صناعة الجسد.. الدخول إلى أسواق الرقيق
معتز الخطيب
ضجيج الجسد الذي تعج به السينما والفضائيات والصحافة والشوارع أحال حياتنا إلى استعراضات مفرطة أصابت الجسد والجنس بكثير من الترهل والإطناب، بل إنه أعاد صياغة رؤيتنا للجسد من خلال إحداث تغيرات على مستوى المفاهيم والقيم. وبات حضور الجسد يرسم تحولات مختلفة؛ ثقافية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، بل وربما سياسية.
فالمتأمل للمشهد العام يجد أن السينما (نحن لم نعرف إلا سينما الترفيه) على الدوام تحتفل بالجسد الأنثوي؛ لما يحققه من جذب وكسب، بل إن الجسد / اللذة شكّل في السنوات الأخيرة موضوعًا لأفلام عديدة، فنشأت ظاهرة "سينما الجنس" فتحول الجسد من عامل للجذب إلى موضوع للسينما، وهو ما نظر إليه أهل الفن على أنه "تطور"؛ لأنه يعني تهميش الرقابة إن لم نقل غيابها.
أما "الفيديو كليب" الذي بات يشكل الظاهرة الأكثر طغيانًا الآن، فهو مثال صارخ على تلاشي الكلمة أمام الصورة، لتصبح الرسالة المعلَنة للمغني والمخرج هي بث الإثارة من خلال الأجساد المتراكمة والموزعة بالمجان هنا وهناك.
** أنثنة الإعلام.. غياب المضمون
والرغبة في استثمار الجسد كانت وراء "أَنْثَنَة الإعلام".. وتحول نساء الإعلان إلى مذيعات كل مؤهلاتهن نصيبهن من الجمال، حتى إن عددًا من الفضائيات شهد تحول عارضات وملكات جمال إلى مذيعات؛ مما أدى إلى غياب المضمون ومقتضيات العمل الإعلامي ليتحول الهدف إلى جذب المشاهد.
وفي هذا السياق تأتي صحافة الفن التي لا تهتم إلا بشؤون الفنانين الخاصة والحضور الطاغي للجسد، في ظل غياب المضمون النقدي الفني، وتسطيح المفاهيم، وباتت برامج "التجميل" وعروض الأزياء والرياضة النسائية من أهم البرامج في بعض الفضائيات.
هذا الحضور الطاغي للجسد من شأنه أن يثير مجموعة من الأسئلة حول علاقة الصورة بالقيمة والمضمون بما تشكل مدخلاً مهمًا لقراءة تلك التحولات المشار إليها بمستوياتها المختلفة والمتشابكة.
** الجسد ومقتضيات الوظيفة!!
فلا شك أن ثمة تفاعلاً بين الواقع والصورة على الشاشة، لكن من المؤكد أن السينما حينما كانت تعرض العلاقات الخاصة باسم "مكاشفة المجتمع"، وحينما كانت تحاكي السينما الغربية والأمريكية تحديدًا، وحينما كانت تصور قصصًا مترجمة لم يكن المجتمع نفسه يعرف هذه الأشياء، بل كانت "أدبًا مصورًا" لأدباء متغربين ثقافةً وفكرًا.
والقول بأن الفن يحاكي الواقع بعيدًا عن توجيهه -مع سذاجته- يخفي مسلَّمة أن أيديولوجيا الكاتب والمخرج والممثل والمنتج والسياسي تتحكم في المضمون، وقد شهدت السبعينيات مثلاً سينما نادية الجندي ونبيلة عبيد المشبعة بالحضور الطاغي للجسد والأنوثة والإغواء، وكان ذلك مترافقًا مع تداعي النموذج الاشتراكي، وطغيان حال الانفتاح الاقتصادي في مصر، وانتشار سوق السينما الأمريكية. كما ركزت سينما التسعينيات -بحسب دراسة أكاديمية- على "المرأة العصرية"، في حين أغفلت قضايا المرأة الفلاحة والكادحة، وشهدنا مؤخرًا "سينما الجنس".
