--------------------------------------------------------------------------------
ومن هذه الشبهات التي ضخمها المستشرقون: ما يتعلق بملابس أهل الذمة وأزيائهم، وما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اشترط عليهم ألا يتشبهوا بالمسلمين في ثيابهم وسروجهم ونعالهم، وأن يضعوا في أوساطهم أو على أكتافهم شارات معينة تميزهم عن المسلمين. وينسب ذلك إلى عمر بن عبد العزيز أيضا.
ومن المستشرقين المؤرخين من يشكك في نسبة الشروط أو الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب؛ لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور لم تشتمل عليها (كتب الطبري، والبلاذري، وابن الأثير، واليعقوبي... وغيرهم)([42]) وأنا مع هؤلاء.
و(الشروط العمرية) التي تنسب إلى عمر بن الخطاب، والتي شرحها ابن القيم في جزأين لم تثبت نسبتها إلى عمر بسند صحيح، وهذا ما اعترف به ابن القيم وغيره، ولكنه ادعى أن شهرتها تُغني عن ثبوت سندها. وهو ما لا نسّلمه، فكم من أمور تشتهر بين الناس -حتى بين أهل العلم منهم- ويتناقلها بعضهم عن بعض، وهي في الحقيقة لا أصل لها.([43]) فالمدار في إثبات النقول على صحة السند، وسلامته من الشذوذ والعلة.
على أن الأمر أهون من أن يتكلف إنكاره ورده، لو عرفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.
فهو ليس أمرًا دينيًّا يتعبد به في كل زمان ومكان كما فهم ذلك جماعة من الفقهاء، وظنوه شرعا لازما، وهو -إن صح- ليس أكثر من قرار إداري أو أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك، ولا مانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيُلغى هذا الأمر أو يُعدل.
لقد كان التمييز بين الناس تبعا لأديانهم أمرًا ضروريًّا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييز غير الزي؛ حيث لم يكن لديهم نظام (الهويات) أو البطاقات الشخصية المعروف في عصرنا، التي يسجل فيها -مع اسم الشخص ولقبه ـ دينه وحتى مذهبه في بعض البلدان، فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار تلك الأوامر والقرارات. ولهذا لا نرى في عصرنا أحدا من فقهاء المسلمين، يرى ما رآه الأولون من طلب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.
ويسرني أن أنقل هنا ما كتبه الدكتور الخربوطلي في توضيح هذه القضية ودوافعها، فقد قال[44]) "ونحن نرى أنه لو افترضنا جدلا حقيقة هذه الأوامر الصادرة عن الخليفتين، فقد كان هذا لا غبار عليه، فهو نوع من التحديد للملابس في نطاق الحياة الاجتماعية، للتمييز بين أصحاب الأديان المختلفة، وبخاصة أننا في وقت مبكر من التاريخ، ليس فيه بطاقات تثبت الشخصية، وما تحمله عادة من تحديد الجنسية والدين والعمر وغير ذلك، فقد كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات دين كل من يرتديها، وكان للعرب المسلمين ملابسهم، كما للنصارى أو اليهود أو المجوس ملابسهم أيضا، وإذا كان المستشرقون قد اعتبروا أن تحديد شكل ولون الثياب هو من مظاهر الاضطهاد، فنحن نقول لهم: إن الاضطهاد في هذه الصورة يكون قد لحق بالمسلمين وأهل الذمة على السواء. وإذا كان الخلفاء ينصحون العرب والمسلمين بألا يتشبهوا بغيرهم، فمن المنطقي أن يأمروا غير العرب وغير المسلمين ألا يتشبهوا بالعرب المسلمين".
وناقش المؤرخ (ترتون)([45]) هذه المسألة أيضا، وأبدى رأيه فيها فقال: "كان الغرض من القواعد المتعلقة بالملابس: سهولة التمييز بين النصارى والعرب، وهذا أمر لا يرقى إليه شك؛ بل نراه مقررا تقريرا أكيدا عند كل من أبي يوسف([46]) وابن عبد الحكم، وهما من أقدم الكُتاب الذين وصلت كتبهم إلينا، على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف ما يلبسه المسلمون؛ إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام. على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن؛ إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم، والتشبه في ثيابهم. ومهما يكن الرأي فإن كانت هذه الأوامر التي تحدد أنواع وأشكال الملابس حقيقية، فإنها لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية.
وهناك فرق بين وجود القانون ومدى تطبيق هذا القانون، فقد انتهج معظم الخلفاء، والولاة المسلمين سياسة تسامح وإخاء ومساواة، ولم يتدخلوا كثيرا في تحديد ملابس أهل الذمة، ولم ترتفع أصوات مطلقا بالشكوى أو الاحتجاج.
وهناك أدلة تاريخية تثبت هذه الحقائق التي ذكرناها، فقد كان الأخطل الشاعر النصراني (المتوفى سنة 95هـ) يدخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعليه جبة وحرز من الخز، وفي عنقه سلسلة بها صليب من الذهب، وتتعصر لحيته خمرا([47]) ويحسن الخليفة استقباله!
كما أن الاتفاقية التي وقعها المسلمون في سنة 89هـ مع (الجراجمة) المسيحيين الذين يسكنون المناطق الجبلية من بلاد الشام تضمنت النص على أن يلبس الجراجمة لباس المسلمين.([48])
تحدث أبو يوسف عن لباس أهل الذمة وزيهم فقال: "لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه، ولا في مركبه، ولا في هيئته". واعتمد أبو يوسف في تفسير ذلك على قول عمر بن الخطاب: "حتى يُعرف زيهم من زي المسلمين". أي أنه لا اضطهاد في الأمر، إنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء، لكل طائفة أو أصحاب حرفة أو مهنة زي واحد يميزهم.
