الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين

تقليص

عن الكاتب

تقليص

فارس التوحيد مسلم اكتشف المزيد حول فارس التوحيد
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فارس التوحيد
    2- عضو مشارك
    • 23 مار, 2011
    • 190
    • محاسب
    • مسلم

    الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين

    الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين / على الصلابي
    2011-09-27 --- 29/10/1432
    --------------------------------------------------------------------------------
    المختصر/
    بدأت بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره مع الحركات الإسلامية منذ القرنين الماضيين, وتوارثت الأجيال الحاضرة تلك التجارب التي تركت لنا معالم فقه التمكين, ومن أهم هذه الحركات:
    أولاً: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
    هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي، ولد سنة 1115هـ/ 1703م في بلدة العينية الواقعة شمال الرياض, بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو مترًا، أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب[1].
    ونشأ على حب العلم، فطلبه منذ صغره وظهر منه نبوغ وتميز، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، وتتلمذ على كتب ابن تيمية في الفقه والعقائد والرأي، وأعجب بها أيما إعجاب, وتأثر بكتب ابن القيم، وابن عروة الحنبلي، وغيرهم من فحول هذا المنهل السلفي[2].
    ورحل في طلب العلم إلى مكة، والمدينة، والبصرة، والأحساء، وتعرض لفتن عديدة عندما جاهر بآرائه في العراق، ثم رجع بعد ذلك إلى نجد.
    أ- إعلان دعوته:
    وعندما رجع إلى حريملاء ببلاد نجد بدأ بدعوته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاشتغال بالعلم والتعليم، والدعوة إلى عقيدة التوحيد الصافية، وحذر من الشرك ومخاطره وأنواعه, وتعرض لمحاولة اغتيال من بعض السفهاء في حريملاء، وانتقل بعد ذلك إلى بلدته العينية وتلقاه أميرها بالترحيب وشجعه على أمر الدعوة، فأقام الشرع ونفَّذ الحدود وهدم القباب، ولم يستمر في حريملاء طويلاً بسبب ضغط أمير الأحساء على أمير حريملاء لقتل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فخرج ماشيًا على الأقدام إلى الدرعية.
    ب- تحالفه مع محمد بن سعود:
    استطاع محمد بن عبد الوهاب أن يتحالف مع الأمير محمد بن سعود الذي قدَّم ماله ورجاله من أجل دعوة التوحيد، وكان هذا التحالف على أسس متينة, واستطاع الشيخ أن يواصل دعوته للناس بالتعليم والرسائل والوعظ, واستمر على هذا الحال يعلِّم الناس ويكتب الرسائل ويدبجها بالحجج والبراهين والأدلة على صحة دعواه، يدعو إلى إزالة المنكر وهدم قباب القبور، وسدّ ذرائع الشرك، وتحقيق العبودية لله وحده[3].
    وظلت الدعوة مسالمة متأنية، تطرق القلوب برفق وأناة، وتدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمر يعلِّم من يحضر دروسه ويوضح عقيدته، ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والداني، ولكنه رأى أن اللين يقابل بالشدة، وأن الصدق يقابل بالكذب، والموعظة الحسنة يُردُّ عليها بالمؤامرات، فلم يكن بدٌّ من دخول مرحلة الجهاد وتغيير المنكر بالقوة.
    إذا لم يكن إلا الأسنة مركبًا *** فما حيلة المضطر إلا ركوبها[4]
    وبدأ الشيخ يعاونه الأمير محمد بن سعود بإعداد العُدَّة من الرجال والسلاح للخروج بجموع المجاهدين من الدرعية إلى خارج حدودها؛ لنشر الدعوة وتثبيت أركانها في الجزيرة وخارجها. وكان الشيخ يشرف بنفسه على إعداد الرجال، وتجهيز الجيوش وبعث السرايا, ويستمر مع ذلك على الدرس والتدريس، ومكاتبة الناس، واستقبال الضيوف، وتوديع الوفود؛ فقد جمع الله له العلم والجاه، والعزة والتمكين بعد جهاد طويل[5]. وقد كان له نظر سياسي ثاقب وخبرة واسعة في أمور الحرب والسياسة، ومما يذكر أنه كان يشرف بنفسه على إعداد المجاهدين وتحضير الكتائب وتسيير المقاتلين[6].
    واستمرت الحروب بين أنصار الدعوة وأعدائها سنين عديدة، وكان النصر حليف أصحاب الدعوة في أغلب المواقف,وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى. وفي عام 1178هـ/ 1773م فتحت الرياض بقيادة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفرَّ منها حاكمها السابق دهام بن دواس، وكان حاكمًا ظالمًا غشومًا، اعتدى على الدعاة مرارًا، ونقض العهود التي أبرمها مع القائمين على الدعوة.
    وبعد فتح الرياض اتسعت رقعة الأرض التي تخضع للدعوة، ودخل كثير من الناس في الدعوة مختارين، فقد أزيلت العوائق التي كانت تصدهم عنها، وانفرجت الأمور بعد ضيق، وجاء اليسر بعد العسر، وكثرت الأموال، وهدأت الأحوال, وأمن الناس في ظل الدولة الإسلامية الفتية، التي حُرِم الناس من نعمة الأمن والاستقرار مدة غيابها[7].
    لقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالسنن لتمكين دين الله تعالى، فنلاحظ في دعوته أخذه بشروط التمكين ودعوة الناس وتربيتهم عليها من الإيمان بالله، والعمل الصالح، وتحقيق العبودية ومحاربة الشرك، وتقوى الله تعالى، وأخذه بأسباب التمكين ويظهر حرصه على الأخذ بالأسباب في تحالفه مع الأمير محمد بن سعود الذي وظَّف جيشه وحكومته وماله وسلاحه, ورجاله لخدمة الدعوة، ومرت الدعوة بالمراحل الطبيعية من التعريف بها وإعداد من يحملها، ومغالبة أعدائها والتمكين لها، ومرَّ الشيخ بسنة الابتلاء، ومارس سنة التدرج، وشرع في الأخذ بسنة تغيير النفوس، واستخدام سُنَّة التدافع بين الحق والباطل، ولم يترك سنة الأخذ بالأسباب، وهذا كله يدخل تحت فقه التمكين الذي مارسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
