هذا بلعام من بنى اسرائيل
فيقولُ اللهُ سبحانه في محكم كتابه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
هذا المثلُ ضربَهُ اللهُ سبحانَه وتعالى مثلا لكلِ من جحدَ نعمةَ اللهِ ورد معروفَ الله عز وجل، فإن كثيرا من الناسِ ينعمُ اللهُ عليهم بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنة فيكفرونَها، ويردُونها، ويجحدونَها فيسلِبُها سبحانه وتعالى منهم، ثم ينكِلُ بهم عز وجل جزاءَ ما جحدوا من المعروفِ وانكروا من الجميل.
نعم، كثيرُ من الناسِ يمنحُهم اللهُ الشبابَ فيفسدونَ ويستغلونَه فيما يبعدُهم من الله عز وجل فيسلبَ اللهُ الشبابَ منهم.
وكثيرُ منهم يرزُقهم اللهُ الصحةَ في الأجسام فلا يرون اللهَ عز وجل ثمرةَ هذه الصحةَ والعافيةَ فيأخذُهم اللهُ عز وجل بهذا.
وكثيرُ يمنحُهم اللهُ الأموالَ فلا يؤدونَ حق اللهَ في الأموال بل يجعلونَها سلما إلى المعاصي، وسببا إلى المناكرِ والفواحش فيأخذُهم اللهُ عز وجل ويحاسبُهم بأموالِهم.
فاللهُ عز وجل يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنا، هذا الرجل أسمُه بلعام من بني إسرائيل، منحهُ اللهُ عز وجل نعمةَ العلم والفهم والفقه، ولكنَه ما أستغلَها في ما يقربُه من اللهِ عز وجل، بل نسيَ حق اللهِ وموعودَ اللهِ وأمر اللهِ عز وجل ثم عصاه سبحانَه وتعالى.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، لم يقل من المغوِين أو من المغوَين، وإنما من الغاوين لأنَه أصبح قائدا في الضلالة، وأصبحَ أستاذا في الجهالة، لأن الناسَ اقتدوا به في أن يضلوا.
هذا الرجلُ كما قال أهلُ التفسير كان مع موسى عليه السلام، علمَهُ اللهُ التوراة، فلما تعلَمها ذهبَ إلى قومِ كفارٍ ليفاوضَهم على الصلحِ لموسى عليه السلام، فلما رأى دنياهَم وكنوزَهم وذهبَهم وفضتَهم استهواهُ هذا فكفرَ باللهِ العظيم، وقدمَ الدنيا على الآخرة، وقدمَ موعودِ أهلِ الدنيا على موعودِ ربِ الدنيا والآخرة فسلبَ اللهُ نعمةَ الفقِه والفَهمِ منه وترَكَه بليدا كالحمارِ، مؤخرا كالخنزيرِ، نجسا كالكلبِ نعوذ باللهِ من ذلك.
حتى قال سبحانَه وتعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، أي لو شئنا أن يرتفَعَ بلا إله إلا الله، وبمعنى لا إله إلا الله لرفعناه بها، وهذا جزاءُ العبدُ الذي يرتفعُ بالطاعة، وجزاءَ العبدُ الذي يحبُ أن يتقربَ إلى اللهِ عز وجل بطاعتِه أن يرفعَه الله، أما العبدُ الذي يتأخرُ إلى المعصيةِ، ويتأخرُ في كلِ ما يقربُه من الله، فلا يزالُ يتأخرُ حتى يأخرُه الله في من عنده.
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، أي حبَ الدنيا على الآخرة وأتبعَ هواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
يقولُ عز وجل مثلُ هذا الرجلِ كمثلِ الكلب، والكلبُ من طبيعتِه أنه يلهث، يمدُ لسانَه ويلهثُ نفسَه سواءً في الظلِ أو في الشمس، فهذا مثلُ رجلٍ يلهثُ في الجهلِ وفي المعصيةِ سواءً تعلمَ أو لم يتعلم، لأن قلبَه خبيث ولأن فيهِ مكرُ ولأنَه صادُ عن اللهِ عز وجل، وإلا فلو كان فيه خيرُ يومَ أن قربَه اللهُ عز وجل إليه عرفَ النعمةَ وعرف الجميل وعرف عطاء اللهِ عز وجل فأنقادَ إلى الله.
