الزعم أن الشيوعية والماركسية تغني عن الدين عموما وعن الإسلام خصوصا
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن الدين وسيلة لخداع الناس، خاصة الفقراء والمساكين والمتعصبين، وما الحياة إلا مادة تحكمها الطبيعة بقوانينها التطورية؛ فلا إله، ولا أخلاق، وصلاح الناس إنما في تشيعهم، لا تدينهم أو إسلامهم، ذاهبين إلى أن النظرة الشيوعية الماركسية تغني عن التدين عموما، وعن الإسلام خصوصا.
وجوه إبطال الشبهة:
- الشيوعية أو الماركسية مذهب لا يعترف بالله ولا بالوحي؛ لأنه لا يؤمن بما وراء المادة، ويعتبر الدين خدعة للسيطرة على عقول المستضعفين، والعوامل الاقتصادية - في حسابهم - هي المحرك الأول للأفراد والجماعات، وقد ساعد على انتشاره فساد العقيدة النصرانية، كما أنه يعد خلاصة الإلحاد الذي نادى به أصحاب الفكر الفلسفي الأوربي في عصور النهضة.
- تأسست الشيوعية لصالح المشكلة اليهودية التي لن تجد حلا - في تقديرهم - إلا بالتحويل الاشتراكي للعالم بأسره، وإذابة الأديان كلها في بوتقة الماركسية.
- الشيوعية عقيدة تعادي الأديان كلها، وتخص الإسلام بمزيد من العداوة، ولها أساليب متنوعة في حربه
- الإسلام يقر بوجود الله الخالق المدبر، ولم يشغل الشعوب عن المطالبة بحقوقها، ولكنه قضى على العنصرية. وهو يرفض الشيوعية ويحاربها ويقاومها.
التفصيل:
أولا. الشيوعية (الماركسية): نشأتها، تطورها، أفكارها:
يشير د. القرضاوي إلى أن الشيوعية هي العدو الثالث للإسلام والمسلمين بعد الاستعمار والصهيونية فيقول: "تعد الشيوعية عقيدة وفكرة ومذهبا، كما أنها نظام دولة وحكومة، منبثقة عن العقيدة، فهي - باعتبارها عقيدة وفكرة - تعادي الأديان كلها، وتخص الإسلام بمزيد من العداوة والنقمة، إنها فكرة مادية تقوم على فلسفة (المادية التاريخية) التي قال بها ماركس، والتي لا ترى وجودا إلا للمادة، ولا تؤمن بما وراء المادة، أو الحس (الميتافيزيقا) وما دام الله الخالق للكون والإنسان غير مادي، بمعنى أنه لا يرى ولا يلمس ولا يشم ولا يذاق ولا يدرك بأية حاسة من الحواس المعروفة، فهي لا تؤمن بوجوده، بل لا تعترف بحاكميته لخلقه، ولا بحقه - جل شأنه - في أمرهم ونهيهم والتشريع لهم.
إن فلسفة ماركس تؤكد ما قاله الفلاسفة الماديون قديما وحديثا، مثل فويرباخ الذي قال: ليس صوابا أن الله خلق الإنسان، بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله! فالدين في نظر الشيوعيين خرافة روجتها طبقات الملوك والنبلاء الأثرياء والإقطاعيين وأمثالهم؛ لإلهاء الفقراء والطبقات الكادحة والمسحوقة في المجتمعات البشرية عن المطالبة بحقوقهم، والثورة على ظالميهم، على أمل أن يعوضوا عن ذلك في الجنة. والدين بهذا الاعتبار يعد مخدرا أو أفيونا للشعوب، كما قال ماركس ومن تبعه.
والشيوعية لها فلسفة في تفسير الكون والحياة والإنسان والتاريخ، تناقض فلسفة الإسلام وفكرته الكلية في تفسير هذه الأشياء؛ فالكون هو هذا المادي المنظور، ولا يوجد كون آخر غير منظور، ولا خالق يدبر هذا الكون. والحياة هي هذه التي نعيشها، ولا حياة أخرى وراءها للحساب والجزاء. والإنسان هو هذا الغلاف الطيني المادي الذي نراه، ولا روح فيه. والتاريخ إنما تحركه وتسيره عوامل اقتصادية بحتة، وعلاقات الإنتاج وأساليبه هي التي تحدد مسيرته"[1].
أما العوامل الروحية والأخلاقية والفكرية، فليس لها اعتبار يذكر.
والشيوعية تقوم على فلسفة حتمية الصراع بين الطبقات. وقد كانت روسيا مقرا لقيام الشيوعية؛ لكثرة أقطاب اليهود القاطنين فيها، ولوجود مجموعة من منكري اليهودية، والمذاهب الاشتراكية[2] على أرضها أمثال: لينين وترتسكي وستالين[3].
وقد نسبت تلك الفلسفة المادية إلى اثنين، هما: ماركس ولينين، فصارت تسمى بالماركسية - اللينينية، وقد برزت هذه المادية التاريخية ممثلة لرد فعل عنيف سياسي وفلسف، على المجتمع الرأسمالي[4] الأوربي في القرن التاسع عشر. كانت السمة الغالبة على ذلك المجتمع وجود طبقتين اجتماعيتين متعاديتين: طبقة برجوازية[5] رأسمالية، تقوم على ركائز الإنتاج والاقتصاد والمال والسياسة، وطبقة كادحة صناعية، أو زراعية، أو حرفية، خاضعة لسيطرة الطبقة الأولى. وهكذا ثبتت الاشتراكيات الحديثة، في مناخ القرن التاسع عشر في أوربا في وقت كانت الرأسمالية التي تفجرت في أوربا بعد الإصلاح الديني بها، قد وصلت إلى حالة من الإفلاس، نتجت عن فساد العقيدة المسيحية في الغرب، فلم تعد هذه العقيدة بقادرة على أن تفسر العالم للإنسان الأوربي، تفسيرا يقبله عقله أوضميره أو حسه الديني، فجاءت تلك الاشتراكيات الحديثة، لتسد ذلك الفراغ.
ولكن ثورات عام 1848م فشلت، وبذلك خابت آمال ماركس، وزاد من خيبة أمله، طرده من ألمانيا، حيث سافر إلى باريس، وقابل هناك الفيلسوف الألماني أنجلز (1820: 1885م) الذي كان قد أمضى في إنجلترا بعض الوقت متصلا بالاشتراكيين الإنجليز، وفي سنة 1849م، طرد ماركس من باريس، فذهب إلى بروكسل، وبصحبته زميله وصديقه أنجلز، وقضى ماركس بقية حياته في تهذيب (البيان الشيوعي). وفي عام 1867م نشر الجزء الأول من كتابه (رأس المال)، ثم قام أنجلز بإصدار الجزأين الثاني والثالث في عامي 1885م، و 1895م على التوالي، بعد موت المؤلف ويتضمن المجلد الأول جوهر تعاليم ماركس، وكان ماركس يحلم بأن تتفجر ثورته الشيوعية في إنجلترا، أكثر البلاد الرأسمالية تقدما في ذلك الوقت، ولكن كتب لها أن تتفجر في أكثر البلاد تخلفا في ذلك الوقت، في روسيا القيصرية، وسهر على تطبيق الماركسية في روسيا بعد الثورة البلشفية (لينين)، وإلى الرجلين - ماركس ولينين - صارت الاشتراكية الحديثة، أو العلمية، أو الشيوعية، أو (الماركسية - اللينية) تنسب، ومن الاتحاد السوفيتي انتقلت الشيوعية، بعد الحرب العالمية الثانية إلى بلاد أوربا الشرقية.
وهدمت الشيوعية كل أساس قامت عليه الرأسمالية، فصادرت الحرية السياسية، وألغت الملكية الفردية، وحاربت الأديان السماوية، واعتبرتها من أسباب تخلف الشعوب، وأنكرت وجود الله، وجعلت للناس إلها جديدا هو الدولة، وعلى رأسها رئيسها بطبيعةالحال[6].
وهناك عوامل كثيرة ساعدت على انتشار الإلحاد في العالم، ومكنت للمذهب الشيوعي والإلحاد المدمر في أوربا، أهمها [7]:
- ظلم الكنيسة النصرانية، وتحالفها مع الملوك النصارى على استعباد الشعوب النصرانية واستذلالهم واستغلالهم باسم السلطة الروحية الدينية.
- فساد الديانة النصرانية، وبطلانها ومنافاتها للعقول، وتصادمها مع حاجات الإنسان الفطرية، الأمر الذي يسهل على أتباعها التنكر لها، والكفر بها، بمجرد وجود من استطاع أن يفلت من زمامها، وينتقدها ويبين خطأها.
- طفرة العلوم الكونية، والصناعية، والآلية، طفرة أدهشت العقول وحيرتها، الأمر الذي حمل الناس على تصديق كل نظرية تأتي باسم العلم ونظرياته، وإن كانت النظرية فرية ظاهرة معلوما كذبها، ومعروفا كاذبها.
وقد أدت هذه (الطفرة) بالاتحاد السوفيتي إلى أن يكون القوة الثانية في العالم بلا منازع في أقل من نصف قرن من الزمان، فسبقت روسيا بذلك بلادا سبقتها على طريق التقدم، بأكثر من مائتي سنة، كإنجلترا وفرنسا، ففيعام 1913م، كان نصيب روسيا القيصرية من الإنتاج الصناعي العالمي يزيد قليلا عن 4 %، وبعد ذلك صارت الصناعة السوفيتية تمثل حوالي 1/5 من الإنتاج العالمي، رغم أن البلاد لا تمثل أكثر من 1/15 من سكان العالم. وكان الاتحاد السوفيتي أول بلد في التاريخ يرسل رجلا إلى الفضاء.
ولقد كانت هذه الإنجازات هي التي حدت بالدارسين والباحثين إلى دراسة الشيوعية، وجعلت من الاشتراكية مطلبا عزيزا تسعى إليه دول العالم الثالث؛ لتختصر طريقها إلى المستقبل، بعد أن ضيع الاستعمار عليها الكثير من الفرص في الماضي.
- ميل الإنسان بطبعه إلى الشهوات والملاذ، ونفوره من القيود والأنظمة التي تحد من ميوله وتوجه غرائزه، لا سيما إذا وجد مشجعا على ذلك مؤيدا له في نزعته التحررية الإباحية التحللية من كل القيود الأخلاقية والالتزامات الدينية الشرعية.
- غيبة الحكم الإسلامي، وخفوت نور الإسلام، وتقلص ظل الإسلام وسلطانه الروحي، وانحساره عن المد الخيري الذي كان يمنح البشرية في شتى أنحاء العالم طاقات كبيرة من القيم الروحية والأخلاقية البشرية الفاضلة الكريمة؛ إذ إن الفترة التي ظهر فيها المذهب المادي الشيوعي كان الإسلام قد ران عليه عقائد الخرافات والضلالات، وحل بدياره الدمار، وبأسواق علومه ومعارفه الكساد والدمار؛ نتيجة لكيد أعدائه له، وغفلة بنيه عنه، فوجد ذلك المذهب الإلحادي جوا خاليا للتضليل والمغالطة، والفساد، فحكم على الأديان كلها بالبطلان، ونسب كل ضعف في الناس إليها، وكفر بها وحاربها، ووجه نقده إليها بلا هوادة.
أما والله لو وجد هذا المذهب الإلحادي الإسلام حاضرا ما غاب، فوجد اختراعاته، وتفوقه في كل مجالات الحياة العلمية، من كونية وتقنية وتشريعية وروحية، ووجد عدله في شعوبه ورحمته للناس أجمعين، ووجد سعادته تغمر أهله وتتعداهم إلى خصومهم وأعدائهم - لما أمكنه أن يقول، فضلا عن أن يصول أو يجول.
من أين استقى ماركس أفكاره التي بنى عليها نظرته الشيوعية؟
إن الراصد لتاريخ البشرية يرى أن حقيقة الألوهية كانت هي الطابع المشترك الذي لم تتخل عنه البشرية، ولم ترفضه إلا في الندرة عن طريق الواحد بعد الآخر، وإن كان تخليها عن طريق تصورها عن طبيعة الإله أو ذاته، حتى جاء عصر النهضة الأوربية، ونادى أصحاب الفكر الفلسفي الأوربي بأن كل العقائد المضادة للخبرة الإنسانية، والملاحظة التجريبية يجب أن تستبعد، ونظروا إلى النبوءات، والمعجزات والوحي، وكل الشعائر، والطقوس الدينية بوصفها خرافة، وشبه فولتير (1694: 1778م) خلق الله للكون بتجميع صانع الساعات للساعة، ثم انقطاع صلته بها بعد ذلك.
ورفض دافيد هيوم (1711: 1776م) العقائد الدينية على أساس عدم إمكانية البرهنة عليها، لا بالتجربة العلمية، ولا بالعقل الإنساني، وهاجم هيوم رب فولتير نفسه قائلا: "إننا رأينا الساعات تصنع، ولم نر العالم يخلق"، وأعلن هيوم أيضا عدم اقتناعه بالبرهان القائل بضرورة وجود حياة أخرى، يتحقق فيها العدل في الثواب والعقاب، نظرا لعدم تحقق ذلك في هذه الدنيا.
وزعم فرويد (1856: 1939م) أن الدين مصدره اللاشعور، لا الوحي، وزعم استحالة البرهنة على صحة الإيمان الديني، ومن ثم أنكر وجود الله.
وظهر نيتشه بالمذهب الوضعي الذي أنكر الإله والدين، وآمن بالطبيعة والمادة على أساس أن هذه الطبيعة هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان بناء على هذا لا يملي عليه من خارج الطبيعة، وبناء على هذا اعتبروا أن الدين خداع؛ لأنه وحي من وراء الطبيعة، وما وراء الطبيعة لا يحبونه، فلما جاء كونت طالب بأن يحل العلم الواقعي محل اللاهوت، ثم جاء ماركس آخر سلسلة في حلقة الإلحاد، وبلغت الفلسفة المادية ذروتها لديه؛ فأنكر وجود الإله، والأديان عنده أفيون الشعوب، ولم ير وجودا إلا للمادة، ورأى أن المادة توجد قبل أن يوجد العقل، وما دام الأمر كذلك؛ فالمادة في نظره أكثر أهمية وأكثر اعتبارا من العقل، إذ العقل متوقف على المادة في وجوده.
تعليق