التوَّاب سبحانه هو الذي يقبل التوبة عن عباده حالاً بعد حال .. فما من عبدِ عصاه وبلغ عصيانه مداه ثم رَغِب في التوبة إليه إلا فتح له أبواب رحمته، وفرح بعودته وتوبته ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها ..
ونحن في حاجة ماسة لفهم مقتضيات هذا الاسم العظيـم ومعانيه؛ لأنه يتحدث عن وظيفة العمر وأعظم مقامات الإيمان وأجلَّها، ألا وهو مقـام التــــوبة ..
ورود الاسم في القرآن الكريم
ورد الاسم في القرآن إحدى عشرة مرة، منها تسع مرات أقترن باسم الله تعالى الرحيم، منها:
قول الله جلَّ وعلا {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] .. وقوله تعالى {.. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]
وورد مقترنًا باسمه تعالى الحكيم، في قول الله عزَّ وجلَّ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10]
وورد مفردًا في قوله تعالى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]
المعنى اللغوي للاسم
التواب في اللغة من صيغ المبالغة، فعله تاب يتوب توبًا وتوبة، والتوبة الرجوع عن الشيء إلى غيره، وترك الذنب على أجمل الوجوه.
معنى الاسم في حق الله تعالى
التوَّاب .. الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى الله توبة نصوحًا، تاب الله عليه، فهو التائب على التائبين أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم قبولاً لها، وعفوًا عن خطاياهم. [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1:946)]
عَنْ النَّبِيِّ قَالَ "إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليْلِ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" [صحيح مسلم]، وعنه قال "إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" [رواه الترمذي وحسنه الألباني، صحيح الجامع (1903)]
ويذكر ابن القيم أن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها .. فتوبته بين توبتين من الله، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولاً إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيًا قبولاً وإثابة، قال تعالى: {وَعَلَى الثلاثَةِ الذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِن اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة:118]، فأخبر عزَّ وجلَّ أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا ومقتضيًا لتوبتهم فدلَّ على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتف لانتفاء علته ..
فالعبدُ تَوَّابٌ، واللَّهُ تَوَّابٌ ..
فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق،
وتوبة الله نوعان: 1) إذن وتوفيق .. 2) وقبول وإمداد. [مدارج السالكين (1/319-320)]
قال ابن جرير الطبري "إن الله جلَّ ثناؤه هو التوَّاب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سَلَف من ذنبه ..
فمعنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. وكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه" [تفسير الطبري (بتصرف يسير)]
يقول ابن القيم في قصيدته النونية:
وكذلكَ التوَّابُ منْ أوصافِهِ ... والتَّوْبُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بتوبةِ عبدِهِ وَقَبُولُهَا ... بعدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المنَّانِ
لنبدأ مدارسة فقه التوبة بمعرفة معاني التوبة النصـــوح والفرق بينها وبين مُطلق التوبــة؛ حتى نتوب إلى الله تعالى توبةً نصوحًا كما يُحب ويرضى ..
كيفيــة التوبـة النصــوح
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ..} [التحريم: 8]
اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً، كما ذكر الإمام القرطبي في تفسيره:
1) التي لا يعود بعدها إلى الذنب أبدًا .. فبهذه التوبة يُفارق العبد هذا الذنب طيلة عمره، ولا يقتضي ذلك توبته من جميع الذنوب؛ لأنه لا يوجد إنسان معصوم من الوقوع في الزلل، بل المقصود عدم العودة لجنس الذنب الذي قد تاب منه.
وعن حذيفة قال: "بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه".
2) النصوح: الصادقة الناصحة .. أي: التي تنصح صاحبها كلما هجمت عليه المعصية، يتذكر توبته منها فيمتنع عن الوقوع فيها مرة أخرى.
أما من لا تنهاه توبته عن الوقوع في المعاصي، كمن يحج ويظن أن جميع سيئاته قد مُحيت ثم يعود للوقوع في نفس المعاصي مرةً أخرى .. فهذا توبته مكذوبة وليست توبة نصوحًا.