وضربَ اللهُ في القرآنِ مثلا للأممِ والشعوبِ يوم تنحرفُ:
يوم تنحرفُ عن منهجِ الله عز وجل، يومَ تتركُ طرقَ المساجد وتميلُ إلى الخمارات، يومَ تتركُ سماعَ كتابِ الله عز وجل وتميلُ إلى استماعِ الغنى.
يومَ تتجهُ من منهجِ محمدٍ (صلى اللهُ عليه وسلم) والسنةُ المطهرة وتميلُ إلى كتبِ الشياطين من الإنس والجن.
يومَ تعكفُ وتسهرُ على الأفلامِ وعلى الأغاني الماجنة.
يومَ تُرخصُ قيمَها ودينَها ومبادَئها وأخلاقَها وسنةَ نبيَها (صلى اللهُ عليه وسلم) ماذا يصنعُ اللهُ عز وجل بها؟
يدمرُ شبابَها، ويبعدُ سبحانَه وتعالى علمَائَها، ويبتلى نسائَها فتبقى أمةً مظلومةً مهضومةً متأخرة، يبتليَها عز وجل بالخوفِ والجوع، يقولُ عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
قال أهلُ العلم: لا تزالُ كلُ قريةٍ في أمنِ الله ما أقامت فروضَ اللهِ وما نهت عن المعاصي التي تغضبِ اللهَ عز وجل، فإذا انحرفت أخذها اللهُ كما يأخذُ الظالمَ ثم لا يفلتُها أبدا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً. عذابا شديدا في الآخرة، فما كفاها عذابَ الدنيا بل أعد اللهُ سبحانَه وتعالى لها الخزيَ والعارَ والدمار والنار لأنها انحرفت عن منهجِ الله.
فتشوا واسألوا كل مدينةٍ وكل قرية أخذها اللهُ في هذا العصرِ أو قبل هذا العصر، وأسالوا جيرانَها، أسالوا في من حولنا وفي ما دونَنا ما لهم ابتلوا بالحروب، ما لهم ابتلوا بالمناكرِ، بالزنى، بالربى بالفواحشِ بالبعد عن الله، إنما ابتلوا بذلك لأنهم عصوا اللهَ وخرجوا عن طاعةِ اللهِ سبحانَه وتعالى.
ويومَ أن تعودَ الأمةُ أو يعودَ الشخصُ ولو ببصيصٍ من نورٍ ينصرُه سبحانَه وتعالى ويؤيدُه ويسددُه ويهديه، وقد جربنَا وجربَ غيرُنا وسمعنا وسمعَ غيرُنا أن أناسا كثيرينَ وقفوا في وجهِ الطغيانِ في وجهِ اليهود فما استطاعوا أن يقفوا أمامَه لأنهم أهلُ معاصي، لأنَهم خرجوا عن لا إله إلا الله.
حتى أتى في هذا العصرِ حفنةُ قليلةُ من الناسِ في أفغانستان تسجدُ لله، وتعترف بالله، وتتحاكمُ إلى الله فوقفت في وجهِ أكبرِ قوةٍ من قوى الأرض، رجوعاً إلى اللهِ عز وجل، فلما رجعوا إلى اللهِ عز وجل أراهم سبحانَه وتعلى نصرَه، ورفعَ لهم سبحانَه كلمة لا إله إلا الله وثبتَ أقدامَهم، فكيف لو رجعت الأمةُ إلى اللهِ عز وجل.
