د. إبراهيم عوض
ولكى نوضح الفرق بين الجزية والضرائب التى كان القبطى مثلا يدفعها للدولة البيزنطية نقول إن تلك الضرائب الأخيرة وصلت إلى خمسة وعشرين نوعا فرضها البيزنطيون لتغطية حروبهم الدائمة مع الدولة الفارسية. وكانت كل الأقاليم الواقعة تحت الحكم البيزنطي في حالة من الضياع والفقر ترزح تحت ترسانة من الضرائب. وفى المقابل فإن الجزية فى الإسلام مجرد مبلغ تافه فى العام لا يعجز أحد عادة عن تدبيره. وقد حسب د. نبيل لوقا بباوى نسبة الضريبة التى كان يدفعها المصريون فى عهد البيزنطيين إلى الجزية الإسلامية فوجدها 10 إلى 1[1]. ليس ذلك فقط، بل من المعروف أن الجزية يُعْفَى منها الطفل والمرأة والشيخ والراهب والمريض والرقيق، فى الوقت الذى لا يُعْفَى نظراؤهم المسلمون من الزكاة، التى هى أكبر من الجزية، زيادة على أنها ليست نوعا واحدا بل أنواعا مختلفة ما بين صدقة واجبة وتطوعية وصدقة فطر، وصدقة لكفّارة اليمين، وأخرى لكفارة الظِّهَار، وثالثة لكفارة الفِطْر فى رمضان. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ الجزية تُؤْخَذ ممن تجب عليه لقاء إعفائه من دخول الجيش حتى لا يُجْبَر على محاربة أبناء دينه، زيادة على حماية الدولة له، على حين لا تعفى الزكاة المسلم من الخدمة العسكرية.
على أن كلام حِتِّى ينقض بعضه بعضا، إذ أكد أن أغلبية أهالى البلاد البلاد المفتوحة لم يسارعوا إلى اعتناق الإسلام، بل ظلوا على أديانهم لقرن وقرنين. ترى لم ظلوا طوال كل هاتيك تلك المدة يدفعون الجزية إذا كانت بهذه الفداحة التى يريد تصويرها بها؟ لو كان الأمر كما يزعم لسارعوا منذ اللحظة الأولى إلى تغيير دينهم والدخول فى الدين الجديد. أليس هذا ما يقتضيه المنطق؟ ثم ماذا يقول حِتِّى فى إسلام أهالى الدول التى لم تكن تقع تحت حكم المسلمين، ومن ثم لم تكن حكاية الجزية واردة بتاتا فى حالتها، كإندونيسيا مثلا؟ وماذا يقول حِتِّى فى دخول الغربيين الآن بأعداد كبيرة نسبيا فى الإسلام رغم أنه لم تعد هناك جزية أصلا، بل رغم أنهم يعيشون سادة فى بلادهم، بينما المسلمون مضطهدون بوجه عام فى تلك البلاد، علاوة على أن العالم الإسلامى متخلف ضعيف تستغله الدول الغربية أبشع استغلال وتفرض عليه فى علاقاتها ومعاهداتها معه الشروط المهينة المذلة، وهو مما لا يمثل معه وضعُ ذلك العالم أىَّ نوع من أنواع الضغط على الغربيين يدفعهم إلى اعتناق الإسلام، بل بالعكس يمثل عامل تنفير غالبا منهم ومما يتصل بهم، وعلى رأس ذلك دينهم المظلوم معهم. وأخيرا وليس آخرا فالجزية إنما تُنْفَق فى المصالح العامة. أى أن فائدتها تعود على دافعيها بوصفهم من رعايا الدولة، على حين تذهب الصدقات فى مصارفها المحددة التى لا يستفيد منها مؤديها أبدا. ومن هذا كله يتبين أن ما يقوله حِتِّى لا يصمد على محك النظر والتمحيص. وللأسف فإن هذه الدعوى تتردد كثيرا فى كتابات طائفة من المستشرقين والمبشرين مع معرفتهم بكل هذه الملابسات التى أوردناها آنفا.
على أن حِتِّى نَفْسَه يقول فى موضع آخر من كتابه، عند حديثه عن طبقات المجتمع فى الدولة الإسلامية، إن الطبقة الثالثة كانت تتألف من أبناء الديانات الأخرى من نصارى ويهود وصابئة، أى من أهل الذمة، وإنه مما لا يقبل الشك أن اعتراف المسلمين بكيان هؤلاء الناس بعد أن اشترط أن يلقوا السلاح ويؤدوا الجزية لقاء تمتعهم بالحماية الإسلامية كان أعظم ما أتى به الدين الجديد من تجديد فى الناحية السياسية، وإن حاول حِتِّى فى ذات الوقت أن يرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى ما يقول إن الرسول كان يكنه للكتاب المقدس من احترام، مع أن القرآن الكريم قد اتهم أهل الكتاب بالعبث بكتابهم وإفساد دينهم، فأى احترام إذن يتحدث عنه حِتِّى؟ إن كان المقصود التوراة والإنجيل الأصليين فأين التوراة والإنجيل الأصليان؟ وإن كان المقصود التوراة والإنجيل اللذين فى أيدى الناس الآن فرَأْىُ الإسلام فيهما وفى أصحابهما معروف. إن الاحترام معناه، فى أقل تقدير، الموافقة على ما يقول الطرف الآخر ومباركته، فكيف يكون هذا فى الوقت الذى يختلف فيه الدينان اختلافا شديدا حول الصَّلْب والتثليث من جهة، ونبوة محمد من جهة أخرى؟ ذلك أن الصَّلْب والتثليث مرفوضان فى الإسلام، مثلما يرفض النصارى نبوة محمد عليه السلام. ولا ينبغى أن يكون هذا بابا إلى العداوة والكراهية من قِبَل أى من الطرفين تجاه الطرف الآخر، فالاختلاف بين الأديان فى واقع الحياة أمر طبيعى، وكلٌّ وما يعتقد، وليس من حق أحد أن يُكْرِه أحدا على الإيمان بما يعتنقه هو. والإسلام يعطى أهل الكتاب وغيرهم الحق الكامل فى الاعتقاد بما يحبون أن يدينوا به مهما كان اختلافه مع كتاب الله وحديث رسول الله، ولا يصح أن يضيّق عليهم المسلمون فى شىء أبدا. وقد أقر حِتِّى إقرارا بالحرية التامة التى كان أهل الذمة يتمتعون بها فى تأدية شعائر دينهم وفى الاحتكام إلى شريعتهم ورؤساء طوائفهم فى ظل الدولة الإسلامية[2].