    ثانيًا: حركة الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي
    هو أحمد بن عبد الأحد بن زين العابدين السرهندي، يتصل نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولد ليلة الجمعة 14 شوال 971هـ/ 1563م بمدينة سرهند ببلاد الهند، وسماه والده "شيخ أحمد". نشأ الإمام السرهندي في بيئة متضاربة فكريًّا، متعارضة عقديًَّا، مضطربة خلقيًّا، فقد ترعرع في عهد الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر، من أباطرة آل تيمور المغوليين الذي انحرف عن الإسلام، والذي سيطرت عليه فكرة حلول الألف الثاني من عمر الإسلام، وقد تأثر بدعوة بعض الفلاسفة المارقين عن الإسلام بقولهم: إن عمر الإسلام الطبيعي ألف عام، أما وقد انقطعت وبدأ الألف الثاني، فإن الدنيا في حاجة إلى عهد جديد تتابع فيه مسيرتها، كما أنها في حاجة ماسَّة إلى دين جديد يمارس الناس من خلاله حياتهم الدينية، وتشريع جديد ينظم شئونهم ويدبر معاشهم، ويستغنون به عن الدين الذي سلف ذهابه بذهاب ألف سنة من عمره.
    واستحوذت فكرة الدين الجديد على نفس الملك أكبر, وشكَّل لجانًا لنشر الدين الجديد ونشرها في نواحي الهند، لقد كان ذلك الدين يحتوي على الشرك بكل أنواعه وأصنافه، فدخلت عبادة الشمس والكواكب بدلاً من التوحيد الخالص، وأبدلت عقيدة البعث والنشور بعقيدة التناسخ، وأحلَّ الدين الجديد الربا والقمار والخمر والخنزير, وأباح الزنا وصدر قانون بتنظيمه, وحرم ذبح البقر، وحرم الحجاب... إلخ.
    وانتشرت النظريات الفلسفية التي كانت تؤمن بأن العقل وحده قادر على إدراك الحقائق الحاضرة منها والغائبة, حتى استغنوا بالعقل عن الرسل والرسالات وكل ما يتعلق بهما.
    وفي خضم هذه الاضطرابات وتلك الفوضى، كان الإمام السرهندي قد قارب الثلاثين من عمره، وكان قد تسلح بالعلوم الدينية وأصول أهل السنة، وقد حباه الله عز وجل عقلاً راجحًا, وفكرًا ثاقبًا, وذوقًا مرهفًا، وقلبًا واعيًا، فاستعمل كل مواهبه لخدمة الإسلام والمسلمين، ووقف متحديًا كل هذه الأفكار الضالة، كاشفًا عورات هذه السخافات والبدع والخرافات، بل عمل حتى وصل إلى بلاط الملك أكبر في عهد ابنه، وتغيَّر الدين الباطل الذي كانت عليه الدولة إلى دين الإسلام الصحيح[8].
    منهج الإمام السرهندي للوصول إلى مرحلة التمكين:
    1- اهتم بتعليم وتربية مجموعات هائلة من أفراد الأمة وأعدهم إعدادًا تربويًّا عمليًّا دعويًّا رفيع المستوى، ثم أرسلهم إلى القرى والمدن لدعوة الناس.
    2- اهتم بنقد فكر الفلاسفة المنحرف، والصوفية الباطلة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد,وبيَّن الطريق الصحيح لمعرفة الحق، والوصول اليقيني إلى معرفة الإله الواحد من خلال القرآن ومنهج أهل السنة والجماعة.
    3- حارب كل أنواع الشرك، ومن أقواله في ذلك: "إن تعظيم مظاهر الشرك وأعياد الجاهلية من أعظم أنواع الشرك بالله عز وجل، وإن من يعتقد بصحة دينَيْن وصلاحيتهما في وقت واحد، فهو مشرك، وإن من يعمل بأحكام الإسلام وأعمال الكفر والشرك فهو مشرك، ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة من الشرك ومحادته ومعاداته، وإن التوحيد هو الاشمئزاز والتبرم من كل شائبة من شوائب الشرك"[9].
    4- اهتم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، وخلود رسالة محمد ودعم وحدة المسلمين وإعادتهم إلى حظيرة الإسلام، وكان سببًا في حماية المسلمين في بلاد الهند من رِدَّة محققة.
    5- قاوم المد الشيعي الذي اخترق البلاط الملكي في عهد نور الدين جهانكير بن الملك أكبر،ورفع راية أهل السنة جهارًا نهارًا، بل استطاع أن يصل إلى معسكر الملك وبلاطه بواسطة تلميذه بديع الدين السهارنبوري.
    6- اهتم بالأمراء الذين ظهر منهم تديُّن، وفيهم شهامة وحب للخير، فهذا الأمير خان جهان وكان الملك جهانكير يحبه حبًّا جمًّا، ويعتمد عليه في كثير من شئون الدولة، كتب إليه السرهندي يحثه على نصرة دين الله فيقول له: "لو جمعتم بين ما تتبوءون من منصب كبير، وبين العمل على الشريعة الإسلامية، لأديتم أمانة الأنبياء -عليهم الصلوات والتسليمات- وأوضحتم الدين المتين وأضأتموه وعممتموه، ولو جهدنا -نحن الفقراء- أنفسنا أعوامًا طوالاً لما لحقنا بغبار أمثالكم من صقور الإسلام.
    ألا نفوس أبيَّات لهم همم *** أما على الخير أنصار وأعوان"[10]
    وكانت لرسائله أثر طيب في التأثير على القادة والأمراء، والتفافهم حول القرآن والسُّنَّة.
    7- استطاع الإمام السرهندي بعد جهاد مرير،وبلاء عظيم أن يصل إلى الملك نفسه وأصبح من حاشيته، ولم يترك جلساء السوء ينفردون به بل عمل على دعوة قوَّاد الجيش وحاشية الملك إلى الإسلام الصحيح، وتأثروا بالإمام السرهندي؛ لما رأوا فيه من حسن الخلق وغزارة العلم، وإخلاص للدين، وزهد وورع متين، وحكمة في الدعوة إلى الله. ولقد تعاون أولئك القادة مع الإمام السرهندي من أجل التمكين لدين الله، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أزيل دين الملك أكبر، الذي فرضه على الرعية، وأعيد للإسلام مكانته الرفيعة[11].
    لقد تأثر الملك جهانكير بمبادئ الإمام السرهندي وأقواله، فاستبدل بالإلحاد الإيمان، وأحلَّ الإسلام محل الزندقة، وجاهر بذلك على رءوس الملأ من قومه.
    لقد أظهر الملك شعائر الإسلام ورفع أحكامه، وأعز أهله وبكى كثيرًا على سابق تفريطه.
    إن الإمام السرهندي مدرسة مهمَّة في فقه التمكين، وله منهجية رائعة في أساليب الدعوة، حققت نتائج عظيمة للمسلمين في الهند.
    إن الاقتراب من رجال الدولة والملوك والأمراء من أجل دعوتهم إلى الإسلام وتمكين دينه، قام به العلماء والدعاة من أمثال الإمام السرهندي، وحققت نتائج طيبة في نصرة دين الله.
    المصدر: عودة ودعوة
  • sara94
    2- عضو مشارك
    • 9 سبت, 2011
    • 220
    • طالبة
    • مسلم