واللهِ لو رجعنا إلى اللهِ لما كان في الدنيا يهودُ يسيطرونَ على بلادِ الله وعلى عبادِ الله وعلى منهجِ الله ويمتهنونَ شرائعَ الله.
واللهِ لو رجعنا إلى اللهِ عز وجل لما كان هناكَ جوعُ وخوفُ ودمارُ ونارُ وعارُ وشنار.
لكننا لما تخاذلنا على أن نجتمعَ في بيوتِ الله، وأن نتناصحَ بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر أصبنا بهذا.
قال عز من قائل: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ، حتى قال عز من قائل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
قريةُ كانت منفلتةُ في اليمن، كانت غائصةً في الحدائقِ والبساتين، من بين يديها ومن خلفِها أنواعُ الثمرات، لهم سدُ عظيمُ يختزنُ آلاف البراميلِ من المياه، فلما أرادوا أن يجربوا نعَم اللهِ عز وجل أغدقَ اللهُ عليهمُ النعم، سماؤُهم ملىءَ بالغيوم، لا شمسَ لديهم تغرقُهم، وثمارَهم يانعةً يقطفونها حتى قال الأئمةُ من أمثالِ ابن كثير: تمرُ المرأة بزمبيلها فيمتلىءُ مما يتساقطُ من الأشجار، يشربونَ ماءً باردا، يتظللونَ في ظلٍ وارف، ينعمونَ في معيشةٍ هادئةٍ ساكنةٍ، أرسلَ اللهُ إليهم الرسلَ ليقولوا لا إله إلا الله، وليئدوا شكرَ نعمةِ الله، وليسجوا لله، وليتناهوا عن ما يغضبُ اللهَ عز وجل، فماذا فعلوا!
كفروا وجحدوا وانكروا وتمردوا على الله، شأن الشاب الذي لا يعرفَ بيوتَ الله، ولا يعرفَ المسجد، جسمُه كجسمِ البغل يتنهدُ على الأرضِ من كثرةِ النعمِ، ومن كثرةِ الملبوساتِ والمشروبات والمطعومات، فإذا سمعَ الآذانَ كأن في أذنيهِ وقرا، لا يعرفُ طريقَ المسجد، إنما يعرفُ طريق المعصيةِ وطريقَ الانحراف، فهذا مثلُه مثلُ هذه القرية.
أتت رسولُهم إليهم وفاوضتُهم على لا إله إلا الله، فاوضتُهم إلى الرجوعِ إلى الله عز وجل، وأخذتُهم بالتي هي أحسنُ ليعودوا إلى الحي القيوم فكفروا وقالوا ربنا باعد بيننا وبين أسفارِنا، ومعنى ذلك أنهم رفضوا حتى الزكاة والصدقة من هذه الأموال وقالوا اجعل بيننا وبين هذه القرى مسافات حتى لا يأتينا فقيرُ ولا مسكينُ ولا طالبُ حاجة، فماذا فعل اللهُ بهم؟
هل حاربَهم بطائراتٍ أو بجيوشٍ جرارة، أو بدباباتٍ مصفحةٍ! لا والله بل أوتيَ بفأرٍ صغيرٍ فنحت في هذا السد سدُ مأرب العظيم، فسقط السد وذهبت دنياهم وأخرتُهم، اجتاحَهم السدُ فدمر قراهم بعضَهم على بعضها، وبيوتَهم بعضَها على بعض، واجتاحَ أشجارَهم وأعنابَهم ونخيلَهم ومزارعَهم فبقوا حدثا بعد عيَن لكلِ معتبر: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً.
فأوقع اللهُ بهم ما أهم بهِ أهلُ ليستحقونَه فذهبوا حتى قالت العربُ: تفرقوا أيدِ سبأ.
خرجوا من بلادِهم على وجوهِهم يتباكون، الحبيبُ فقد حبيبَه، والوالدُ فقدَ ولدَه، والأخُ فقد أخاه، والزوجةُ فقدت زوجَها لأنهم عصوا اللهَ عز وجل.