ولْنُطَالِعْ معا مادة "جِزْية" فى "الموسوعة العربية العالمية"، التى تقول: "الجِزْيةُمبالغ مالية تؤخذ من أهل الذّمة لبيت مال المسلمين، وهي الخراج المجعول عليهم. والجزية على وزن "فِعْلة"، من "جَزَى يَجْزِي" إذا كافأ عما أُسْدِيَ إليه. فكأنها أُعطِيت جزاء ما مُنِحوا من الأمن بحفظ أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وعدمإيذائهم ما أَوْفَوْا بعهدهم ولم ينكثوه.تؤخَذ الجزية بموجب عقد يُبْرَم لتأمين من أجابالمسلمين إلى دفعها من الكفار وتَعَهَّد لهم بالتزام أحكام الشريعة الإسلامية فيالحدود... أما الذين تؤخذ منهم الجزية فهم أهل القتال.فأمّا الزَّمِن[3] والأعمى والمفلوج[4] والشيخ الفاني والنساء والصبيان، والراهب الذي لا يخالط النساء فلا تؤخذمنهم. مقدارها الواجب دفعه أربعة دنانيرمن الذهب، أو40 درهمًا من الفضة، ولإمام المسلمين أن يجتهد في ذلك. أما زمن إخراجها فإنها تجب بحلول الحول على عقد الذّمة المبرم. وتسقط الجزية عن الذمِّي إن أسلم أومات. والجزية تؤول لبيت مال المسلمين، وتُصْرَف في مصالح الدولة العامة حسب تقدير الإماملذلك".
على أن هناك من يقدرها بأقل من أربعة دنانير: ففى كل من كتاب "تاريخ ابن البطريق" وكتاب "فتح العرب لمصر" لألفرد بتلر أن الجزية على من يدفعها من المصريين كانت دينارين[5]. وفى "فقه السنة" للسيد سابق أن النبى فرض على أهل اليمن دينارا واحدا، لكن عمر زادها على أهل الشام إلى أربعة لأنهم أقدر من اليمانيين. والعبرة، كما نقل عن مالك، ألا يكلَّف أحد فوق طاقته[6]. ونقرأ فى مادة "Djizyah" بالطبعة الجديدة من "The Encyclopaedia of Islam" أن الجزية لا تفرض إلا على الذكر الحر البالغ القادر القوى، فلا تجب على الصغار ولا الشيوخ ولا النساء ولا العجزة ولا الرقيق ولا الشحاذين ولا المرضى ولا المجانين. بل لا تجب على الغرباء إلا إذا أقاموا فى البلاد إقامة دائمة. كما يُعْفَى أهل المناطق الحدودية منها لدى اشتراكهم فى حرب الأعداء حتى لو لم يكونوا مسلمين:
"A certain number of rules formulated during the 'Abbasid period appear to be generally valid from that time onwards. Djizya is only levied on those who are/ male, adult, free, capable and able-bodied, so that children, old men, women, invalids, slaves, beggars, the sick and the mentally deranged are excluded. Foreigners are exempt from it on condition that they do not settle permanently in the country. Inhabitants of frontier districts who at certain timescould be enrolled in military expeditions even if not Muslim (Mardaites, Armenians, etc.), were released from djizya for the year in question".
وقد سبق أن قرأنا ما قاله فيليب حِتِّى من أن الشاميين والمصريين، لكونهم أقرباء فى الدم للعرب[7]، قد رحبوا بالفاتحين الجدد. وهذه قضية على درجة شديدة من الأهمية، إذ ينتشر الآن فى بلادنا المحروسة بين قطاع من شركاء الوطن القول بأن المصريين لم يرحبوا بالفتح الإسلامى عند مجىء عمرو بن العاص إلى بلادهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال الأب بيجول باسيلى، الذى ألف كتيبا بعنوان "هل رحب الأقــباطبالفتح العربى؟" زعم فيه أن الأقباط لم يرحبوا قط بالمسلمين حين فتحوا بلادهم. والكتاب متاح على المشباك لمن يريده. والحق أن الأقباط قد رحبوا بابن العاص رضى الله عنه ترحيبا كثيرا لأنه أنقذهم من رزايا ثقيلة فادحة، إلا أن اختلاف الليل والنهار يُنْسِى. وإلى القارئ شهادات المؤرخين غير المسلمين:
فمثلا لدن تناول سعيد بن البطريق فى "تاريخه" لوقائع فتح العرب لمصر نجده يذكر وقوف المصريين إلى جانب الفاتحين ضد الرومان موردا تأكيد المقوقس لعمرو بن العاص أن المصريين مقيمون على الصلح الذى تم بينهم وبينه وأنهم سوف يصلحون للعرب الجسور والطرق. ثم يعقب على هذا بأن المصريين صاورا أعوانا للمسلمين ووقفوا معهم فى قتال الروم[8]. وبالمثل يتحدث ساويرس بن المقفع فى كتابه: "تاريخ البطاركة" عن تلك الفترة[9] فيصف هرقل بـ"الكافر"، معددا بعض الاضطهادات البشعة التى أنزلها الرومان بالمصريين من مثل قلع الأسنان والحرق بالمشاعل والتغريق فى نهر النيل فى زكائب مقفولة مثقّلة، ومعللا سبب انهزامهم أمام المسلمين بخيانتهم وظلمهم وجبروتهم. وكان قد ألمح إلى الدين الجديد الذى جاء به نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، فى الوقت الذى أَصْلَى فيه الرومانَ نارا شاوية جراء ما لحق المصريين على أيديهم من التضييق والتعذيب. ثم يتطرق إلى دخول عمرو بن العاص مصر وإعادته الراهب بنيامين، الذى كان مختفيا من وجه الرومان فى البرية هربا من عذابهم الذى لا يحتمل، وبَذْله الأمان له وللرهبان وللأمة جميعها واستقباله وإكرامه إياه، وكيف كان هذا الحدث عيدا لجميع المصريين، إذ بدأ عهد مختلف على المصريين مارسوا فيه حريتهم الدينية دون أن يتعرض لهم أحد بأذى أو اضطهاد بسبب العقيدة أو المذهب[10]. وذلك كله بفضل عمرو بعد فضل الله سبحانه وتعالى.
