ربما فرح بعض المسيحيين بكثرة عددهم في العالم بعد أن أصدر معهد "بيو" في الولايات المتحدة دراسة مطولة عن وضع النصرانية، فظهر أنهم أكثر المتدينين عددا، وأن المسلمين أقل منهم. فرح له مبرراته وتفسيراته، خاصة أن العرب والمسلمين انتابتهم يقظة حقيقية بدأت بصحوة تطورت إلى حركة وتوجت حاليا بالثورة. وهل الكثرة مهمة إلى هذا الحد؟ لكن ماذا تخفي الكثرة؟ وأين يوجد المسيحيون؟ ولماذا هاجرت النصرانية من معاقلها التاريخية وهزلت، في حين تضخمت وأقبل عليها الفقراء والمغامرون والحالمون والمتطرفون؟ أسئلة تنتصب أمام المراقب حول تحولات الخريطة الدينية في العالم خلال الأزمنة الحديثة.
أكثر من مليارين
يشكل المسيحيون ثلثي عدد سكان العالم بـ 2.2 مليار نصراني، حسب معطيات معهد "بيو" التي نشرت يوم 19 ديسمبر 2011 على موقعه الإلكتروني. نصفهم كاثوليك، و37% بروتستانت، و12 % أرثوذوكس. النصارى، إذا هم في الصدارة بين المتدينين، بمن فيهم المنافسون الألداء، المسلمون الذين يلاحقونهم في المرتبة الثانية.
وتضاعف عدد المسيحيين ثلاث مرات خلال قرن كامل، مثلهم في ذلك مثل سكان العالم الذين انتقلوا من 1.8 مليار عام 1910 إلى 6.9 مليار عام 2010. لكنها في الحقيقة ليست زيادة بالنظر إلى سكان العالم، فقد كانت 35 %في مطلع القرن العشرين، وهي اليوم 32 %. لكن الذي تغير هو الخريطة، إذ إن النصرانية شهدت إعادة انتشار، فغادرت معاقلها السابقة في أوروبا نحو مناطق وجهات أخرى، خاصة الأمريكيتين والقارة الإفريقية والقارة الآسيوية.
معهد "بيو"- الذي اعتمد على 2400 مصدر- أشار فعلا إلى أن القارات الخمس لم تستفد من انتشار المسيحية على قدم المساواة.
كانت أوروبا تضم أكبر عدد من المسيحيين بنسبة 66% مع بداية القرن العشرين، لكنها اليوم تتساوى مع إفريقيا جنوب الصحراء، فللقارة العتيقة نسبة 25.9 %من النصارى، وللقارة السمراء نسبة 23.6 % من المسيحيين في العالم. ولكن 37 % من المسيحيين، يوجدون اليوم في القارة الأمريكية.
مثل واضح عن هذا الانقلاب الجذري بين هولندا والبرازيل، البلدان الكاثوليكيان. منذ نصف قرن تقريبا، كانت هولندا من أهم مصدري البعثات التنصيرية والنخب الدينية إلى البرازيل، ولكن اليوم صارت البرازيل ترسل قساوستها لسد الفراغ الحاصل في هولندا. فراغ دفع أسقفية منطقة دين بوش جنوب البلاد إلى دراسة إمكانية الاحتفاظ بخمس الأبرشيات البالغ عددها 250 أبرشية، بينما معظم الكنائس تحولت إلى متاحف ومكتبات، بل والهدم أحيانا.
مسيحية إفريقيا
أضخم نسبة من النصارى هي التي سجلت في إفريقيا، إذ تضاعف العدد ستين مرة، منتقلا من 8 مليون عام 1910 إلى 516 مليون عام 2010. ذلك أن هذه القارة بقيت قرونا متطاولة تدين بأديانها القديمة - ما عدا المناطق التي عرفت الإسلام- وظلت فقيرة متخلفة حتى صدمها الاستعمار الغربي، مسبوقا بالبعثات التبشيرية، ولما رحلت الجيوش الغازية بقيت الكنائس وقد اتخذت طابعا محليا، وذهبت الثروات والأراضي، وبقي لهم الكتاب المقدس، كما علق أحد حكماء إفريقيا.