ولذلك قالوا لرجلٍ من البرامكةِ الوزراء لما سجنوا في عهدِ هارونَ الرشيد لما سُجنتم وذهبت دنياكُم؟
لما أخذت قصورُكم؟
لما جُلدَت ظهورُكم؟
فدمعت عينا خالد البرمكي وقال: بغينا وطغينا ونسينا الله وسرت دعوةُ مظلومٍ في جنحِ الليلِ فسمَعها اللهُ والناسُ عنها هجود.
ولذلك يقولُ عليه الصلاةُ والسلام: دعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ على الغمامِ ويقولُ وعزتي وجلالي لأنصرنَكِ ولو بعد حين.
ومروا برجلٍ مقعدٍ كما في السير قد نهشتُه الأمراضُ وأصابتُه الأوصاب، وهو في حالةٍ مزريةٍ لا يستطيعُ حِراكا ولا قياما، لا يستطيعُ أن يمدَ يدَه، فقالوا مالك؟
قال كنتُ في صحةٍ وعافيةٍ وقوةٍ لا يعلمُها إلا الله، كنتُ إذا سمعتُ نداء اللهِ أتباطأ فيقال لي اتق اللهَ عز وجل، وتعالَ إلى بيوتِ الله، وأقم فرائضَ الله، فكنتُ أقولُ لهؤلاء وماذا يصيبُني إذا لم أفعل؟ فابتلاني اللهُ بهذا المرض.
فيا أخوتي في الله!
شكرُ الجسمِ أن تؤدي حقَه مع اللهِ عز وجل، فتستخدمُه فيما يقربُه من اللهِ عز وجل، وشكرُ اللسانِ الثناء، وشكرُ اليدِ الوفاء، وشكرُ العينِ الإغضاء، وشكرُ الوجهِ الحياءُ منه سبحانَه وتعالى
اللهم اجعلنا من الذين يشكرون نعم الله وكلها نعم جليلة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله
فيقولُ اللهُ سبحانه في محكم كتابه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
هذا المثلُ ضربَهُ اللهُ سبحانَه وتعالى مثلا لكلِ من جحدَ نعمةَ اللهِ ورد معروفَ الله عز وجل، فإن كثيرا من الناسِ ينعمُ اللهُ عليهم بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنة فيكفرونَها، ويردُونها، ويجحدونَها فيسلِبُها سبحانه وتعالى منهم، ثم ينكِلُ بهم عز وجل جزاءَ ما جحدوا من المعروفِ وانكروا من الجميل.
نعم، كثيرُ من الناسِ يمنحُهم اللهُ الشبابَ فيفسدونَ ويستغلونَه فيما يبعدُهم من الله عز وجل فيسلبَ اللهُ الشبابَ منهم.
وكثيرُ منهم يرزُقهم اللهُ الصحةَ في الأجسام فلا يرون اللهَ عز وجل ثمرةَ هذه الصحةَ والعافيةَ فيأخذُهم اللهُ عز وجل بهذا.
وكثيرُ يمنحُهم اللهُ الأموالَ فلا يؤدونَ حق اللهَ في الأموال بل يجعلونَها سلما إلى المعاصي، وسببا إلى المناكرِ والفواحش فيأخذُهم اللهُ عز وجل ويحاسبُهم بأموالِهم.
فاللهُ عز وجل يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنا، هذا الرجل أسمُه بلعام من بني إسرائيل، منحهُ اللهُ عز وجل نعمةَ العلم والفهم والفقه، ولكنَه ما أستغلَها في ما يقربُه من اللهِ عز وجل، بل نسيَ حق اللهِ وموعودَ اللهِ وأمر اللهِ عز وجل ثم عصاه سبحانَه وتعالى.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، لم يقل من المغوِين أو من المغوَين، وإنما من الغاوين لأنَه أصبح قائدا في الضلالة، وأصبحَ أستاذا في الجهالة، لأن الناسَ اقتدوا به في أن يضلوا.