وتحت عنوان "نياحة البابا بنيامين الأول الـ38 (8 طوبة)" يقول كتاب السنكسار الخاص بالكنيسة الأرثوذكسية: "في مثل هذا اليوم من سنة 656م تَنَيَّح الأب المغبوط القديس الأنبا بنيامين بابا الإسكندرية الثامن والثلاثون. وهذا الأب كان من البحيرة من بلدة برشوط، وكان أبواه غنيين. وقد ترهَّب عند شيخ قديس يسمى: ثاؤنا بِدَيْر القديس قنوبوس بجوار الإسكندرية. وكان ينمو في الفضيلة، وحفظ كتب الكنيسة حتى بلغ درجة الكمال المسيحي. وذات ليلة سمع في رؤيا الليل من يقول له: افرح يا بنيامين، فإنك سترعى قطيع المسيح. ولما أخبر أباه بالرؤيا قال له إن الشيطان يريد ان يعرقلك، فإياك والكبرياء. فازداد في الفضيلة، ثم أخذه معه أبوه الروحاني إلى البابا أندرونيكوس وأعلمه بالرؤيا، فرسَّمه الأب البطريرك قَسًّا وسلمه أمور الكنيسة، فأحسن التدبير. ولما اختير للبطريركية حلت عليه شدائد كثيرة. وكان ملاك الرب قد كشف له عما سيلحق الكنيسة من الشدائد، وأمره بالهرب هو وأساقفته. فأقام الأنبا بنيامين قداسا وناول الشعب من الأسرار الإلهية، وأوصاهم بالثبات علي عقيدة آبائهم وأعلمهم بما سيكون. ثم كتب منشورا إلى سائر الأساقفة ورؤساء الأديرة بأن يختفوا حتى تزول هذه المحنة. أما هو فمضى إلى برية القديس مقاريوس ثم إلى الصعيد. وحدث بعد خروج الأب البطريرك من الكنيسة أن وصل إليها المقوقس الخلقدوني متقلدا زمام الولاية والبطريركية علي الديار المصرية من قِبَل هِرَقْل الملك فوضع يده علي الكنائس، واضطهد المؤمنين وقبض على مينا أخ القديس بنيامين وعذبه كثيرا وأحرق جنبيه ثم أماته غرقا. وبعد قليل وصل عمرو بن العاص إلى أرض مصر وغزا البلاد وأقام بها ثلاث سنين. وفي سنة 360 للشهداء ذهب إلى الإسكندرية واستولى على حصنها. وحدث شغب، واضطرب الأمن، وانتهز الفرصة كثير من الأشرار فأحرقوا الكنائس، ومن بينها كنيسة القديس مرقس القائمة على شاطئ البحر، وكذلك الكنائس والأديرة التي حولها ونهبوا كل ما فيها... أما عمرو بن العاص فإذ علم باختفاء البابا بنيامين أرسل كتابا إلى سائر البلاد المصرية يقول فيه: الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنا مطمئنا ليدبر شعبه وكنائسه. فحضر الأنبا بنيامين بعد أن قضي ثلاثة عشرة (!) سنة هاربا، وأكرمه عمرو بن العاص إكراما زائدا، وأمر أن يتسلم كنائسه وأملاكها".
وهذا إدوارد جيبون المؤرخ البريطانى المعروف يقول عن ترحيب المصريين: شعبًا وقادةً ورجالَ دين بعمرو بن العاص محرّرهم من الذل والاستعباد والاضطهاد والاستغلال بكل أنواعه، وانقلابهم على الرومان مضطهديهم ومستغليهم ومعذبيهم ومحتقريهم، وبغضهم لهم رغم اتفاقهم معهم فى الدين، ورضاهم بأن يدفع القادرون منهم للفاتحين الجدد دينارين فى العام يُعْفَى منهما الرهبان والنساء والصغار والشيوخ، بالإضافة إلى تضييفهم للمسلمين ثلاثة أيام حين يمرون بهم، وسعادتهم برجوع الراهب بنيامين من مخبئه فى الصحراء:
"The Arabs, after a glorious and profitable enterprise, must have retreated to the desert, had they not found a powerful alliance in the heart of the country. The rapid conquest of Alexander was assisted by the superstition and revolt of the natives: they abhorred their Persian oppressors, the disciples of the Magi, who had burnt the temples of Egypt, and feasted with sacrilegious appetite on the flesh of the god Apis. After a period of ten centuries, the same revolution was renewed by a similar cause; and in the support of an incomprehensible creed, the zeal of the Coptic Christians was equally ardent. I have already explained the origin and progress of the Monophysite controversy, and the persecution of the emperors, which converted a sect into a nation, and alienated Egypt from their religion and government. The Saracens were received as the deliverers of the Jacobite church; and a secret and effectual treaty was opened during the siege of Memphis between a victorious army and a people of slaves. A rich and noble Egyptian, of the name of Mokawkas, had dissembled his faith to obtain the administration of his province: in the disorders of the Persian war he aspired to independence: the embassy of Mahomet ranked him among princes; but he declined, with rich gifts and ambiguous compliments, the proposal of a new religion. The abuse of his trust exposed him to the resentment of Heraclius: his submission was delayed by arrogance and fear; and his conscience was prompted by interest to throw himself on the favor of the nation and the support of the Saracens. In his first conference with Amrou, he heard without indignation the usual option of the Koran, the tribute, or the sword. "The Greeks," replied Mokawkas, "are determined to abide the determination of the sword; but with the Greeks I desire no communion, either in this world or in the next, and I abjure forever the Byzantine tyrant, his synod of Chalcedon, and his Melchite slaves. For myself and my brethren, we are resolved to live and die in the profession of the gospel and unity of Christ. It is impossible for us to embrace the revelations of your prophet; but we are desirous of peace, and cheerfully submit to pay tribute and obedience to his temporal successors." The tribute was ascertained at two pieces of gold for the head of every Christian; but old men, monks, women, and children, of both sexes, under sixteen years of age, were exempted from this personal assessment: the Copts above and below Memphis swore allegiance to the caliph, and promised a hospitable entertainment of three days to every Mussulman who should travel through their country. By this charter of security, the ecclesiastical and civil tyranny of the Melchites was destroyed: the anathemas of St. Cyril were thundered from every pulpit; and the sacred edifices, with the patrimony of the church, were restored to the national communion of the Jacobites, who enjoyed without moderation the moment of triumph and revenge. At the pressing summons of Amrou, their patriarch Benjamin emerged from his desert; and after the first interview, the courteous Arab affected to declare that he had never conversed with a Christian priest of more innocent manners and a more venerable aspect. In the march from Memphis to Alexandria, the lieutenant of Omar intrusted his safety to the zeal and gratitude of the Egyptians: the roads and bridges were diligently repaired; and in every step of his progress, he could depend on a constant supply of provisions and intelligence. The Greeks of Egypt, whose numbers could scarcely equal a tenth of the natives, were overwhelmed by the universal defection: they had ever been hated, they were no longer feared: the magistrate fled from his tribunal, the bishop from his altar; and the distant garrisons were surprised or starved by the surrounding multitudes. Had not the Nile afforded a safe and ready conveyance to the sea, not an individual could have escaped, who by birth, or language, or office, or religion, was connected with their odious name".