    #2
    معايير نجاح الحركات الإسلامية .. الإخوان نموذجا


    إبراهيم الهضيبي
    كاتب مصري

    في مجال الحديث عن الأزمات الفكرية التي تعاني منها الحركة الإسلامية المعاصرة، لابد من الحديث عن أزمة خفية وغير منطوقة، ولكنها ولا شك موجودة في عقول عدد كبير من العاملين للإسلام، وتؤثر بشكل واضح في منهجية تفكيرهم وقراراتهم.
    وحتى لا أعمم، فإنني أعني هنا تحديدا تلك الأزمة التي يعاني منها الكثير من العقول الإخوانية (التي أحبها وأرى فيها الأمل في النهوض بالأمة) في إدارة العلاقة بين ثلاثية الفكرة والمجتمع والتنظيم.
    فهناك من دون شك علاقة هامة تربط بين كل طرفين من أطراف الثلاثية، فأما العلاقة بين الفكرة والتنظيم فمما لا شك فيه أن التنظيم يقوم على فكرة يحاول بثها وتحريكها، وأما العلاقة بين التنظيم والمجتمع فهو أن هذا التنظيم هو ولا شك جزء من المجتمع يتحرك بتحركه ويتفاعل مع قضاياه، وهذا التنظيم يحاول نقل ما يحمله من أفكار إلى المجتمع، وهو ما يمثل الضلع الثالث لتلك الثلاثية، أو العلاقة بين الفكرة والمجتمع.

    كيف يمكننا التقييم؟
    والحقيقة أنني أجد أن كل ذلك يدفعني إلى طرح سؤال أظنه من الأهمية بمكان، وهو: كيف يمكن تقييم نجاح الحركات الإسلامية المعاصرة، وفي القلب منها بالتأكيد حركة الإخوان المسلمين؟.


