد الإجابة عليه جاهزة وميسرة ومتوفرة عند الماديين، وهي أن هذا من الأمور الميتافيزيقية التي لا تهمنا بحالٍ من الأحوال، ولا نشغل عقولنا بها؛ لأنها أمور تافهة، والبحث عنها مضيعة للوقت، فكل شيء يخالف نظريتهم – ولو كان صحيحًا – لا يأخذون به ويصمونه بوصمة عار عندهم وهي إرجاعه إلى الميتافيزيقية، أو المثالية التي هي في عرفهم عدوة للعلم، فهم لا يعرفون إلا العالم المادّي، هذا العالم وجد، ولا خالق له، وبالتالي فليس له سبب أول أوجده.
وقد كتب «لينين» بصدد المفهوم المادّي عند فيلسوف العهد القديم (هيراكليت) يقول في ترجمة حرفية: (العالم، وحدة الكل، لم يخلقه أي إله ولا أيّ إنسان، ولكن كان وسيبقى نارًا حية أزليًّا تشتعل وتنطفئ بموجب قوانين... هذا عرض جيد جدًّا لمبادئ المادية الجدلية).
في هذا النص نرى أن «لينين» نفى السبب الأول في إيجاد العالم المادّي، وهذا نفي صريح للقانون الذي قرروه هم أنفسهم، حين وقفوا في تفسيره عند حدود معينة لم يتجاوزوها؛ لأن تجاوز هذه الحدود يؤدّي بهم إلى الاعتراف بخالق الكون، ومن ثَمَّ الاعتراف بالأديان، وهذا ما لا يرضونه.
والمقصود: بيان كون تفسيرهم لمظاهر الكون في وجوده وتغيره بالطبيعة وعدم تفسيرهم للطبيعة إنما هو هروب منهم لقانون السببية – المعترف به لديهم – فإن تطبيقهم العملي لهذا القانون سيؤديهم حتمًا إلى الاعتراف بخالق للكون. وهذا ما لا يستيسغونه مطلقًا.
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم (الثاني) أيضًا للطبيعة، فما بقي إلاَّ أن يقولوا بالمفهوم الثالث حتمًا، وإن كانوا ينكرونه بشدة لما يترتب على الاعتراف به من إثبات وجود الله وبالتالي بمستلزمات هذا الإثبات التي هي عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا المفهوم الثالث بيانه ما يلي:
المفهوم الثالث: أن يقول: إن الطبيعة قوة أوجدت الكون، وهي قوة حيّة سميعة بصيرة حكيمة قادرة.. فإننا نقول لهم: هذا صواب وحق، وخطؤكم في أنكم سمّيتم هذه القوة (الطبيعة)، وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة على الاسم الذي تستحقه وهو (الله)، وهو عرفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فعلينا أن نُسمّيه بما سمّى به نفسه سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم: (وكأنّي بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار! فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه الطبيعة، أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك؟ بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟
فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة، فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلم تسمّيه طبيعة؟!
ويا لله! عن ذكر الطبائع يرغب فيها فهلاّ سميتَه بما سمّى به نفسه على ألسن رسله ودخلتَ في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفته به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد!
فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممّن لا فعل له ولا قدرة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلاَّ دخول في سلك المجانين والمبرسمين.
ثم قُل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم أنّ مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها، فمن ربّها ومُبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذن من أدل الدليل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِيْكَ تعطيلك ربّ العالم جحدك لصفاته وأفعاله إلاَّ مخالفتك العقل والفطرة.
ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل، ولا الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً، فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلاَّ من صانع قادر مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يُعجزه ولا يصعب عليه ولا يؤوده.
قيل لك: فإذن أقررت – ويحك – بالخلاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، فدَع تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصوّر ربّ العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، وربّ المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خَلَقَه، وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته - بل وذاته- وأضفت صُنعه إلى غيره وخلقَه إلى سواه؟ مع أنك مضطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بدّ، فالحمد لله رب العالمين.