ولدينا أيضا جوستاف لوبون، المستشرق الفرنسى الذى استوقف نظره ما أبداه حَفَدَةُ قدماء المصريين حين رآهم يقاومون نفوذ الأغارقة والرومان، ثم يعتنقون دين العرب ولغة العرب وحضارة العرب، والذين صاروا عربا خالصى العروبة حتى لقد توارت أمام حضارة أتباع النبى الجديدة حضارةُ الفراعنة القديمة وحضارةُ اليونان والرومان، التى كانت قد غطت الحضارةَ الفرعونيةَ فى بعض المدن، فكتب قائلا إن مصر، التى أكلتها الانقسامات الدينية ونهكتها مظالم الحكام، كانت تحقد أشد الحقد على سادتها الكئيبين، وكانت تَعُدّ من يحررونها من أيدى قياصرة القسطنطينية منقذين، فحُفِظ هذا الشأن للعرب، الذين سرعان ما تشرب المصريون حضارتهم بعدما اسْتَعْصَوْا على التغيير طوال القرون التى تناوب احتلالَ بلادهم اليونانُ والرومانُ والفرسُ. وقد وقف لوبون منبهرا إزاء سياسة عمرو بن العاص وعدله وإنصافه وحكمته وحذقه وتسامحه وتركه أهل البلاد يمارسون شعائر دينهم بكل حرية دون أن يتعرض لشىء من عاداتهم أو تقاليدهم أو نظمهم، اللهم إلا عادتهم الهمجية فى إلقاء عروس حية فى النيل استجلابا لفيضانه، فضلا عن سماحه لهم ببناء كنائس فى الفسطاط ذاتها، وكل ذلك لقاء مبلغ زهيد من المال يساوى خمسة عشر فرنكا عن كل شخص (قادر على دفع الجزية)، وهو ما تقبله المصريون بالرضا والشكر، على عكس الرومان، الذين لم يستسلموا إلا بعد معارك حامية. وزاد لوبون فنفى عن المسلمين أسطورة إحراق المكتبة الإسكندرية متهما النصارى بأنهم هم الذين قاموا بها مثلما هدموا تماثيل الفراعنة. أما العرب فإن أخلاقهم، حسبما قال، تأبى هذا السلوك الهمجى الذى انتهى العلماء من إزالة وَصْمَته عنهم تماما بما لا يحتاج إلى مزيد.
وكعادتنا فى وضع النصوص الأصلية بين يدى القارئ بين الحين والحين كلما كان ذلك فى مكنتنا ها نحن أولاء نسوق النص التالى من كتاب لوبون فى أصله الفرنسى:
"Ce pays est un de ceux où ils ont séjourné le plus longtemps, fondé un de leurs plus importants empires et où leur influence a été la plus considérable. Rien n'est plus frappant que de voir ces descendants des antiques Egyptiens, qui avaient résisté à l'influence, si puissante pourtant des Grecs et des Romains, adopter la civilisation, la religion, la langue de leurs envahisseurs, au point de devenir complètement Arabes. En Perse et dans l'Inde, la civilisation arabe s'était mélangée à la civilisation ancienne, mais sans la détruire ; en Egypte, l'antique civilisation des Pharaons, de même que celle des Grecs et des Romains superposée à elle dans un petit nombre de villes disparut entièrement devant la nouvelle civilisation créée par les disciples du prophète…
Ensanglantée chaque jour par les dissensions religieuses, ruinée par les exactions des gouverneurs, l'Egypte professait une haine profonde pour ses tristes maîtres, et devait recevoir comme libérateurs ceux qui l'arracheraient aux mains des empereurs de Constantinople. C'est aux Arabes que fut réservé ce rôle…
Ce fut l'an 18 de l'hégire (639 de J.-C.) qu'Amrou, lieutenant du khalife Omar, pénétra en Egypte. Nous avons dit déjà combien sa conduite envers la population envahie fut habile. Laissant aux Egyptiens leur religion, leurs lois, leurs usages, il ne leur demanda en échange de la paix et de la protection qu'il leur assurait, que le paiement régulier d'un tribut annuel de 15 francs par tête. Ces conditions furent acceptées avec empressement. Il n'y eut qu'une partie de la population composée de Grecs, c'est-à-dire les soldats, les fonctionnaires et le clergé, qui refusa de se sou*mettre aux envahisseurs. Réfugiés à Alexandrie, ils y soutinrent un siège de quatorze mois qui coûta la vie à vingt-trois mille Arabes.
Malgré ces pertes importantes, Amrou se montra très indulgent pour les habitants de la grande cité ; il leur épargna tout acte de violence et ne chercha qu'à se concilier leur affection, en recevant toutes leurs réclamations et tâchant d'y faire droit. Il fit réparer les digues et les canaux et consacra des sommes importantes aux grands travaux publics. Quant au prétendu incendie de la bibliothèque d'Alexandrie, un tel vandalisme était tellement contraire aux habitudes des Arabes, qu'on peut se deman*der comment une pareille légende a pu être acceptée pendant si longtemps par des écrivains sérieux. Elle a été trop bien réfutée à notre époque, pour qu'il soit nécessaire d'y revenir. Rien n'a été plus facile que de prouver, par des citations forts claires, que, bien avant les Arabes, les chrétiens avaient détruit les livres païens d'Alexandrie avec autant de soin qu'ils avaient renversé les statues, et que par conséquent il ne restait plus rien à brûler…
L'organisation qu'Amrou donna au pays qu'il venait de conquérir indiquait chez lui un esprit très sage. La population agricole fut traitée avec une équité qu'elle ne connaissait pas depuis longtemps. Il établit des tribunaux réguliers et permanents et des cours d'appel, mais ces tribunaux ne pouvaient juger que les musulmans. Si une des parties était un Egyptien, les autorités coptes avaient le droit d'intervenir. Il respecta les lois, les usages, les croyances des indigènes et n'interdit que la coutume qui voulait que, chaque année, une jeune et belle vierge fut enlevée de force à ses parents, et précipitée dans le Nil pour obtenir du dieu du fleuve une élévation suffisante des eaux au moment de l'inondation. La jeune fille fut remplacée par un mannequin de terre, appelé la fiancée, qu'on précipite encore aujourd'hui dans le fleuve au jour fixé pour la cérémonie. Cet usage, vieux peut-être de plus de soixante siècles, est un indice certain de l'existence de sacrifices humains dans la primitive religion égyptienne"[11].
وهذا نفسه هو ما نجده فى كتاب المستشرق البريطانى ستانلى لين بول: "A History of Egypt in the Middle Ages"، إذ نقرأ فيه ما نَصُّه: "There is very little evidence, however, to show that they were grossly ill-treated. 'Amr, the conqueror, received an embassy of monks, who asked for a charter of their liberties and the restoration of their patriarch Benjamin; he granted the charter and invited the exiled patriarch to return. TheMuslims naturally favoured their allies of the national or Jacobite church, rather than the orthodox church of Constantinople, which was still represented in Egypt.The governor Maslama allowed the Copts to build a church behind the bridge at Fustat". كما نقرأ، عن ثمار السخط لدى المصريين جراء ظلم الرومان لهم واضطهادهم إياهم، ما يلى: "This wide-spread disaffection contributed to the easy triumph of the Arabs. It was first seen in the taking of Pelusium, when the patriarch, called by the Arabs 'Abu-Myamīn' (possibly meaning the banished Jacobite patriarch Benjamin), advised the Copts to support the invaders".
