(( إسلامية .. إسلامية ))
شعار دوى فى قلب القاهرة منذ فترة، فاهتزت له مصر كلها و ارتجت، وكما لو أن ما حدث هو اكتشاف جديد لم يكن يخطر على بال بشر فى هذا البلد، ونحن حل بهذا البلد!!
فإذا بقمقم القلق يتصدع ليخرج منه مارد الخوف، يكاد كل جزيء فيه يهتز ويرتعد: فليس هذا هو أصل الاتفاق، ولم يكن هذا هو الهدف القابع فى ثنايا الحسبان. ولكن هذا هو ما قد حدث!
أما مكمن استغرابى وتعجبى الشديد إزاء ردة الفعل تجاه هذا الشعار، فهو قدرتنا الرهيبة على التناقض و خداع النفس أمام أكبر الأمور وأبسطها على حد سواء، إذ كأن الشعار الذى دوى قد انطلق فى أرجاء الفاتيكان مثلاً، وليس فى أرجاء أمة تتشدق ليلاً ونهاراً بالإسلام، وعظمة الإسلام، وسماحة الإسلام، وقيم الإسلام، ورقى تعاليم الإسلام.
فلما يخرج نفر من هذا البلد يدعو إلى تطبيق الإسلام. إذا بالجميع يرتجف!
ولكن ترى لما يرتجف هؤلاء؟ أوليسوا مسلمين؟!
فيكون من غير المنطقى أن ينزعجوا من تطبيق تعاليم دينهم؟!
أم تراهم يدعون الإسلام نفاقاً لا سمح الله، فلما حان وقت تطبيقه رفضوا تعاليمه؟!
أم تراهم جهال بالإسلام نفسه لا يعرفون عنه سوى القليل مما اعتادوا عليه وارتضوه بالتواتر عن آبائهم فى دائرة مفرغة من الجهل المطبق؟!
أعتقد أننا قريبين من مساحة الطرح الأخير - وهو الجهل بالإسلام - وأننا ارتضينا على أنفسنا ثوباً ضيقاً اقتطعناه من عموم ثوب الإسلام، ثم تصورناه جل الثوب بجهل شديد.
نعم، دعونا نواجه أنفسنا بأن جل علمنا بهذا الدين الحنيف لا يتعدى بابا أو بابين أو ثلاثة بحد أقصى فى فروع الشريعة الإسلامية لا تخرج عن محيط العبادات كالصلاة والصوم، يزداد عليها أمور نتعلمها بحكم الظروف كالنكاح والزكاة والغسل والتكفين والدفن، وسلاماً على بقية أبواب الفقه، وإن كنت أشك فى كوننا على دراية كاملة بتفاصيل ما أسلفناه أساساً، وإنما اجتهادات سماعية شفاهية تفتقد إلى التفصيلات.
فلما يتجسد أمامنا شبح تطبيق الشريعة ،سرعان ما نقفز جميعاً وفى ذات اللحظة تقريباً إلى باب واحد بعينه، ألا وهو باب الحدود والقصاص!!
لا عن علم بظروف تطبيق هذا أو ذاك، وإنما عن مخاوف جاهلة سربها إلى نفوسنا من لم يتعلموها أصلاً !!
وإنما من سمعوا بها وجعلوا من ظروف تطبيقها نموذجاً للعشوائية والبطش - وهى من ذلك براء، ذلك لأن أوجه القصاص وإقامة الحدود فى الشريعة الإسلامية بها من المخارج المرنة والعادلة ما أتحدى أن ينطوى عليه أى قانون وضعى!!
دعنى أوضح لك مقصدى:
فلقد كان مثلاً من بين المسائل الفقهية التى استوقفتنى فى باب الجنايات وأشعرتنى بحجم جهلى قبل دراستها أنه " من ضرب رجلاً بمر ( أى بفأس عريض ) فقتله، فإن أصابه بالحديد (أى بالجزء الحديدى من هذا الفأس) قتل به (أى وجب قتله قصاصاً)، وإن أصابه بالعود (أى بالعود الخشبى المثبتة فى آخره قطعة حديد) فعليه الدية"!!
نحن إذن أمام حالة قتل عمدى بكل ملابساتها بمنطق القانون الوضعي، وبالرغم من ذلك فإن الجزء المستخدم فى القتل يعد هو الأهم إسلامياً إلى الدرجة التى تجعل من الإصابة بالجزء الحديدى دليلاً على نية القتل، بينما الجزء الخشبى فيه خلاف، رغم أن الفعل واحد والنتيجة واحدة! ذلك لأن العصا الحاملة للفأس هى فى الأصل آلة تأديب وليست آلة قتل، وهى بمنزلة السوط أى الكرباج! حتى وإن وجه القاتل للمقتول عدة ضربات متوالية بالعصا فأرداه قتيلاً ( وفيه خلاف بين الحنفية والشافعية، إذ يراه الشافعى دليلاً على عمدية القتل فى هذه الحالة، بينما يرى فيه أبو حنيفة شبهة عدم العمدية وأن الشبهات تدرأ الحدود )!!