على أنك لو تأمّلت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلّك على الخالق الباري لفظها كما دلّ العقولَ عليه معناها؛ لأن (طبيعة) فعلية بمعنى مفعولة، أي مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا ألبتة؛ لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة، والبحيرة والسليقة، والطبيعة؛ فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه.
ومعلوم أن طبيعة من غير طابع لها محال، فقد دلَّ لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دلَّ معناها عليه.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب، وهي سنة في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها إذا أراد، ويقلب تأثيرها إلى ضدّه إذا شاء؛ ليُريَ عباده أنه وحده البارئ المصوّر، وأنه يخلق ما يشاء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته..).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 712-730 ) .
د/عبدالرحمن السحيم
إعداد موقع الكاشف
http://www.alkashf.net/
تنسيق موقع صيد الفوائد
http://www.saaid.net/
هذه الشبهة مؤلفة من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي، وهذا ما كان يقول به الشيوعيون في بداية أمرهم.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء، هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول كالفرضية أو النظرية، دعمًا لمواقفهم السابقة.
الجانب الثالث: القول بنسبة الخلق والحياة إلى الطبيعة، فهذا وإن كانوا في حقيقة أمرهم لا يُبالون بجانب البحث عن الخالق أو المسبب، إلاَّ أنهم قالوا بهذا القول رغم إنكارهم لذلك في كتاباتهم هروبًا من الكنيسة، وإله الكنيسة.
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي:
الرد عليه بما يلي:
إن هذا القول إنما هو محاولة تفسيرهم لظاهرة الحياة في المادة، فإنهم لمَّا أنكروا وجود الخالق – جلاَّ وعلا – لزمهم أن يقولون: إن المادة الأولى للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من مادة الكون الأولى، ثم نشأت بعد ذلك في الحياة: الإحساسات الراقية، حتى مستوى الفكر، ووعي ما في الكون عن طريقه، وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلاً ذلك في الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ.
قبل مناقشة هذه المسألة: لابدّ من طرح سؤال وهو: ما هو الدليل العلمي على أن الروح والفكر والإحساس ثمرة من ثمرات المادة؟
إن أدق ما قدمته الشيوعية من برهان على هذه الدعوى إلى الآن هو: أن الحياة تنشأ عن الحرارة ، والحرارة بدورها تنشأ من الحركة، أي أن: الحركة + حرارة = حياة.
ونحن نلجأ إلى نفس الأسلوب الذي تسير عليه الماركسية لضبط سلامة معارفنا، وهو التطبيق العلمي لنرى هل الحركة + الحرارة = الحياة؟
ولنتساءل من الذي جمع هاتين الظاهرتين إلى بعضهما (بجهد من تطبيقه الخاص) بهذه البساطة أو بما شاء من التعقيد الكيميائي فاستخرج منها حقيقة الحياة؟... وهنا لابدّ أن يُعاد إلى الأذهان خبر المؤتمر الذي عقده ستة من علماء الحياة في كلٍّ من الرِّق والغرب في نيويورك 1959م، وكان فيهم العالم الروسي (أوبارين) أستاذ الكيمياء الحيوية في أكاديمية العلوم السوفيتية، أملاً في فهم شيء عن أصل الحياة ومنشأها على ظهر الأرض، وإلى معرفة مدى إمكان إيجاد الحياة عن طريق التفاعل الكيميائي.
لقد قرر المجتمعون في نهاية بحوثهم بالإجماع (أن أمر الحياة لا يزال مجهولاً، ولا مطمع في أن يصل إليه العلم يومًا ما، وأن هذا السرّ أبعد من أن يكون من مجرد بناء مواد عضوية معينة وظواهر طبيعية خاصة).
