لمحاتٌ في تفسير سورة الضحى
موسى بن محمد الثويعي الفيفي
سورة الضحى من السور المكية، جاءت آياتها مُثِّبتَة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، رافعة شأنه ومنزلته عند الله تبارك وتعالى؛ مبينة لعلو دعوته المباركة، ونصر هذا الدين، في وقت كان المشركون يثيرون الحرب النفسية ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، وينشرون الأكاذيب الملفقة المثبطة، ولكن العاقبة للمتقين، والله يتولى الصالحين: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ " (غافر: 51).
هذه السورة المباركة فيها عظات ودروس وعبر عظيمة لكل مسلم ومسلمة، وهذه لمحات في تفسيرها.
سبب نزول الآيات:
إن مما يعين على فهم الآيات المُنزلة على رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -، معرفة سبب نزول الآيات الكريمات، وقد ورد في سبب نزول هذه السورة روايات كثيرة منها ما أخرج البخاري من حديث جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: احتبس جبريل - عليه السلام - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه. فنزلت: " وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (1).
وفي رواية أخرى قال الأسود بن قيس: سمعت جندب بن سفيان قال: «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله - عز وجل -: " وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (2).
وفي رواية أخرى عن شعبة عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندباً البجلي: قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك، فنزلت: " ما ودعك ربك وما قلى" (3).
وفي رواية عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندباً يقول: اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله - عز وجل -: "وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (4).
وأخرج مسلم من طريق أبي عوانة عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: دميت إصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك المشاهد فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت (5)
حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم، جميعاً عن ابن عيينة، عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار، فنكبت إصبعه (6).
وعن الأسود بن قيس أنه سمع جندباً يقول: أبطأ جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله - عز وجل -: " وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى " (7)».
قال ابن حجر: «قوله فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك، هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب. وقد بينت هناك أنه وقع في رواية أخرى عند الحاكم فقالت خديجة وأخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الله بن شداد، فقالت خديجة: ولا أرى ربك. ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه، فقالت خديجة لما ترى من جزعه، وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلاً من أم جميل وخديجة قالتا ذلك، لكن أم جميل عبرت لكونها كافرة بلفظ شيطانك، وخديجة عبرت لكونها مؤمنة بلفظ ربك أو صاحبك، وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعاً(8).
معاني الآيات:
ورد في أضواء البيان: «معنى الضحى، قيل المراد به هنا: النهار كله، وقوله: " والليل إذا سجى" قيل: أقبل، وقيل: شدة ظلامه، وقيل: غطى، وقيل: سكن، وأقسم - تعالى - بالضحى والليل هنا فقط لمناسبتهما للمقسم عليه؛ لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون، فإنه يقول له مؤانساً: "ما ودعك ربك وما قلى" لا في ليل ولا في نهار?(9)».
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: (أقسم - تعالى - بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى، وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته على اعتناء الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما ودعك ربك" أي: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أكمل تربية، ويعليك درجة بعد درجة، "وما قلا" ك الله، أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحاً إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول - صلى الله عليه وسلم- الماضية والحاضرة أكمل حال، وأتمها محبة الله له واستمرارها وترقيته في درجات الكمال ودوام اعتناء الله به(10)».
وقال: « أقسم ربنا جل ثناؤه بالضحى وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم ضحى فلان للشمس إذا ظهر منه، ومنه قوله - تعالى -: "وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" أي: لا يصيبك فيها الشمس. وقيل: عني به وقت الضحى، والضحى ساعة من ساعات النهار.
وقوله: "والليل إذا سجى" اختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم: معناه والليل إذا أقبل بظلامه، وقال آخرون: بل معنى ذلك إذا ذهب، وقال آخرون: معناه إذا استوى وسكن. وقوله: "ما ودعك ربك وما قلى" وهذا جواب القسم ومعناه ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك(11)».
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيان الخير في الدنيا أولاً، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة. أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل أي لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف وزيادة أحدهما على الآخر، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها، ففي هذه السورة قوله - تعالى -: " ألم يجدك يتيماً فآوى" أي منذ ولادته ونشأته، ولقد تعهده الله - سبحانه - من صغره فصانه عن دنس الشرك وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها فقال: «فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه(13)».