هذه الظواهر لا تبتعد كثيرًا عن تحول الجسد -في الإعلان- إلى امرأة، وهو ما يعني أن الجسد الأنثوي شكَّل فيها كل مقتضيات التوظيف؛ وصار أداة التواصل بين المالك والزبون، والمخرج والمشاهد، والمغني والمستمع (أصبح مشاهدًا!). والأفلام التي كانت تصوِّر أن سبب امتهان المرأة للرقص أو الرذيلة (بأنواعها) هو الحالة الاقتصادية التي تعيشها ذاتُ دلالة مهمة في هذا السياق.
** اللبنانيات.. الاضطرار التاريخي
وليست ظاهرة اللبنانيات التي شكلت إحدى السمات البارزة في الإعلام المعاصر ببعيدة عن هذا، تقول كاتبة لبنانية: "أعرف أن الذي يحصل لأجساد اللبنانيات وعقولهنَّ هو نوع من الاضطرار التاريخي، يعلمنَ بالفطرة الحسنة أن هيئتهنَّ الخارجية هي ربما ما تبقّى لهنَّ ولغيرهنَّ من اللبنانيات من نزوة بلادهنَّ، يدافعن عن اقتصاده باللحم الحي بأن يكشفنَ عن مفاتنه استدراجًا للعقود والاستثمارات والسياحة... فقادته حولوا أجساد اللبنانيات إلى ركن قوي من أركان ازدهار لبنان، وربما استمراره".
هذه التحولات لا تنفك عن المتغيرات السياسية والاقتصادية وسيادة النموذج الرأسمالي الاستهلاكي، والعلاقة تصبح معقدة حين تشتبك القيم بالاقتصاد والثقافة؛ ما ينشأ عنه تحولات على مستوى المفاهيم؛ فقد شهدت مراحل سابقة ظاهرة "نجمة الإغراء"، واشتهرت بها هند رستم التي سميت "مارلين مونرو العرب"، وكان هذا ذا دلالة مهمة على مستوى القيم، والتي تمثل انحيازًا واضحًا لمنظومة القيم الغربية الرأسمالية مع تداعيات النموذج الاشتراكي، والتسمية (مارلين مونرو العرب) تعكس حالة التبعية والمحاكاة للغرب؛ إذ تحولت "الإثارة" إلى قيمة بحد ذاتها تطمح إليها الممثلات فيما بعد، بعد أن كانت "الإثارة" السبب في وجود مفاهيم متأصلة في ثقافتنا مثل "الستر" و"الحياء" و"الاحتشام" والعيب"...
ومفهوم "الإثارة" نفسه كان السبب في الرؤى المتناقضة بين الإسلاميين ودعاة تحرير المرأة في الوقت الذي كانت تُوَجّه إلى الإسلاميين تهمة أنهم لا ينظرون إلى المرأة إلا كجسد!
ولو ذهبنا نتأمل أبعاد ذلك التحول نجد أن ثمة مشكلة على مستوى المفهوم نفسه -إن لم نناقش مشكلته كقيمة تتصل بالنمط الاستهلاكي- فهو يقوم على استصحاب فكرة "الصراع" بين الرجل والمرأة: الرجل يملك السلطة والنفوذ والقوة، والمرأة في المقابل مستضعفة، والسلاح المتاح لها والفاعل هو الإغراء للسيطرة والتحكم بالرجل، وهذا نفسه يثير استغرابًا حول صمت بعض الجمعيات النسائية تجاه هذه الظواهر، في حين تُوَجه هذه التهم للدين فقط!
وهو ما يفرض مساءلة جديدة لمفهوم "تحرير المرأة" وإنجازاته، ويضع الجمعيات النسوية أمام إشكالية حقيقية يجدر بها أن تنشغل بها، بدلاً من الانشغال بالقضايا المكررة والتي كثيرًا ما تكون مشكلة غربية أصلاً.
ثم يفرض -تاليًا- تساؤلاً حول موقف الحكومات التي تتبنى ما سُمي خطط تنمية المرأة، وتسعى لفرضها بالدفع بالحل السياسي من أعلى.