ثم إن الحقيقة التي أجمع عليها العلماء حتى الآن – مسلمهم وكافرهم – أن العلم لا يدري إلى اليوم شيئًا عن الحياة والروح، فهل تجميع الحرارة والحركة ينتج حياة بهذه البساطة؟ إن مما لا شك فيه أن كلاًّ من الحركة والحرارة من أبرز خصائص الحياة، ولكن من المفروغ منه في قواعد المنطق أن خواص شيءٍ ما ليست تعبيرًا عن الجوهر الذاتي الذي يقوم به؛ فالماء مثلاً في حالة الغليان يتصف بكلٍّ من الحركة والحرارة، وهكذا أن الحركة والحرارة خصيصتان من خصائص الحياة الدالة عليها كالأيدروجين والكربون والأوزون والأوكسجين، وغير ذلك من عناصر الحياة الأساسية، أما جوهر الحياة ذاته فشيء آخر لا يقف عليه إنسان.
ولهذا قال «انجلز»: (ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد شيئًا بخصوص أصل الحياة)، فهذا اعتراف منهم على أنهم ما وصلوا في خصوص الحياة إلى نتيجة علمية ثابتة، وإنما هذه الأقوال دعاوى كاذبة، وأحاجي فارغة تناقض حتى المبادئ العقلية.
فالإنسان ليس من صنع المادة؛ لأن المصنوع لا يحيط بصانعه، والإنسان قد أحاط بصورة المادة وخرج بها إلى دائرة الأثير، بل إلى عمليات رياضية فكرية في قدرة الإنسان أن يحتويها، وهذا لا يأتي إلا إذا كان في طبيعة الإنسان شيء يعلو على مكونات المادة، شيء مفارق لكل خصائصها المعروفة.
فمادة الكون الأولى، التي ليس فيها مركبات متقنة، وليس فيها حياة ولا إحساس ولا وعي، لا تستطيع أن ترقى إلى الكمال ارتقاءً ذاتيًّا، ولا تستطيع أيضًا أن تصنع أجزاءً فيها هي أكمل منها وأرقى، وذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، وصنع الناقص لما هو أرقى منه نظير تحول العدم إلى الوجود تحولاً ذاتيًّا؛ لأن القيمة الزائدة قد كنت عدمًا محضًا، والعدم المحض لا يُخرجه إلى الوجود إلا قوة مكافئة له، أو أقوى منه، والمادة العمياء الصماء الجاهلة لم تكن أقوى ولا مكافئة لمادة حيّة مريدة ذات وعي وإحساس، بل هي أقل قيمة منها، فهي إذن عاجزة بداهة عن إنتاج ما هو خير منها.
فهذه الدعوى – دعوى وجود الحياة نتيجة التطور الذاتي – كانت تقول بها الشيوعية في بداية أمرها، وكانت تقول: إن المادة تتطور من كمية إلى كيفية، ومصادفة يحدث في المادة شيء آخر، والحياة ما هي إلا نتيجة من نتائج هذه المصادفة في المادة في بعض مراحل تطورها، وتُمثل الشيوعية لها بالماء إذا زاد في غليانه يزيد في الحرارة، ولكن لما تصل الحرارة إلى 100% فإنه يصبح بخارًا، فأخذ شكلاً آخر في بعض تطورها، فيقال لهم: إن التطور في مثل هذه الأشياء أحدث شيئًا آخر ولكن ليس لذاتها، بل بفعل فاعل، ثم إن حدوث البخار من الماء شيء يمكن إثباته بالتجربة، فهل الحياة مثل هذا؟ هل يمكن إثبات الحياة في مادة ميتٍ ما على سبيل التجربة؟
ثم إن هذا المبدأ من مبادئ الماركسية، لا يمكن أن يعتبر قانونًا عامًّا ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقرر به، وهو وإن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.
إن التراكم في الكم لا يقتضي دائمًا التطور في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك، إن الملاحظة تُثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطًا معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور، فمثلاً:
أ- بيضة الدجاجة الملّقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجيًّا حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذ يخرج من غُلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته إلى الأرض.
لقد حصل التطور، ولكن على خلاف المُدَّعَى في المبدأ الماركسي، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكوّن جنين البيضة تكونًا تدريجيًّا، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه، ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدَّد في نظام التكوين لسُلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.
فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة تراكمات، هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها الله عز وجل بقوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} .
إن هذا المثال كافٍ لنقض فكرة التراكم المدعاة في المبدأ الشيوعي، الذي يعتبرونه قانونًا شاملاً لكل تطور في الوجود، وهو أيضًا كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطورًا تدريجيًّا.
ب- والكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بيضة الأنثى، ويسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة فيه دبَّت الحياة فيه، ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدت، ثم يسير في نمو تدريجي أيضًا حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شابًّا، فكهلاً، ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخًا، فهرمًا، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسّخ جسمه، ويعود ترابًا كما بدأ من التراب، وقد يموت في أيّ مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمرّ في المراحل المعتادة للأحياء، وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء: في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.
هذا المثال الثاني كافٍ أيضًا لنقض كل ما قالوا في مبدأ التطور، ففكرة التراكم المقررة في المبدأ فكرة منقوضة، ذلك؛ لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي، وفكرة التطور السريع المفاجئ المقررة في المبدأ الشيوعي منقوضة أيضًا؛ لأن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ، (أو الصدفة – كما يقولون-).
فهذان المثالان من آلاف الأمثلة في نقض أقوال الشيوعية في القول بالتطور – على التفسير الذي يريدونه – وبنقض مبدأ التطور ينقض أيضًا مبدؤهم القائل بأن الحياة وظيفة من وظائف المادة، متى وصل تركيبها إلى وضع خاص بالتطور، فإن آخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية التي قام بها الغربيون والشرقيون الماركسيون، والتي أنفقوا في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلاّ من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية.
وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها، وصِفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم.
فالعلوم الإنسانية، قد كفتنا مهمة إبطال هذا المبدأ من مبادئ الماركسية وسائر الماديين الملحدين.
على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأيّ دليلٍ عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذي يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء :
وكما سبق أن هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول، فوجدوا فيه غايتهم المنشودة، فقالوا بها دعمًا لمواقفهم السابقة، وقالوا: انتصرت المادة.
يقول (جون لويس): (لقد حول داروين ما كان يجول بخاطر العديد من المفكرين إلى فكرة ممكنة مقنعة، وهي أن عالم الحيوان لم يوجد نتيجة خلق واحدة، بل هو ثمرة تغيرات ارتقائية عملت على تحويل الأنواع التي ظهرت في عصور مبكرة إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا، والتي ظهرت في عصور متأخرة... والإنسان نفسه لم يُخلق بفعل خاص منفصل، بل هو ثمرة الارتقاء، ونظرية الارتقاء لا تستبعد قوى ما فوق الطبيعة من عملية الخلق فحسب، بل تضع بدل هذه القوى: تطور الحياة الطبيعي، وقد كان هذا تجديدًا مدهشًا).
فهذا القول يُظهر لنا مدى تأثر الماديين بهذه النظرية الخبيثة، وسيأتي بيان مجمل لهذه النظرية مع الرد عليها فيما بعد.
الجانب الثالث: القول بوجود الخلق من الطبيعة:
سبق أن ذكرنا: أن المادة والطبيعة عندهم شيء واحد، ولكنهم لما وجدوا ضغوطًا من الكنائس البابوية المنحرفة قالوا: الخلق إنما هو من الطبيعة. فلينظر مدى صحة هذا القول، وهل الطبيعة تصلح أن تكون خالقًا؟
في الحقيقة: إن هذه فرية راجت في عصرنا هذا، راجت حتى على الذين – يظنون أنهم – نبغوا في العلوم المادية، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها، فقالوا: الطبيعة هي التي تُوجد وتحدثُ.
وهؤلاء نوجه إليهم هذا السؤال: ماذا تريدون بالطبيعة؟ هل تعنون بالطبيعة ذوات الأشياء؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته؟
فإننا نرى: أن الطبيعة في اللغة: السجية.
