السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحباً بالغالية آية اللطف وعوداً حميداً بعد طول غياب
قرأتُ ما ورد بالرابط ولي عليه عدة ملاحظات :
أولاً : فحوى المقال تدور حول رد حد الردة بأدلة ذكروها – وجميعها مردود عليه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى – لكن على الرغم من ذلك فبالمقال فقرات تقر حد الردة كما يقرها الإجماع مثل هذه الفقرة :
فليس كل مرتد يُقتل وإنما يُقتل من كان مجاهراً بردته ، وهذا ما قلناه ، فمن اقتصر في ردته على نفسه فلم يعلن عنها ولم يجاهر بها فلا حد عليه ولم نؤمر بالتنقيب في قلوب العباد
وهذه الفقرة أيضاً مما يتناقض ما فحوى المقال ويوافق قول القائلين بقتل المرتد لمجرد الردة :
ثم إلى بعض الأدلة المذكورة والتي فندها العلماء كثيراً :
وأما قول الله تعالى : [لا إكراه في الدين] فالمقصود به أهل الكفر الأصلي ، لا يُكرَهون على الدخول في الدين ، وإنما عليهم الجزية ويبقون على دينهم ما شاؤوا ذلك ، وليس المقصود أولئك الذين وُلدوا على دين الإسلام ولا الذين اختاروا الدخول فيه بعد كفرهم ، ثم هم يريدون الارتداد عنه مرة أخرى ..
وأما قول الله تعالى [فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر] فمحمول على التهديد والوعيد – كما قال أهل العلم - لا على التخيير
فإن كانت الآيتان السابقتان تحتملان وجهين لتفسيرهما فلاشك أن الحديث الصحيح [من بدل دينه فاقتلوه] يرجح التفسير الذي أشرتُ إليه ويؤيده ، ولا يصح القول بالتعارض – هكذا مطلقاً – بين نصين صحيحين طالما كان هناك وجه للجمع بينهما
فكما قيل أن غالب الأحكام الشرعية لم تنقل بالتواتر، بل نقلت جمهرتها عن طريق الآحاد، ولو اتبعنا من يشكك في أخبار الآحاد، لضاع غالب الأحكام الشرعية، فلا يلتفت إلى هذا المسلك إلا عند التعارض المستعصي على الجمع أو النسخ ..
وأنقل هنا رد العلماء فقد قالوا : هذا استدلال بعيد، لأربعة أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن هذا الأعرابي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إقالته من البقاء في المدينة، ولم يصبر على ما أصابه فيها من المرض، لضعف إيمانه ولم يطلب الإقالة من الإسلام، وهذا ما فهمه جماهير العلماء، ومنهم شراح الحديث.
قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته، لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره.
قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه.
قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة، وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه، فلم يُقِله، والصحيح الأول ... " [شرح النووي على صحيح مسلم (9/155-156)]
وقال الحافظ في شرح هذا الحديث: "قال بن التين إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان.
قال [أي ابن التين] وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى: ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا﴾ فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)ففي هذا إشعار بان مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال بن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور.
وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها..." [فتح الباري 13/200)]
وقال الحافظ في شرح رواية البخاري: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة" [فتح الباري (4/97)]
الأمر الثاني: ما ورد في قصة معاذ وأبي موسى الأشعري ، عندما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، "فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ لأضربن عنقه" [صحيح البخاري، برقم (4088)]
وفي رواية: "فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه، قضى الله وقضى رسوله" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)]
وكلمة "قضى" تدل على أن قتل المرتد هو حكم قضائي يجب على ولي الأمر تنفيذه، وليس هو من باب التعزير كما زعم بعض الكتاب المعاصرين.