وفى كتابها: "تاريخ الأمة القبطية وكنيستها" تصور مسز بُتْشَر تصويرًا حيًّارغم إيجازه قدوم وفد من الرهبان حفاةً إلى عمرو بن العاص من دير وادى النطرون يريدون مقابلة ذلك الفاتح العظيم بغية التفاوض معه على تسليم البلاد للمسلمين لقاء التمتع بالحرية الدينية والشخصية وإعادة بطريقهم الأب بنيامين من منفاه الصحراوى إلى الإسكندرية بعدما قضى ابن العاص على سلطة الرومان فى مصر وخلص الأقباط من الظلم والاستعباد،، وهو ما تم على النحو الذى اتفق الطرفان عليه، وإن كان من الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين بحال أن الكاتبة تتميز غيظا مما حدث، إذ كانت تفضل أن تحتل قوة أوربية البلاد المصرية على أن يفتحها المسلمون ويخلصوا أهلها من نير الاستعباد والاضطهاد والاستغلال[12].
وبالمثل يؤكد يعقوب نخلة روفيلة صاحب كتاب "تاريخ الأمة القبطية" ترحيب المصريين بالعرب عند فتحهم لبلادهم وتعاونهم معهم فى حربهم ضد الرومان وإرشادهم إياهم إلى عوراتهم ومقاتلهم. وسوف أجتزئ بما قاله خلال تعرضه للحديث عن بناء الفسطاط من أنه "لما شرع عمرو فى بناء مدينة الفسطاط كان القبط من أهم العاملين على عمارتها، ولا سيما رجال الحكومة، الذين كان معظمهم إن لم نقل: كلهم من الأقباط، فشيدوا بها القصور العالية والدور الرحبة والكنائس والديارات الواسعة والمتنزهات والبساتين النضرة. وكان العرب يشجعونهم على ذلك لما فيه من العمران. وهكذا أصبحت الفسطاط، بهمة الأقباط الذين بذلوا النفس والنفيس فى تشييدها، مدينة زاهية زاهرة تحاكى فى البهجة والرونق مدينة منف القديمة، التى شيدتها أيدى الملوك الفراعنة. وفى هذا دليل على إحكام الوفاق وتمكين العلاقات بين القبط والعرب فى ذلك الزمن حتى أباحوا لهم بناءَ كنائسَ ومعابدَ متعددةٍ فى وسط الفسطاط، التى هى مقر جيش الإسلام، على حين أن المسلمين كانوا يصلّون ويخطبون فى الخلاء أو أنه لم يكن لهم غير جامع واحد، الذى بناه عمرو بن العاص"[13].
وعن هذه الفترة أيضا من تاريخ مصر يؤكد إسكندر صيفى فى كتابه: "المنارة التاريخية فى مصر الوثنية والمسيحية" أن أهل مصر ناصروا عمرو بن العاص ضد الروم أبناء دينهم لما لاقَوْه على أيديهم من الاضطهادات المذهبية ولما وفره لهم ذلك الفاتح العظيم من حرية دينية لم يكونوا يحلمون بها[14]. وذكر الكاتب من بين الاختلافات المذهبية بين الرومان والمصريين إيمان الأخيرين بأن المسيح لم يُصْلَب بل شُبِّه لليهود ليس إلا[15]. كما ذكر أن بطريق الإسكندرية فى عهد هرقل، واسمه تيودوروس، كان ممن يعتقدون بأن المسيح لم يُصْلَب بل شُبِّه لهم[16].
ويؤكد جرجى زيدان أن القبط كانوا، بسبب الظلم والضطهاد الواقِعَيْن عليهم من قِبَل البيزنطيين، عونا للمسلمين على فتح مصر. كما يشير، ضمن أسباب أخرى أدت إلى نجاح الفتوح الإسلامية وترحيب البلاد المفتوحة بالعرب، إلى انقسام الفرس والروم فيما بينهم، وانحطاط الحياة الاجتماعية فى بلادهم، واشتعال الشحناء بينهم وبين أهل البلاد الأصليين، وخصوصا فى مصر حيث قاسى الأقباط مثلا سلطة الأجانب من فُرْس فإغريق فرومان أجيالا متطاولة فهان عليهم لهذا السبب الانتقال من سلطان إلى سلطان فرارا من الظلم والضغط. ومثلهم أهل الشام، الذين كان حظهم بنفس السوء، وكانوا يائسين من الاستقلال مثلهم، فلم يهمهم أيضا أن يكون حاكمهم روميا أو عربيا. وربما فضلوا العرب على الرومان لأنهم أقرب إليهم لغة ونسبا وأخلاقا، فضلا عن أن الإنسان يتوسم الخير فى القادم المجهول أكثر مما يتوسمه فى الحاضر المعلوم، وبخاصة إذا كان الفرق بينهما ظاهرا كالفرق بين الروم والعرب: فالروم منحطون فاسدو الأخلاق والآداب، بخلاف العرب، الذين كانوا أوانئذ فى دور نموهم وفى إبان نهضتهم، وكان العدل والمساواة شرعتهم، إضافةً إلى ما كان بين أهل هذين القطرين وبين حكامهم الرومان من الانقسامات الدينية. ونفس ما قاله عن النصارى فى البلاد المفتوحة يقال عن اليهود[17]. وهو يطرق هذا المعنى فى كتابه: "تاريخ مصر الحديث" إذ يقول ما نصه: "أما القبط فكانوا أعوانا للمسلمين فى كثير من احتياجاتهم حسب أمر المقوقس"[18].وفى روايته: "أرمانوسة المصرية" كذلك يهتم بإبراز ترحيب الأقباط بالفاتحين المسلمين.