** هتك المحرم.. السياسة تستثنى
والمقلق أن هذه التحولات على مستوى القيم والمفاهيم، والمرتهنة لمتغيرات سياسية اقتصادية تتم في سياق صراع حضاري، وتدافع القيم الإسلامية مع الغربية، وتتم على أيدي نخبة من الأدباء والفنانين والمثقفين تتلاقى مع توجهات الساسة، والمتغيرات الدولية. فإلغاء الرقابة (وهي حكومية بالأصل تراعي الحد الأدنى من قيم المجتمع)، وتناول موضوعات الجنس هو (تطور) بحسب المخرجين والفنانين، بل ظهر توجه مماثل في العقد الأخير لدى بعض المثقفين.
ويتفاخر هؤلاء جميعًا ببلوغ هذا التطور عبر إنتاجهم التجاري (الثقافي في الأصل) من دون أن يعيقهم تناقض ذلك مع تخلفهم الإنساني وسلوكهم الشخصي!
و"هتك المحرم" (يقتصر عندنا على الجنس والدين دون السياسة!) مفهوم حداثي ينبع من صميم الفردية والحرية الليبرالية اللتين قامت بهما أهم ركائز الحداثة الغربية، وهذا يكون مع نخبتنا العربية بمنزلة الإعلان عن الانتماء إلى المنظومة الغربية، ومن هنا نفهم احتفال المؤسسات الغربية بمثل هؤلاء، وتكون ممارسة "هتك المحرم" -حسب هؤلاء- "تنويرًا" للمجتمع من جهة أخرى.
كانت هذه التحولات أبرزَ سمات الرأسمالية التي أرست قيم الاستهلاك الطاغية وحولت الإنسان إلى "شيء"، والجسد الأنثوي إلى صناعة عالمية تستغل البؤر البالغة الحساسية في الطبيعة الإنسانية لاستثمارها اقتصاديًّا؛ فالثقافة الاستهلاكية تحتفل بالجسد بوصفه حاملاً للذة يَشتهي ويُشتهى بحيث تتحول العلاقة بين الجسد والآخر إلى علاقة قائمة على الحاجة والإشباع، ويكون العرض والطلب والإنتاج والاستهلاك أدواتها الفاعلة في عملية التسويق (الثقافي والفني). من هنا نجد أن "المتعة" -بحسب عبد الله إبراهيم- "فقدت بُعدها التواصلي الإنساني إلى نوع من الشغف الاستعراضي المثير الذي يهدف إلى إثارة مجموعة من الاستيهامات بين الرجل والمرأة".
** استنساخ الرغبات والهموم
وهذا الاستهلاك يتصل بالتنميط الغربي الذي يكشف عن تشوهات أحدثها الاستنساخ الثقافي؛ فمثلاً مسرحية تنيسي وليامز "عربة اسمها الرغبة" تم استنساخها في ثلاثة أفلام مصرية (الانحراف 1985م - الفريسة 1986م - الرغبة 2002م)، وهو بحسب الروائي يوسف القعيد "تمصير سيئ"؛ حيث لم يتم تمصير البارات الكثيرة، وفتيات الليل اللاتي يقفن في الشوارع ليلاً تحت أعمدة النور، وتناول الكحول بصورة إدمانية. فبينما يبدو المجتمع الغربي منشغلاً بلذاته ورغباته، وفقيرًا بالقضايا الكلية التي تشغله، يكون استنساخنا لرغباته واهتماماته إسهاماً في تغييب القضايا الكلية والمصيرية في مجتمعاتنا المثقلة والمثخنة بالأزمات، وهذا من شأنه أن يصب في مصلحة السياسي؛ إذ يشغل عن مداخلة الفعل السياسي ومناقشة القرار السياسي، فضلاً عن أن "الرقابة" تصير إلى أن تكون قاصرة على المحظور السياسي وهو المهم!
