الإسلام ومشكلات العالم المستعصية
الكاتب : محمد يوسف عدس بتاريخ : 04-12-1432 الموافق Nov 01 2011 09:18:40
تروى القصص الإنجيلية عن أخلاق المسيح عليه السلام أنه كان وديعا وَدُودًا مُحبّا للناس، رحيما بالفقراء عطوفا على المحتاجين والضعفاء.. ولم نعرف من سيرته -كما ترويها الأناجيل- أنه غضب غضبا عارما واستخدم العنف إلا في واقعة واحدة مشهورة: فقد كان هناك فئة من اليهود اتّخذوا من الهيكل المقدس مكانا لممارسة معاملاتهم الربوية مستغلين في ذلك حاجة الفقراء للمال، فدخل عليهم غاضبا، حاملا سوطه في يده.. لعنهم ووصفهم باللصوص .. وطردهم من الهيكل..
لقد هاجم المسيح عليه السلام المرابين وعنّفهم بشدّة.. لا مرة واحدة ولكن مرات متكررة: فضحهم لأكلهم الربا ووصمهم بعبادة المال، وقال عنهم: إنهم من كنيس الشيطان.. وجاء التعبير القويّ عن كره المسيح للمرابين، عندما قرّعهم بهذه الكلمات: "كان هذا الهيكل بيتا للرب.. ولكنكم حولتموه إلي مغارة لصوص..".. وكان هذا الموقف الحاسم الغاضب بمثابة اللحظة الفارقة في حياة هذا النبي العظيم.. فقد استشعر أعداؤه من اليهود خطورته على مصالحهم وبدأوا يتآمرون على حياته.. ليتخلصوا منه..
وكانت هذه هي السمة التي سادت عبر العصور: من يقف ضد المعاملات الربوية أو يقف ضد الممارسات الصهيونية بصفة عامة - في السيطرة على العالم وإفساد المجتمعات- فإن مصيره القتل .. وقد يُصاغ هذا المصير عادة في قصة انتحار غامض.. تلبيسا على الناس وتبديدًا للحقيقة..
و تُعتبر قضية "جيمس فورستال" - في القرن العشرين- واحدة من أبرز الأمثلة علي ذلك.. كان فورستال مقتنعا بأن أصحاب المال والبنوك الأميركيين يشكلون مع مجموعة من أصحاب المصارف العالمية الذين يسيطرون علي اقتصاد فرنسا وإنجلترا وغيرها من الدول.. فيما يسميهم بـ(بارونات المال العالميين) هم المسئولون المباشرون عن اندلاع الحربين العالميتين الأولي والثانية.. ولقد حاول إقناع الرئيس روزفلت وكبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية..
بهذه الحقيقة.. ولكن انتهت إدارة روزفلت.. وخلفه الرئيس ترومان الذى أساء معاملة فورستال.. لأنه كان ضد استغلال أصحاب البنوك وهم يهود.. وكان مناصرا للحقوق الفلسطينية.. مناهضا للصهيونية في سعيها لتقسيم فلسطين والاستيلاء عليها.. وكان بصفة خاصة ضد إقامة دولة يهودية على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض .. بينما كان الرئيس ترومان صديقا أو خادما مخلصا لأصحاب البنوك و للمطامع الصهيونية.. ونحن نعلم أنه أول من اعترف بالدولة الصهيونية بعد دقائق من إعلانها في الأمم المتحدة...
كان سجل فورستال حافلا بالإنجازات الوطنية.. كما كان موضع تكريم عظيم: فقد كان أول من تولى وظيفة وزير للدفاع في عهد ترومان، وقبل هذا سُميت أول حاملة طائرات باسمه اعترافا بفضله على البحرية الأمريكية.. ولكن تحت الضغوط الصهيونية سرعان ما انقلب عليه الرئيس ترومان فأجبره على الاستقالة.. وشُنّتْ ضده حملة إعلامية مُوجّهة للنيل من شرفه العسكري وكرامته وتلويث سمعته و تاريخه البطولي فى الحرب.. انتهت بإيداعه في المستشفى العسكري لعلاجه من انهيار عصبي مزعوم...