ومن هذه الشبهات التي ضخمها المستشرقون: ما يتعلق بملابس أهل الذمة وأزيائهم، وما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اشترط عليهم ألا يتشبهوا بالمسلمين في ثيابهم وسروجهم ونعالهم، وأن يضعوا في أوساطهم أو على أكتافهم شارات معينة تميزهم عن المسلمين. وينسب ذلك إلى عمر بن عبد العزيز أيضا.
ومن المستشرقين المؤرخين من يشكك في نسبة الشروط أو الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب؛ لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور لم تشتمل عليها (كتب الطبري، والبلاذري، وابن الأثير، واليعقوبي... وغيرهم)([42]) وأنا مع هؤلاء.
و(الشروط العمرية) التي تنسب إلى عمر بن الخطاب، والتي شرحها ابن القيم في جزأين لم تثبت نسبتها إلى عمر بسند صحيح، وهذا ما اعترف به ابن القيم وغيره، ولكنه ادعى أن شهرتها تُغني عن ثبوت سندها. وهو ما لا نسّلمه، فكم من أمور تشتهر بين الناس -حتى بين أهل العلم منهم- ويتناقلها بعضهم عن بعض، وهي في الحقيقة لا أصل لها.([43]) فالمدار في إثبات النقول على صحة السند، وسلامته من الشذوذ والعلة.
على أن الأمر أهون من أن يتكلف إنكاره ورده، لو عرفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.
فهو ليس أمرًا دينيًّا يتعبد به في كل زمان ومكان كما فهم ذلك جماعة من الفقهاء، وظنوه شرعا لازما، وهو -إن صح- ليس أكثر من قرار إداري أو أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك، ولا مانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيُلغى هذا الأمر أو يُعدل.
لقد كان التمييز بين الناس تبعا لأديانهم أمرًا ضروريًّا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييز غير الزي؛ حيث لم يكن لديهم نظام (الهويات) أو البطاقات الشخصية المعروف في عصرنا، التي يسجل فيها -مع اسم الشخص ولقبه ـ دينه وحتى مذهبه في بعض البلدان، فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار تلك الأوامر والقرارات. ولهذا لا نرى في عصرنا أحدا من فقهاء المسلمين، يرى ما رآه الأولون من طلب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.
ويسرني أن أنقل هنا ما كتبه الدكتور الخربوطلي في توضيح هذه القضية ودوافعها، فقد قال[44]) "ونحن نرى أنه لو افترضنا جدلا حقيقة هذه الأوامر الصادرة عن الخليفتين، فقد كان هذا لا غبار عليه، فهو نوع من التحديد للملابس في نطاق الحياة الاجتماعية، للتمييز بين أصحاب الأديان المختلفة، وبخاصة أننا في وقت مبكر من التاريخ، ليس فيه بطاقات تثبت الشخصية، وما تحمله عادة من تحديد الجنسية والدين والعمر وغير ذلك، فقد كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات دين كل من يرتديها، وكان للعرب المسلمين ملابسهم، كما للنصارى أو اليهود أو المجوس ملابسهم أيضا، وإذا كان المستشرقون قد اعتبروا أن تحديد شكل ولون الثياب هو من مظاهر الاضطهاد، فنحن نقول لهم: إن الاضطهاد في هذه الصورة يكون قد لحق بالمسلمين وأهل الذمة على السواء. وإذا كان الخلفاء ينصحون العرب والمسلمين بألا يتشبهوا بغيرهم، فمن المنطقي أن يأمروا غير العرب وغير المسلمين ألا يتشبهوا بالعرب المسلمين".
وناقش المؤرخ (ترتون)([45]) هذه المسألة أيضا، وأبدى رأيه فيها فقال: "كان الغرض من القواعد المتعلقة بالملابس: سهولة التمييز بين النصارى والعرب، وهذا أمر لا يرقى إليه شك؛ بل نراه مقررا تقريرا أكيدا عند كل من أبي يوسف([46]) وابن عبد الحكم، وهما من أقدم الكُتاب الذين وصلت كتبهم إلينا، على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف ما يلبسه المسلمون؛ إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام. على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن؛ إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم، والتشبه في ثيابهم. ومهما يكن الرأي فإن كانت هذه الأوامر التي تحدد أنواع وأشكال الملابس حقيقية، فإنها لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية.
وهناك فرق بين وجود القانون ومدى تطبيق هذا القانون، فقد انتهج معظم الخلفاء، والولاة المسلمين سياسة تسامح وإخاء ومساواة، ولم يتدخلوا كثيرا في تحديد ملابس أهل الذمة، ولم ترتفع أصوات مطلقا بالشكوى أو الاحتجاج.
وهناك أدلة تاريخية تثبت هذه الحقائق التي ذكرناها، فقد كان الأخطل الشاعر النصراني (المتوفى سنة 95هـ) يدخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعليه جبة وحرز من الخز، وفي عنقه سلسلة بها صليب من الذهب، وتتعصر لحيته خمرا([47]) ويحسن الخليفة استقباله!
كما أن الاتفاقية التي وقعها المسلمون في سنة 89هـ مع (الجراجمة) المسيحيين الذين يسكنون المناطق الجبلية من بلاد الشام تضمنت النص على أن يلبس الجراجمة لباس المسلمين.([48])
تحدث أبو يوسف عن لباس أهل الذمة وزيهم فقال: "لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه، ولا في مركبه، ولا في هيئته". واعتمد أبو يوسف في تفسير ذلك على قول عمر بن الخطاب: "حتى يُعرف زيهم من زي المسلمين". أي أنه لا اضطهاد في الأمر، إنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء، لكل طائفة أو أصحاب حرفة أو مهنة زي واحد يميزهم.
تعليق