على ضوء ما أسلفنا في هذه المحاولة المتواضعة من أدلة وبراهين يمكننا أن نفهم قوله تعالى: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ (476).
ويبقى الإنسان ذلك المجهول والكون ذلك المبهم الذين يحتاجان معا إلى متتالية هندسية وليست حسابية فقط لاكتناه أسرارهما.
الإنسان روح وجسد والدين اعتقاد وعقل.
ومحاولة الفصل التعسفي بينهما عملية لا تتوافق مع منهج نظام الإدراك والبصيرة الشامل. كما أن حل ما يسمى القضية الإشكالية بينهما ليس موضعها المخابر التحليلية الرقمية فحسب، وليس اللجوء إلى نظرية غير مسوغة لفهم الظواهر الكونية والعقلية، والاجتماعية، ويبقى السؤال الأزلي المشروع قائم، هل إن قرار السعي إلى الحقيقة الربانية هو من اختصاص إنسان واحد أم من اختصاص الجميع من خاصة الخاصة وحتى من عامة العامة؟.
لقد أحسست في مواضيع خطيرة من هذا الكتاب أن أعيش بفكري وقلبي وجسدي ـ جميعا ـ (عشت بعقل الباطني وعقلي الواعي، استعدت ذكرياتي القديمة، منها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت ذكريات تختلط بواقعي، فتبدوا حقائق حينا، ورموزا حينا، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي كنت دائما في كامل وعي.أخذتني الرهبة والخشوع عندما كنت وحدي، وكنت في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد.
..وجدتني أردد بلا وعي ما يقولونه. ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وان كنت في صحبتهم.. كنت شخصية واعية بلا كلام وشخصية متكلمة بلا وعي(477).
كانت الشخصية المتكلمة بلا وعي تردد كلام الآخر... وكانت الشخصية الواعية بلا كلام •ترتل بهدوء وصمت: قوله سبحانه: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا﴾ (478).﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ (479).﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون﴾ (480). ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (481).
•وتناجي ربها في صدق وصمت: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق، والساعة حق.
اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت الهي لا إله إلا أنت.
وقبل أن أنهى هذه الابتهالات الربانية التي كانت تصادف يوم الوقوف بعرفة يوم الحج الأكبر, وبينما كنت أنظر عبر شاشة التلفزيون إلى تلك الجموع المليونية التي أتت من كل فج عميق إلى البلد الأمين حيث نزول الوحي على نبي الرحمة. أومض بصيرتي شعاع من عظمة الخالق الأعلى جعلني أتوجه بعقلي وعاطفتي إلى تلك الأرض المقدسة بيت لله الحرام أول بيت وضع للناس, علنا نجد ما يواسينا في هذه العقيدة الإسلامية التي أصبحت بفعل من يحسبون عليها, مجرد شعارات ترفع, أو مبادئ تعلن, أو مقالات يجتهد أصحابها في تدبيج مقدماتها وسياقها, أو طقوس تمارس في أوقات معينة..
وكم كانت السعادة تغمرنا عندما أصبحنا نشاهد بأم أعيننا أن هذا البلد الأمين مازال إلى يوم الناس هذا (مركزا للهداية والإرشاد, والإشعاع الروحي والغذاء العاطفي, تقام حوله المناسك, وتغذى به العاطفة, وتشعل به مجامر القلوب, وتشحن به (بطاريتها) الفارغة, ويتلقى منه الرسالة الدينية, ويجتمع حوله العالم الإسلامي كل عام, يؤدى خراجه من الطاعة, وضريبته من الحب والانقياد, ويثبت تمسكه بهذا الحبل المتين, ولجوئه إلى هذا الركن الركين, ويطوف حوله أعظم العلماء والعقلاء, والزعماء والعظماء, والملوك والأمراء, والأغنياء والفقراء, في وله وهيام, وفقه وحكمة, يثبتون أنهم مجتمعون على تفرق, متوحدون على تعدد, متركزون على انتشار, أغنياء على الفقر , أقوياء على الضعف, ينتشرون في العالم ويسعون في أرزاقهم ومصالحهم, وينتسبون إلى أمم وسلالات, ويختلفون في الحضارات والثقافات, ويلتقون على نقطة واحدة وحول نقطة واحدة, مظهرها (الإحرام) في لغة الدين والفقه وفى مصطلح الحج والعمرة, حاسرة رؤوسها مابين رئيس ومرؤوس, وصغير وكبير, وغني وفقير, وتهتف كلها في لغة واحدة « لبيك للهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك...» وكأن الوجود قد تحول إلى مظاهرات لا هتاف لها إلا الذكر والشكر والتمجيد والتحميد. فحياتهم كلها طواف وسعى, ونسك وعبادة, وإيمان وعقيدة, ومقاماتهم كلها منى وعرفات, وأسفار ووقفات, والسعي خير ممثل لموقف المسلم في هذا العالم, فهو يجمع بين العقل والعاطفة, وبين الحس والعقيدة, انه يستعين بالعقل, ويستخدمه في مصالح حياته, ولكنه ينقاد أحيانا للعاطفة, التي هي أعمق من العقل, انه يعيش في عالم قد حف بالشهوات, ومليء بالزخارف والمظاهر, لكنه يمر بينها كالساعي بين الصفا والمروة, لا يعرج على شيء, ولا يتقيد بشيء أنما غايته وهمه ما يستقبله, يعتبر حياته أشواطا محدودة , يقطعها إطاعة لربه , واقتداء بأم نبيه صلى لله عليه وسلم, لا يمنعه إيمانه عن البحث والسعي, ولا يمنعه سعيه عن التوكل على لله والثقة به, حركة قيمتها وروحها ووسائلها « الحب» و« الانقياد»).
وهذه هي الخصائص المترابطة التي تعرف المسلم, بدليل ما أسلفنا من أن القرآن والسنة المطهرة يحرصان على ربط قضايا التوحيد بمقتضياتها من الأعمال الحبانية والتعبدية, وأن كل من الإيمان والعمل شيئان متلازمان لا يصلح أحدهما إلا بالآخر, وبمفهوميهما الواسعين يشملان الجوانب الروحية والجسدية, والفكرية والعقلية, والقولية والفعلية.
لهذا كان التكامل من أبرز خصائص العقيدة الإسلامية وما لم تتحقق هذه الخاصية فان شخصية المسلم تبقى ناقصة بل منفصلة..
(ولهذا يعتبر الحج عرضة سنوية للملة، يرجع إليها الفضل في نقائها وأصالتها، وفى بقاء هذا الدين، بعيدا عن التحريف والغموض والالتباس، وفى بقاء هذه الأمة، بعيدة عن الانقطاع عن الأصل، والمصدر والأساس، محفوظة من المؤامرات والمغالطات التي وقعت أمم كثيرة فريستها في الزمن الماضي، وعن طريق هذه المؤسسة العظيمة الحكيمة، تبقى هذه الأمة العظيمة الخالدة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية الولوع الحنون، العطوف الرؤوف، الثائرة القوية الحنفية السمحة، وتتوارثها جيلا بعد جيل، فكأنها القلب الحي القوي الفياض الذي يوزع الدم إلى عروق الجسم وشرايينه، وبها تستعرض هذه الأمة مجموعها في صعيد واحد، فينفى بذالك علماؤها وزعماؤها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وخرافة المخرفين، ويردونها إلى الأصل الإبراهيمي الحنيفى، وإلى الشرعة المحمدية(الصافية)، وبها تستطيع ,,,يتواصل