ثم جاءت قصة انتحاره لتنهى حياته فى ظروف شديدة الغموض: فقد وُجدت جثته ملقاة من الطابق السادس عشر.. وحول عنقه حبل مفتول.. أما التقرير الرسمي الذى شمل الملابسات الغريبة التي اكتنفت الحادثة، فقد ظل سِرًّا منذ وفاته سنة 1949 حتى الآن...! تجاهلت وسائل الإعلام الشكوك التي أحاطت بالقضية.. ونأت بنفسها عن الاستفسار والتحقيق في ملابساتها.. متآزرة ضده مع السلطة الحاكمة وسطوة أصحاب المال، وهكذا طويت صفحة جيمس فورستال من تاريخ أمريكا...
اقرأ إن شئت كتاب The Death of James Forrestal (1966) by: Cornell Simpson. فستجد فيه تفاصيل مذهلة عن قصة هذا الرجل.. الذى جرؤ على الوقوف ضد سطوة البنوك وسطوة الصهيونية في الحياة الأمريكية.. وبالذات ضد إقامة دولة يهودية فى فلسطين.. اقرأ أيضا مقال "دافيد مارتن" Who Killed James Forrestal?: Was There A Cover-up?
لم يكن رِبَا اليهود في زمن المسيح عليه السلام بالوحشية والتعقيد والهيمنة المؤسسية التي شهدها العالم في العصور الحديثة.. فقد كان الربا محرّما في كل الشرائع: كان محرما في التوراة والإنجيل وكان يعتبر من أكبر الكبائر وأشد الخطايا التي تستوجب لعنة الله وأليم عقابه.. ولكن تحوّلت الأوضاع خطوة خطوة لنصل إلى المرحلة الأخيرة التي أصبحت فيه المعاملات الربوية هي العمود الفقري للنظام المالي العالمي.. وأصبحت هي الأمر المألوف الذى لا يمكن تصوّر نظام مالي أو اقتصادي بدونها.. بدأت الخطوة الأولى بفتوى كاهن من الفِرّيسين تذهب إلى أن الربا المحرم مقصود به (مع اليهود فقط ) أما مع "الأميين" الغرباء فهو مباح..
وظل الربا محرّما في الكنيسة الكاثوليكية فقد اعتبره "القديس أوغسطين" والفيلسوف اللاهوتي "توماس الأكويني" من الكبائر.. حتى جاء "جون كالفين" ليؤكد أن الظروف قد تغيرت وأن بعض النصوص المتعلقة بالربا في الكتاب المقدس لا بد من إعادة تفسيرها.. بما يسمح بتحصيل فوائد بسيطة على القروض.. وبذلك فتح الباب لتطور النظام الرأسمالي القائم على الفوائد الربوية.. ومع ذلك فقد ظل الربا بعد ذلك ولزمن طويل منظورا إليه كجريمة أخلاقية وإنسانية في المجتمعات الأوربية.. يمارسه اليهود سرا في حاراتهم المغلقة (الجيتو)..
ولم تتنبّه الشعوب إلى مخاطر النظام المالي (القائم على الديون والفوائد) على حياتها إلا بعد الأزمة المالية التي تعصف الآن بدول العالم الغربي .. لتكتشف أن هناك حفنة من البشر هي التي تحظى بالأرباح والفوائد وتكدّس الثروة في يدها.. بينما يعانى بقية البشر من الحرمان والفقر والبطالة.. بلا أمل في مستقبل أفضل، أو انفراج قريب..