وها هو ذا أيضا جواهرلال نهرو رئيس وزراء الهند الأسبق يؤكد فى إحدى رسائله لابنته أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند السُّبْقَى، تلك الرسائل التى جُمِعَتْ بعد ذلك فى كتاب سُمِّىَ بـ"Glimpses of World History"، أن العرب "كثيرا ما ربحوا الحرب دون قتال... وقد سَلَّمَتْ لهم مصرُ بسهولة لأنها قد قاست كثيرا من استبداد الإمبراطورية الرومانية من الحروب الطائفية". وعَرَّج نهرو على أسطورة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية فنفاها نفيا حاسما: "وقد أُشِيع أن العرب أحرقوا مكتبة الإسكندرية، ولكن المعتقَد الآن أن هذا مَحْض اختلاق، إذ إن للكتب عند العرب احتراما كبيرا يمنعهم أن يسلكوا هذا المسلك البربرى. ويحتمل أن يكون الإمبراطور ثيودوسيوس، إمبراطور القسطنطينية الذى حدثتكِ عنه، هو المسؤول عن هذا الخراب أو جزءٍ منه لأنه لم يكن راضيا عن الكتب الوثنية الإغريقية القديمة التى كانت تتضمن الأساطيرَ والفلسفةَ اليونانيةَ القديمة. وقد أُحْرِق جزءٌ من المكتبة قبل ذلك بزمن طويل إَبَّان حصار يوليوس قيصر للإسكندرية". وفى نهاية الرسالة يقول إن "العرب كانوا فى بداية يقظتهم متقدين حماسا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قوما متسامحين لأن دينهم يأمر فى مواضع عديدة بالتسامح والصفح. وكان عمر بن الخطاب شديد الحرص على التسامح عندما دخل بيت المقدس. أما مسلمو أسبانيا فإنهم تركوا للجالية المسيحية الكبيرة هناك حرية العبادة التامة. وكانت صلات المسلمين مع الهند، التى لم يحكموا منها إلا السِّنْد، صلات ودية. والواقع أن أبرز ما يميز هذه الفترة من التاريخ هو الفرق الشاسع بين تسامح العرب المسلمين وتعصب النصارى الأوربيين"[19].
ولدانيال رُوبْس، الروائى وأستاذ التاريخ وعضو الأكاديمية الفرنسية، كتاب ضخم من أربعة عشر مجلدا بعنوان "Histoire de l'Eglise" تحدث فى المجلد الثالث منه عن الفتوح الإسلامية مؤكدا أن طوائف من أهل البلاد التى فتحها العرب قد تحالفت معهم ضد اضطهادات هرقل إمبراطور بيزنطة. ومن هؤلاء البطريق القبطى بنيامين، الذى أعاده عمرو بن العاص من مخبئه فى الصحراء، فعقد معه اتفاقا أعيدت إليه بمقتضاه أموال الكنيسة القبطية، وضمن له تعاون النصارى مع المسلمين. ويؤكد الكاتب أيضا أن النصارى، حتى فى الحالات التى لم يتعاونوا فيها مع العرب تعاونا صريحا، قد انقادوا إليهم انقيادا أشبه بالاتفاق، فلم يقفوا إلى جانب الرومان ضدهم، إذ كانوا يعانون الويلات على أيدى هؤلاء الرومان أنفسهم، وهو ما حدث فى مصر، وكذلك فى الشام، الذى استعرب برضًا ودخل موظفوه فى خدمة الفاتحين الجدد دون ممانعة. أما ما كان لا بد من وقوعه فى ميدان المعارك من عنف فهو، حسبما يؤكد الكاتب، أخف كثيرا مما اجترحته أيدى الجرمان فى الغرب، نافيا أى أساس لما يشاع افتراء وزورا من أن المسلمين قد أحرقوا مكتبة الإسكندرية، ومشيرا أيضا إلى أن المسلمين قد حرروا النصارى وساعدوهم فى بناء كنائسهم[20].
وفى "The Arabs in History" لبرنارد لِيوِسْ نقرأ ما كتبه ذلك المستشرق اليهودى، الذى لا يمكن أبدا أن يتهمه متهم بالانحياز للمسلمين، أن الأقباط كانوا من السخط على سادتهم الرومان وحكمهم الاستبدادى بحيث كانوا على استعداد لمساعدة الفاتحين العرب: "The Copts were intensely dissatisfied with Greek rule and ready to help the invaders". ولم يكتف لِيوِسْ بذلك، بل عرّج على أسطورة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، فنفاها بقوة مؤكدا أن الدراسات الجادة المدققة انتهت إلى تفنيدها تماما، علاوة على أن مكتبة السيرابيوم كان قد تم تدميرها قبل مجىء العرب إلى مصر بزمن طويل[21].
ولننصت إلى كلامه وهو يتحدث فى هذا الموضوع بلغته الأم: "A story common in many books tells that after the Arab occupation of Alexandria the Caliph ordered the destruction of the great library of that city on the grounds that if the books contained what was in the Qur'an they were unnecessary, whereas if they did not they were impious. Critical scholarship has shown the story to be completely unfounded. None of the early chronicles, not even the Christian ones, make any reference to this tale, which is first mentioned in the thirteenth century, and in anycase the great library of the Serapeum had already been destroyed in internal dissensions before the coming of the Arabs.".
كذلك يقرر أنتونى ناتنج بقوةٍ أن قبط مصر قد مالوا مع المسلمين وأَبْدَوْا تعاطفهم نحوهم، إذ عانَوْا على أيدى البيزنطيين أفظع ألوان الاضطهاد بسبب اختلاف المذهب ورفضهم التنازل عن عقيدتهم فى المسيح لحساب عقيدة الإمبراطور البيزنطى. كما كان الرهبان الأقباط يعذَّبون ويسامون الـجَلْد بالسياط، وأُغْرِق بَطْرِيقُهم فى البحر بعدما وضع فى زكيبة مقفلة رُبِطت بها بعض الأثقال، ومن ثم مَثَّل لهم المسلمون، الذين طارت شهرتهم فى الآفاق بأنهم متسامحون مع أهل الديانات الأخرى، تقدما ملموسا[22].
وعلى ذات المنوال يؤكد د. نظمى لوقا أن قبط مصر "كانوا يَتَوَسَّمُون فى العرب الخيرَ لِمَا سمعوه عن فتوحهم فى الشام وأنهم حافظوا على الكنائس والديور، وتركوا للأهالى الحرية كاملة، ولم يَقْسِروا أحدا على شىء يتصل بعقيدته أو ملته، وأنهم يُجِلّون القُسُوس والرهبان ويحمون الصوامع والهياكل والصلبان. وهذا نقيض ما أرهق القبط من قيرس والى هرقل، الذى سام القبط العذاب ليحملهم على ملة من المسيحية تخالف ملتهم، وأشاع فيهم العَسْف والقتل. ورأى القبطُ من سيرة العرب فى شهورِ حربِ الفتح كيف فعلوا مثل ذلك بالأقاليم التى وقعت فى مصر تحت حكمهم، فلم يقتضوا من أحد غير الجزية المعقولة. وتلك فى نظرهم حالةٌ ما كانوا ليحلموا بخير منها. فلا ضَيْر عليهم أن يَخْلُف الحاكمُ الجديدُ الحاكمَ القديمَ، فهم على الحالين محكومون، ولكنهم عَسِيُّون الآن أن يجدوا الأمن والدَّعَة والراحة وحرية العبادة بعد العَسْف والخوف والاستبداد ومصادرة العقيدة. ولا يفوتنا فى هذا المقام أن العصر لم يكن فى أى مكانٍ عصرَ عصبياتٍ قومية، فالحكم الرومانى الطويل أَقَرَّ فى النفوس أن الناس بين حاكم ومحكوم، وأن الحاكم قد يكون من غير جنس المحكوم. فالعصبية القومية لم تكن قد تَفَشَّتْ بعد. ولذا انتفت الغَضَاضة من استبدال العرب بالرومان"[23]. ثم يمضى لوقا فى الفصل التالى فيفنّد خرافة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، تلك الخرافة التى يرددها الأغبياء الموتورون رغم أن العلماء الأعلام من مستشرقين وعرب قد انْتَهَوْا جميعا إلى أنها حكاية سخيفة لا تثبت على مَحَكّ التمحيص.