هذا الرجلُ كما قال أهلُ التفسير كان مع موسى عليه السلام، علمَهُ اللهُ التوراة، فلما تعلَمها ذهبَ إلى قومِ كفارٍ ليفاوضَهم على الصلحِ لموسى عليه السلام، فلما رأى دنياهَم وكنوزَهم وذهبَهم وفضتَهم استهواهُ هذا فكفرَ باللهِ العظيم، وقدمَ الدنيا على الآخرة، وقدمَ موعودِ أهلِ الدنيا على موعودِ ربِ الدنيا والآخرة فسلبَ اللهُ نعمةَ الفقِه والفَهمِ منه وترَكَه بليدا كالحمارِ، مؤخرا كالخنزيرِ، نجسا كالكلبِ نعوذ باللهِ من ذلك.
حتى قال سبحانَه وتعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، أي لو شئنا أن يرتفَعَ بلا إله إلا الله، وبمعنى لا إله إلا الله لرفعناه بها، وهذا جزاءُ العبدُ الذي يرتفعُ بالطاعة، وجزاءَ العبدُ الذي يحبُ أن يتقربَ إلى اللهِ عز وجل بطاعتِه أن يرفعَه الله، أما العبدُ الذي يتأخرُ إلى المعصيةِ، ويتأخرُ في كلِ ما يقربُه من الله، فلا يزالُ يتأخرُ حتى يأخرُه الله في من عنده.
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، أي حبَ الدنيا على الآخرة وأتبعَ هواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
يقولُ عز وجل مثلُ هذا الرجلِ كمثلِ الكلب، والكلبُ من طبيعتِه أنه يلهث، يمدُ لسانَه ويلهثُ نفسَه سواءً في الظلِ أو في الشمس، فهذا مثلُ رجلٍ يلهثُ في الجهلِ وفي المعصيةِ سواءً تعلمَ أو لم يتعلم، لأن قلبَه خبيث ولأن فيهِ مكرُ ولأنَه صادُ عن اللهِ عز وجل، وإلا فلو كان فيه خيرُ يومَ أن قربَه اللهُ عز وجل إليه عرفَ النعمةَ وعرف الجميل وعرف عطاء اللهِ عز وجل فأنقادَ إلى الله.
وضربَ اللهُ في القرآنِ مثلا للأممِ والشعوبِ يوم تنحرفُ:
يوم تنحرفُ عن منهجِ الله عز وجل، يومَ تتركُ طرقَ المساجد وتميلُ إلى الخمارات، يومَ تتركُ سماعَ كتابِ الله عز وجل وتميلُ إلى استماعِ الغنى.
يومَ تتجهُ من منهجِ محمدٍ (صلى اللهُ عليه وسلم) والسنةُ المطهرة وتميلُ إلى كتبِ الشياطين من الإنس والجن.
يومَ تعكفُ وتسهرُ على الأفلامِ وعلى الأغاني الماجنة.
يومَ تُرخصُ قيمَها ودينَها ومبادَئها وأخلاقَها وسنةَ نبيَها (صلى اللهُ عليه وسلم) ماذا يصنعُ اللهُ عز وجل بها؟
يدمرُ شبابَها، ويبعدُ سبحانَه وتعالى علمَائَها، ويبتلى نسائَها فتبقى أمةً مظلومةً مهضومةً متأخرة، يبتليَها عز وجل بالخوفِ والجوع، يقولُ عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
قال أهلُ العلم: لا تزالُ كلُ قريةٍ في أمنِ الله ما أقامت فروضَ اللهِ وما نهت عن المعاصي التي تغضبِ اللهَ عز وجل، فإذا انحرفت أخذها اللهُ كما يأخذُ الظالمَ ثم لا يفلتُها أبدا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً. عذابا شديدا في الآخرة، فما كفاها عذابَ الدنيا بل أعد اللهُ سبحانَه وتعالى لها الخزيَ والعارَ والدمار والنار لأنها انحرفت عن منهجِ الله.