وهذا ما تعبر عنه “حركة احتلال " (Occupy Movement) التي بدأت باحتلال حي المال "وولستريت" في نيويورك والاعتصام فيه.. لتمتد إلى بريطانيا وإسبانيا وغيرها من دول العالم.. في حملة احتجاج شعبية متنامية.. لم يشهد العالم مثيلا لها في تاريخه الطويل.. بمعنى أن هذه المظاهرات لا تتعلق بتغيير سياسة معينة أو المطالبة بحقوق فئوية منقوصة.. أو الاحتجاج على سوء معاملة في واقعة محددة.. وإنما -ولأول مرة- تتعلق برفض شامل لأسس المنظومة السياسية والاقتصادية الحاكمة.. التي صُمِّمت لمحاباة القلة الثرية على حساب حقوق ومصالح الشعوب.. تتعلق برفض المنظومة الديمقراطية التقليدية التي ثبت أنها مكبّلة بقيود من خارج المنظومة.. تجعلها تصدر قوانين لا تراعى المصالح الحقيقية للجماهير.. وإنما لمصالح الذين ينفقون من أموالهم على الحملات الانتخابية [لضمان التأثير على قرارات السياسيين سواء في الكونجرس أو في الإدارة الأمريكية].. وأنه لا بد من إيجاد آليات تسمح للجماهير بالمشاركة في إصدار القرارات والقوانين .. فيما أسموه بالديمقراطية الأفقية...
لقد بدأ الناشطون من أنصار (حركة احتلال) "أوكيوباي" في أوربا وأمريكا يدركون بشكل أوضح -من أي وقت مضى- أن مصدر تعاسة العالم وأصل مشكلاته تكمن فى نظامه المالي والسياسي الذى تم تصميمه لتعظيم مصالح مجموعة من الشخصيات والأسر القليلة.. على حساب الطبقات والفئات الأخرى التي تكدح في العمل والانتاج.. لتحصيل رزقها بشق الأنفس ..
بينما تحظى بثمرات كدحها قلة من الطفيليين لا عمل لهم إلا اقتناص الفوائد.. فيما يسمونهم (مجتمع الواحد في المائة)..
لقد استيقظت الشعوب الغربية على كوارث اقتصادية واجتماعية تحل بديارهم.. نتيجةً لجشع طبقة الواحد في المائة.. ورأوا أن حكوماتهم لم تعبأ بملايين المواطنين الذين فقدوا وظائفهم.. ولا بالملايين الذين فقدوا بيوتهم التي عجزوا عن تسديد أقساطها للبنوك.. لم تأبه لطوابير العاطلين عن العمل الذين يتزايد أعدادهم كل يوم .. وذهبت تضخ المليارات في البنوك الكبرى التي كانت هي السبب في ظهور الأزمة وتفاقمها..
بمعنى آخر إن الحكومات معنيّة بمكافأة الذين ارتكبوا الجريمة ضد الضحايا.. من دافعي الضرائب.. الذين يتحملون عادة مغارم الأزمات الاقتصادية التي صنعها غيرهم.. وهو أمر تشعر الجماهير الغاضبة أنه لم يعد في الإمكان احتماله.. ولم يعد أمام هذه الجماهير إلا خطوة واحدة.. لا بد أن تأتى في سياق هذا التحول الفكري العميق، لكى ترى أن علة هذا الفساد المالي والاقتصادي المروع تكمن في النظام البنكي الربويّ.. وأن الحل الصحيح هو نظام مالي واقتصادي برئ من الربا..
عرضت في مقال سابق بحثا هاما في موضوع الجذور الإسلامية للقانون الإنجليزي.. ذكرت فيه أن هذا القانون قد انحرف عن مبدأ تحريم الربا في الشريعة الإسلامية.. وعلّقت بهذه العبارة: " أقول بكل ثقة إن العالم الآن يعيش لحظة من أخطر لحظاته التاريخية، فهذا الانحراف وحده جعل العالم الأنجلو ساكسوني وكل توابعه من دول العالم على حافة انهيار مالي واقتصادي مروّع." ..
لعل من المفيد الآن ونحن على أبواب عصر جديد نحاول فيه بناء حياة ديمقراطية واقتصادية سليمة أن نذكّر إخواننا من التيارات الإسلامية المتعاركة، بما جرى في باكستان في بداية نشأتها (خلال الأربعينات من القرن الماضي).. وكان المنتظر منها أن تكون نموذجا يُحتذى به في بلاد العالم الإسلامي.. ولكن بدلا من أن يركز الإسلاميون على القضايا الكبرى في بناء الدولة الوليدة.. انكبّ قادتهم وفقهاؤهم على بحث قضايا ثانوية تافهة استنفذت طاقاتهم.. مثل:
"هل نبدأ في تنفيذ أحكام الشريعة بقطع يد السارق.. أم نرجئ هذا الحكم حتى يتم تربية الناس على قبول الأحكام الشرعية بنفس راضية...؟!