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحاً كما هو معلوم بالضرورة من سيرته، ولما خير - عليه السلام - في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله - عز وجل - اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية(14)».
وقال السعدي - رحمه الله -: « أي كل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل يصعد في درجات المعالي ويمكن الله له دينه وينصره على أعدائه ويسدده في أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال ما وصل إليها الأولون والآخرون من الفضائل والنعم وقرة العين وسرور القلب، ثم بعد هذا لا تسأل عن حاله في الآخرة من تفاصيل الإكرام وأنواع الإنعام(15)».
"ولسوف يعطيك ربك فترضى" ذكر ابن كثير في تفسيره « أي في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته وفيما أعده له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر(16)».
قال ابن كثير: « عدد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه فقال - تعالى -: "ألم يجدك يتيماً فآوى" وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل بعد أن ولد - عليه السلام -، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل، فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه - رضي الله عنهم - أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.
وقوله - تعالى -: "ووجدك ضالا فهدى"، كقوله: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا" الآية ومنهم من قال: إن المراد بهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضل في شعاب مكة وهو صغير ثم رجع، وقيل: إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام، وكان راكباً ناقة في الليل، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة ثم عدل بالراحلة إلى الطريق حكاهما البغوي.
وقوله - تعالى -: "ووجدك عائلاً فأغنى" أي كنت فقيراً ذا عيال فأغناك الله عمن سواه فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر صلوات الله وسلامه عليه(18)».
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: (امتن الله على نبيه بما يعلمه من أحواله الخاصة، فقال: "ألم يجدك يتيماً فآوى" أي: وجدك لا أم لك ولا أب بل قد مات أبوه وهو لا يدبر نفسه فآواه الله وكفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده كفله الله عمه أبا طالب حتى أيده بنصره وبالمؤمنين.
"ووجدك ضالاً فهدى" أي: وجدك لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان فعلمك ما لم تكن تعلم، ووفقك لأحسن الأعمال والأخلاق.
"ووجدك عائلاً" أي: فقيراً "فأغنا" ك الله بما فتح عليك من البلدان التي جبيت لك أموالها وخراجها، فالذي أزال عنك هذه النقائص سيزيل عنك كل نقص، والذي أوصلك إلى الغنى وآواك ونصرك وهداك قابل نعمته بالشكران(19)».
وجاء في تفسير أضواء البيان: « هذا مما يذكره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم- من تعداد النعم عليه وأنه لم يودعه وما قلاه، لقد كان فقيراً من المال فأغناه الله بمال عمه، وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة: وإن كان في المال قل فما أحببتم من الصداق فعلي، ثم أغناه الله بمال خديجة حيث جعلت مالها تحت يده، وقوله - تعالى -: "ووجدك عآئلا فأغنى" يشير إلى هذا الموضع؛ لأن أغنى تعبير بالفعل وهو يدل على التجدد والحدوث، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من حيث المال حالاً فحالاً، والواقع أن غناه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، ويكفي أنه - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة، فكان - صلى الله عليه وسلم - القدوة في الحالتين في حالي الفقر والغنى إن قل ماله صبر وإن كثر بذل وشكر.
أورد القرطبي - رحمه الله تعالى - عند تفسيره لهذه الآيات أربع مسائل:
الأولى: قوله - تعالى -: "فأما اليتيم فلا تقهر" أي: لا تسلط عليه بالظلم أدفع إليه حقه وأذكر يتمك، وخص اليتيم؛ لأنه لا ناصر له غير الله - تعالى - فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه.
الثانية: دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، فعن أبي هريرة أن رجلاً شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: " إن أردت أن يلين فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين "(21).
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى"(22).
ومن حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله - تعالى - لملائكته يا ملائكتي من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول الله - تعالى - لملائكته يا ملائكتي أشهدوا أن من أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة "(23) فكان ابن عمر إذا رأى يتيماً مسح برأسه وأعطاه شيئاً، وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ضم يتيماً فكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة "(24).
وقال أكثم بن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم.
الثالثة: قوله - تعالى -: "وأما السائل فلا تنهر" أي: لا تزجره فهو نهى عن إغلاظ القول؛ ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، وأذكر فقرك.