فتشوا واسألوا كل مدينةٍ وكل قرية أخذها اللهُ في هذا العصرِ أو قبل هذا العصر، وأسالوا جيرانَها، أسالوا في من حولنا وفي ما دونَنا ما لهم ابتلوا بالحروب، ما لهم ابتلوا بالمناكرِ، بالزنى، بالربى بالفواحشِ بالبعد عن الله، إنما ابتلوا بذلك لأنهم عصوا اللهَ وخرجوا عن طاعةِ اللهِ سبحانَه وتعالى.
ويومَ أن تعودَ الأمةُ أو يعودَ الشخصُ ولو ببصيصٍ من نورٍ ينصرُه سبحانَه وتعالى ويؤيدُه ويسددُه ويهديه، وقد جربنَا وجربَ غيرُنا وسمعنا وسمعَ غيرُنا أن أناسا كثيرينَ وقفوا في وجهِ الطغيانِ في وجهِ اليهود فما استطاعوا أن يقفوا أمامَه لأنهم أهلُ معاصي، لأنَهم خرجوا عن لا إله إلا الله.
حتى أتى في هذا العصرِ حفنةُ قليلةُ من الناسِ في أفغانستان تسجدُ لله، وتعترف بالله، وتتحاكمُ إلى الله فوقفت في وجهِ أكبرِ قوةٍ من قوى الأرض، رجوعاً إلى اللهِ عز وجل، فلما رجعوا إلى اللهِ عز وجل أراهم سبحانَه وتعلى نصرَه، ورفعَ لهم سبحانَه كلمة لا إله إلا الله وثبتَ أقدامَهم، فكيف لو رجعت الأمةُ إلى اللهِ عز وجل.
واللهِ لو رجعنا إلى اللهِ لما كان في الدنيا يهودُ يسيطرونَ على بلادِ الله وعلى عبادِ الله وعلى منهجِ الله ويمتهنونَ شرائعَ الله.
واللهِ لو رجعنا إلى اللهِ عز وجل لما كان هناكَ جوعُ وخوفُ ودمارُ ونارُ وعارُ وشنار.
لكننا لما تخاذلنا على أن نجتمعَ في بيوتِ الله، وأن نتناصحَ بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر أصبنا بهذا.
قال عز من قائل: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ، حتى قال عز من قائل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
قريةُ كانت منفلتةُ في اليمن، كانت غائصةً في الحدائقِ والبساتين، من بين يديها ومن خلفِها أنواعُ الثمرات، لهم سدُ عظيمُ يختزنُ آلاف البراميلِ من المياه، فلما أرادوا أن يجربوا نعَم اللهِ عز وجل أغدقَ اللهُ عليهمُ النعم، سماؤُهم ملىءَ بالغيوم، لا شمسَ لديهم تغرقُهم، وثمارَهم يانعةً يقطفونها حتى قال الأئمةُ من أمثالِ ابن كثير: تمرُ المرأة بزمبيلها فيمتلىءُ مما يتساقطُ من الأشجار، يشربونَ ماءً باردا، يتظللونَ في ظلٍ وارف، ينعمونَ في معيشةٍ هادئةٍ ساكنةٍ، أرسلَ اللهُ إليهم الرسلَ ليقولوا لا إله إلا الله، وليئدوا شكرَ نعمةِ الله، وليسجوا لله، وليتناهوا عن ما يغضبُ اللهَ عز وجل، فماذا فعلوا!
كفروا وجحدوا وانكروا وتمردوا على الله، شأن الشاب الذي لا يعرفَ بيوتَ الله، ولا يعرفَ المسجد، جسمُه كجسمِ البغل يتنهدُ على الأرضِ من كثرةِ النعمِ، ومن كثرةِ الملبوساتِ والمشروبات والمطعومات، فإذا سمعَ الآذانَ كأن في أذنيهِ وقرا، لا يعرفُ طريقَ المسجد، إنما يعرفُ طريق المعصيةِ وطريقَ الانحراف، فهذا مثلُه مثلُ هذه القرية.