وليس الاستعمار القديم والغزو الثقافي والسياسي والاقتصادي - وحتى التدخل العسكري في مرات كثيرة - مسؤولا وحده عن ذلك، بل إن غياب الدعوة الإسلامية وضمورها، نتيجة انكماش المسلمين على أنفسهم وتراجعهم الديني والثقافي والحضاري يعد من أهم الأسباب.
والتاريخ يقرأ في كثير من الأحيان قراءات خاطئة، فالأندلس مثلا ضاعت بسبب التفريط في الدعوة، كما ذهب إلى ذلك الدكتور أحمد الريسوني في ملتقى لترشيد التدين نظمته حركة التوحيد والإصلاح في الدار البيضاء عام 2010، وتقسيم السودان إلى شمال وجنوب، سببه أيضا التفريط في الدعوة. وتاريخ إفريقيا الديني يظهر أيضا أن تفريط المسلمين في الدعوة هو سبب سقوط القارة السمراء في براثن الاستعمار والتبشير. ولولا استقرار الإسلام في شمال إفريقيا وبعض الدول جنوب الصحراء، ولولا رجال مؤمنون نذروا أنفسهم وأموالهم للدعوة في كثير من المجاهل الإفريقية، لكانت الخريطة المسيحية في هذه القارة أضخم من ذلك.
بعيدا عن المعاقل
تاريخيا، ظلت أوروبا معقل المسيحية منذ العصر الروماني. لكنها اليوم لم تعد كذلك، إذ انتقل الثقل نحو الأمريكيتين، فعدد المسيحيين في الولايات المتحدة يقارب 246 مليونا، والبرازيل يصل إلى 175 مليونا، تتبعهما المكسيك بأكثر من 107 ملايين، وهذا يساوي 90 % من عدد سكانها. والصين أيضا صارت من أكبر الدول مسيحية، ومع أن 5 في المائة من سكانها مسيحيون، إلا أنهم يشكلون 3.1 %من نصارى العالم، أي 67 مليون شخص. فأين منها ألمانيا مسقط رأس البابا الحالي بـ 58 مليون مسيحي، وإثيوبيا بـ52 مليون مسيحي. الدراسة أظهرت أيضا أن 10 % من المسيحيين يعيشون أقليات في بلدانهم.
ويذكر التاريخ القديم أن شمال إفريقيا كان مسيحيا، بل مهد المسيحية، لكن المسيحيين اليوم لا يتجاوزون 4 %من السكان، أي 13 مليون مسيحي. ولنقارن بين ألمانيا معقل الإصلاح البروتستانتي، ونيجيريا التي يوجد بها ضعفا بروتستانتيي ألمانيا.
فرنسا لم تعد كاثوليكية
عشر دول يوجد بها نصف الكاثوليكيين، وبأكثر من 133 مليون مسيحي، تستحوذ البرازيل على 12 %من كاثوليكيي العالم، فهذا البلد الذي سيحتضن الأيام العالمية للشباب المسيحي عام 2013، يضم من الكاثوليكيين أضعاف ما يوجد في إيطاليا عاصمة الكنيسة الكاثوليكية، وفرنسا وإسبانيا مجتمعة. وبعيدا عنه تأتي المكسيك في المرتبة الثانية بـ 96 مليون كاثوليكي، والفلبين بـ 76 مليون كاثوليكي.
المفاجأة الكبرى هي احتلال فرنسا للمرتبة السابعة بـ 38 مليون كاثوليكي، مع أنها تلقب بالبنت الكبرى للكنيسة الكاثوليكية، لكن الكاثوليك صاروا أقلية فيها. وبذلك تكون فرنسا هي ثاني بلد أوروبي كاثوليكي بعد إيطاليا. بولونيا وإسبانيا في المرتبة الثامنة والتاسعة.