كان على عزت بيجوفيتش يراقب هذا المشهد المؤسف من بعيد ثم يعلق قائلا بمرارة: "بينما كان الفقهاء يتعاركون على تنفيذ حكم الشريعة في السرقات التافهة كانت البلاد يتم نهبها على أوسع نطاق .. وتُسرق الملايين من أموال الشعب بواسطة القيادات السياسية المتربّصة..." لم يكتفِ العلمانيون بهذا فقط وإنما تمكنوا بحيلهم من الاستلاء على السلطة فى باكستان والتربُّع عقودا وأجيالا على سدة الحكم حتى هذه اللحظة...!
وبقي لي ملاحظة أخيرة: إن المسلمين يملكون كنوزا من الحكمة التي يفتقر إليها العالم اليوم في محنته الطاحنة.. ولديهم حلول لمشكلاته المستعصية.. ولكن هل يمكنهم - بتشردُمهم الفكري وانشغالهم بصغائر الأمور- أن يكشفوا للعالم عن إشعاعات الفكر الإسلامي الهادية..؟ وهل يستفيدون هم بها في بناء دولة عصرية متقدّمة نموذجية في بلادهم...؟! أم ينتهون إلى ما انتهت إليه باكستان..؟! بصراعاتها الداخلية ضيّعت كشمير.. وانشق عنها شطرها الشرقي في دولة منفصلة اسمها بنجلادش.. وبينما التيارات الإسلامية تتعارك على سفاسف الأمور..
منقسمة على نفسها في كل شيء.. انتهز العلمانيون انشغالهم بقضاياهم الصغيرة.. فسطوا على السلطة [عبر صناديق الاقتراع].. وكانت النتيجة أنهم وقعوا فرائس في قبضة الاستعباد العلماني: بين دكتاتوريات عسكرية وحكومات مدنية فاسدة.. وتبعية أمريكية.. واضطراب سياسي وأمني لا نهاية له...
http://www.altareekh.com/article/vie...%8A%D8%A9.html
الكاتب : محمد يوسف عدس بتاريخ : 04-12-1432 الموافق Nov 01 2011 09:18:40
تروى القصص الإنجيلية عن أخلاق المسيح عليه السلام أنه كان وديعا وَدُودًا مُحبّا للناس، رحيما بالفقراء عطوفا على المحتاجين والضعفاء.. ولم نعرف من سيرته -كما ترويها الأناجيل- أنه غضب غضبا عارما واستخدم العنف إلا في واقعة واحدة مشهورة: فقد كان هناك فئة من اليهود اتّخذوا من الهيكل المقدس مكانا لممارسة معاملاتهم الربوية مستغلين في ذلك حاجة الفقراء للمال، فدخل عليهم غاضبا، حاملا سوطه في يده.. لعنهم ووصفهم باللصوص .. وطردهم من الهيكل..
لقد هاجم المسيح عليه السلام المرابين وعنّفهم بشدّة.. لا مرة واحدة ولكن مرات متكررة: فضحهم لأكلهم الربا ووصمهم بعبادة المال، وقال عنهم: إنهم من كنيس الشيطان.. وجاء التعبير القويّ عن كره المسيح للمرابين، عندما قرّعهم بهذه الكلمات: "كان هذا الهيكل بيتا للرب.. ولكنكم حولتموه إلي مغارة لصوص..".. وكان هذا الموقف الحاسم الغاضب بمثابة اللحظة الفارقة في حياة هذا النبي العظيم.. فقد استشعر أعداؤه من اليهود خطورته على مصالحهم وبدأوا يتآمرون على حياته.. ليتخلصوا منه..
وكانت هذه هي السمة التي سادت عبر العصور: من يقف ضد المعاملات الربوية أو يقف ضد الممارسات الصهيونية بصفة عامة - في السيطرة على العالم وإفساد المجتمعات- فإن مصيره القتل .. وقد يُصاغ هذا المصير عادة في قصة انتحار غامض.. تلبيسا على الناس وتبديدًا للحقيقة..