أتت رسولُهم إليهم وفاوضتُهم على لا إله إلا الله، فاوضتُهم إلى الرجوعِ إلى الله عز وجل، وأخذتُهم بالتي هي أحسنُ ليعودوا إلى الحي القيوم فكفروا وقالوا ربنا باعد بيننا وبين أسفارِنا، ومعنى ذلك أنهم رفضوا حتى الزكاة والصدقة من هذه الأموال وقالوا اجعل بيننا وبين هذه القرى مسافات حتى لا يأتينا فقيرُ ولا مسكينُ ولا طالبُ حاجة، فماذا فعل اللهُ بهم؟
هل حاربَهم بطائراتٍ أو بجيوشٍ جرارة، أو بدباباتٍ مصفحةٍ! لا والله بل أوتيَ بفأرٍ صغيرٍ فنحت في هذا السد سدُ مأرب العظيم، فسقط السد وذهبت دنياهم وأخرتُهم، اجتاحَهم السدُ فدمر قراهم بعضَهم على بعضها، وبيوتَهم بعضَها على بعض، واجتاحَ أشجارَهم وأعنابَهم ونخيلَهم ومزارعَهم فبقوا حدثا بعد عيَن لكلِ معتبر: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً.
فأوقع اللهُ بهم ما أهم بهِ أهلُ ليستحقونَه فذهبوا حتى قالت العربُ: تفرقوا أيدِ سبأ.
خرجوا من بلادِهم على وجوهِهم يتباكون، الحبيبُ فقد حبيبَه، والوالدُ فقدَ ولدَه، والأخُ فقد أخاه، والزوجةُ فقدت زوجَها لأنهم عصوا اللهَ عز وجل.
ولذلك قالوا لرجلٍ من البرامكةِ الوزراء لما سجنوا في عهدِ هارونَ الرشيد لما سُجنتم وذهبت دنياكُم؟
لما أخذت قصورُكم؟
لما جُلدَت ظهورُكم؟
فدمعت عينا خالد البرمكي وقال: بغينا وطغينا ونسينا الله وسرت دعوةُ مظلومٍ في جنحِ الليلِ فسمَعها اللهُ والناسُ عنها هجود.
ولذلك يقولُ عليه الصلاةُ والسلام: دعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ على الغمامِ ويقولُ وعزتي وجلالي لأنصرنَكِ ولو بعد حين.
ومروا برجلٍ مقعدٍ كما في السير قد نهشتُه الأمراضُ وأصابتُه الأوصاب، وهو في حالةٍ مزريةٍ لا يستطيعُ حِراكا ولا قياما، لا يستطيعُ أن يمدَ يدَه، فقالوا مالك؟
قال كنتُ في صحةٍ وعافيةٍ وقوةٍ لا يعلمُها إلا الله، كنتُ إذا سمعتُ نداء اللهِ أتباطأ فيقال لي اتق اللهَ عز وجل، وتعالَ إلى بيوتِ الله، وأقم فرائضَ الله، فكنتُ أقولُ لهؤلاء وماذا يصيبُني إذا لم أفعل؟ فابتلاني اللهُ بهذا المرض.
فيا أخوتي في الله!
شكرُ الجسمِ أن تؤدي حقَه مع اللهِ عز وجل، فتستخدمُه فيما يقربُه من اللهِ عز وجل، وشكرُ اللسانِ الثناء، وشكرُ اليدِ الوفاء، وشكرُ العينِ الإغضاء، وشكرُ الوجهِ الحياءُ منه سبحانَه وتعالى
اللهم اجعلنا من الذين يشكرون نعم الله وكلها نعم جليلة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله