التوجه الخاطئ و السير وراء بريق المصطلحات
عبد الرحمن ضاحي
مع بداية حالة "الهوس السياسي" التى حلت علينا بقدوم الربيع العربي ووسط صراعات الأيديولجيات التي كانت شبه مخفية أثناء حكم الطواغيت ، ظهرت ألفاظ و أفكار و مذاهب سياسية هرع البعض لإعتناقها ، مثل الليبرالية و العلمانية و الحداثية و الإشتراكية الثورية ، يتصادم كثير من معتنقي هذه المذاهب و الأفكار في أطروحاتهم مع ممن ينتمون للتيار الإسلامي ، ودائما ما تسمع إتهامات بالتكفير و التفسيق من الطرف الإسلامي و تسمع من الطرف الآخر اتهامات بالتشدد والرجعية و التطرف ، ولكي نفض هذا الإشتباك الكائن يجب علينا أن نتناول الأمر من جذوره و مناقشته بموضوعية .عبد الرحمن ضاحي
حقيقة المصطلحات و الفكرة المركزية :
لكل نظرية سياسية أو مصطلح فكرة مركزية قام عليها ، فالفكرة المركزية في المنهج الليبرالي تقوم على الحرية المطلقة ، و تقوم في العلمانية على فصل الدين عن السياسة ، و في الفكر الحداثي تقوم على الثورة على ما هو قديم .
فالليبرالية لم يحدد صناعها و منظّريها تعريفا واضحا لها حيث يقول دونالد سترومبرج : "إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض، وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام.
وأن الليبرالية هي فكرةٌ لا تعود إلى صنع عَقلٍ بشري واحد ، ولكنها تعتبر وليدة بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة ، حيث أن التعريفات لها تعددت حتى استقرت استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية ، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت ، إلا ثابت عدم الثَّبات ".
وقد عرفها هوبز بغياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء.
وعرفها المفكر اليهودي هاليفي بأنها: الاستقلال عن العلل الخارجية ، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية).
ويعرفها أيضاً الفيلسوف الوجودي جان جاك روسو بأنها: الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا .
و الشاهد من هذه التعريفات أن الليبرالية تتمركز حول "الحرية المطلقة" ، و "تقديس الذات" وهو ما اختصره المفكر الفرنسي لاشييه في قوله: " الليبرالية هي الانفلات المطلق" .
و إذا تكلمنا عن الحداثية فيعرفها الدكتور محمد مصطفي هدارة هي مذهب أدبي أو نظرية فكرية تدعو إلى التمرد على الواقع، والانقلاب على القديم الموروث بكل جوانبه ومجالاته.
ففكرتها المركزية هي تحديث و تجديد كل ما هو قديم ، وعلى إثر ذلك فهي تصطدم بالشريعة الإسلامية ، فالشريعة لها قواعدها و ثوابتها و أصولها لا تتغير ولا تتبدل عبر العصور ، وقد قال الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) ، فكيف بعد أن أتم الله لنا الدين نحدث أو نجدد أو نضيف عليه من عقولنا البشرية الناقصة.
أما العلمانية فصل الدين والمعتقدات الدينية عن السياسة ، بمعنى " فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية " و هو لفظ وليد بيئته و نشأته .
فهو يعتبر الدين علاقة روحية محصورة في المسجد أو الكنيسة، ولا علاقة له بشؤون الحياة العامة والخاصة.
ففي كتاب قصة الحضارة ذكر "ول ديورانت" أن البابا نقولا الأول قد أصدر بيانًا قال فيه: (إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكامًا كانوا أو محكومين( ، فكل ما يحدث كان باسم الدين ( الحكم الثيوقراطي) ، و التشريعات كلها تشريعات بشر خاضعة للخطأ .
فالكنيسة كانت تفرض الإتاوات و الضرائب على الناس ، حتى أصبح رجالها أكبر رجال الإقطاع ، حتى وصلت لأن فرضت حجرا على عقول الناس ، و جعلت التفكير في أمور العقيدة و العلم الدنيوي لايجوز ، و إن فعله أحد فهو "هرطقة" تقضي الى إهدار دمه ، حتى اهدرت من قال بكروية الأرض .
و من ثم كانت ثورة الأوروبيين على ذلك الدين الذي ما أنزل الله به من سلطان ، و إلغاء الدولة الثيو قراطية التى كانت مانعا و عائقا أمام التحضر و الرقي و التحول للدولة المدنية ، لا سيما وقد كانت العلوم الإسلامية تتسرب الى أوروبا في هذا العهد عن طريق الترجمة .