وروي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يمنعن أحدكم السائل وأن يعطيه إذا سأل ولو رأى في يده قلبين من ذهب"(25).
وقال إبراهيم بن أدهم: " نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة ".
وقال إبراهيم النخعي: " السائل بريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل تبعثون إلى أهليكم بشيء ".
وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ردوا السائل ببذل يسير أو رد جميل فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله ".
وقيل: المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة وأجبه برفق ولين. قاله سفيان.
قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء، وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحباً بأحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وفي حديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فأستوصوا بهم خيرا "(26).
الرابعة: قوله - تعالى -: "وأما بنعمة ربك فحدث" أي: أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر.
وعن النعمان بن بشير قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر وتركه كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب "(27).
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده"(28)(29).
وقال ابن كثير: (قال - تعالى -: "فأما اليتيم فلا تقهر" أي: كما كنت يتيماً فآواك الله فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به.
"وأما السائل فلا تنهر" أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
قال ابن إسحاق: "وأما السائل فلا تنهر" أي: فلا تكن جباراً، ولا متكبراً، ولا فحاشاً، ولا فظاً على الضعفاء من عباد الله. وقال قتادة: يعني رد المسكين برحمة ولين.
"وأما بنعمة ربك فحدث" أي: وكما كنت عائلاً فقيراً فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: (واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا)(30).
وفي حديث أنس أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله قال: " لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم "(31).
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس "(32).
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره"(33). وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره " (34)(35).
قال السعدي - رحمه الله تعالى -: « قال - تعالى -: "فأما اليتيم فلا تقهر" أي: لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره؛ بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك.
"وأما السائل فلا تنهر" أي: لا يصدر منك كلام للسائل يقتضي رده عن مطلوبه بنهر وشراسة خلق؛ بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف وإحسان، ويدخل في هذا السائل للمال والسائل للعلم، ولهذا كان المعلم مأموراً بحسن الخلق مع المتعلم، ومباشرته بالإكرام، والتحنن عليه، فإنه في ذلك معونة له على مقصده، وإكراماً لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد، "وأما بنعمة ربك فحدث"، وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية أي: أثن على الله بها، وخصها بالذكر إن كان هناك مصلحة، وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن(36)» هذا والله - تعالى - أعلم.
مناسبة التكبير
ذكر المفسرون في مناسبة التكبير عند وصولهم لسورة الضحى نذكر منها ما قاله ابن كثير في تفسيره: «روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال: قرأت على عكرمة بن سليمان وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد فلما بلغت والضحى قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على بن عباس فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره بذلك، فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة، وكان إماماً في القراءات، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي، وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي(37)، قال: هو منكر الحديث.
لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة(38) عن لشافعي أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: «أحسنت وأصبت السنة»، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث.
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر "والليل إذا يغشى"، وقال آخرون: من آخر والضحى.
وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر.
وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه "والضحى والليل إذا سجى" السورة بتمامها كبر فرحاً وسروراً ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف فالله أعلم(39)».
.................................................. .................................................. ........................
الهوامش (1) صحيح البخاري (1125). (2) صحيح البخاري (4950). (3) صحيح البخاري (4951). (4) صحيح البخاري رقم (4983). (5) صحيح مسلم (4654). (6) صحيح مسلم (4655). (7) صحيح مسلم رقم: (4656) ورقم (4657، 4658). (8) فتح الباري، ج 8، ص 710- 711. (9) أضواء البيان ج 8، ص 554-555 باختصار. (10) تفسير السعدي، ج 1، ص 928. (11) تفسير الطبري، ج 1، ص 229. (12) أضواء البيان، للشنقيطي، ج 8، ص 554-555 باختصار. (13) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 523. (14) تفسير السعدي، ج 1، ص 928. (15) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 523. (16) تفسير السعدي، ج 1، ص 928. (17) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 524. (18) تفسير السعدي، ج 1، ص 928. (19) أضواء البيان ج 8، ص 559-563. (20) أضواء البيان (8/563). (21) البيهقي في الكبرى (6887) والشعب (11035). (22) مسلم (7418). (23) الكامل في الضعفاء (2/308) تاريخ أصبهان (1668) وإسناد ضعيف (العلو للعلي الغفار (1/96). (24) الكامل في الضعفاء (3/246). (25) ميزان الاعتدال (2/255) قال الذهبي: قال ابن عدي هو إلى الضعف أقرب. (26) الترمذي (2650) ابن ماجه (249) الطبراني في مسند الشاميين (405) قال الترمذي: قال علي: قال يحيى بن سعيد: كان شعبة يضعف أبا هارون العبدي قال يحيى ين سعيد: مازال ابن عون يروي عن أبي هارون العبدي حتى مات. (27) أحمد (4/278) قال الهيثمي: رواه عبدالله بن أحمد، والبزار والطبراني ورحالهم ثقات (مجمع الزوائد 5/217). (28) المطالب العالمية (2219). (29) تفسير القرطبي، ج 20، ص 100 - 103. (30) أبو داود (969) وابن حبان (996). (31) أبو داود (4812) وصححه الحاكم (2/72). (32) الترمذي (1954) وقال: حسن صحيح. (33) أبو داود (4814) قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/331): اسناده حسن. (34) أبو داود (4813) أبو يعلى (2137) وصححه ابن مفلح في الآداب (1/332). (35) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 524- 525. (36) تفسير السعدي، ج 1، ص 928 - 929. (37)الضعفاء (1127). (38) شرح الشاطبية (735). (39) تفسير ابن كثير، ج 4، ص 522.
موسى بن محمد الثويعي الفيفي
سورة الضحى من السور المكية، جاءت آياتها مُثِّبتَة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، رافعة شأنه ومنزلته عند الله تبارك وتعالى؛ مبينة لعلو دعوته المباركة، ونصر هذا الدين، في وقت كان المشركون يثيرون الحرب النفسية ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، وينشرون الأكاذيب الملفقة المثبطة، ولكن العاقبة للمتقين، والله يتولى الصالحين: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ " (غافر: 51).
هذه السورة المباركة فيها عظات ودروس وعبر عظيمة لكل مسلم ومسلمة، وهذه لمحات في تفسيرها.
سبب نزول الآيات:
إن مما يعين على فهم الآيات المُنزلة على رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -، معرفة سبب نزول الآيات الكريمات، وقد ورد في سبب نزول هذه السورة روايات كثيرة منها ما أخرج البخاري من حديث جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: احتبس جبريل - عليه السلام - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه. فنزلت: " وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (1).
وفي رواية أخرى قال الأسود بن قيس: سمعت جندب بن سفيان قال: «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله - عز وجل -: " وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (2).
وفي رواية أخرى عن شعبة عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندباً البجلي: قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك، فنزلت: " ما ودعك ربك وما قلى" (3).
وفي رواية عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندباً يقول: اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله - عز وجل -: "وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (4).
وأخرج مسلم من طريق أبي عوانة عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: دميت إصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك المشاهد فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت (5)
حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم، جميعاً عن ابن عيينة، عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار، فنكبت إصبعه (6).
وعن الأسود بن قيس أنه سمع جندباً يقول: أبطأ جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله - عز وجل -: " وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى " (7)».
قال ابن حجر: «قوله فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك، هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب. وقد بينت هناك أنه وقع في رواية أخرى عند الحاكم فقالت خديجة وأخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الله بن شداد، فقالت خديجة: ولا أرى ربك. ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه، فقالت خديجة لما ترى من جزعه، وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلاً من أم جميل وخديجة قالتا ذلك، لكن أم جميل عبرت لكونها كافرة بلفظ شيطانك، وخديجة عبرت لكونها مؤمنة بلفظ ربك أو صاحبك، وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعاً(8).
معاني الآيات:
ورد في أضواء البيان: «معنى الضحى، قيل المراد به هنا: النهار كله، وقوله: " والليل إذا سجى" قيل: أقبل، وقيل: شدة ظلامه، وقيل: غطى، وقيل: سكن، وأقسم - تعالى - بالضحى والليل هنا فقط لمناسبتهما للمقسم عليه؛ لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون، فإنه يقول له مؤانساً: "ما ودعك ربك وما قلى" لا في ليل ولا في نهار?(9)».
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: (أقسم - تعالى - بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى، وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته على اعتناء الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما ودعك ربك" أي: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أكمل تربية، ويعليك درجة بعد درجة، "وما قلا" ك الله، أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحاً إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول - صلى الله عليه وسلم- الماضية والحاضرة أكمل حال، وأتمها محبة الله له واستمرارها وترقيته في درجات الكمال ودوام اعتناء الله به(10)».
وقال: « أقسم ربنا جل ثناؤه بالضحى وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم ضحى فلان للشمس إذا ظهر منه، ومنه قوله - تعالى -: "وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" أي: لا يصيبك فيها الشمس. وقيل: عني به وقت الضحى، والضحى ساعة من ساعات النهار.
وقوله: "والليل إذا سجى" اختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم: معناه والليل إذا أقبل بظلامه، وقال آخرون: بل معنى ذلك إذا ذهب، وقال آخرون: معناه إذا استوى وسكن. وقوله: "ما ودعك ربك وما قلى" وهذا جواب القسم ومعناه ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك(11)».
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيان الخير في الدنيا أولاً، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة. أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل أي لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف وزيادة أحدهما على الآخر، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها، ففي هذه السورة قوله - تعالى -: " ألم يجدك يتيماً فآوى" أي منذ ولادته ونشأته، ولقد تعهده الله - سبحانه - من صغره فصانه عن دنس الشرك وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها فقال: «فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه(13)».
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحاً كما هو معلوم بالضرورة من سيرته، ولما خير - عليه السلام - في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله - عز وجل - اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية(14)».
وقال السعدي - رحمه الله -: « أي كل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل يصعد في درجات المعالي ويمكن الله له دينه وينصره على أعدائه ويسدده في أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال ما وصل إليها الأولون والآخرون من الفضائل والنعم وقرة العين وسرور القلب، ثم بعد هذا لا تسأل عن حاله في الآخرة من تفاصيل الإكرام وأنواع الإنعام(15)».
"ولسوف يعطيك ربك فترضى" ذكر ابن كثير في تفسيره « أي في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته وفيما أعده له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر(16)».
قال ابن كثير: « عدد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه فقال - تعالى -: "ألم يجدك يتيماً فآوى" وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل بعد أن ولد - عليه السلام -، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل، فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه - رضي الله عنهم - أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.
وقوله - تعالى -: "ووجدك ضالا فهدى"، كقوله: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا" الآية ومنهم من قال: إن المراد بهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضل في شعاب مكة وهو صغير ثم رجع، وقيل: إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام، وكان راكباً ناقة في الليل، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة ثم عدل بالراحلة إلى الطريق حكاهما البغوي.
وقوله - تعالى -: "ووجدك عائلاً فأغنى" أي كنت فقيراً ذا عيال فأغناك الله عمن سواه فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر صلوات الله وسلامه عليه(18)».
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: (امتن الله على نبيه بما يعلمه من أحواله الخاصة، فقال: "ألم يجدك يتيماً فآوى" أي: وجدك لا أم لك ولا أب بل قد مات أبوه وهو لا يدبر نفسه فآواه الله وكفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده كفله الله عمه أبا طالب حتى أيده بنصره وبالمؤمنين.
"ووجدك ضالاً فهدى" أي: وجدك لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان فعلمك ما لم تكن تعلم، ووفقك لأحسن الأعمال والأخلاق.
"ووجدك عائلاً" أي: فقيراً "فأغنا" ك الله بما فتح عليك من البلدان التي جبيت لك أموالها وخراجها، فالذي أزال عنك هذه النقائص سيزيل عنك كل نقص، والذي أوصلك إلى الغنى وآواك ونصرك وهداك قابل نعمته بالشكران(19)».
وجاء في تفسير أضواء البيان: « هذا مما يذكره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم- من تعداد النعم عليه وأنه لم يودعه وما قلاه، لقد كان فقيراً من المال فأغناه الله بمال عمه، وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة: وإن كان في المال قل فما أحببتم من الصداق فعلي، ثم أغناه الله بمال خديجة حيث جعلت مالها تحت يده، وقوله - تعالى -: "ووجدك عآئلا فأغنى" يشير إلى هذا الموضع؛ لأن أغنى تعبير بالفعل وهو يدل على التجدد والحدوث، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من حيث المال حالاً فحالاً، والواقع أن غناه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، ويكفي أنه - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة، فكان - صلى الله عليه وسلم - القدوة في الحالتين في حالي الفقر والغنى إن قل ماله صبر وإن كثر بذل وشكر.
أورد القرطبي - رحمه الله تعالى - عند تفسيره لهذه الآيات أربع مسائل:
الأولى: قوله - تعالى -: "فأما اليتيم فلا تقهر" أي: لا تسلط عليه بالظلم أدفع إليه حقه وأذكر يتمك، وخص اليتيم؛ لأنه لا ناصر له غير الله - تعالى - فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه.
الثانية: دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، فعن أبي هريرة أن رجلاً شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: " إن أردت أن يلين فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين "(21).
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى"(22).
ومن حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله - تعالى - لملائكته يا ملائكتي من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول الله - تعالى - لملائكته يا ملائكتي أشهدوا أن من أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة "(23) فكان ابن عمر إذا رأى يتيماً مسح برأسه وأعطاه شيئاً، وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ضم يتيماً فكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة "(24).
وقال أكثم بن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم.
الثالثة: قوله - تعالى -: "وأما السائل فلا تنهر" أي: لا تزجره فهو نهى عن إغلاظ القول؛ ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، وأذكر فقرك.
وروي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يمنعن أحدكم السائل وأن يعطيه إذا سأل ولو رأى في يده قلبين من ذهب"(25).
وقال إبراهيم بن أدهم: " نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة ".
وقال إبراهيم النخعي: " السائل بريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل تبعثون إلى أهليكم بشيء ".
وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ردوا السائل ببذل يسير أو رد جميل فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله ".
وقيل: المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة وأجبه برفق ولين. قاله سفيان.
قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء، وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحباً بأحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وفي حديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فأستوصوا بهم خيرا "(26).
الرابعة: قوله - تعالى -: "وأما بنعمة ربك فحدث" أي: أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر.
وعن النعمان بن بشير قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر وتركه كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب "(27).
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده"(28)(29).
وقال ابن كثير: (قال - تعالى -: "فأما اليتيم فلا تقهر" أي: كما كنت يتيماً فآواك الله فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به.
"وأما السائل فلا تنهر" أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
قال ابن إسحاق: "وأما السائل فلا تنهر" أي: فلا تكن جباراً، ولا متكبراً، ولا فحاشاً، ولا فظاً على الضعفاء من عباد الله. وقال قتادة: يعني رد المسكين برحمة ولين.
"وأما بنعمة ربك فحدث" أي: وكما كنت عائلاً فقيراً فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: (واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا)(30).
وفي حديث أنس أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله قال: " لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم "(31).
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس "(32).
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره"(33). وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره " (34)(35).
قال السعدي - رحمه الله تعالى -: « قال - تعالى -: "فأما اليتيم فلا تقهر" أي: لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره؛ بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك.
"وأما السائل فلا تنهر" أي: لا يصدر منك كلام للسائل يقتضي رده عن مطلوبه بنهر وشراسة خلق؛ بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف وإحسان، ويدخل في هذا السائل للمال والسائل للعلم، ولهذا كان المعلم مأموراً بحسن الخلق مع المتعلم، ومباشرته بالإكرام، والتحنن عليه، فإنه في ذلك معونة له على مقصده، وإكراماً لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد، "وأما بنعمة ربك فحدث"، وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية أي: أثن على الله بها، وخصها بالذكر إن كان هناك مصلحة، وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن(36)» هذا والله - تعالى - أعلم.
مناسبة التكبير
ذكر المفسرون في مناسبة التكبير عند وصولهم لسورة الضحى نذكر منها ما قاله ابن كثير في تفسيره: «روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال: قرأت على عكرمة بن سليمان وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد فلما بلغت والضحى قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على بن عباس فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره بذلك، فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة، وكان إماماً في القراءات، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي، وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي(37)، قال: هو منكر الحديث.
لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة(38) عن لشافعي أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: «أحسنت وأصبت السنة»، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث.
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر "والليل إذا يغشى"، وقال آخرون: من آخر والضحى.
وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر.
وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه "والضحى والليل إذا سجى" السورة بتمامها كبر فرحاً وسروراً ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف فالله أعلم(39)».
.................................................. .................................................. ........................