ومن لبنان نأتى إلى الكاتب النصرانى نصرى سلهب فنجده يقول ذات الكلام وأكثر: "إذا كان لنا أن نجرى مقارنة بين ما كان يحصل فى الماضى السحيق أو القريب بل فى الحاضر وبين ما فعله المسلمون المنتصرون لَتَبَيَّن لنا أنهم كانوا بين الشعوب أكثرهم رحمة ورفقا وتسامحا. ولسنا بحاجة إلى أن نورد الأدلة على ذلك، بل حَسْبُنا أن نعيد إلى الأذهان ما فرضه الألمان على فرنسا من مبالغ كثيرة مُرْهِقة على إثر سقوط باريس عام 1870، وما فرضه الحلفاء من تعويضات على ألمانيا نفسها على إثر انتصارهم عليها عام 1918، وما اتخذته الدول مجتمعة من إجراءات بحق ألمانيا واليابان مثلا". ثم يضرب مثالين اثنين من الحرب العالمية الثانية فيقول: "كانت الحرب قد أشرفت على الانتهاء، واتضح للجميع أن اليابان فى حالة احتضار موشكة أن تلقى السلاح، فإذا بخَصْمها[24] يلقى على مدينتين فيها: هيروشيما وناكازاكى قنابل ذرية أدت إلى قتل آلاف الناس، وحرق آلاف وتشويه آلاف من رجال ونساء وأطفال وعُجَّز ومرضى. كما تسببت بمحو المدينتين من جذورهما، فلم يبق فيهما من يُخْبِر ويُنْبِئ. وكان النازيون خلال الحرب نفسها يلقون بالأسرى والمعتقلين جماعاتٍ فى الأَوَاتِين أو فى غرف الغاز الخنّاق، ويلجأون بهذه الأساليب إلى القتل الجماعى، فإذا الضحايا تسقط بالمئات والآلاف بل بعشرات الآلاف. وإذا صح أن المسلمين فى فتوحاتهم قد لجأوا إلى شىء من العنف بحق شعوب البلدان التى فتحوها فلا بد أن يكون هنالك أسباب برّرت ذلك العنف. فالحروب ليست رَشْق ورودٍ ونَثْر فُلٍّ وياسمين، ولا هى رَشّ ماء الزهر والعطور... إنها مع الأسف حديدٌ يُدْمِى ويُمِيت، ونارٌ تحرق وتزهق الروح. بل إنها سلاسل تقيد الحرية بل تمحوها أحيانا وتحجزها. إنها دمار وخراب، وويلات ومصائب تنصبّ على الغالب والمغلوب فى آن معا. لقد خاض بعضُ رؤساء الكنيسة، بعضُ البابوات، حروبًا وقادوها بأنفسهم، فأشرفوا على القتل والدمار. وكانوا أحيانا منتصرين، وأخرى خاسرين".
ثم يضيف قائلا: "واضح وثابت أن مسيحيى الشرق وجدوا فى الفاتحين المسلمين منقذين لهم من البيزنطيين لأن هؤلاء الأخيرين، وهم مسيحيون، مارسوا على رعاياهم المسيحيين اضطهادا شبه مستمر لأسبابٍ تَمُتّ بصلةٍ وُثْقَى إلى المعتقدات والإيمان. ومن الثابت أيضا أن مسيحيى الغرب قد تعرضوا لاضطهادات وأعمال عنف من قتل وتشريد وحَجْر حرية لا يعرف التاريخ لها مثيلا إلا نادرا، وأن أعمال العنف المشار إليها قد مارسها وقام بها مسؤولون مسيحيون أراقوا دماء إخوتهم فى الدين لا لسبب إلا لأن هؤلاء المساكين أرادوا أن يكونوا مسيحيين وفق قناعتهم وإيمانهم. وموجة الاضطهاد تلك، بل الموجات، قد جرفت فى تيارها الصاخب يهودا ومسلمين لإرغامهم على اعتناق الدين المسيحى أو قِصَاصًا لهم لكونهم غير مسيحيين. ولو كان لنا أن نورد الأمثلة والأدلة على صحة هذا الرأى لاقتضى عشرات الصفحات. لذلك نكتفى بمقاطع عرّبناها تعريبا كاد أن يكون حرفيا، وهى تدل دلالة صريحة على أن المسيحيين كانوا أحيانا كثيرة ضحايا إخوانهم فى الدين، وأن المسلمين أظهروا من التسامح الدينى ما لم يظهره شعب منتصر عبر التاريخ"[25]. ثم يمضى سلهب موردا بعض نصوص تبرهن على صدق ما يقول.
ويقدم ألبرت حورانى عدة أسباب لهذا النجاح الذى لقيه العرب فى كسب قلوب الشعوب التى فتحوا بلادها، فيقول إن أهل تلك البلاد بوجه عام لم يكونوا يبالون بجنس من يحكمهم أو دينه ما دام يوفر لهم الأمان ولا يرهقهم بالضرائب ويحترم دينهم ويتركهم يمارسون حياتهم غير متعرض لشىء من عاداتهم ونظامهم الاجتماعى، وهو ما توفر فى الحكم العربى. كما أن سكان المناطق فى جنوب العراق والشام، الذين كانوا يخضعون لحكم اللخميين والغساسنة العرب، آثروا الحكم العربى على حكم الفرس والرومان[26].
وفى مقال له بجريدة "الشعب" المصرية بتاريخ 21 مارس 1987م عنوانه: "بالحوار والتحرك الشعبى وليس بالأمن المركزى" يقرر د. ميلاد حنا أن الإسلام حين دخل مصر فى خلافة عمر بن الخطاب "كان دخوله بترحيب من أهلها... وظل الإسلام ينتشر فى الشعب الواحد فى مصر تدريجيا لعدة قرون إلى أن كان الأزهر، فصار منارة للفكر الإسلامى، واشترك فى صياغة الفقه والفكر والتشريع. ولم يكن فى مصر فى أية مرحلة من تاريخها الطويل إلا لغة واحدة لشعبها الواحد: سادت الهروغليفية قرون الفراعنة إلى أن تطورت اللغة فكتب المصريون الهروغليفية بحروف يونانية مع ألفاظ جديدة، فسادت اللغة القبطية لغة واحدة لشعب واحد قرونا طويلة إلى أن حلت اللغة العربية لغة واحدة لشعب واحدة لما يزيد الآن على ألف عام".