و تُعتبر قضية "جيمس فورستال" - في القرن العشرين- واحدة من أبرز الأمثلة علي ذلك.. كان فورستال مقتنعا بأن أصحاب المال والبنوك الأميركيين يشكلون مع مجموعة من أصحاب المصارف العالمية الذين يسيطرون علي اقتصاد فرنسا وإنجلترا وغيرها من الدول.. فيما يسميهم بـ(بارونات المال العالميين) هم المسئولون المباشرون عن اندلاع الحربين العالميتين الأولي والثانية.. ولقد حاول إقناع الرئيس روزفلت وكبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية..
بهذه الحقيقة.. ولكن انتهت إدارة روزفلت.. وخلفه الرئيس ترومان الذى أساء معاملة فورستال.. لأنه كان ضد استغلال أصحاب البنوك وهم يهود.. وكان مناصرا للحقوق الفلسطينية.. مناهضا للصهيونية في سعيها لتقسيم فلسطين والاستيلاء عليها.. وكان بصفة خاصة ضد إقامة دولة يهودية على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض .. بينما كان الرئيس ترومان صديقا أو خادما مخلصا لأصحاب البنوك و للمطامع الصهيونية.. ونحن نعلم أنه أول من اعترف بالدولة الصهيونية بعد دقائق من إعلانها في الأمم المتحدة...
كان سجل فورستال حافلا بالإنجازات الوطنية.. كما كان موضع تكريم عظيم: فقد كان أول من تولى وظيفة وزير للدفاع في عهد ترومان، وقبل هذا سُميت أول حاملة طائرات باسمه اعترافا بفضله على البحرية الأمريكية.. ولكن تحت الضغوط الصهيونية سرعان ما انقلب عليه الرئيس ترومان فأجبره على الاستقالة.. وشُنّتْ ضده حملة إعلامية مُوجّهة للنيل من شرفه العسكري وكرامته وتلويث سمعته و تاريخه البطولي فى الحرب.. انتهت بإيداعه في المستشفى العسكري لعلاجه من انهيار عصبي مزعوم...
ثم جاءت قصة انتحاره لتنهى حياته فى ظروف شديدة الغموض: فقد وُجدت جثته ملقاة من الطابق السادس عشر.. وحول عنقه حبل مفتول.. أما التقرير الرسمي الذى شمل الملابسات الغريبة التي اكتنفت الحادثة، فقد ظل سِرًّا منذ وفاته سنة 1949 حتى الآن...! تجاهلت وسائل الإعلام الشكوك التي أحاطت بالقضية.. ونأت بنفسها عن الاستفسار والتحقيق في ملابساتها.. متآزرة ضده مع السلطة الحاكمة وسطوة أصحاب المال، وهكذا طويت صفحة جيمس فورستال من تاريخ أمريكا...
اقرأ إن شئت كتاب The Death of James Forrestal (1966) by: Cornell Simpson. فستجد فيه تفاصيل مذهلة عن قصة هذا الرجل.. الذى جرؤ على الوقوف ضد سطوة البنوك وسطوة الصهيونية في الحياة الأمريكية.. وبالذات ضد إقامة دولة يهودية فى فلسطين.. اقرأ أيضا مقال "دافيد مارتن" Who Killed James Forrestal?: Was There A Cover-up?
لم يكن رِبَا اليهود في زمن المسيح عليه السلام بالوحشية والتعقيد والهيمنة المؤسسية التي شهدها العالم في العصور الحديثة.. فقد كان الربا محرّما في كل الشرائع: كان محرما في التوراة والإنجيل وكان يعتبر من أكبر الكبائر وأشد الخطايا التي تستوجب لعنة الله وأليم عقابه.. ولكن تحوّلت الأوضاع خطوة خطوة لنصل إلى المرحلة الأخيرة التي أصبحت فيه المعاملات الربوية هي العمود الفقري للنظام المالي العالمي.. وأصبحت هي الأمر المألوف الذى لا يمكن تصوّر نظام مالي أو اقتصادي بدونها.. بدأت الخطوة الأولى بفتوى كاهن من الفِرّيسين تذهب إلى أن الربا المحرم مقصود به (مع اليهود فقط ) أما مع "الأميين" الغرباء فهو مباح..