أمَّا في عقول الناس اليوم فلها مفاهيم:
المفهوم الأول: أنها عبارة عن الأشياء بذاتها، (الكون نفسه)، فالجماد والنبات والحيوان كل هذه الكائنات هي الطبيعة.
وهو مفهوم غير دقيق وحكم غير سديد، فإن هذا القول يصبح ترديدًا للقول السابق بأن الشيء يوجد نفسه – بأسلوب آخر، أي أنهم يقولون: الكون خلق الكون، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، والكون خلق الإنسان والحيوان، هذا القول لا يخرج بالطبيعة بالنسبة لخلق الوجود عن تفسير الماء بالماء، والأشياء أوجدت ذاتها، فهي الحادث والمُحدِث، وهي الخالق والمخلوق في الوقت ذاته، وقد سبق بيان كون العقل الإنساني يرفض التسليم بأن الشيء يوجِد نفسه، كما أن الشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا بصيرًا عليمًا؟ هذا لا يكون، فبطلان هذا القول بيّن، فهو لا يخلو عن أمرين:
1- إمّا ادعاء بأن الشيء وجد بذاته من غير سبب.
2- وإمّا ازدواج الخالق والمخلوق في كائنٍ واحد، فالسبب عين المسبب، وهو مستحيل، بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إلى الوقوف والشرح.
فإن قالوا: خلق كل ذلك مصادفة، يقال: ثبت لدينا يقينًا أن لا مصادفة في خلق الكون – كما سيأتي-.
وكان مما ساعد على انتشار هذا القول: نظرية التولد الذاتي، وكان من أدلتها: ما شاهده العلماء الطبيعيين من تكوّن (دود) على براز الإنسان أو الحيوان، وتكون بكتيريا تأكل الطعام فتفسده، فقالوا: ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها، وراجت هذه النظرية التي مكنّت للوثن الجديد (الطبيعة) في قلوب الضالين والتائهين بعيدًا عن هدي الله الحق، لكن الحق ما لبث أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور (باستير) الذي أثبت أن الدود المتكون والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيًّا من الطبيعة، وإنما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها، وقام بتقدير الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله، فوضع غذاء وعزله عن الهواء وأمات البكتيريا بالغليان، فما تكونت بكتيريا جديدة ولم يفسد الطعام، وهذه هي النظرية التي قامت عليها الأغذية المحفوظة (المعلبات).
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم للطبيعة جليًّا وبينًا.
المفهوم الثاني: أن الطبيعة عبارة عن القوانين التي تحكم الكون؛ بمعنى أنها تعني صفات الأشياء وخصائصها، فهذه الصفات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، وملاسة وخشونة، وهذه القابليات: من حركة وسكون، ونمو واغتذاء، وتزاوج وتوالد، كل هذه الصفات والقابليات: هي الطبيعة.
إن هذا تفسير الذين يدَّعون العلم والمعرفة من القائلين بأن الطبيعة هي الخالقة، فهم يقولون: إن هذا الكون يسير على سُنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية، والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرًا طويلاً، فإنها تسير بذاتها دون مسيّر.
الردود:
1- إن هذا القول ليس جوابًا، وإنما هو انقطاع عن الجواب، وذلك؛
إن هؤلاء في واقع الأمر لا يُجيبون عن السؤال المطروح: من خلق الكون؛ ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا كيف يعمل القوانين في الأشياء، ونحن نريد إجابة عن موجِد الكون وموجِد القوانين التي تحكمه.
(كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تُمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول الماء على الأرض، وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرًا لها، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى إن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟
إن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة).
2- الطبيعة لا تفسّر شيئًا (من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجةٍ إلى تفسير، وذلك؛ (لو أنك سألت طبيبًا: ما السبب وراء احمرار الدم؟).
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها 1/700 من البوصة.
- حسنًا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تُسمّى (الهيموجلوبين)، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين في القلب.
- هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل (الهيموجلوبين)؟
- إنها تُصنع في كبدك.