وفى تناوله لهذا الموضوع يقرر المستشار إدوار غالى الذهبى أن اللقاء الأول بين الصحابى الجليل عمرو بن العاص والبطريق القبطى بنيامين سنة 640م كان لقاء مودة، وأن عمرا أكرم البطريق وأمّنه. وهو يستشهد على هذا ضمن ما يستشهد بما أوردناه آنفا عن ساويرس بن المقفع فى "تاريخ البطاركة"، وكذلك بما ورد فى كتاب السِّنِكْسار، الذى يذكر أنه فى اليوم التاسع من شهر طوبة (17 يناير) تحتفل الكنيسة بذكرى البابا بنيامين وأن العرب جاؤوا إلى مصر وفتحوها بقيادة عمرو بن العاص، الذى قرّب إليه رؤساء القبط وأحسن معاملتهم، فاتجه المصريون إلى إصلاح شؤون كنيستهم بعدما اختل نظامها وتفرق شملها. وكان أولئك الرؤساء قد قُدِّموا إلى ابن العاص وأعلموه بخبر اختفاء البابا بنيامين طالبين عودته إلى كرسيه، فاستدعاه عمرو ومنحه الحرية الدينية وأعاد له الكنائس التى كان قد اغتصبها البطريق البيزنطى وأمره أن يتصرف فى أمورها كما يريد، فطابت لذلك قلوب النصارى وشكروا صنيع عمرو إليهم. وكانت النتيجة أن النصارى المصريين وقفوا إلى جانب المسلمين ضد أى محاولة من قِبَل الرومان لاستعادة مصر، وكذلك ضد أى غزو غربى فى أى وقت من الأوقات قديما وحديثا. كما ذكر المستشار الذهبى أنه قد بُنِيَتْ فى مصر كنائس كثيرة بعد الإسلام بدءا من السنوات الأولى لدخولها فى حكم المسلمين، وأن جميع الكنائس الموجودة فى مدينة القاهرة ينطبق عليها قبل غيرها هذا الكلام على أساس أن القاهرة نفسها لم تكن موجودة قبل العصر الفاطمى، فكل مبانيها بما فيها الكنائس إذن لا يمكن أن تكون قد بُنِيَتْ قبل الإسلام، بل ولا قبل العصر الفاطمى[27].
ويؤكد د. نبيل لوقا بباوى أن الأقباط قد رحبوا بالمسلمين رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم مسيحيون مثلهم، إلا أنهم قد لقُوا على أيديهم العقاب ألوانا وأشكالا لم تعرفها البشرية من قبل بعد انقسام الديانة المسيحية إلى ملتين: كاثوليكية وأرثوذكسية، فضلا عما كانوا يفرضونه عليهم طوال الوقت من ضرائب باهظة يئنون تحتها ولا يستطيعون النهوض بها. وقد مضى د. بباوى يستعرض تاريخ مصر على مدار القرون المتتابعة فى عهد الرومان والاضطهادات البشعة التى أوقعها هؤلاء (وأوقعها كذلك الفرس فى الفترة القصيرة التى حكموا فيها مصر) بالمصريين ورجال دينهم وبطارقتهم... إلى وصل إلى الفتح الإسلامى على يد القائد العظيم عمرو بن العاص، الذى وضع حدا لهذا العذاب الجبار بفتحه الكريم لمصر وأعطى النصارى الحرية الدينية كاملة. وهو يُرْجِع هذا التسامح وهذه الرحمة إلى ما كان الرسول الكريم صلوات الله وسلاماته عليه قد أوصى به أصحابه، إذ بشرهم بأنهم سوف يفتحون مصر، فعليهم أن يعاملوا أهلها معاملة كريمة طيبة لأن لهم فيهم نسبا وصهرا، مشيرا بذلك إلى أن هاجر أم أبيهم إسماعيل مصرية، كما أن مارية أم ابنه إبراهيم مصرية. ونصوص الأحاديث التى أرودها د. نبيل هى: "اللهَ فى قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عُدّة وإخوانا فى سبيل الله"، "استوصوا بهم خيرا، فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله"، "ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما". وواضح من هذه النصوص أنها تتنبأ بفتح مصر ودخول أهلها فى الإسلام أفواجا بحيث لم يبق الآن منهم على النصرانية إلا نحو خمسة بالمائة ليسوا كلهم مصريين دمًا.
وينتهى بباوى إلى التأكيد بأنه "بعد ذلك الاستعراض التاريخى من واقع أمهات الكتب المسيحية لا يستطيع أحد أن يؤيد ما يقوله المستشرقون بأن الإسلام انتشر بحد السيف فى مصر، بل الحقيقة أن أهل البلاد من الأقباط الأرثوذكس فى مصر كانت لديهم رغبة قوية فى هزيمة الجيوش البيزنطية الرومانية. لذلك قام الأقباط الأرثوذكس بإرشاد قوات عمرو بن العاص فى كل تجولاتها فى مصر لتخليصهم من حمامات الدم والمقابر الجماعية التى كانت ينصبها الجنود الرومان للأقباط الأرثوذكس فى مصر والشام"، وأن "المسيحيين فى مصر لَقُوا أشكالَ العذاب بكل أنواعه على يد الدولة الرومانية. ولم تَعِ الدولة البيزنطية أمامهم إلا خيارين: الخيار الأول هو عبادة الأوثان، أى عبادة الإمبراطور، والخيار الثانى هو القتل. وبعد أن أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للدولة البيزنطية وضعوا المسيحيين فى مصر أمام خيارين: الخيار الأول القتل، والخيار الثانى هو ترك عقائدهم الأرثوذكسية فى الديانة المسيحية واتباع العقائد الكاثوليكية. لذلك حينما أتى عمرو بن العاص وعرض تخليصهم من عذابهم على أن يدفعوا الجزية أو ضريبة الدفاع مقابل الدفاع عنهم وتخليصهم من ظلم الدولة الرومانية على أن يباشروا عقائدهم بحرية تامة حسب معتقداتهم الدينية فى طبيعة السيد المسيح رحّبوا بذلك".
ويرى المؤلف أن "أهم شىء فى مبادئ الشريعة الإسلامية التى تطبق على غير المسلمين بعد دخول عمرو بن العاص هو حرية العقيدة لغير المسلمين فى مصر تطبيقا لمبدإ "لا إكراه فى الدين" الوارد فى القرآن الكريم دستور المسلمين. وعلى ذلك تطبق على غير المسلمين فى مصر شرائع ملتهم فى نطاق الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق لأنها مسائل مرتبطة بالعقائد وشرائع الملة... وقد بنيت كنائس كثيرة بعد دخول الإسلام مصر فى القرن الأول الهجرى".
منقول
http://www.tanseerel.com/main/articl...ticle_no=31778