وظل الربا محرّما في الكنيسة الكاثوليكية فقد اعتبره "القديس أوغسطين" والفيلسوف اللاهوتي "توماس الأكويني" من الكبائر.. حتى جاء "جون كالفين" ليؤكد أن الظروف قد تغيرت وأن بعض النصوص المتعلقة بالربا في الكتاب المقدس لا بد من إعادة تفسيرها.. بما يسمح بتحصيل فوائد بسيطة على القروض.. وبذلك فتح الباب لتطور النظام الرأسمالي القائم على الفوائد الربوية.. ومع ذلك فقد ظل الربا بعد ذلك ولزمن طويل منظورا إليه كجريمة أخلاقية وإنسانية في المجتمعات الأوربية.. يمارسه اليهود سرا في حاراتهم المغلقة (الجيتو)..
ولم تتنبّه الشعوب إلى مخاطر النظام المالي (القائم على الديون والفوائد) على حياتها إلا بعد الأزمة المالية التي تعصف الآن بدول العالم الغربي .. لتكتشف أن هناك حفنة من البشر هي التي تحظى بالأرباح والفوائد وتكدّس الثروة في يدها.. بينما يعانى بقية البشر من الحرمان والفقر والبطالة.. بلا أمل في مستقبل أفضل، أو انفراج قريب..
وهذا ما تعبر عنه “حركة احتلال " (Occupy Movement) التي بدأت باحتلال حي المال "وولستريت" في نيويورك والاعتصام فيه.. لتمتد إلى بريطانيا وإسبانيا وغيرها من دول العالم.. في حملة احتجاج شعبية متنامية.. لم يشهد العالم مثيلا لها في تاريخه الطويل.. بمعنى أن هذه المظاهرات لا تتعلق بتغيير سياسة معينة أو المطالبة بحقوق فئوية منقوصة.. أو الاحتجاج على سوء معاملة في واقعة محددة.. وإنما -ولأول مرة- تتعلق برفض شامل لأسس المنظومة السياسية والاقتصادية الحاكمة.. التي صُمِّمت لمحاباة القلة الثرية على حساب حقوق ومصالح الشعوب.. تتعلق برفض المنظومة الديمقراطية التقليدية التي ثبت أنها مكبّلة بقيود من خارج المنظومة.. تجعلها تصدر قوانين لا تراعى المصالح الحقيقية للجماهير.. وإنما لمصالح الذين ينفقون من أموالهم على الحملات الانتخابية [لضمان التأثير على قرارات السياسيين سواء في الكونجرس أو في الإدارة الأمريكية].. وأنه لا بد من إيجاد آليات تسمح للجماهير بالمشاركة في إصدار القرارات والقوانين .. فيما أسموه بالديمقراطية الأفقية...
لقد بدأ الناشطون من أنصار (حركة احتلال) "أوكيوباي" في أوربا وأمريكا يدركون بشكل أوضح -من أي وقت مضى- أن مصدر تعاسة العالم وأصل مشكلاته تكمن فى نظامه المالي والسياسي الذى تم تصميمه لتعظيم مصالح مجموعة من الشخصيات والأسر القليلة.. على حساب الطبقات والفئات الأخرى التي تكدح في العمل والانتاج.. لتحصيل رزقها بشق الأنفس ..
بينما تحظى بثمرات كدحها قلة من الطفيليين لا عمل لهم إلا اقتناص الفوائد.. فيما يسمونهم (مجتمع الواحد في المائة)..
لقد استيقظت الشعوب الغربية على كوارث اقتصادية واجتماعية تحل بديارهم.. نتيجةً لجشع طبقة الواحد في المائة.. ورأوا أن حكوماتهم لم تعبأ بملايين المواطنين الذين فقدوا وظائفهم.. ولا بالملايين الذين فقدوا بيوتهم التي عجزوا عن تسديد أقساطها للبنوك.. لم تأبه لطوابير العاطلين عن العمل الذين يتزايد أعدادهم كل يوم .. وذهبت تضخ المليارات في البنوك الكبرى التي كانت هي السبب في ظهور الأزمة وتفاقمها..