- عجبًا! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكَبِد وغيرها، بعضها ببعض ارتباطًا كليًّا وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نُسميه «بقانون الطبيعة».
- ولكن ما المراد «بقانون الطبيعة» هذا يا سيادة الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو: الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائمًا إلىنتيجة معلومة؟ وكيف تُنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا، بجميع ما لديه من الإمكانيات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلاَّ عن (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا يحدث؟).
هكذا يتضح من هذه الأسئلة عدم صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون، وأن من أمعن النظر في تعبير الطبيعيين يجد أنها جميعها أفعال مبنية للمجهول؛ لجهلهم أو تجاهلهم الفاعل الحقيقي.
3- إن مبدأ السببية متفق عليه بين المؤمنين والملحدين نظريًّا، فأين تطيقه عمليًّا؟ والمراد بالسببية هنا: أن الإنسان الذي أنعم الله عز وجل عليه بالعقل، منذ أن أشرقت أشعة عقله على الوجود بدأ يتساءل ولا يزال وسيبقى يتساءل عن بداية نشأته، وأين سينتهي مصيره؟ ويتساءل عن هذه الموجودات، والكائنات، كيف وجدت؟ ومن أوجدها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراءها؟
هذا المبدأ من المبادئ الثابتة التي لم تتغير على مدى التاريخ، وهو محل اتفاق بين المؤمنين والملحدين، أما المؤمنون فيقولون به نظريًّا وعمليًّا، وهذا أشهر من أن يقام عليه دليل، أمّا الملحدون، فهؤلاء أيضًا قالوا به نظريًّا، والدليل عليه ما يلي:
يقول «سبركين وياخوت»: (نواجه دائمًا في نشاطنا سؤالاً عن علل هذه الظواهر أو تلك، وهو أحد الأسئلة التي تساعد على تبيّن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تجري حولنا والتوصل إلى جوهرها، ولم يكن عبثًا؛ أن كتب الفيلسوف اليوناني «ديموقريطس» يقول: (لأفضّل أن أجد السبب الحقيقي ولو لظاهرة واحدة من أن أصبح قيصرًا على بلاد فارس). فإذن، ماذا تعني مقولتنا (السبب) و(النتيجة)؟ تعرف من الخبرة أنه (لا شيء) لا ينتج شيئًا، وكل ظاهرة لها ما يُولدها، وهو الذي يُسمّونه (السبب). السبب هو: ما يخلق وينتج ويولد ظاهرة أخرى، وما ينتج تحت تأثير السبب يُسمّى نتيجة أو فعلاً).
فهذا المبدأ العام الذي اعترف به الماديون الملحدون وأخذوا به من الناحية النظرية هل طبقوه من الناحية العملية؟
هذا ما سيتضح لنا عندما يطرح سؤال – وهو مثار خلاف جذري بين المؤمنين من جهة، وبين الماديين الملحدين من جهة أخرى- وهو:
ما هو السبب الكامن وراء هذا الوجود من أرض وسماوات ونبات وحيوانات وإنسان وغيره من المخلوقات؟
هذا السؤال نجد الإجابة عليه جاهزة وميسرة ومتوفرة عند الماديين، وهي أن هذا من الأمور الميتافيزيقية التي لا تهمنا بحالٍ من الأحوال، ولا نشغل عقولنا بها؛ لأنها أمور تافهة، والبحث عنها مضيعة للوقت، فكل شيء يخالف نظريتهم – ولو كان صحيحًا – لا يأخذون به ويصمونه بوصمة عار عندهم وهي إرجاعه إلى الميتافيزيقية، أو المثالية التي هي في عرفهم عدوة للعلم، فهم لا يعرفون إلا العالم المادّي، هذا العالم وجد، ولا خالق له، وبالتالي فليس له سبب أول أوجده.