فهذا يهودي واحد خرج عن الإسلام، ولم يذكر في الحديث ما يدل على صفة أخرى استحق بها القتل غير الردة، ولو كان المرتد لا يقتل إلا إذا ضم إلى خروجه من الإسلام خروجه عليه، لذكر ذلك أبو موسى ومعاذ
الأمر الثالث: الأحاديث الصحيحة العامة في قتل من كفر بعد إيمانه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان)
فتبديل المسلم دينه، وهو كفره بعد إيمانه، وصف كاف في استحقاقه القتل، كما سبق... ولو كان يجب ضم معنى آخر إلى معنى الردة، لنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرتب الحكم الذي تزهق به الأرواح على معنى ناقص، يتنزه عنه شرع الله
الأمر الرابع: لو فرضنا أن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام كما جزم به القاضي عياض، فيجب حمله على أنه كان من المنافقين الذين كف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وعاشرهم كما عاشر عامة المسلمين، وبخاصة أن الرجل لم يعلن تركه الإسلام، وإنما اكتفى بخروجه بدون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[صحيح البخاري (صحيح البخاري، برقم (4622) وصحيح مسلم، برقم (2584)]
إنتهى النقل ..
وعلى أية حال فإن صاحب المقال إن كان يقصد بالمجاهر بردته هو ذاك الذي لا يقتصر على إعلانها وإنما يُشفع ذلك بالدعوة إليها ، فلم يبين لنا : أليس مجرد إعلان الردة – ودون عقوبة رادعة – هو دعوة إليها وتجرئة عليها ؟!
فما الذي يردع أي متشكك من الردة إذاً دون أن يتعنى مشقة البحث والاستقصاء ، طالما سيعلن ذلك وهو آمن مطمئن لا يخشى عاقبة وتردعه عقوبة ؟!
إن تـَرْك المرتد المجاهر بردته – وإن لم يدعُ لها – يوسع نطاق الردة ويهدد أمن المجتمع الإسلامي واستقراره ،
ثم لا ننسى أن هذا المرتد الذي يجاهر بردته دون أن يدعو إليها سيلحق بحكمه – عند القائلين بعدم قتله – ذاك المجاهر الذي لا يدعو لردته لكنه يكتفي بإعلانها مع المجاهرة بممارسته لطقوس دينه الجديد ، فحينها تشتعل غيرة الغيورين على دينهم وقد يفتكون به فتثور الفتن والقلائل في المجتمع المسلم ويتهدد أمن وسلامة الدولة المسلمة ، وحجة المرتد حينئذ أنه لم يدعُ أحداً للردة عن الإسلام !!
الذي فهمته من نهاية المقال أن صاحبه لا يعمد لرد حد الردة بناءًا على أدلة صحيحة غير مردودة بقدر ما يحاول رده لأجل إظهار وجه الإسلام المشرق بتعاليمه الإنسانية !! وكأن وجه الإسلام سيظلم إذا ثبت حد الردة !!
وهذا مسلك لا يختلف – برأيي – عن مسلك الرافضين للحدود بصفة عامة بدعوى الخوف من اتهام الإسلام بالوحشية والدموية والإرهاب ، وكأن الحدود قد وُضِعَت لغير جريمة ارتُكِبَت ، وكأن المُشرع ليس بالدراية الكافية التي تُمكنه من وضع العقوبات الملائمة للجرائم ، وهم الذين سيقومون بذلك الدور ، بل وكأنهم حريصون على الدين أكثر من رب الدين !!
الحدود وُضِعَت لأجل جرائم قد ارتُكِبت وثبتت على مرتكبيها ، وشرعها الحكيم العليم الذي لا يظلم مثقال ذرة وهو نفسه الذي أمرنا بدرء الحدود بالشبهات ، وهو الأحرص على دينه من عباده ، فأين الوجه الحالك وأين انعدامالانسانية والحال هكذا ؟!
ربما لا أستغرب لو كان الداعون - لعدم قتل المرتد بمجرد ردته - غير مسلمين ، فهذا منهم غير مستبعَد ، أما أولئك المسلمون الذين يوقنون أن دين الله الحق هو الإسلام ، ويؤمنون أن هؤلاء المرتدين سيقفون على شفير جهنم يتمنون العودة للدنيا ليكونوا مسلمين ، ويدخلون النار فيتقطعون ندماً وحسرة راجين الخروج ولو ليوم واحد ليؤمنوا بالله وحده ، فلعل هؤلاء المسلمين يدركون أن المرتدين سيأتي عليهم اليوم الذي يتمنون فيه لو ساقهم المسلمون إلى الإسلام سوقاً ولأكرهوهم عليه إكراهاً ، لا تفعيل حد الردة وإقامته فقط ، وسيأتي اليوم الذي يقف فيه أولئك حماهم حد الردة وردعهم عن التجرؤ على الكفر - في زمرة الناجين من العذاب - يحمدون ربهم قائلين : [الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله] .. فكيف لهؤلاء المسلمين السعي في تحجيم حد الردة وهو السياج العالي المتين الذي شرعه الله لحفظ أمن الدولة الإسلامية ولردع العابثين وحماية الملقين أنفسهم إلى التهلكة قبل أن يندموا وقت لا ينفعهم الندم ؟!
بارك الله فيكم ..
مرحباً بالغالية آية اللطف وعوداً حميداً بعد طول غياب
قرأتُ ما ورد بالرابط ولي عليه عدة ملاحظات :
أولاً : فحوى المقال تدور حول رد حد الردة بأدلة ذكروها – وجميعها مردود عليه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى – لكن على الرغم من ذلك فبالمقال فقرات تقر حد الردة كما يقرها الإجماع مثل هذه الفقرة :
وهو نفس ما أفتى به المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، قال: "ذهب جماعة من السلف والأئمة إلي أنه ليس كل مرتد يقتل، وإنما يقتل من كان مجاهرًا بردته أو داعيًا إلي فتنة أو معلنًا بأذى الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين، وقتله من أجل حماية الدين والمجتمع من فساده، وليس ذلك من مصادرة الحريات لما في فعله من التعدي علي حق غيره، ومصلحةُ الدولة والمجتمع مقدمتان علي المصلحة الفردية الذاتية
وهذه الفقرة أيضاً مما يتناقض ما فحوى المقال ويوافق قول القائلين بقتل المرتد لمجرد الردة :
أما مجرد أن يعتقد الإنسان بما يكفره شرعًا دون قول أو فعل منه يهدم مقومات المجتمع المسلم فليس مناط التجريم، فيما يبدو لي؛ لأن الاعتقاد أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو مناط الحساب في الآخرة"(13)
ثم إلى بعض الأدلة المذكورة والتي فندها العلماء كثيراً :
وأما الحديث الثاني فهو أقوى الأدلة عند من يقول إن قتل المرتد هو حد لمجرد الردة؛ وهذا متعارض مع قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256). وهي آية محكمة؛ لأنها كلية خلافًا لما ذهب إليه بعض المفسرين، فإن السنة لا تنسخ القرآن(8). وقوله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف: 29). وقوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ". (يونس: 99). فلم يبق إلا أن نفهم الحديث فهمًا آخر
وأما قول الله تعالى : [لا إكراه في الدين] فالمقصود به أهل الكفر الأصلي ، لا يُكرَهون على الدخول في الدين ، وإنما عليهم الجزية ويبقون على دينهم ما شاؤوا ذلك ، وليس المقصود أولئك الذين وُلدوا على دين الإسلام ولا الذين اختاروا الدخول فيه بعد كفرهم ، ثم هم يريدون الارتداد عنه مرة أخرى ..
وأما قول الله تعالى [فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر] فمحمول على التهديد والوعيد – كما قال أهل العلم - لا على التخيير
فإن كانت الآيتان السابقتان تحتملان وجهين لتفسيرهما فلاشك أن الحديث الصحيح [من بدل دينه فاقتلوه] يرجح التفسير الذي أشرتُ إليه ويؤيده ، ولا يصح القول بالتعارض – هكذا مطلقاً – بين نصين صحيحين طالما كان هناك وجه للجمع بينهما
"وقد يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيرا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبُت بحديث الآحاد
فكما قيل أن غالب الأحكام الشرعية لم تنقل بالتواتر، بل نقلت جمهرتها عن طريق الآحاد، ولو اتبعنا من يشكك في أخبار الآحاد، لضاع غالب الأحكام الشرعية، فلا يلتفت إلى هذا المسلك إلا عند التعارض المستعصي على الجمع أو النسخ ..
الأمر الثاني: ما رواه البخاري ومسلم من أن "أعرابيًّا بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا محمد أقلني بيعتي. فأبى ثم جاءه قال: يا محمد أقلني بيعتي؛ فأبى؛ فخرج الأعرابي، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها"، وقد ذكر الحافظ ابن حجر، والإمام النووي نقلاً عن القاضي عياض أن الأعرابي كان يطلب من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إقالته من الإسلام، فهي حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل ولا أمر بعقابه، بل تركه يخرج من المدينة دون أن يعرض له أحد
وأنقل هنا رد العلماء فقد قالوا : هذا استدلال بعيد، لأربعة أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن هذا الأعرابي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إقالته من البقاء في المدينة، ولم يصبر على ما أصابه فيها من المرض، لضعف إيمانه ولم يطلب الإقالة من الإسلام، وهذا ما فهمه جماهير العلماء، ومنهم شراح الحديث.
قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته، لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره.
قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه.
قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة، وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه، فلم يُقِله، والصحيح الأول ... " [شرح النووي على صحيح مسلم (9/155-156)]
وقال الحافظ في شرح هذا الحديث: "قال بن التين إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان.
قال [أي ابن التين] وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى: ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا﴾ فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)ففي هذا إشعار بان مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال بن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور.
وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها..." [فتح الباري 13/200)]
وقال الحافظ في شرح رواية البخاري: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة" [فتح الباري (4/97)]
الأمر الثاني: ما ورد في قصة معاذ وأبي موسى الأشعري ، عندما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، "فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ لأضربن عنقه" [صحيح البخاري، برقم (4088)]
وفي رواية: "فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه، قضى الله وقضى رسوله" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)]
وكلمة "قضى" تدل على أن قتل المرتد هو حكم قضائي يجب على ولي الأمر تنفيذه، وليس هو من باب التعزير كما زعم بعض الكتاب المعاصرين.
فهذا يهودي واحد خرج عن الإسلام، ولم يذكر في الحديث ما يدل على صفة أخرى استحق بها القتل غير الردة، ولو كان المرتد لا يقتل إلا إذا ضم إلى خروجه من الإسلام خروجه عليه، لذكر ذلك أبو موسى ومعاذ
الأمر الثالث: الأحاديث الصحيحة العامة في قتل من كفر بعد إيمانه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان)
فتبديل المسلم دينه، وهو كفره بعد إيمانه، وصف كاف في استحقاقه القتل، كما سبق... ولو كان يجب ضم معنى آخر إلى معنى الردة، لنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرتب الحكم الذي تزهق به الأرواح على معنى ناقص، يتنزه عنه شرع الله
الأمر الرابع: لو فرضنا أن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام كما جزم به القاضي عياض، فيجب حمله على أنه كان من المنافقين الذين كف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وعاشرهم كما عاشر عامة المسلمين، وبخاصة أن الرجل لم يعلن تركه الإسلام، وإنما اكتفى بخروجه بدون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[صحيح البخاري (صحيح البخاري، برقم (4622) وصحيح مسلم، برقم (2584)]
إنتهى النقل ..