أعطيك مثالاً آخر أكثر غرابة: "من غرَّق صبياً أو بالغاً فى البحر، فلا قصاص" هكذا يرى أبو حنيفة النعمان، ذلك لأن الآلة المستخدمة فى القتل - ونقصد هنا الماء - غير معدة للقتل أساساً ولا مستعمله فيه لتعذر استعمالها، ومن ثم تمكنت شبهة عدم العمدية فى القتل؛ فالماء ليس أداة قتل وإنما له استخدامات أخرى تجعل من شبهة استخدامه فى القتل أمراً يضعف العمدية!!
الأغرب والأغرب من ذلك هو فكرة عفو أولياء القتيل، فإذا عفى واحد فقط من أولياء القتيل عن القاتل نجا، حتى وإن رفض بقية الأولياء ذلك مجتمعين!!
بل والأكثر من ذلك أنه إذا ارتضى القاتل أن يقتل ( بضم الياء ) عقاباً له على جريمته، ثم عدل أولياء القتيل عن قتله، فلهم أن يجبروه على دفع المال بدون رضاه دفعاً للهلاك!!
ما هذا؟ وأى تراحم هذا وأى سمو؟ نحن إذن لسنا أمام مجزرة دموية ورغبة حثيثة فى إراقة الدماء كما يتصورها الجهال من الناس ويصورونها لبقية الجهال منا لبث روح الخوف فى النفوس ،فكلما تفوه إناس بالشريعة ارتجفت البقية.
وأترك الدماء جانباً، وأحدثك مثلاً عمن يجوز عليه دفع الزكاة فى الشريعة الإسلامية: فهل تعلم أن من استوفى جميع مصروفاته وقضى كل حاجاته فلم يتجاوز (صافى) مكسبه ما يعادل 15 ألف جنية فى السنة بعد ذلك، فإنه لا يجب عليه دفع زكاة المال!!
بل والأكثر من ذلك أنه يحق له أن يتلقى الزكاة ممن حق عليهم دفع زكاة المال!!
أى تكافل هذا؟ وأى فكر اقتصادى قويم فى مقابل (مذبحة ضرائبية ) سنوية ينصهر فيها الناس ويكتوون بنيرانها على يد الدولة التى لم تتوانى يوماً فى اختراع ضريبة تلو أخرى أثقلت كاهل الناس وأعدمتهم بهجة الحياة !!
ثم تسمع بعد ذلك عمن يتشدقون بجهل - للأسف - بمزايا العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وقد ينزعج البعض من وصفى لهؤلاء بالجهل، حسنا، ولكن هل يسمح لى هؤلاء بسؤال بسيط أعتقد أنه لم يخطر لهم ببال:
أى دين الذى تودون فصله عن أى دولة تحديداً؟
أم تراها عبارة رنانة تسيرون فى رحابها دون تمييز؟!
فهل كلمة دين تلك هى كلمة عامة أم تراها تختلف من دين إلى آخر؛ وهل لكون أوروبا قد رفعت شعار فصل الدين عن الدولة أن ننخرط نحن فى ذات المطلب دونما إدراك بأن الدين الذى أرادوا فصله هناك هو الديانة المسيحية تحديداً وما أحاط بها من ملابسات فى إطار التاريخ الأوروبى ما دفع الناس هناك إلى الإلحاح فى فصل هذا الدين تحديداً عن الدولة هناك؟!
فما علاقة الديانة المسيحية بالديانة الإسلامية؟!
ثم ما علاقة الدولة فى أوروبا بالدولة عندنا؟!
وهل أصبحنا من السطحية إلى الدرجة التى تجعلنا نردد الشعارات كالببغاوات دون آدنى تفكير؟!
ثم لأجدنى ألتفت إلى جل المنزعجين المتناقضين من المسلمين فأسأل:
إذا كان تطبيق الإسلام مزعجاً إلى هذا الحد ،فهلا أجابنى أحدهم وبمناسبة هذا الشهر الكريم: لما تحمل مشقة الصوم أصلاً فى المقابل؟!
فهل ترانا نؤمن ببعض الكتاب ولا نؤمن ببعضه؟!
أم ترى الصوم شيئاً والإسلام شيئاً آخر؟!
أم ترى الصوم قد أصبح فى بلادنا مجرد فكرة فولكلورية دأب الناس على إحيائها سنوياً دون علم بأصل فكرتها كنوع من التفاعل التلقائى مع موسم الدراما التليفزيونية وبرامج الكاميرا الخفية عقب الإفطار؟!
http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspx?Serial=592685
تعليق