    حسن البنا

    وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نعود إلى بعض من كتابات الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والظروف المحيطة به لنستشف من ذلك أهداف قيام الحركة فنستطيع أن نقيم في ضوئها منجزاتها.
    بداية أتفق مع طرح العلامة المستشار طارق البشري، والذي خلاصته أن الحركة الإسلامية لم تنشأ كرد فعل لسقوط الخلافة فحسب، وإلا لكان هدفها سياسيا فقط وهو إعادة الخلافة، وإنما نشأت الحركة في مواجهة اتجاه علماني تغريبي أصبح يسيطر على الأمة (أو على نخبتها المثقفة) بسبب حالة الجمود التي كان عليها الفكر الإسلامي في المرحلة السابقة لذلك.
    فقد كان هدف الحركة الإسلامية (أو الإخوان على وجه الخصوص) هو إعادة بناء الهوية الثقافية للمجتمع على نفس الأصول المعرفية الإسلامية، ووفق المنهج الإصلاحي الذي بدأ بموقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، ونضج مع الأستاذ الإمام محمد عبده، تم اكتملت بلورته على يد السيد رشيد رضا، أستاذ الإمام البنا ومعلمه.
    وتمثلت عبقرية الإمام البنا في إنجازين عظيمين نجح في القيام بهما؛ أما الأول فكان تبسيط الأفكار الإصلاحية للأفغاني وعبده ورضا، من دون إخلال بعمقها، وإعادة إنتاجها من خلال كلمات سهلة ومبسطة استطاعت إبهار العامة والمثقفين في آن واحد، فتحول بذلك التيار الإصلاحي الإسلامي من تيار نخبوي ضيق محدود (كما كان وقت الأفغاني وعبده ورضا) إلى حركة شعبية جماهيرية ونخبوية في آن واحد، تتمتع بتأييد شعبي وقبول نخبوي.
    أما النجاح الثاني للإمام البنا والعبقرية الأخرى، فكانت عبقرية تنظيمية استطاع بها بناء تنظيم يتحرك بالفكرة في المجتمع فيحميها وينشرها؛ ولعل أهم دلائل تلك العبقرية هي بقاء التنظيم وصموده على الرغم من كل التغيرات المجتمعية من حوله، وكل الضربات التي تعرض لها، والتي حاول بعضها تحطيمه بالكلية (كما حدث قبل اغتيال البنا مباشرة، ومرة أخرى في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر) وحاول بعضها الآخر تحجيمه وإبقائه في إطار محدد من القوة والتأثير (كما هو الحال في عهد الرئيسين الراحل أنور السادات والحالي محمد حسني مبارك).
    ولأن الفكرة الأساسية التي قامت عليها جماعة الإخوان كانت فكرة الإصلاح الإسلامي الشامل، فقد كان من الطبيعي أن تكون أول قاعدة تقوم عليها الجماعة هي فكرة (شمولية الإسلام).
    ولأن الواقع – كما سبق وأشرنا - كان يسير في اتجاه مخالف لتلك الفكرة، ولأنه لم تكن هناك جهات إسلامية لها من القوة ما يمكنها من مواجهة ذلك التغريب، فقد كان من الطبيعي أن ينشأ تنظيم شامل، له أذرع سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وثقافية ودعوية بل وعسكرية (لم يكن دورها إلا مواجهة الاحتلال كما هو الحال مع بقية التنظيمات العسكرية التي شكلتها الأحزاب السياسية كالقمصان الزرق الوفديين وغيرهم)، فصارت بذلك جماعة الإخوان (جماعة شاملة تعبر عن فكرة شاملة).


    شمولية "الفكرة" وشمولية "التنظيم"

    طارق البشري

    وقبل المضي قدما في مناقشة تلك الفكرة يجب الإشارة إلى نقطة هامة، وهي التفرقة بين شمولية الفكرة وشمولية التنظيم؛ فتلك نقطة تجب مراعاتها وفهم أبعادها المختلفة.
    يقول المستشار طارق البشري: "إن شمولية الإسلام لا تعني غياب التخصص"، بل إنني أرى حقيقة أن شمولية الإسلام هي التي تفرض هذا التخصص؛ وإلا فكيف يمكن للعقل المسلم أن يعمل في كل هذه الاتجاهات السابقة التي أشار إليها الإمام البنا، فينتج فيها ما يحقق إضافة حقيقية للأمة في ظل تعقد الواقع واحتياجه لمجهود كبير في فهمه في كل اتجاه من اتجاهاته؟.
    أظن أنه وحتى في داخل التنظيم الواحد فإن هناك ولابد تخصصات مختلفة؛ فيوجد في داخل الإخوان مثلاً أقسام سياسية وتربوية ودعوية واجتماعية ...إلخ، والعاملون في كل قسم من هذه الأقسام يدرسون الإسلام بشموليته، ولكنهم يتخصصون في مجال واحد من مجالات العمل الإسلامي؛ فكلهم يعرف أن السياسة جزء من الإسلام، ولكن بعضهم يرفض ممارسة السياسة بشكل مباشر، وليس في ذلك خطأ.
    فمن غير المعقول أن نطلب من إمام المسجد مثلاً أن يمارس السياسة بشكل مباشر. (لا أقول هنا أن تكون عنده رؤية سياسية مبنية على فهمه للدين ورؤيته للواقع، وإنما أقول ممارسة السياسة بشكل مباشر بما يحتاجه ذلك من فهم للواقع السياسي وكيفية التأثير به، وبناء التوافق حول القضايا المطروحة وترتيب الأجندة السياسية وبناء الخطاب السياسي الناجح والمؤثر والمتوازن، إلى آخر هذه الأمور التي تحتاج للتخصص).

    فهمي هويدي

    وقد كان من أسباب انتقاد المفكر الأستاذ فهمي هويدي لبعض الدعاة الشباب هو أنهم حاولوا الخوض في مجالات الإصلاح المجتمعي والسياسي بشكل أو بآخر؛ ولم يقصد هويدي بذلك أن يقول إن هذه المجالات بعيدة عن الدين ولا ينبغي أن يهتم بها الدعاة، وإنما أراد أن يقول إن دور الدعاة يتوقف عند التنبيه على أهمية هذه الأدوار، في حين يقوم الإسلاميون المتخصصون في هذه المجالات ببناء خطط التغيير فيها ولا يقوم بذلك الدعاة.
    وقد أردت بهذا الاستطراد أن أنبه إلى ما نبه إليه العالم الجليل عبد الحليم أبو شقة (رحمه الله) ووافقه عليه العلامة القرضاوي، حينما قال: "إن شمولية الفكرة لا تعني بالضرورة شمولية التنظيم" (انظر تقديم القرضاوي لكتاب أبي شقة "نقد العقل المسلم")، إذ لو كان الأمر كذلك لاسلتزم وجود تنظيم عسكري للحركة الإسلامية؛ ذلك أن الإسلام به جانب جهادي لا يمكن أن ينكره أحد، ولكن هذا الجانب قد تم التخلي عنه في الحركة الإسلامية من دون إسقاطه من الفكرة الإسلامية؛ فهو دور في الدولة الحديثة لابد وأن تكون الدولة هي من تقوم به من خلال الجيوش النظامية، ولا يصح لغيرها أن يقوم به إلا في حالة وجود احتلال ينفي – بطبيعة الحال - الدور العسكري عن الدولة ويجعله مسئولية مباشرة للمجتمع والأمة.
    أعود من هنا للإجابة عن سؤال: ما أهداف تنظيمات الحركة الإسلامية المعاصرة؟ وأقول مجيباً: إن أهم أهداف تلك التنظيمات هو نقل الأفكار الإصلاحية الشاملة من داخل التنظيمات إلى خارجها، لتصبح أفكار التنظيم (أي الأفكار التي قام التنظيم من أجلها) أفكارا للمجتمع.