وعلى أية حال فإن صاحب المقال إن كان يقصد بالمجاهر بردته هو ذاك الذي لا يقتصر على إعلانها وإنما يُشفع ذلك بالدعوة إليها ، فلم يبين لنا : أليس مجرد إعلان الردة – ودون عقوبة رادعة – هو دعوة إليها وتجرئة عليها ؟!
فما الذي يردع أي متشكك من الردة إذاً دون أن يتعنى مشقة البحث والاستقصاء ، طالما سيعلن ذلك وهو آمن مطمئن لا يخشى عاقبة وتردعه عقوبة ؟!
إن تـَرْك المرتد المجاهر بردته – وإن لم يدعُ لها – يوسع نطاق الردة ويهدد أمن المجتمع الإسلامي واستقراره ،
ثم لا ننسى أن هذا المرتد الذي يجاهر بردته دون أن يدعو إليها سيلحق بحكمه – عند القائلين بعدم قتله – ذاك المجاهر الذي لا يدعو لردته لكنه يكتفي بإعلانها مع المجاهرة بممارسته لطقوس دينه الجديد ، فحينها تشتعل غيرة الغيورين على دينهم وقد يفتكون به فتثور الفتن والقلائل في المجتمع المسلم ويتهدد أمن وسلامة الدولة المسلمة ، وحجة المرتد حينئذ أنه لم يدعُ أحداً للردة عن الإسلام !!
الذي فهمته من نهاية المقال أن صاحبه لا يعمد لرد حد الردة بناءًا على أدلة صحيحة غير مردودة بقدر ما يحاول رده لأجل إظهار وجه الإسلام المشرق بتعاليمه الإنسانية !! وكأن وجه الإسلام سيظلم إذا ثبت حد الردة !!
وهذا مسلك لا يختلف – برأيي – عن مسلك الرافضين للحدود بصفة عامة بدعوى الخوف من اتهام الإسلام بالوحشية والدموية والإرهاب ، وكأن الحدود قد وُضِعَت لغير جريمة ارتُكِبَت ، وكأن المُشرع ليس بالدراية الكافية التي تُمكنه من وضع العقوبات الملائمة للجرائم ، وهم الذين سيقومون بذلك الدور ، بل وكأنهم حريصون على الدين أكثر من رب الدين !!
الحدود وُضِعَت لأجل جرائم قد ارتُكِبت وثبتت على مرتكبيها ، وشرعها الحكيم العليم الذي لا يظلم مثقال ذرة وهو نفسه الذي أمرنا بدرء الحدود بالشبهات ، وهو الأحرص على دينه من عباده ، فأين الوجه الحالك وأين انعدامالانسانية والحال هكذا ؟!
ربما لا أستغرب لو كان الداعون - لعدم قتل المرتد بمجرد ردته - غير مسلمين ، فهذا منهم غير مستبعَد ، أما أولئك المسلمون الذين يوقنون أن دين الله الحق هو الإسلام ، ويؤمنون أن هؤلاء المرتدين سيقفون على شفير جهنم يتمنون العودة للدنيا ليكونوا مسلمين ، ويدخلون النار فيتقطعون ندماً وحسرة راجين الخروج ولو ليوم واحد ليؤمنوا بالله وحده ، فلعل هؤلاء المسلمين يدركون أن المرتدين سيأتي عليهم اليوم الذي يتمنون فيه لو ساقهم المسلمون إلى الإسلام سوقاً ولأكرهوهم عليه إكراهاً ، لا تفعيل حد الردة وإقامته فقط ، وسيأتي اليوم الذي يقف فيه أولئك حماهم حد الردة وردعهم عن التجرؤ على الكفر - في زمرة الناجين من العذاب - يحمدون ربهم قائلين : [الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله] .. فكيف لهؤلاء المسلمين السعي في تحجيم حد الردة وهو السياج العالي المتين الذي شرعه الله لحفظ أمن الدولة الإسلامية ولردع العابثين وحماية الملقين أنفسهم إلى التهلكة قبل أن يندموا وقت لا ينفعهم الندم ؟!
بارك الله فيكم ..
تعليق