3) الخالصة .. من نصح، أي: أخلص له القول.
وعلامة التوبة الخالصة .. كما قال الحسن "النصوح أن يُبْغِض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره"
4) التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها .. فهو لا يغتر بعلامات الصلاح التي قد يلحظها الناس عليه بعد توبته، بل دائمًا يخشى ألا تُقبَل توبته ويسأل الله القبــول .. وهذا الخوف يدفعه للإحسان في العمل، وليس الوقوع في اليأس.
5) التي لا يحتاج معها إلى توبة .. فبعض الناس قد يتوب من بعض المعاصي الظاهرة ولا يتوب من معاصي خفية أخطر منها؛ كالريـاء والكِبر والنفاق .. فتكون توبته بحاجة إلى توبة .. أما التوبة النصوح فهي التي تغسل القلب وتُطهره من الذنوب الظاهرة والباطنة، فلا يحتاج بعدها إلى توبة.
6) الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود ..
كما يقول النبي "الندم توبة" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]، فلا تُقبَل التوبة بدون الندم على ما فات من الذنب .. وهو ندم يبعثك على العمل؛ حتى لا تقع في الذنب مرةً أخرى.
والتائب الحق لا يُفارق الاستغفار لسانه، كما إنه يُقلِع عن جميع الأسباب التي تؤدي إلى وقوعه في الذنب؛ حتى يطمئن لعدم عودته إليه مرةً أخرى.
7) توبة تنصحون بها أنفسكم .. فهي التي تنصحك بفعل الطاعات والابتعاد عن المُلهيات، وتدعوك لأن تعيش حياتك ربَّانيًا.
8) ومهاجرة سيئ الخلان .. فالتوبة النصوح لا تستقيم مع مرافقتك لأصدقاء السوء؛ لأن الصاحب سـاحب ..
قال رسول الله "مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" [متفق عليه]
9) علامتها أربعة .. قال سفيان الثوري: "علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة" .. فالتائب توبةً نصـوح يتقلل من الدنيـا، وهو دائم الحزن والبكــاء من خشية الله مما يجعله أشبه بالمريض العليل، ولا يتكبر على الناس وهو ذليـــل بين يدي المولى عزَّ وجلَّ، تجده في الدنيـــا غريـب كما أمر النبي "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" [صحيح البخاري]
10) ينشغل بذنبه عن ذنوب الناس .. قال الفضيل بن عياض: "هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه".
فكلما رأى أحد الناس يقع في ذنبٍ من الذنوب، تذكَّر ذنوبه الماضية وانشغل بعيبه عن عيوب الناس.
11) شدة الحيـاء من الله بسبب ذنوبه .. يقول ابن السماك في معنى التوبة النصوح: "أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك".
12) اليقين بأن لا ملجأ من الله إلا إليه .. فعندما تستشعر قهر الذنب في قلبك، تتيقن أنه لا أحد سُينجيك منه إلا الله جلَّ وعلا .. قال أبو بكر الوراق: "هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك، كالثلاثة الذين خلفوا".
13) توبة لا لفقد عوض .. قال أبو بكر الواسطي "هي توبة لا لفقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبًا لرفاهيتها في الآخرة، فتوبته على حفظ نفسه لا لله".
14) رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات .. فإن كنت وقعت في ذنوب التبعات؛ كأكل المال الحرام والمظالم والسُحت وغيرها .. عليك أن ترُد لمن ظلمتهم جميع حقوقهم، وإلا إن لم تستطع رد المظالم لأهلها فعليك بفعل تلك الأمور؛ حتى تخرج من تبعات تلك المظالم:
أ) الصدقـة بنية الاستبراء من هذا الذنب ..
ب) أن تُكثر الرحمة لأهل المعصية .. لأن الله يغفر التبعات بما فى القلوب من الرحمات .. ارحم تُرحَم، واعفُ يُعفَ عنك.
