الرحمن خلق الإنسان علمه البيان
المتدبر لسورة الرحمن بالقرآن الكريم سيلاحظ بأن الله جل في علاه إستهل السورة بآيات أربع: { َالرَّحْمَنُ)1(عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )4) } وهذه الآيات تحوي من الأسرار العجيبة و النجيبة فكلمة (لرحمن). . . مطلع مقصود بلفظه ومعناه , وإيقاعه وموسيقاه ....)الرحمن).. . . بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة المدوية في أرجاء هذا الكون , وفي جنبات هذا الوجود ... )الرحمن). . . .. بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد , يجلجل في طباق الوجود , ويخاطب كل موجود ; ويتلفت على رنته كل كائن , وهو يملأ فضاء السماوات والأرض , ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب....(الرحمن). . الرحمن . . كلمة واحدة . مبتدأ مفردا . . الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة , وفي رنتها الإعلان , والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن . و( الرحمن) اسم من أسماء الله الحسني, إختص به ـ تعالي ـ ولم يسم به غيره, وقد جاء بالقرآن الكريم(57) مرة تأكيدا علي أن الله ـ تعالي ـ هو رحمن الدنيا والآخرة, لأن اسم( الرحمن) مشتق من الرحمة, وجاء بصيغة المبالغة لأن الرحمة هنا لجميع الخلق, بينما اسم( الرحيم) خاص بالمؤمنين وذلك إنطلاقا من قوله ـ تعالي ـ الرحمن علي العرش استوي*. (طه:5) فذكر الإستواء باسمه ـ تعالي ـ( الرحمن) ليعم جميع خلقه برحمته في الدنيا والآخرة, وعلي ذلك اعتبرت الرحمة في اسم الله( الرحمن) أعظم منها في اسمه( الرحيم) الذي جاء في القرآن الكريم(95) مرة و بتصريفاته(24) مرة أخري بمجموع بنصه(119 مرة) ومن ذلك قوله ـ عز من قائل ـ:.. وكان بالمؤمنين رحيما* ( الأحزاب:43)
وسنلاحظ بأن الله أنزل المنهج الرباني إبتداءا وبتجلي هذا بقوله تعالى : (علم القرآن) ثم .....(خلق الإنسان) الذي كلف بالسير على هذا المنهج والتمسك به حين كلفه بما جاء فيه ، وبهذا فإن المنهج قد نزل قبل خلق المكلَّف به وهو الإنسان فالله خلق النوع الإنساني علي أبدع صوره, ومكنه من بيان ما في نفسه بالمنطق الفصيح, ومن فهم بيان غيره, فتميز بذلك عن الحيوان, واستعد لتلقي العلوم والخلافة في الأرض. وهذه نعم عظمي توجب الشكر والتعظيم لله تعالي. . وعلي ذلك فإن الإنسان في الإسلام بدأ عالما عابدا ولم يبدأ جاهلا ولا كافرا, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه: وعلم آدم الأسماء كلها.. (البقرة:31) وقال المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ: إن آدم كان نبيا مكلما كلمه الله قبلا( الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: ابن تيمية - المصدر: مجموع الفتاوى - الصفحة أو الرقم: 12/58 خلاصة حكم المحدث: معروف).
ويؤكد هذا المعني ما أثبته العلم التجريبي بأن مخ الإنسان به مركز للنطق, وأن لكل شئ في الوجود قدرا من الوعي والإدراك, والشعور والانفعال والتعبير بلغة خاصة بنوعه من السوائل والغازات إلي الجمادات, ومن النباتات إلي الحيوانات, فهل يعدم الإنسان ذلك وهو أشرف المخلوقات, وقد ميزه الله ـ تعالي ـ بالعقل الراجح, والجهاز العصبي فائق التعقيد في البناء والدقة في الأداء, وأجهزة النطق العجيبة:
الرئتان والقصبة الهوائية بشعبها, والحنجرة, واللهاة, واللسان, والشفتان, والفكان والأسنان وكلها تشترك في النطق والبيان, ويعمل كل من السمع والمخ والأعصاب في ترجمة هذا النطق إلي معان تفهم ويستجاب لها بالإيجاب أو النفي, ولذلك يمتن علينا ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بقوله العزيز:
خلق الإنسان* علمه البيان* (الرحمن:4,3) وهذا يبطل ما إدعاه المختصون في علم دراسة الإنسان بأن هذا المخلوق بدأ جاهلا كافرا ثم تعلم الكلام بمحاكاته لأصوات الحيوانات المختلفة, وتعرف علي الدين عن طريق فزعه من مختلف الظواهر الكونية, وأن اللغة نشأت من إشارة اليدين والوجه حتى وصلت إلي نطق الفم, وأنها كانت إشارية في البداية, ثم أخذت الأصوات تتخللها بصورة متدرجة. ولكن يخبرنا القرآن الكريم أن الله ـ تعالي ـ علم أبانا آدم ـ عليه السلام ـ الأسماء كلها, وأنطقه بالكلام المنظوم, هذا وقد ذكر ابن قتيبة في المعارف أن الله ـ تعالي ـ أنزل علي أبينا آدم ـ عليه السلام ـ حروف المعجم مفرقة مكتوبة, وأنها كانت الحروف العربية التي تفرعت عنها كل لغات الأرض بدليل أنها تشكل أكثر من نصف حروف كل من اللغتين الأقدم في المعارف الإنسانية وهما العبرية والآرامية, مع تسليمنا بأن العربية في الأصل لم تكن منقوطة ولامشكلة.
وهذه الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت في مطلع سورة الرحمن تحسم جدلا طال بين علماء اللغة من مثل ما جاء في كتاب مايكل كورباليس المعنون في نشأة اللغة: من إشارة اليد إلي نطق الفم الذي قامت بنشره جامعة برنستون في سنة2002 م. ثم نشر الكتاب مترجما إلي العربية في سلسلة عالم المعرفة في مارس2006 م.
والكتاب مليء بالمغالطات العلمية والفكرية والدينية, وترد عليه الآيات الأربع الأولي من سورة الرحمن في حزم وجلاء فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين, سيد الأولين والآخرين, وإمام المهتدين سيدنا محمد بن عبد الله صلي الله وسلم وبارك عليه .
ويستوضح لنا أن في قوله تعالي : { َالرَّحْمَنُ)1(عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )4) } , إعلان عام في ساحة الوجود الكبير , وأعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة , في جميل صنعه , وإبداع خلقه ; وفي فيض نعمائه ; وفي تدبيره للوجود وما فيه ; وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم . . وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين:الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء , في ساحة الوجود , على مشهد من كل موجود ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله , وفي إيقاع فواصلها . . تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى , وامتداد التصويت إلى بعيد ; كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والإنتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار .
وأيضا في معني{ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } هو بيان لنعمتين أخريين من نعمه الله والمراد بالإنسان : جنسه ، والمراد بالبيان : الفهم والنطق والإفصاح عما يريد الإفصاح عنه بالكلام الذي أداته اللسان .
أي خلق الله بقدرته الإنسان على أجمل صورة ، وأحسن تقويم ، ومكنه من الإفصاح عما في نفسه عن طريق المنطق السليم ، والقول الواضح ، كما مكنه من فهم كلام غيره له ، فتميز بذلك من الأجناس الأخرى ، وصار أهلا لحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، وأصبح مستعدات لتلقى العلوم والخلافة في الأرض .
وأيضا في معني هذه الآية الكريمة (علمه البيان) التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنه علم الإنسان البيان قد جاء موضحا في قوله تعالى : فإذا هو خصيم مبين في سورة النحل [ 16 \ 4 ] ، و " يس " [ 36 \ 77 ] ، وقوله : مبين على أنه اسم فاعل " أبان " المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم ، أي مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره ، وذلك لأنه ربه علمه البيان ، وعلى أنه صفة مشبهة من " أبان " اللازمة ، وأن المعنى فإذا هو خصيم مبين ، أي : بين الخصومة ظاهرها ، فكذلك أيضا ، لأنه ما كان بين الخصومة إلا لأن الله علمه البيان .
وقد امتن الله - جل وعلا - على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان ، وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين .
وأيضا في قوله : ( علمه البيان ) البيان : الكلام . والصواب من القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : أن الله علم الإنسان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام ، والمعايش والمنطق ، وغير ذلك مما به الحاجة إليه ؛ لأن الله - جل ثناؤه - لم يخصص بخبره ذلك أنه علمه من البيان بعضا دون بعض ، بل عم فقال : علمه البيان ، فهو كما عم - جل ثناؤه - .