ولكن لفرنسا قصة فريدة مع الكاثوليكية اتسمت بالتطرف والتشدد لدى جانبي الصراع السياسي الطويل، العلمانية الحداثية والكنيسة المحافظة، وهو صراع استغرق وقتا طويلا جدا ليجد الحل في نهاية المطاف في قانون 1905 الذي حدد العلاقة بين الدولة والدين. ومع مرور الوقت وتغير البنيات التربوية تراجعت الكنيسة والكاثوليكية تحت ضربات العلمانية والإباحية الجنسية معا، وتحولت الكاثوليكية إلى أقلية. ثم جاء الإسلام فساءت أحوال المسيحية عامة والكاثوليكية خاصة.
وكان البحث الجديد حول القيم عند الأوروبيين الذي نشر سنة 2008 قد كشف عن تغير كبير في ساحة التدين الغربي عامة، والأوروبي خاصة، إذ توارى التدين الكاثوليكي إلى الوراء، وصعد بالمقابل التدين البروتستانتي والإسلامي، والتدين المتحرر من كل التزام، أو ما سماه الباحثون "الإيمان بلا انتماء".
فهناك اليوم 47 % من الأوروبيين لديهم إحساس ديني شخصي بعيد عن المؤسسات التقليدية ولا حاجة لهم إلى الكنائس أو الخدمات الدينية. و41 %من الفرنسيين لديهم إحساس بالروحانية. وللمقارنة، في سنة 1981 كان عدد كبير من الفرنسيين يعلنون انتماءهم الديني بنسبة 71 %، في حين كانت نسبة المؤمنين بالرب 62%. اليوم انقلب الوضع رأسا على عقب، فصارت نسبة الذين يعلنون الاعتقاد في الرب 53 %، والمؤمنون بدين ما نسبتهم 50 %، مع أن أكثر المؤمنين غير ملتزمين عمليا ولا يعملون عملا دينيا، إذ أن 57 %منهم يحضرون مناسبة دينية مرة في السنة على الأكثر، و39 %لا يذهبون إلى أي مناسبة أبدا. وانتقل عدد غير المنتمين دينيا من 18 %سنة 1981 إلى 30 %سنة 1994، ثم إلى 33 %سنة 2008.
فما تفسير ذلك عند الخبراء الدينيين؟ يرى كلود دارجون، الباحث في علم الاجتماع الديني والمختص في الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام، أن هذه التحولات لا تعني نبذ الدين والتخلي عنه، بقدر ما تعني رسوخه في الفرد والمجتمع، ولكن التدين يتحول بسبب النزعة الفردانية المسيطرة حاليا، كما يعني فشل القادة الدينيين في التكيف مع التغيرات الحادثة وفي تقديم عرض ديني مناسب.
وتأكد بالبحث الميداني أن الكاثوليكية تعيش شيخوخة قاتلة، إذ إن الفئة الأكثر تمثيلية للكاثوليكية هي فئة ما فوق الستين من العمر، وإذا كانت نسبة الفرنسيين الذين أعلنوا عن كاثوليكيتهم هي 53 % سنة 1999، فإنها اليوم لا تتجاوز 42 %سنة 2008. وبهذه النسبة يصبح الكاثوليكيون مجرد أقلية.
ومما يضاعف قلق الكاثوليكية الظهور المتزايد للالتزام الديني لدى البروتستانت والمسلمين، خاصة أولئك الذين يؤدون الصلاة يوميا. فإذا كانت نسبة الكاثوليكيين الذين يصلون يوميا هي 16 %، فإنها عند البروتستانت 41 %، ولدى المسلمين 57%. بينما كانت نسبة الكاثوليك سنة 1999 هي 73 %، وعند اللامنتمين 13 %، وعند البروتستانت 8%.
تشاؤم الشمال وتفاؤل الجنوب
التوجه نحو النصف الجنوبي للكرة الأرضية للتبشير وكسب أتباع جدد ليس خاصا بالكاثوليكية، بل هو قاسم مشترك مع البروتستانتية الإنجيلية. ففي عام واحد ، هو عام 2010، حطت الملتان المسيحيتان كل ثقلهما في القارة الإفريقية للتوسع والانتشار. وأظهرت دراسة لمعهد “بيو” أيضا حول القادة الدينيين الإنجيليين نشرت في يونيو 2011، أن النخبة الدينية البروتستانتية في جنوب الكرة الأرضية أكثر تفاؤلا بمستقبل البروتستانتية، بينما يسيطر التشاؤم على نظيرتها في الجزء الشمالي.