ج) الحـــج .. قال رسول الله " .. إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات" [صحيح الترغيب والترهيب (1151)]
وإن كنت قد أغتبت أحدًا أو وقعت في عرضه، فينبغي أن تطلب من خصمك أن يسامحك ويعفُ عن خطأك في حقه؛ حتى تُقبَل توبتك وتكون توبةً نصوحًا.
والتائب يُدمِن الطاعات، ويطرق كل باب من أبوابها حتى يثبت عليها،،
15) ألا تلتفت وتولي وجهك تلقاء الله سبحانه وتعالى .. قال رويم "هو أن تكون لله وجهًا بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه".
16) الابتعاد عن مفسدات القلوب .. قال ذو النون: "علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام".. وهي من ضمن مفسدات القلب الخمسة:
1) كثرة الخلطة .. 2) وركوب بحر التمني .. 3) والتعلق بغير الله .. 4) والشبع .. 5) والمنام.
17) اللوم للنفس والندم .. قال شقيق: "هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة؛ لينجو من آفاتها بالسلامة".
18) نصيحة النفس والمؤمنين .. قال سري السقطي: "لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله".
19) المحبة لله تعالى .. قال الجنيد: "التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدًا؛ لأن من صحت توبته صار محبًا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله" .. وإذا غُرِسَت في قلبك محبة الله عزَّ وجلَّ، أُغْلِقَت أمامك جميع أبواب المعاصي.
20) كثرة البكـاء من خشية الله، والنُفرة من المعاصي وأهلها .. قال ذو الأذنين: "هو أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح، وقلبٌ عن المعاصي جموح".
21) مخالفة الهوى .. وقال فتح الموصلي: "علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ".
22) اتباع هدي النبي .. قال سهل بن عبد الله التستري: "هي التوبة لأهل السنة والجماعة؛ لأن المبتدع لا توبة له، بدليل قوله "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته" [صحيح الترغيب والترهيب (54)]"
23) تحقيق شروط قبــول التـوبــة .. قال سعيد بن جبير: "هي التوبة المقبولة، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات".
نسأل الله جلَّ وعلا أن يتوب علينــا أجمعين، وأن يرزقنـا التوبة النصوح التي تُرضيه عنا،،
منقول
ونحن في حاجة ماسة لفهم مقتضيات هذا الاسم العظيـم ومعانيه؛ لأنه يتحدث عن وظيفة العمر وأعظم مقامات الإيمان وأجلَّها، ألا وهو مقـام التــــوبة ..
ورود الاسم في القرآن الكريم
ورد الاسم في القرآن إحدى عشرة مرة، منها تسع مرات أقترن باسم الله تعالى الرحيم، منها:
قول الله جلَّ وعلا {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] .. وقوله تعالى {.. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]
وورد مقترنًا باسمه تعالى الحكيم، في قول الله عزَّ وجلَّ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10]
وورد مفردًا في قوله تعالى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]
المعنى اللغوي للاسم
التواب في اللغة من صيغ المبالغة، فعله تاب يتوب توبًا وتوبة، والتوبة الرجوع عن الشيء إلى غيره، وترك الذنب على أجمل الوجوه.
معنى الاسم في حق الله تعالى
التوَّاب .. الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى الله توبة نصوحًا، تاب الله عليه، فهو التائب على التائبين أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم قبولاً لها، وعفوًا عن خطاياهم. [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1:946)]
عَنْ النَّبِيِّ قَالَ "إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليْلِ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" [صحيح مسلم]، وعنه قال "إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" [رواه الترمذي وحسنه الألباني، صحيح الجامع (1903)]
ويذكر ابن القيم أن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها .. فتوبته بين توبتين من الله، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولاً إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيًا قبولاً وإثابة، قال تعالى: {وَعَلَى الثلاثَةِ الذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِن اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة:118]، فأخبر عزَّ وجلَّ أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا ومقتضيًا لتوبتهم فدلَّ على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتف لانتفاء علته ..
فالعبدُ تَوَّابٌ، واللَّهُ تَوَّابٌ ..
فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق،
وتوبة الله نوعان: 1) إذن وتوفيق .. 2) وقبول وإمداد. [مدارج السالكين (1/319-320)]
قال ابن جرير الطبري "إن الله جلَّ ثناؤه هو التوَّاب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سَلَف من ذنبه ..
فمعنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. وكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه" [تفسير الطبري (بتصرف يسير)]
يقول ابن القيم في قصيدته النونية:
وكذلكَ التوَّابُ منْ أوصافِهِ ... والتَّوْبُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بتوبةِ عبدِهِ وَقَبُولُهَا ... بعدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المنَّانِ
لنبدأ مدارسة فقه التوبة بمعرفة معاني التوبة النصـــوح والفرق بينها وبين مُطلق التوبــة؛ حتى نتوب إلى الله تعالى توبةً نصوحًا كما يُحب ويرضى ..
كيفيــة التوبـة النصــوح
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ..} [التحريم: 8]
اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً، كما ذكر الإمام القرطبي في تفسيره:
1) التي لا يعود بعدها إلى الذنب أبدًا .. فبهذه التوبة يُفارق العبد هذا الذنب طيلة عمره، ولا يقتضي ذلك توبته من جميع الذنوب؛ لأنه لا يوجد إنسان معصوم من الوقوع في الزلل، بل المقصود عدم العودة لجنس الذنب الذي قد تاب منه.
وعن حذيفة قال: "بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه".
2) النصوح: الصادقة الناصحة .. أي: التي تنصح صاحبها كلما هجمت عليه المعصية، يتذكر توبته منها فيمتنع عن الوقوع فيها مرة أخرى.
أما من لا تنهاه توبته عن الوقوع في المعاصي، كمن يحج ويظن أن جميع سيئاته قد مُحيت ثم يعود للوقوع في نفس المعاصي مرةً أخرى .. فهذا توبته مكذوبة وليست توبة نصوحًا.
3) الخالصة .. من نصح، أي: أخلص له القول.
وعلامة التوبة الخالصة .. كما قال الحسن "النصوح أن يُبْغِض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره"
4) التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها .. فهو لا يغتر بعلامات الصلاح التي قد يلحظها الناس عليه بعد توبته، بل دائمًا يخشى ألا تُقبَل توبته ويسأل الله القبــول .. وهذا الخوف يدفعه للإحسان في العمل، وليس الوقوع في اليأس.
5) التي لا يحتاج معها إلى توبة .. فبعض الناس قد يتوب من بعض المعاصي الظاهرة ولا يتوب من معاصي خفية أخطر منها؛ كالريـاء والكِبر والنفاق .. فتكون توبته بحاجة إلى توبة .. أما التوبة النصوح فهي التي تغسل القلب وتُطهره من الذنوب الظاهرة والباطنة، فلا يحتاج بعدها إلى توبة.
6) الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود ..
كما يقول النبي "الندم توبة" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]، فلا تُقبَل التوبة بدون الندم على ما فات من الذنب .. وهو ندم يبعثك على العمل؛ حتى لا تقع في الذنب مرةً أخرى.
والتائب الحق لا يُفارق الاستغفار لسانه، كما إنه يُقلِع عن جميع الأسباب التي تؤدي إلى وقوعه في الذنب؛ حتى يطمئن لعدم عودته إليه مرةً أخرى.
7) توبة تنصحون بها أنفسكم .. فهي التي تنصحك بفعل الطاعات والابتعاد عن المُلهيات، وتدعوك لأن تعيش حياتك ربَّانيًا.
8) ومهاجرة سيئ الخلان .. فالتوبة النصوح لا تستقيم مع مرافقتك لأصدقاء السوء؛ لأن الصاحب سـاحب ..
قال رسول الله "مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" [متفق عليه]
9) علامتها أربعة .. قال سفيان الثوري: "علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة" .. فالتائب توبةً نصـوح يتقلل من الدنيـا، وهو دائم الحزن والبكــاء من خشية الله مما يجعله أشبه بالمريض العليل، ولا يتكبر على الناس وهو ذليـــل بين يدي المولى عزَّ وجلَّ، تجده في الدنيـــا غريـب كما أمر النبي "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" [صحيح البخاري]
10) ينشغل بذنبه عن ذنوب الناس .. قال الفضيل بن عياض: "هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه".