    كم منا وليس فينا !!

    وأعتقد أنه بهذا المقياس تحديدا يمكن قياس مدى نجاح الحركات الإسلامية؛ وذلك بمدى نجاحها في نشر أفكارها خارج حدودها التنظيمية، لا بمدى قدرتها على ضم أفراد جدد إلى صفوفها، ذلك أن ضم المزيد من الأفراد إلى داخل التنظيم من دون القدرة على نشر الأفكار خارجه يبقي الأفكار في إطار تنظيمي غير قابل للتفعيل على مستوى المجتمع.
    وقد أدرك الإمام البنا (رحمه الله) أهمية وجود الأفكار الإسلامية خارج أُطُر التنظيمات الإسلامية، والحقيقة المترتبة على ذلك، والتي تقول بأن الانتماء للتيار الإسلامي لا يكون بالضرورة بالانتماء للتنظيمات الإسلامية، فقال: "كم منا وليس فينا"؛ فقد كان يرى (رحمه الله) أن هناك أعدادا من الناس يمكن اعتبارهم (منا) أي من العاملين بإيجابية على الساحة الإسلامية وإن لم يكونوا (فينا) أي أعضاء في التنظيمات الإسلامية.
    هذا القصر (قصر التيار الإسلامي على التنظيمات الإسلامية) غير المنطوق والموجود لدى بعض العقول الإسلامية المعاصرة، ليس أبدا نتاجا طبيعيا لفكر الإمام البنا، بل هو - فيما أرى - نتاج طبيعي لظروف تاريخية مرت بها جماعة الإخوان المسلمين فأنتجت ذلك الفكر، ثم ذهبت هذه الظروف لحال سبيلها، فكان لزاما أن يعاد البناء الفكري مرة أخرى فيما يتعلق بهذه المسألة.

    الشمولية ليست حكرا على الإخوان

    إن الجماعة في مرحلة تاريخية معينة (بدأت مع الإمام البنا ثم أصبحت أكثر وضوحا في ظل الحقبة الناصرية) كانت هي الممثل الأوحد لتيار الإسلام الوسطي الشامل؛ فكان الطبيعي أن يحدث خلط بين التنظيم والفكرة، بحيث يصبح الانتماء للتنظيم هو العلامة الدالة على الانتماء للفكرة.
    بيد أنه وفي مراحل لاحقة من التاريخ ظهرت هناك قوى وتيارات إسلامية أخرى، تؤمن هي الأخرى بشمول الفكرة الإسلامية ولكنها تختلف مع الإخوان في رؤيتها لتلك الشمولية من خلال منظور مغاير؛ فكانت هناك بعض الحركات (الجهادية) التي رأت في العمل العسكري طريقا أوحد لقيام دولة إسلامية (وهو طرح يختلف معه الإخوان منهجيا وأيديولوجيا لا واقعيا فحسب كما يظن البعض).
    وظهر على الساحة الإسلامية أيضا من يؤمن بشمولية الإسلام، ولكنه في الوقت ذاته يؤجل العمل السياسي بكافة أشكاله؛ فما بين تيارات جعلت جل اهتمامها أو كله العمل الوعظي (كجماعة التبليغ والدعوة) وأخرى جعلت جل اهتمامها المجال العلمي (كالسلفية العلمية) نشأت هناك تيارات متعددة يسعى كل منها لإصلاح مجال من المجالات كخطوة أولى وليست أخيرة ضمن عملية إصلاح إسلامي موسعة وشاملة.
    وهذه الأفكار جميعها (وإن كانت تختلف مع الإخوان في الأولويات وكذلك في المنهجيات أحيانا) تمثل إيمانا بشمول الفكرة الإسلامية، وهو ما يجعل اعتقاد الإخوان أنهم الممثل الأوحد لهذه الشمولية ظنا خاطئا، وإن بقي من حق الإخوان أن يروا أنفسهم كممثل أوحد لفكر المدرسة الإصلاحية الإسلامية

    محمد الغزالي

    غير أنه وفي أزمنة لاحقة ظهرت مجموعة من التيارات الإسلامية التي تمثل أيضا المدرسة الإصلاحية التي أرسى قواعدها الأفغاني وعبده ورضا والبنا؛ وقد تمثلت تلك التيارات في اتجاهين أساسيين، أولهما هو الاتجاه الثقافي التجديدي بشقيه الفقهي والفكري. فقد نشط في العقود الثلاثة الأخيرة مجموعة من المفكرين والعلماء من البعيدين (بدرجات متفاوتة) عن تنظيم الإخوان. فهناك في الجانب الفقهي مثلا نجد العلمين المجددين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، وقد كان كل منهما في وقت من الأوقات عضوا في تنظيم الإخوان، ثم انفصل عنه وبقي منتميا للفكرة وأضافا الكثير للحركة الإسلامية.
    ثم هناك في الجانب الفكري عدد ضخم من المفكرين المنتمين لذات الفكرة الإصلاحية والبعيدين عن التنظيم، لعل أبرزهم الأساتذة مالك بن نبي (رحمه الله)، ومحمد عمارة، وطارق البشري، وفهمي هويدي، ومحمد سليم العوا. هؤلاء لهم إسهامات هامة في (ترشيد الصحوة الإسلامية) و(بناء العقل المسلم) على نحو يعينه بشكل كبير على تحقيق المقاصد الإسلامية، ولا ينكر ذلك إلا جاحد.
    وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت مجموعة من الدعاة والكتاب (من تلامذة الفقهاء والمفكرين) الذين انطقوا بهذه الأفكار الإصلاحية في صفوف المجتمع بعيدا عن التنظيمات فـ(أنتجوا) جيلا من الشباب الإسلامي المنتمي للفكرة الإسلامية (بل ولتيارها الإصلاحي) من دون أن ينتموا إلى أي من تنظيماتها.