ربما نكون تجاوزنا مرحلة "الخصوصية" -أو كما يسميها الفرنسيون "تلذذ الاستثناء الثقافي" - لننخرط في تنميط العولمة والاندماج في الآخر بحيث تكون اهتماماته هي اهتماماتنا، ومفاهيمه هي مفاهيمنا في خصوص الجسد على الأقل
http://www.sudaneseonline.com/cgi-bi...msg=1157846509
معتز الخطيب
ضجيج الجسد الذي تعج به السينما والفضائيات والصحافة والشوارع أحال حياتنا إلى استعراضات مفرطة أصابت الجسد والجنس بكثير من الترهل والإطناب، بل إنه أعاد صياغة رؤيتنا للجسد من خلال إحداث تغيرات على مستوى المفاهيم والقيم. وبات حضور الجسد يرسم تحولات مختلفة؛ ثقافية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، بل وربما سياسية.
فالمتأمل للمشهد العام يجد أن السينما (نحن لم نعرف إلا سينما الترفيه) على الدوام تحتفل بالجسد الأنثوي؛ لما يحققه من جذب وكسب، بل إن الجسد / اللذة شكّل في السنوات الأخيرة موضوعًا لأفلام عديدة، فنشأت ظاهرة "سينما الجنس" فتحول الجسد من عامل للجذب إلى موضوع للسينما، وهو ما نظر إليه أهل الفن على أنه "تطور"؛ لأنه يعني تهميش الرقابة إن لم نقل غيابها.
أما "الفيديو كليب" الذي بات يشكل الظاهرة الأكثر طغيانًا الآن، فهو مثال صارخ على تلاشي الكلمة أمام الصورة، لتصبح الرسالة المعلَنة للمغني والمخرج هي بث الإثارة من خلال الأجساد المتراكمة والموزعة بالمجان هنا وهناك.
** أنثنة الإعلام.. غياب المضمون
والرغبة في استثمار الجسد كانت وراء "أَنْثَنَة الإعلام".. وتحول نساء الإعلان إلى مذيعات كل مؤهلاتهن نصيبهن من الجمال، حتى إن عددًا من الفضائيات شهد تحول عارضات وملكات جمال إلى مذيعات؛ مما أدى إلى غياب المضمون ومقتضيات العمل الإعلامي ليتحول الهدف إلى جذب المشاهد.
وفي هذا السياق تأتي صحافة الفن التي لا تهتم إلا بشؤون الفنانين الخاصة والحضور الطاغي للجسد، في ظل غياب المضمون النقدي الفني، وتسطيح المفاهيم، وباتت برامج "التجميل" وعروض الأزياء والرياضة النسائية من أهم البرامج في بعض الفضائيات.
هذا الحضور الطاغي للجسد من شأنه أن يثير مجموعة من الأسئلة حول علاقة الصورة بالقيمة والمضمون بما تشكل مدخلاً مهمًا لقراءة تلك التحولات المشار إليها بمستوياتها المختلفة والمتشابكة.
** الجسد ومقتضيات الوظيفة!!
فلا شك أن ثمة تفاعلاً بين الواقع والصورة على الشاشة، لكن من المؤكد أن السينما حينما كانت تعرض العلاقات الخاصة باسم "مكاشفة المجتمع"، وحينما كانت تحاكي السينما الغربية والأمريكية تحديدًا، وحينما كانت تصور قصصًا مترجمة لم يكن المجتمع نفسه يعرف هذه الأشياء، بل كانت "أدبًا مصورًا" لأدباء متغربين ثقافةً وفكرًا.
والقول بأن الفن يحاكي الواقع بعيدًا عن توجيهه -مع سذاجته- يخفي مسلَّمة أن أيديولوجيا الكاتب والمخرج والممثل والمنتج والسياسي تتحكم في المضمون، وقد شهدت السبعينيات مثلاً سينما نادية الجندي ونبيلة عبيد المشبعة بالحضور الطاغي للجسد والأنوثة والإغواء، وكان ذلك مترافقًا مع تداعي النموذج الاشتراكي، وطغيان حال الانفتاح الاقتصادي في مصر، وانتشار سوق السينما الأمريكية. كما ركزت سينما التسعينيات -بحسب دراسة أكاديمية- على "المرأة العصرية"، في حين أغفلت قضايا المرأة الفلاحة والكادحة، وشهدنا مؤخرًا "سينما الجنس".