الشاهد من الكلام ان النظرية العلمانية تقوم على فصل الدين عن الدولة و عزله تماما ، وهو ما يتناقض مع ديننا العظيم و يتعارض مع النصوص القرآنية و النبوية فقد قال الله تعالى : " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ".
إذا قيدتها فقدت معناها :
و البعض ممن يعتنق هذه الأفكار و المناهج السياسية عندما يصطدم بأرض الواقع الإسلامي و الشرقي ويرى بأن أفكاره الناشئة في الغرب و ارتوت بظروف النشأة غير صالحة للتطبيق على الأرض يضطر لتقييد المفهوم بمعنى ان ينشئ خليطا من الإسم الذي يحمله المفهوم مع تقاليد المجتمع أو تعاليم الدين ، بمعنى أدق أن يخلط مصطلح الليبرالية بتقاليد المجتمع المسلم فتصبح "ليبرالية اسلامية" ، أو تارة ينسبها للقومية فتصير "ليبرالية سعودية " أو "ليبرالية مصرية" .
و تحليلا لهذا التقييد العجيب ، فلقد ذكرنا من قبل أن لكل مصطلح أو منهج فكرته المركزية فالليبرالية تستند فكرتها على "الحرية المطلقة" فإذا قيدتها بتعاليم الشريعة و تعاليم الإسلام فقد نزعت منها فكرتها المركزية وتصير اسلاما خالصا ، كذلك العلمانية فكرتها المركزية هي "فصل الدين عن الدولة" فأنى لها أن تلتقي في مساحة مشتركة مع الإسلام ؟!!.
فبدل من أن نجمّل ألفاظا مسممة ووليدة بيئتها ونضيف لها "التوابل" الإسلامية و الشرقية ، حري بنا كمسلمين أن نهرع الى إسلامنا و و نبتع ما به من درر من منهج رباني و منهج نبوي ، واستبدال مناهج البشر بمنهج رب البشر ، وسبحان من قال " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
شمولية الإسلام :
و مما ينبغي أن يعلم أن الإسلام دين شامل و منهج متكامل وتشريع لكل مجالات الحياة ، و ماترك الله من شاردة ولا واردة إلا ووضع فيها حكم و تشريع سواء كان جانب سياسي أو عمراني أو اجتماعي أو تعبدي أو اقتصادي أو قضائي الى غيره ، وقد قال تعالى " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ " ، وقال أيضا "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ".
و لايجوز لإنسان مسلم أن يؤمن ببعض الكتاب و يترك بعضه لقول الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" ، وقد أنكر على من يجزّئ الشرع و يختار منه فقال " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه لا يقوم بهذا الدين إلا من حاطه من جميع جوانبه"
يقول الإمام حسن البنا (الإسلام نظام شامل يتناول جميع مظاهر الحياة جميعا ،فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ،وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ،وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ،وهو مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ،كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء).
فلا ينبغي للمسلم أن يتعبد الله بالإسلام في جوانب المعاملات أو في جانب القضاء أو في العبادات ثم يترك الجانب السياسي و يتبع نظريات موضوعة من صنع البشر قابلة للخطأ و الصواب أو يحمل بعضها من الأفكار التي لا تتوافق مع شرع الإسلام كالحرية المطلقة أو فصل الدين عن السياسة !!
دوافع الإعتناق :
نرى أن تتبُع هذه الأفكار و المذاهب هو إمتداد لموجة التغريب و حركات "التنوير" التي عصفت ببلادنا مع بداية القرن التسع عشر و نمت و ترعرعت خلال القرن العشرين ، فموجة التغريب أرادت إيهام أبناء الإسلام أن يتخلوا عن إسلامهم و مبادئهم لكي يتطورا و يلحقوا بركب الحضارة مؤمنين إيمانا تاما بحتمية التخلي عن الدين للإلتحاق بركب الحضارة ، فتجد من يعتنق هذه الأفكار يهرول لكتب الغرب و يتتبع خطاهم حذو القذة بالقذة.
فقدان الإنتماء أيضا من دوافع إعتناق هذه الأفكار فأبناء الإسلام قبل الربيع العربي قضوا حقبة كبيرة من حياتهم في كبت سياسي و تهميش متعمد ، وحين لفحت رياح الربيع وجوههم و وأراد البعض دخول المعترك السياسي ، صار من الضروري أن ينتمي لفكر أو جماعة أو حزب ، فاعتنق البعض هذه الأفكار نظرا لعدم وجود الا الإتجاه الإسلامي على الساحة السياسية وهو مكروه من قِبل البعض بسبب تشويه الإعلام و بعض السلوكيات الفردية الخاطئة لبعض أبناء التيار.