7 من عشرة من القيادات الدينية الإنجيلية ممن يعيشون في بلدان الجنوب، أي 70 %، يتوقعون أن تكون السنوات الخمس المقبلة أحسن حالا بالنسبة لوضع الإنجيلية مقارنة مع الحاضر. لكن معظم القادة الدينيين الإنجيليين في الشمال لا يتوقعون تقدما، بل جمودا، بنسبة 21 %منهم، إن لم يكن تراجعا، بنسبة 33 %منهم. ويرى 58 %من قادة الجنوب أن الإنجيلية يزداد تأثيرها في الحياة العامة لبلدانهم، في حين أن 66 %من قادة الشمال يقولون إن الإنجيلية ماضية في الضعف وفقدان التأثير. القادة الإنجيليون الأمريكيون أكثر النخب تشاؤما إذ يرى 82 %منهم أن الإنجيلية تفقد تأثيرها في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما لا يتفاءل منهم سوى 17%.
الدين لا يموت
تغيير الديار وإعادة الانتشار، ليست خاصة بالمسيحية، ولكنها ظاهرة دينية عالمية معاصرة تثبت أن الدين لا يموت في النفس ولا في المجتمع ولا في السياسة، ولكنه يغير جلده وموقعه ولسانه وسلاحه أيضا.
هجرة المسيحية من أوروبا نحو الشرق والغرب والجنوب إحدى تجليات الصراع بين الدين والسياسة، والكنيسة والدولة، فلما انتصرت السياسة والدولة تراجعت الكنيسة في تلك القارة لتعيد النظر في نفسها وفي منهجها، وما لبثت أن وجدت ساحات أخرى للتعبير عن نفسها وتجديد ذاتها.
وللتغيرات المسيحية تفسير داخلي يتعلق بالتنافس بين الكاثوليكية والبروتستانتية، إذ إن كثيرا من القلوب والأفئدة في الولايات والمتحدة والأمريكتين وإفريقيا وآسيا كانت كاثوليكية، ثم تحولت إلى البروتستانتية، خاصة الإنجيلية الأمريكية، لعدة أسباب، منها الإصلاحات العقدية، مثل بشرية المسيح ونبوته، وليس إلهيته، والتحرر من سلطة الكرسي الرسولي ونوابه، ونزع احتكار المعرفة بالإنجيل من يد القساوسة وتعميمها على الجميع، ومشاعية الكرامات والعلاج بالإنجيل، والرسالية في الحياة الخاصة والعامة للأفراد والجماعات والدول، والنزوع نحو الهيمنة العالمية والتفسير الديني للعمل السياسي.
والظاهر أن البروتستانتية أكثر حيوية ونشاطا من الكاثوليكية التي أثقلتها الفضائح الجنسية المتتالية وهربت كثيرا من المؤمنين بها نحو الحيرة والتدين الفردي والإلحاد والبروتستانتية والإسلام أيضا.
وتجمع الكاثوليكية والبروتستانتية على أن أخطر منافس لهما هو الإسلام، فحيثما حل حافظ على مكتسباته وزاد عليها، بل وهاجم المسيحية في عقر دارها من دون خيل ولا ركاب. فلم يعد الإسلام مشرقيا ولا عربيا فقط، ولكنه هو الآخر صار عالميا، بل فرض نفسه دينا رسميا في أوروبا وأمريكا.
لذلك شددت غالبية مهمة من القادة الدينيين المسيحيين على أهمية تنصير المسلمين 59 في المائة اعتبروا الأمر من الأولويات المطلقة. ولا يقتصر الأمر على تنصير المسلمين، بل إن 87 في المائة من القادة المسيحيين الإنجيليين الذين يعيشون في بلدان هندوسية يرون أن تنصير الهندوس من أهم الأولويات، و83 في المائة من القادة الذين يعيشون في بلدان بوذية يرون أن تنصير البوذيين من أهم الأولويات أيضا.
http://www.islamonline.net/ara/article/1304971240147
تعليق