هذه الظواهر لا تبتعد كثيرًا عن تحول الجسد -في الإعلان- إلى امرأة، وهو ما يعني أن الجسد الأنثوي شكَّل فيها كل مقتضيات التوظيف؛ وصار أداة التواصل بين المالك والزبون، والمخرج والمشاهد، والمغني والمستمع (أصبح مشاهدًا!). والأفلام التي كانت تصوِّر أن سبب امتهان المرأة للرقص أو الرذيلة (بأنواعها) هو الحالة الاقتصادية التي تعيشها ذاتُ دلالة مهمة في هذا السياق.
** اللبنانيات.. الاضطرار التاريخي
وليست ظاهرة اللبنانيات التي شكلت إحدى السمات البارزة في الإعلام المعاصر ببعيدة عن هذا، تقول كاتبة لبنانية: "أعرف أن الذي يحصل لأجساد اللبنانيات وعقولهنَّ هو نوع من الاضطرار التاريخي، يعلمنَ بالفطرة الحسنة أن هيئتهنَّ الخارجية هي ربما ما تبقّى لهنَّ ولغيرهنَّ من اللبنانيات من نزوة بلادهنَّ، يدافعن عن اقتصاده باللحم الحي بأن يكشفنَ عن مفاتنه استدراجًا للعقود والاستثمارات والسياحة... فقادته حولوا أجساد اللبنانيات إلى ركن قوي من أركان ازدهار لبنان، وربما استمراره".
هذه التحولات لا تنفك عن المتغيرات السياسية والاقتصادية وسيادة النموذج الرأسمالي الاستهلاكي، والعلاقة تصبح معقدة حين تشتبك القيم بالاقتصاد والثقافة؛ ما ينشأ عنه تحولات على مستوى المفاهيم؛ فقد شهدت مراحل سابقة ظاهرة "نجمة الإغراء"، واشتهرت بها هند رستم التي سميت "مارلين مونرو العرب"، وكان هذا ذا دلالة مهمة على مستوى القيم، والتي تمثل انحيازًا واضحًا لمنظومة القيم الغربية الرأسمالية مع تداعيات النموذج الاشتراكي، والتسمية (مارلين مونرو العرب) تعكس حالة التبعية والمحاكاة للغرب؛ إذ تحولت "الإثارة" إلى قيمة بحد ذاتها تطمح إليها الممثلات فيما بعد، بعد أن كانت "الإثارة" السبب في وجود مفاهيم متأصلة في ثقافتنا مثل "الستر" و"الحياء" و"الاحتشام" والعيب"...
ومفهوم "الإثارة" نفسه كان السبب في الرؤى المتناقضة بين الإسلاميين ودعاة تحرير المرأة في الوقت الذي كانت تُوَجّه إلى الإسلاميين تهمة أنهم لا ينظرون إلى المرأة إلا كجسد!
ولو ذهبنا نتأمل أبعاد ذلك التحول نجد أن ثمة مشكلة على مستوى المفهوم نفسه -إن لم نناقش مشكلته كقيمة تتصل بالنمط الاستهلاكي- فهو يقوم على استصحاب فكرة "الصراع" بين الرجل والمرأة: الرجل يملك السلطة والنفوذ والقوة، والمرأة في المقابل مستضعفة، والسلاح المتاح لها والفاعل هو الإغراء للسيطرة والتحكم بالرجل، وهذا نفسه يثير استغرابًا حول صمت بعض الجمعيات النسائية تجاه هذه الظواهر، في حين تُوَجه هذه التهم للدين فقط!
وهو ما يفرض مساءلة جديدة لمفهوم "تحرير المرأة" وإنجازاته، ويضع الجمعيات النسوية أمام إشكالية حقيقية يجدر بها أن تنشغل بها، بدلاً من الانشغال بالقضايا المكررة والتي كثيرًا ما تكون مشكلة غربية أصلاً.
ثم يفرض -تاليًا- تساؤلاً حول موقف الحكومات التي تتبنى ما سُمي خطط تنمية المرأة، وتسعى لفرضها بالدفع بالحل السياسي من أعلى.
** هتك المحرم.. السياسة تستثنى
والمقلق أن هذه التحولات على مستوى القيم والمفاهيم، والمرتهنة لمتغيرات سياسية اقتصادية تتم في سياق صراع حضاري، وتدافع القيم الإسلامية مع الغربية، وتتم على أيدي نخبة من الأدباء والفنانين والمثقفين تتلاقى مع توجهات الساسة، والمتغيرات الدولية. فإلغاء الرقابة (وهي حكومية بالأصل تراعي الحد الأدنى من قيم المجتمع)، وتناول موضوعات الجنس هو (تطور) بحسب المخرجين والفنانين، بل ظهر توجه مماثل في العقد الأخير لدى بعض المثقفين.
ويتفاخر هؤلاء جميعًا ببلوغ هذا التطور عبر إنتاجهم التجاري (الثقافي في الأصل) من دون أن يعيقهم تناقض ذلك مع تخلفهم الإنساني وسلوكهم الشخصي!
و"هتك المحرم" (يقتصر عندنا على الجنس والدين دون السياسة!) مفهوم حداثي ينبع من صميم الفردية والحرية الليبرالية اللتين قامت بهما أهم ركائز الحداثة الغربية، وهذا يكون مع نخبتنا العربية بمنزلة الإعلان عن الانتماء إلى المنظومة الغربية، ومن هنا نفهم احتفال المؤسسات الغربية بمثل هؤلاء، وتكون ممارسة "هتك المحرم" -حسب هؤلاء- "تنويرًا" للمجتمع من جهة أخرى.
كانت هذه التحولات أبرزَ سمات الرأسمالية التي أرست قيم الاستهلاك الطاغية وحولت الإنسان إلى "شيء"، والجسد الأنثوي إلى صناعة عالمية تستغل البؤر البالغة الحساسية في الطبيعة الإنسانية لاستثمارها اقتصاديًّا؛ فالثقافة الاستهلاكية تحتفل بالجسد بوصفه حاملاً للذة يَشتهي ويُشتهى بحيث تتحول العلاقة بين الجسد والآخر إلى علاقة قائمة على الحاجة والإشباع، ويكون العرض والطلب والإنتاج والاستهلاك أدواتها الفاعلة في عملية التسويق (الثقافي والفني). من هنا نجد أن "المتعة" -بحسب عبد الله إبراهيم- "فقدت بُعدها التواصلي الإنساني إلى نوع من الشغف الاستعراضي المثير الذي يهدف إلى إثارة مجموعة من الاستيهامات بين الرجل والمرأة".
** استنساخ الرغبات والهموم
وهذا الاستهلاك يتصل بالتنميط الغربي الذي يكشف عن تشوهات أحدثها الاستنساخ الثقافي؛ فمثلاً مسرحية تنيسي وليامز "عربة اسمها الرغبة" تم استنساخها في ثلاثة أفلام مصرية (الانحراف 1985م - الفريسة 1986م - الرغبة 2002م)، وهو بحسب الروائي يوسف القعيد "تمصير سيئ"؛ حيث لم يتم تمصير البارات الكثيرة، وفتيات الليل اللاتي يقفن في الشوارع ليلاً تحت أعمدة النور، وتناول الكحول بصورة إدمانية. فبينما يبدو المجتمع الغربي منشغلاً بلذاته ورغباته، وفقيرًا بالقضايا الكلية التي تشغله، يكون استنساخنا لرغباته واهتماماته إسهاماً في تغييب القضايا الكلية والمصيرية في مجتمعاتنا المثقلة والمثخنة بالأزمات، وهذا من شأنه أن يصب في مصلحة السياسي؛ إذ يشغل عن مداخلة الفعل السياسي ومناقشة القرار السياسي، فضلاً عن أن "الرقابة" تصير إلى أن تكون قاصرة على المحظور السياسي وهو المهم!
ربما نكون تجاوزنا مرحلة "الخصوصية" -أو كما يسميها الفرنسيون "تلذذ الاستثناء الثقافي" - لننخرط في تنميط العولمة والاندماج في الآخر بحيث تكون اهتماماته هي اهتماماتنا، ومفاهيمه هي مفاهيمنا في خصوص الجسد على الأقل
http://www.sudaneseonline.com/cgi-bi...msg=1157846509