وأيضا في قوله : ( علمه البيان ) قال الكلبي : علم القرآن محمدا . وقيل): علم القرآن) يسره للذكر . قال ابن عباس وقتادة) : علمه البيان( أسماء كل شيء ، وقيل : علمه اللغات كلها ، وكان آدم يتكلم بسبعمائة [ ألف ] لغة أفضلها العربية . وقال أبي العالية وابن زيد والحسن : ( علمه البيان) النطق والكتابة والفهم والإفهام ، حتى عرف ما يقول وما يقال له . وقال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به وقال ابن كيسان: (علمه البيان) يعني بيان ما كان وما يكون لأنه كان يبين [ عن ] الأولين والآخرين وعن يوم الدين .
وقال ابن زيد والجمهور : ( البيان ) : المنطق ، والفهم : الإبانة ، وهو الذي فضل به الإنسان على سائر الحيوان . وقال قتادة : هو بيان الحلال والشرائع ، وهذا جزء من البيان العام . وقال محمد بن كعب : ما يقول وما يقال له . وقال الضحاك : الخير والشر . وقال ابن جريج : الهدى . وقال يمان : الكتابة . ومن قال : الإنسان آدم ، فالبيان أسماء كل شيء ، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية ، أو الكلام بعد أن خلقه ، أو علم الدنيا والآخرة ، أو الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، أقوال ، آخرها منسوب لجعفر الصادق .
وأعود لعلم البيان الذي هو من الرحمن (خَلَقَ الْإِنسَانَ ,عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) يذكر خلق الإنسان , ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى . . البيان . .
إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين , ويتفاهم , ويتجاوب مع الآخرين . . فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة , وضخامة هذه الخارقة , فيردنا القرآن إليها , ويوقظنا لتدبرها , في مواضع شتى . فما الإنسان ? ما أصله ? كيف يبدأ ? وكيف يعلم البيان ?
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم . خلية ساذجة صغيرة , ضئيلة , مهينة . ترى بالمجهر , ولا تكاد تبين . وهي لا تبين !!!
ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين . الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة . . عظمية . وغضروفية . وعضلية . وعصبية . وجلدية . . ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة:السمع . البصر . الذوق . الشم . اللمس . ثم . . ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم:الإدراك والبيان , والشعور والإلهام . . كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة , التي لا تكاد تبين , والتي لا تبين ! كيف ? ومن أين ? من الرحمن , وبصنع الرحمن . وندع خلق الإنسان ابتداء , إذ المقصود من ذكره هنا هو ما تلاه من تعليمه البيان . إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين , ويتفاهم , ويتجاوب مع الآخرين . . فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة , وضخامة هذه الخارقة , فيردنا القرآن إليها , ويوقظنا لتدبرها , في مواضع شتى . فما الإنسان ? ما أصله ? كيف يبدأ ? وكيف يعلم البيان ? ومن أين ? من الرحمن , وبصنع الرحمن .
فلننظر كيف يكون البيان ?: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ـ النحل78). .
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب . . اللسان والشفتان والفك والأسنان . والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان . . إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان . وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة , المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب . ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه . ولا ندري شيئا عن ماهيته وحقيقته . بل لا نكاد ندري شيئا عن عمله وطريقته !
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد ?
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة . مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن .
إنها تبدأ شعورا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين . هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية . . المخ . . ويقال:إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب . واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه . وهنا تطرد الرئة قدرا من الهواء المختزن فيها , ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان , ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام ! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما يريد العقل . . عاليا أو خافتا . سريعا أو بطيئا . خشنا أو ناعما . ضخما أو رفيعا . . إلى آخر أشكال الصوت وصفاته . ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان , يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة . وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين , يتم فيه الضغط المعين , ليصوت الحرف بجرس معين . .
وذلك كله لفظ واحد . . ووراءه العبارة . والموضوع . والفكرة . والمشاعر السابقة واللاحقة . وكل منها عالم عجيب غريب , ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب , بصنعة الرحمن , وفضل الرحمن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1- في ظلال القرآن لسيد قطب
2- من أسرار القرآن الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية للدكتور زغلـول النجـار.
3- تفسير الوسيط لسيد طنطاوي .
4- أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي .
5- تفسير الطبري .
6- تفسير البغوي .
7- التفسير الكبير المسمي بالبحر المحيط للأندلسي .