وقد كتب «لينين» بصدد المفهوم المادّي عند فيلسوف العهد القديم (هيراكليت) يقول في ترجمة حرفية: (العالم، وحدة الكل، لم يخلقه أي إله ولا أيّ إنسان، ولكن كان وسيبقى نارًا حية أزليًّا تشتعل وتنطفئ بموجب قوانين... هذا عرض جيد جدًّا لمبادئ المادية الجدلية).
في هذا النص نرى أن «لينين» نفى السبب الأول في إيجاد العالم المادّي، وهذا نفي صريح للقانون الذي قرروه هم أنفسهم، حين وقفوا في تفسيره عند حدود معينة لم يتجاوزوها؛ لأن تجاوز هذه الحدود يؤدّي بهم إلى الاعتراف بخالق الكون، ومن ثَمَّ الاعتراف بالأديان، وهذا ما لا يرضونه.
والمقصود: بيان كون تفسيرهم لمظاهر الكون في وجوده وتغيره بالطبيعة وعدم تفسيرهم للطبيعة إنما هو هروب منهم لقانون السببية – المعترف به لديهم – فإن تطبيقهم العملي لهذا القانون سيؤديهم حتمًا إلى الاعتراف بخالق للكون. وهذا ما لا يستيسغونه مطلقًا.
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم (الثاني) أيضًا للطبيعة، فما بقي إلاَّ أن يقولوا بالمفهوم الثالث حتمًا، وإن كانوا ينكرونه بشدة لما يترتب على الاعتراف به من إثبات وجود الله وبالتالي بمستلزمات هذا الإثبات التي هي عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا المفهوم الثالث بيانه ما يلي:
المفهوم الثالث: أن يقول: إن الطبيعة قوة أوجدت الكون، وهي قوة حيّة سميعة بصيرة حكيمة قادرة.. فإننا نقول لهم: هذا صواب وحق، وخطؤكم في أنكم سمّيتم هذه القوة (الطبيعة)، وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة على الاسم الذي تستحقه وهو (الله)، وهو عرفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فعلينا أن نُسمّيه بما سمّى به نفسه سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم: (وكأنّي بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار! فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه الطبيعة، أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك؟ بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟
فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة، فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلم تسمّيه طبيعة؟!
ويا لله! عن ذكر الطبائع يرغب فيها فهلاّ سميتَه بما سمّى به نفسه على ألسن رسله ودخلتَ في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفته به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد!
فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممّن لا فعل له ولا قدرة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلاَّ دخول في سلك المجانين والمبرسمين.
ثم قُل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم أنّ مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها، فمن ربّها ومُبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذن من أدل الدليل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِيْكَ تعطيلك ربّ العالم جحدك لصفاته وأفعاله إلاَّ مخالفتك العقل والفطرة.
ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل، ولا الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً، فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلاَّ من صانع قادر مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يُعجزه ولا يصعب عليه ولا يؤوده.
قيل لك: فإذن أقررت – ويحك – بالخلاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، فدَع تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصوّر ربّ العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، وربّ المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خَلَقَه، وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته - بل وذاته- وأضفت صُنعه إلى غيره وخلقَه إلى سواه؟ مع أنك مضطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بدّ، فالحمد لله رب العالمين.
على أنك لو تأمّلت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلّك على الخالق الباري لفظها كما دلّ العقولَ عليه معناها؛ لأن (طبيعة) فعلية بمعنى مفعولة، أي مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا ألبتة؛ لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة، والبحيرة والسليقة، والطبيعة؛ فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه.
ومعلوم أن طبيعة من غير طابع لها محال، فقد دلَّ لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دلَّ معناها عليه.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب، وهي سنة في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها إذا أراد، ويقلب تأثيرها إلى ضدّه إذا شاء؛ ليُريَ عباده أنه وحده البارئ المصوّر، وأنه يخلق ما يشاء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته..).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 712-730 ) .
د/عبدالرحمن السحيم
إعداد موقع الكاشف
http://www.alkashf.net/
تنسيق موقع صيد الفوائد
http://www.saaid.net/