بمعنى آخر إن الحكومات معنيّة بمكافأة الذين ارتكبوا الجريمة ضد الضحايا.. من دافعي الضرائب.. الذين يتحملون عادة مغارم الأزمات الاقتصادية التي صنعها غيرهم.. وهو أمر تشعر الجماهير الغاضبة أنه لم يعد في الإمكان احتماله.. ولم يعد أمام هذه الجماهير إلا خطوة واحدة.. لا بد أن تأتى في سياق هذا التحول الفكري العميق، لكى ترى أن علة هذا الفساد المالي والاقتصادي المروع تكمن في النظام البنكي الربويّ.. وأن الحل الصحيح هو نظام مالي واقتصادي برئ من الربا..
عرضت في مقال سابق بحثا هاما في موضوع الجذور الإسلامية للقانون الإنجليزي.. ذكرت فيه أن هذا القانون قد انحرف عن مبدأ تحريم الربا في الشريعة الإسلامية.. وعلّقت بهذه العبارة: " أقول بكل ثقة إن العالم الآن يعيش لحظة من أخطر لحظاته التاريخية، فهذا الانحراف وحده جعل العالم الأنجلو ساكسوني وكل توابعه من دول العالم على حافة انهيار مالي واقتصادي مروّع." ..
لعل من المفيد الآن ونحن على أبواب عصر جديد نحاول فيه بناء حياة ديمقراطية واقتصادية سليمة أن نذكّر إخواننا من التيارات الإسلامية المتعاركة، بما جرى في باكستان في بداية نشأتها (خلال الأربعينات من القرن الماضي).. وكان المنتظر منها أن تكون نموذجا يُحتذى به في بلاد العالم الإسلامي.. ولكن بدلا من أن يركز الإسلاميون على القضايا الكبرى في بناء الدولة الوليدة.. انكبّ قادتهم وفقهاؤهم على بحث قضايا ثانوية تافهة استنفذت طاقاتهم.. مثل:
"هل نبدأ في تنفيذ أحكام الشريعة بقطع يد السارق.. أم نرجئ هذا الحكم حتى يتم تربية الناس على قبول الأحكام الشرعية بنفس راضية...؟!
كان على عزت بيجوفيتش يراقب هذا المشهد المؤسف من بعيد ثم يعلق قائلا بمرارة: "بينما كان الفقهاء يتعاركون على تنفيذ حكم الشريعة في السرقات التافهة كانت البلاد يتم نهبها على أوسع نطاق .. وتُسرق الملايين من أموال الشعب بواسطة القيادات السياسية المتربّصة..." لم يكتفِ العلمانيون بهذا فقط وإنما تمكنوا بحيلهم من الاستلاء على السلطة فى باكستان والتربُّع عقودا وأجيالا على سدة الحكم حتى هذه اللحظة...!
وبقي لي ملاحظة أخيرة: إن المسلمين يملكون كنوزا من الحكمة التي يفتقر إليها العالم اليوم في محنته الطاحنة.. ولديهم حلول لمشكلاته المستعصية.. ولكن هل يمكنهم - بتشردُمهم الفكري وانشغالهم بصغائر الأمور- أن يكشفوا للعالم عن إشعاعات الفكر الإسلامي الهادية..؟ وهل يستفيدون هم بها في بناء دولة عصرية متقدّمة نموذجية في بلادهم...؟! أم ينتهون إلى ما انتهت إليه باكستان..؟! بصراعاتها الداخلية ضيّعت كشمير.. وانشق عنها شطرها الشرقي في دولة منفصلة اسمها بنجلادش.. وبينما التيارات الإسلامية تتعارك على سفاسف الأمور..
منقسمة على نفسها في كل شيء.. انتهز العلمانيون انشغالهم بقضاياهم الصغيرة.. فسطوا على السلطة [عبر صناديق الاقتراع].. وكانت النتيجة أنهم وقعوا فرائس في قبضة الاستعباد العلماني: بين دكتاتوريات عسكرية وحكومات مدنية فاسدة.. وتبعية أمريكية.. واضطراب سياسي وأمني لا نهاية له...
http://www.altareekh.com/article/vie...%8A%D8%A9.html