أيضا من العوامل الدافعة للتسمي بهذه المسميات إهمال إبراز السياسة الشرعية ، فكثير من علماء المسلمين كتبوا في هذا المجال و تبحروا فيه كالماوردي و بن تيمية و ابن القيم ، ولكن للأسف لم يرعاها أبناء التيار الإسلامي و لم يعتنوا بتسويقها ، فحري بأبناء الإسلام أن يبرزوا ما في دينهم و ثقافتهم ، كي لا نترك مجالا للإستقاء من نظريات غربية لا تليق بنا.
التأثر بالصور الذهنية الخاطئة من الممكن أن يكون سببا من دوافع الإعتناق ، فكلام الإعلام المزيف إضافة الى فزاعات الأنظمة البائدة من التيار الإسلامي ومعهم التصرفات السلوكية الخاطئة لبعض المنتمين للصف الإسلامي ، نتج عنه كرها لكل ما هو يحمل اسم الدين ، أو من الممكن أن يؤدي لإعتناق كل ما هو مخالف لفكر التيارات الإسلامية حتى و إن كان مخالفا للصواب .
ولنا في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وقفة بليغة تعلمنا إلغاء "الصمم المتعمد" فحينما قدم إلى مكة للحج نهاية السنة السابعة من البعثة أستقبلته قريش وقالوا له:
يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل و أبيه، وبين الرجل و أخيه، وبين الرجل و زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنّ منه شيئا فما زالوا به حتى حشي إذنيه كرسفا "قطنا" خوفا من أن يبلغه شيء منه قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة قال فقمت قريبًا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله.
قال: فسمعت كلامًا حسنًا. قال فقلت في نفسي واثكل أمي إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح, فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا لي, فوالله ما برحوا يخوفنني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولاً حسنًا فاعرض علي أمرك فعرض عليَّ الإسلام وتلا عليَّ القرآن, فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن ولا أمرًا أعدل منه، وقال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق.فتلا عليه النبي شيئا من القرأن فقال: والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلم ورجع إلى دوس يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا كلهم, وهاجر معه منهم 80 بيتا.
فالشاهد من قصة الطفيل أنه ما استجاب لتحذير المشركين من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، و ما تأثر بالصورة الذهنية التي أعطوها له ، فحري بنا أن نفعل مثل ما فعل الطفيل و نبدأ في الإطلاع على كلام ربنا و نبينا في الجانب السياسي ، ولا نلجأ لمناهج أخرى .
كلــــــمــة أخــيــــرة :
قال الدكتور عبد الحميد الغزالي الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة و المستشار الاقتصادي للمرشد العام لحركة الإخوان المسلمين في برنامج الإتجاه العاكس عندما تكلم على الإقتصاد الإسلامي " أود أن أشير إلى قصة سريعة جدا وهي عندما تحول النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي السابق إلى النظام الرأسمالي وهو يعرف نقائصه، حاول أن يتعرف على النظام الرأسمالي لكي يطعم ويعالج هذه النقائص حتى يجنب الاقتصاد السوفياتي من هذه النقائص، وجاء وفد رفيع المستوى من الاتحاد السوفياتي السابق برئاسة وزير المالية في هذا الاتحاد وهو فالنتين بافلوف وعضوية وزير العمل والأجور ومحافظ بنك الدولة ومحافظ موسكو والقيادات الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي واجتمعوا بلجنة فنية في جامعة الأزهر كانت قد توصلت إلى الأسس التفصيلية للنظام الاقتصادي الإسلامي وعرضت هذه اللجنة هذه الأسس تفصيلا ابتداء من فلسفة النظام مرورا بالملكية ونظام العمل والأجور والاستثمار والشركات والأسواق المالية والاستثمار وصيغه والسياسات النقدية والسياسات المالية ونظام مالية الدولة والتأمين إلى آخره، كل عناصر نظام اقتصادي تشغيلي فاعل، وبعد أن استمع الوفد السوفياتي لهذه العناصر تفصيلا كان أول سؤال يطرحه رئيس الوفد هو بافلوف كيف تكونون على هذه الحالة كدول إسلامية من التخلف الاقتصادي والاجتماعي ولديكم هذا النظام التنموي التشغيلي الفاعل؟! وكان الرد الذي أوكل لشخصي الضعيف أننا متخلفون لأننا بعيدون عن تطبيق هذا النظام."
الشاهد من الكلام أنه ليس من المعقول أن نملك في ديننا سبل التقدم في جميع المجالات في كتاب منزل من رب العباد ، ومع ذلك نلتمس بغيتنا فى المناهج المنقوصة الموضوعة بعقول بشرية قابلة للخطأ و الصواب .
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... و الماء فوق ظهورها محمول
http://www.elmokhalestv.com/index/details/id/26118