فكلما رأى أحد الناس يقع في ذنبٍ من الذنوب، تذكَّر ذنوبه الماضية وانشغل بعيبه عن عيوب الناس.
11) شدة الحيـاء من الله بسبب ذنوبه .. يقول ابن السماك في معنى التوبة النصوح: "أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك".
12) اليقين بأن لا ملجأ من الله إلا إليه .. فعندما تستشعر قهر الذنب في قلبك، تتيقن أنه لا أحد سُينجيك منه إلا الله جلَّ وعلا .. قال أبو بكر الوراق: "هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك، كالثلاثة الذين خلفوا".
13) توبة لا لفقد عوض .. قال أبو بكر الواسطي "هي توبة لا لفقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبًا لرفاهيتها في الآخرة، فتوبته على حفظ نفسه لا لله".
14) رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات .. فإن كنت وقعت في ذنوب التبعات؛ كأكل المال الحرام والمظالم والسُحت وغيرها .. عليك أن ترُد لمن ظلمتهم جميع حقوقهم، وإلا إن لم تستطع رد المظالم لأهلها فعليك بفعل تلك الأمور؛ حتى تخرج من تبعات تلك المظالم:
أ) الصدقـة بنية الاستبراء من هذا الذنب ..
ب) أن تُكثر الرحمة لأهل المعصية .. لأن الله يغفر التبعات بما فى القلوب من الرحمات .. ارحم تُرحَم، واعفُ يُعفَ عنك.
ج) الحـــج .. قال رسول الله " .. إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات" [صحيح الترغيب والترهيب (1151)]
وإن كنت قد أغتبت أحدًا أو وقعت في عرضه، فينبغي أن تطلب من خصمك أن يسامحك ويعفُ عن خطأك في حقه؛ حتى تُقبَل توبتك وتكون توبةً نصوحًا.
والتائب يُدمِن الطاعات، ويطرق كل باب من أبوابها حتى يثبت عليها،،
15) ألا تلتفت وتولي وجهك تلقاء الله سبحانه وتعالى .. قال رويم "هو أن تكون لله وجهًا بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه".
16) الابتعاد عن مفسدات القلوب .. قال ذو النون: "علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام".. وهي من ضمن مفسدات القلب الخمسة:
1) كثرة الخلطة .. 2) وركوب بحر التمني .. 3) والتعلق بغير الله .. 4) والشبع .. 5) والمنام.
17) اللوم للنفس والندم .. قال شقيق: "هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة؛ لينجو من آفاتها بالسلامة".
18) نصيحة النفس والمؤمنين .. قال سري السقطي: "لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله".
19) المحبة لله تعالى .. قال الجنيد: "التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدًا؛ لأن من صحت توبته صار محبًا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله" .. وإذا غُرِسَت في قلبك محبة الله عزَّ وجلَّ، أُغْلِقَت أمامك جميع أبواب المعاصي.
20) كثرة البكـاء من خشية الله، والنُفرة من المعاصي وأهلها .. قال ذو الأذنين: "هو أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح، وقلبٌ عن المعاصي جموح".
21) مخالفة الهوى .. وقال فتح الموصلي: "علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ".
22) اتباع هدي النبي .. قال سهل بن عبد الله التستري: "هي التوبة لأهل السنة والجماعة؛ لأن المبتدع لا توبة له، بدليل قوله "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته" [صحيح الترغيب والترهيب (54)]"
23) تحقيق شروط قبــول التـوبــة .. قال سعيد بن جبير: "هي التوبة المقبولة، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات".
نسأل الله جلَّ وعلا أن يتوب علينــا أجمعين، وأن يرزقنـا التوبة النصوح التي تُرضيه عنا،،
منقول