    واجب الوقت لدى الإخوان

    وهنا وفي تلك اللحظة وجب على التنظيم الإخواني القيام بأمرين كلاهما هام: أما أولهما فهو إعادة البناء الفكري ومراجعة الأفكار في ضوء تلك الحقائق المجتمعية الجديدة؛ فالإخوان لم يصبحوا الممثل الأوحد للتيار الإصلاحي الإسلامي. والعقل الإخواني عندما يدرك هذه الحقيقة فيجب عليه أن يتعامل معها بشكل إيجابي، وتلك هي النقطة الثانية.
    يجب على العقل الإخواني أن يدرك أن وجود تلك الأفكار خارج حدوده التنظيمية هو في حقيقة الأمر نجاحه الأساسي الذي استطاع تحقيقه في الفترة الماضية، أو قل في رحلته التاريخية التي استمرت زهاء ثمانين عاما.
    لعل أهم دلالات النجاح هنا هو أن تلك الأفكار استطاعت أن تنمو ليس فقط خارج الإطار الإخواني المباشر، وإنما في انعزال تام عن التنظيم؛ وذاك أمر يحسب للتنظيم ولا يحسب عليه. فقد أصبحت الأفكار من النضج والصلابة في القلوب والعقول والأنفس ما يجعلها غير محتاجة لمساعدات أو ارشادات تنظيمية تحميها أو تقويها، أو تمهد لها الطريق الذي يضمن استمرارها.
    نعم؛ لقد نجح الإخوان المسلمون في نشر أفكارهم خارج تنظيمهم، وفيما أرى يرجع ذلك لسببين أساسيين: أولهما متعلق بالفكرة وثانيهما بالتنظيم. فأما المتعلق بالفكرة فهو أن الفكرة الإسلامية متجذرة في وجدان الإنسان المصري والعربي، وفكرة الوسطية الإسلامية تخاطب الفطرة السليمة فتقنعها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). وفكرة الإسلام هي فكرة أصلية في المجتمع المصري على سبيل المثال؛ فلا يمكن تحريك أو تغيير المفاهيم في مصر إلا من خلال الدين.
    وأما دور التنظيم في هذا النجاح فهو دور لا يخطئه ذو عينين؛ ذلك أن الأفكار (كما يقول الشهيد سيد قطب) تبقى ميتة حتى إذا متنا من أجلها قامت وانتفضت. ورجال الإخوان على مدار عقود مضت من الزمان قد ضحوا من أجل أفكارهم أكبر تضحية، فسيقوا إلى المشانق، ورأوا ألوانا من التعذيب، وذاقوا مرارة السجون، وتحملوا الإيذاء في النفس والمال، والإيذاء النفسي بالتجريح؛ كل ذلك من دون أن تتحول بوصلة أولوياتهم التي ظلت دائما موجهة ناحية الإصلاح الوسطي لا التشدد الثوري أو الرغبة في الانتقام؛ فمن رحم المعاناة خرجت رسالة (دعاة لا قضاة) لتؤكد تمسك الإخوان بأخلاقياتهم الشاملة ومنهجهم الوسطي. كل ذلك (بعد فضل الله وتوفيقه) دفع الناس لدراسة آرائهم وأفكارهم، ومن ثم تبنيها لصلابتها الفكرية والمنهجية.
    ويبقى القول في هذا المجال أن رسوخ الفكرة خارج تنظيم الإخوان هو الهدف النهائي؛ فهو يجعلها فكرة مجتمعية تستعصي على الضربة الأمنية والحملات التشويهية، فكرة تنمو في المجتمع بأسره، فتنمو حرة بعيدة عن القيود التي يفرضها واقع التنظيم في بعض الأحيان، فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
    والمهم هنا ألا تكون الفرحة بالنجاحات المتكررة التي تتحقق في بعض الميادين سببا في عدم دراسة أسباب تلك النجاحات، حتى تتم الاستفادة منها في الجوانب الأخرى التي لا تحقق نجاحات بنفس القدر. فإذا كنا قد قلنا أن النجاح يُقَّيَم بوجود الأفكار خارج التنظيم، فإننا سنلحظ ولا شك أن مجالات كأعمال البر والعمل المجتمعي والعمل الدعوي أنجح من مجالات أخرى كالعمل السياسي مثلا.

    نجاحات تنظيمية لا فكرية

    وقد يقول قائل في هذا المجال: إن الإخوان يحققون النجاحات السياسية المتلاحقة، والأرقام تتحدث بوضوح عن نجاحات انتخابية في البرلمان والنقابات والأندية، وهو قول فيه ولا شك شيء من الحقيقة؛ بيد أن تدقيق النظر يشير إلى أن هذه النجاحات هي تنظيمية أكثر منها فكرية؛ أي أنها نجاحات تحسب لتنظيم الإخوان أكثر من فكرتهم.
    إن نجاح الفكرة كما سبق وأشرنا يكون بانتشارها خارج الإطار التنظيمي، وهو ما لم يحدث في الجانب السياسي؛ الذي يكون النجاح في منظوره العام هو ظهور قوى وتيارات سياسية إسلامية أخرى (تنتمي لنفس المدرسة الفكرية الإصلاحية)، ونجاحه في إطار العمل البرلماني إنما يكون بأن تتبنى القوى الأخرى من غير الإخوان المطالب التي تنادي بها فكرة الوسطية الإسلامية، وهو أمر لم نره بعد.
    والسبب الرئيسي لذلك التأخر السياسي للإخوان عن باقي مجالات العمل يتعلق فيما أرى بالقلق على التنظيم، وهو أمر من شأنه أن يبطئ من النجاحات في المجالات المختلفة، وإن كان الابطاء في الجانب السياسي يكون أوضح وأخطر.
    فالإخوان الذين نموا عمل البر وقاموا بتجذيره في المجتمع كانوا يستطيعون بعد ذلك أن ينفصلوا بهذا الجناح عن العمل الإخواني، بمعنى أن تنقطع العلاقة التنظيمية بين لجان البر والتنظيم الإخواني. وذاك أمر لا داعي من القلق من تنفيذه؛ فلجان البر (وقد نضج عملها) تستطيع الانفصال عن التنظيم من دون الانفصال عن الفكرة؛ فتأخذ بذلك قدرا أكبر من الحرية ومساحة العمل المفيدة من ناحية، وتوفر الطاقات التنظيمية للإخوان، فيتم توجيهها إلى الميادين الأخرى التي لم تنضج مجتمعيا بالقدر الكافي بعد.
    ذلك أن هدف الإخوان ليس في النهاية إدارة المجتمع من خلال التنظيم، بل هو سريان الفكرة في وجدان المجتمع بعيدا عن التنظيم؛ فالهدف (أن نُحكَم بالإسلام لا أن نَحكُم بالإسلام) كما أشار بذلك غير مرشد من مرشدي الجماعة. وعمل البر الإخواني سيظل دائما مهددا ومحجورا عليه أمنيا طالما بقي عملاً تنظيميا، والدليل على ذلك هو ذلك النجاح الكبير الذي تحققه جمعيات البر البعيدة عن تنظيم الإخوان والقائمة على فكرتهم.

    الأمر ذاته ينطبق على الجانب السياسي عند الإخوان؛ فممارسة الجماعة للسياسة بشكل مباشر من شأنها أن تعطل النمو السياسي للإخوان؛ حتى وإن غابت القبضة الأمنية المعيقة لذلك التطور؛ ذلك أن ممارسة الجماعة للسياسة بشكل مباشر يجبرها على طرح برامج سياسية مفصلة قد يختلف عليها البعض بدلاً من طرح الرؤية السياسية الشاملة المنبثقة عن المنهج الإصلاحي الإخواني، وفارق كبير ما بين الأمرين.
    فطرح الرؤية السياسية الشاملة أمر ينبع بشكل مباشر من القاعدة الفكرية التي يستند إليها التنظيم، وهو ينتج خطوطا عريضة تمثل الأهداف السياسية العامة ومنهج العمل من أجل تحقيقها. أما البرنامج السياسي فدوره أن يطرح رؤية تفصيلية تتعامل مع الواقع وتفَصِّل في كيفية تغييره، وتضع قضايا بعينها على الطاولة باعتبارها الأولى بالاهتمام من غيرها في مرحلة معينة.
    وبالتالي فإنه من المنطقي أن تنبثق عن الرؤية السياسية الواحدة العديد من البرامج السياسية؛ القريبة من بعضها البعض أحيانا، والبعيدة نسبيا عن بعضها البعض في أحيان أخرى. ووجود تلك الاختلافات له مردوده الإيجابي على فكرة الإخوان من أكثر من جانب، إلا أنه سيظل أمرا سلبيا للجماعة ما دامت الجماعة تمارس السياسة بشكلها المباشر.

    فطالما بقيت للجماعة أذرع سياسية مباشرة فسيبقى من الصعب عليها قبول أفكار سياسية مغايرة تنبع من نفس المدرسة الفكرية؛ لأنها ستعتبر ذلك سحبا من رصيدها التنظيمي، إلا أن ذلك الأمر هو في الحقيقة إضافة هامة لفكر الإخوان؛ فهو دليل على انتقال الأفكار إلى خارج التنظيم، بل وتحرك غير التنظيميين بها في المجتمع وقيامهم بدعوة الناس إليها، وهو مكسب سياسي كبير للإخوان، أهم في المنظور الاستراتيجي من فوز بضعة عشرات من أبناء التنظيم في انتخابات برلمانية، أو نجاحهم في انتخابات نقابية أو طلابية (وإن كنت لا أعتبر النوعين الأخيرين من الانتخابات من الأمور المتعلقة بالعمل السياسي المباشر).
    ووجود أكثر من تيار سياسي ينتمي لذات المدرسة الإصلاحية الإخوانية له فوائد أخرى عظيمة لا يلتفت إليها الكثيرون، خاصة هؤلاء الذين تسيطر قضية (التنظيم) على عقولهم. ذلك أن طرح رؤى سياسية مختلفة مفيد للناخب (وبالتالي للفكرة) من جهتين على الأقل؛ أولهما هو أن الناخب يشعر أنه أمام خيارات متعددة تتماشى مع هويته الثقافية، فيختار من بينها ما يراه أقرب للصواب من دون أن يجد نفسه مضطرا للاختيار من خارج تلك المدرسة الفكرية أو حجب صوته بالكلية لأنه يختلف مع بعض الأفكار المعروضة في (البرنامج الإسلامي الوحيد) المطروح على الساحة.
    والفائدة الأخرى هي أن الحركة الوسطية الإسلامية تدلل بذلك بشكل عملي على أنها تؤمن بأنها لا تملك الحقيقة المطلقة، ولا تملك الحل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لما تواجهه الأمة من أزمات وما تتطلع إليه من آمال وطموحات.

    كل ذلك يدفعنا للقول أن انسحاب (التنظيم) من العمل المباشر في مجال من المجالات (كالسياسة مثلاً)، مع حرصه على نشر أفكاره ورؤيته الشاملة المتعلقة بهذا المجال، غالبا ما يكون انتصارا للفكرة، بتخطيها حدود التنظيم، واستقرارها في وجدان المجتمع، وهو انتصار تظهر أهميته الاستراتيجية على المدى المتوسط والبعيد من دون شك، وذلك بتنامي تيارات سياسية إسلامية معتدلة متعددة، لتشكل تيارا رئيسيا إسلاميا في قلب الحركة الوطنية يجعل من الأهداف الإسلامية مكونا أساسيا للحركة الوطنية، كما تظهر أهميته على المدى القصير في حالة تعرض التنظيم للضربات الأمنية، فتكون (الفكرة) في مأمن من الضربة لاحتمائها بالمجتمع لا بالتنظيم.

    انسحاب التنظيم لا الأفراد

    وانسحاب الجماعة من العمل السياسي المباشر لا يعني انسحاب أعضائها من هذا العمل، وإنما يعني انسحاب التنظيم فحسب. فمع هذا الانسحاب يمكن للكوادر التنظيمية أن تؤسس حزبا (أو أحزابا) سياسية تنطلق من رؤيتها الإصلاحية الشاملة، وتمارس العمل السياسي المباشر، على أن تنقطع الصلة والروابط التنظيمية بين تلك الأحزاب وبين تنظيم الجماعة بشكل كلي؛ فتكتفي الأحزاب بممارسة العمل السياسي دون غيره، وتكفي الأمة هذا الواجب، وتفرغ الجماعة المزيد من طاقاتها للعمل الدعوي والتربوي والفكري، وهو أهم واجباتها من دون شك، بالإضافة لبعض المجالات الأخرى التي لم تنضج على النحو المطلوب بعد، مثل المجال الثقافي والفني والاقتصادي ومجال التنمية البشرية، وغيرها من المجالات التي تشكل جزءا من وعي الأمة وتكوينها وهويتها (أو قل مرجعيتها) والتي لا تنال القدر الكافي من الاهتمام بسبب انشغال التنظيم بالقضايا السياسية والتي تحتاج للكثير من الجهد، وتعرض عمل الجماعة للكثير من الأخطار التي تعطل مسيرتها.
    ثم مع نمو هذه المجالات الأخرى تتفرغ الجماعة للعمل الدعوي والفكري والتربوي، وتسحب أذرعها من مجالات العمل المختلفة، لتبقى في خلفية المجتمع تشكل وعيه وتحافظ على الهوية الثقافية للأمة، وتنطلق بها نحو نهضة جديدة تعيد لها سابق عهدها، وتحقق فيها قول ربها (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وتستكمل بها ولها شروط الشهادة التي كلفها بها ربها (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس).
    وأظن أن هذا هو ما قصده الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا تحديدا حين قال في وصفه لدور الجماعة كلمات قليلة عميقة مضيئة، مسطرة في رسائله، ومعلقة في لوحة كبيرة على الجدار المقابل لمكتب المرشد العام للجماعة في مقر مكتب الإرشاد، تقول: (أنتم روح جديدة تسري في جسد الأمة فتحييها بالقرآن).


    وأنا لا أحاول هنا تخطي حقائق الواقع السياسي، والتحدث من منظور نظري مثالي عن العلاقة بين التنظيم والمجتمع والفكرة، فأنا أدرك تمام الإدراك أن الانسحاب من العمل السياسي المباشر قرار ليس بالهين، وأن له من التوابع (على المدى القريب) ما يعطله، كما أنني أدرك أن ساحة العمل الوطني بوضعها الحالي الذي يسيطر عليه الاستبداد لن تسمح بتحقيق هذا الانفصال بين التنظيم الدعوي والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحمل نفس الفكرة. وأدرك أيضا أن (جسم الإخوان) قد يكون فيه هذا الالتصاق بين السياسي والدعوي (بحسب تعبير المستشار البشري في حديث لي معه)، وبالتالي فإن عملية الفصل هي عملية دقيقة تحتاج لجراح ماهر، وتحتاج لاختيار التوقيت المناسب.
    ولكني فقط أحاول أن أرسم هذه الصورة للوضع النهائي للإخوان في المجتمع، فإذا ما ارتسم الطريق وصار واضح المعالم أصبح السير فيه أسهل وأيسر، ووجود الرؤية الاستراتيجية لدى قيادات الجماعة وقطاعات من أعضائها فيما يتعلق بالعلاقة بين السياسي والدعوي هو ما يسمح باتخاذ الخطوة المناسبة في الوقت الصحيح. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

    تعليق

    • sara94
      2- عضو مشارك
      • 9 سبت, 2011
      • 220
      • طالبة
      • مسلم

      #3
      http://www.islamonline.net/i3/Conten...=1193049514970

      تعليق

      مواضيع ذات صلة

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      ابتدأ بواسطة وداد رجائي, 15 يون, 2024, 04:22 م
      ردود 0
      26 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة وداد رجائي
      بواسطة وداد رجائي
      ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 9 يون, 2024, 03:56 ص
      ردود 0
      27 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة *اسلامي عزي*
      بواسطة *اسلامي عزي*
      ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 26 ينا, 2023, 02:58 م
      ردود 0
      50 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة عاشق طيبة
      بواسطة عاشق طيبة
      ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 23 ينا, 2023, 12:27 ص
      ردود 0
      82 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة عطيه الدماطى
      ابتدأ بواسطة د. نيو, 24 أبر, 2022, 07:35 ص
      رد 1
      83 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة د. نيو
      بواسطة د. نيو
      يعمل...